الباحث القرآني
ثم قال الله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات ٦].
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قال ابن مسعود رضي الله عنه: «إذا سمعت الله يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فأرْعِها سمعَك -يعني: استمع لها- فإما خير تُؤمَر به، وإما شَرٌّ تُنْهى عنه»[[أخرجه سعيد بن منصور في التفسير (٥٠) موقوفًا من حديث ابن مسعود.]]؛ لأن هذه نداء بأشرف الأوصاف وهو الإيمان ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ فمن هو الفاسق؟ الفاسق هو مَن انحرف في دينه ومروءته، وضده العدل: وهو من استقام في دينه ومروءته، وهو ضد الفاسق، فإذا جاءنا فاسق منحرف في دينه ومروءته، بمعنى أنه مُصِرٌّ على المعاصي تارك للواجبات، لكنه لم يصل إلى حد الكفر، أو منحرف في مروءته، لا يبالي بنفسه يمشي بين الناس مشية الهوجاء، ويتحدث برفع صوت، ويأتي معه بأغراض بيته يطوف بها في الأسواق وما أشبه ذلك مما يخالف المروءة، فهذا عند العلماء ليس بعدل.
في هذه الآية يقول الله عز وجل: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ﴾ خبر، أي: خبر من الأخبار وهو فاسق، ولنطبق هذه المسألة على الواقع: جاءنا رجل حالق اللحية، حالق اللحية فاسق؛ لماذا؟ لأنَّه مُصِرٌّ على معصية الله ورسوله، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «أَعْفُوا اللِّحَى»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٨٩٣)، ومسلم (٢٥٩ / ٥٢) من حديث ابن عمر.]] وهذا لم يعفُ لحيَتَه، بل حلقها، فهذا الرجل من الفاسقين؛ لأنه مُصِرٌّ على معصية، جاءنا بخبرٍ، هل نقبله؟ لا، هل نرده؟ لا، لا نقبله؛ لما عنده من الفسق، ولا نرده؛ لاحتمال أن يكون صادقًا؛ ولهذا قال الله عز وجل: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ ولم يقل: فردُّوه، ولم يقل: فاقبَلوه، بل يجب علينا أن نتبين، وفي قراءة: ﴿فَتَثَبَّتُوا﴾ وهما بمعنى متقارب، المعنى: أن نتثبت.
فإذا قال قائل: إذن لا فائدة مِن خبرِه، قلنا: لا، بل في خبره فائدة؛ وهو أنه يحرِّك النفس، حتى نسأل ونبحث؛ لأنه لولا خبرُه ما حرَّكنا ساكنًا، لكن لما جاء بالخبرِ نقول: لعلَّه كان صادقًا فنتحرك، ونسأل ونبحث، فإنْ شَهِدَ له الواقعُ بالحقِّ قبلْناه؛ لوجودِ القرينة الدالة على صدقه وإلا رددناه.
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ يفيد أنه إذا جاءنا عدل فإننا نقبل الخبر، لكن هذا فيه تفصيل عند العلماء دلَّ عليه القرآن والسنة، فمثلًا: الشهادة بالزنا؛ لو جاءنا رجل عدل في دينه مستقيم في مروءته وشهد أن فلانًا زنى، هل نقبل شهادته؟ لا، وإن كان عدلًا، بل نجلِدُه ثمانين جلدةً؛ لأنه قذف هذا الرجل البريء بالزنا، وقد قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَة﴾ [النور ٤]، فنجلده ثمانين جلدة ولا نقبل له شهادة أبدًا، ونحكم بأنه فاسق، وإن كان عدلًا حتى يتوب.
شهد رجلان عدلان على زيدٍ أنه زنى، نقبل شهادتَهما؟ لا، ثلاثة؟ لا، أربعة؟ نعم؛ لأن الله تعالى قال: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [النور ١٣] حتى وإن كانوا صادقين، لو جاءنا ثلاثة نعرف أنهم ثقات عدول وشهدوا بالزنا على شخص، فهم عند الله كاذبون غير مقبولين، وكما قلت لكم: نجلد كل واحد ثمانين جلدة.
جاءنا رجل شهد على شخص بأنه سرق، هل نقبل شهادته؟ لا، لا بد من رجلين.
جاءنا رجل شهد بأنَّه رأى هلال رمضان، نقبل شهادته؟ نعم، نقبلها؛ لأن السنة وردت بذلك، فقد قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «تَراءى النَّاسُ الهِلالَ» -يعني: ليلة الثلاثين من شعبان- «فأخْبَرْتُ النَّبِيَّ ﷺ أنِّي رأيتُه فصام وأمر الناس بالصيام»[[أخرجه أبو داود (٢٣٤٢) من حديث ابن عمر.]].
رجل كان غنيًّا فأُصيبَ بجائحة، ثم جاء يسأل من الزكاة، وأتى بشاهد أنه كان غنيًّا أصابته جائحة وافتقر، فهل نقبل شهادة الواحد؟ لا، نقبل شهادة اثنين؟ لا، لا بد من ثلاثةٍ؛ لأن النبي ﷺ قال لقبيصة: «إنَّهَا لا تَحِلُّ المَسْأَلَةُ» » وذكر منها: «رَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ » -يعني: اجْتاحَتْ ماله- «فَشَهِدَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: أَنَّ فُلَانًا أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ»[[أخرجه مسلم (١٠٤٤ / ١٠٩) من حديث قبيصة بن مخارق.]]؛ «ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا» يعني: من ذوي العقل.
فالحاصل: أن الفاسقَ ما موقفنا مِن خبرِه؟ التَّوقُّف حتى يتبينَ الأمر، غير الفاسق، فيه تفصيل، قد لا نقبل إلا خبر أربعة كما في الزنا، أو ثلاثة كما في الرجل الذي كان غنيًّا، فأُصيبَ بجائحةٍ ثم جاء يسأل الصدقة، فإنَّنا لا نقبل منه حتى يشهد ثلاثة؛ رجلان فيما لو شهد إنسان بحدِّ سرقة فإننا لا نقبل إلا رجلين.
ممكن نقبل: رجل مع يمينِ المدَّعي، كما لو ادَّعى شخصٌ على آخر بأنه يطلبه بألف ريال، فقلنا للمدعي: هات بينة، قال: عندي رجل واحد، إذا أتى بالرجل الواحدِ وحلف معه حكمنا له بما ادعاه؛ وعلى هذا فخبر العدل فيه تفصيل على ما سمعتم، وفي أشياء لا يتسع المقام لذكرها.
ثم بيَّن الله عز وجل الحكمة من كوننا نتبيَّن بخبرِ الفاسق فقال: ﴿أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات ٦] يعني: أمرناكم أن تتثبتوا كراهة أن تصيبوا قومًا بجهالة؛ لأن الإنسان يتسرع، ولم يتثبت فقد يعتدي على غيره بناء على الخبر الذي سمعه من الفاسق، وقد يكرهه، وقد يتحدث فيه في المجالس، فيصبح بعد ذلك إذا تبيَّن أن خبر الفاسق كذبًا يصبح نادمًا على ما جرى منه.
* وفي هذه الآية: دليل على أنه يجب على الإنسان أن يتثبت فيما ينقل من الأخبار، ولا سيما مع الهوى والتعصب، إذا جاءك خبرٌ عن شخص وأنت لم تثق بقول المخبر يجب أن تتثبت وألا تتسرع في الحكم؛ لأنَّك ربما تتسرَّع وتبني على هذا الخبر الكاذب فتندم فيما بعد، ومن ثم جاء التحذير من النميمة: وهي أن ينقل كلام الناس بعضهم إلى بعض ليفسد بينهم، حتى قال النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَتَّاتٌ»[[متفق عليه؛ البخاري (٦٠٥٦)، ومسلم (١٠٥ / ١٦٩) من حديث حذيفة بن اليمان.]] -أي: نَمَّام-، وصحَّ عنه ﷺ أنه مرَّ بقبرَيْن يُعذَّبان فقال:« «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ » -أي: في أمر شاق عليهما-« أَمَّا أَحَدُهُما فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ» » -أو «لَا يَسْتَبْرِئُ»[[أخرجه النسائي (٢٠٦٨) من حديث ابن عباس.]] أو «لَا يَسْتَنْزِهُ مِنَ الْبَوْلِ»[[ أخرجه مسلم (٢٩٢ / ١١١) من حديث ابن عباس.]]، روايات- «» «وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ» يمشي بين الناس يَنُمُّ الحديث إلى الآخرين ليفسد بين الناس، «ثم أخذ جريدة رَطْبَةً فشقَّها نصفين، وغرز في كل قبر واحدة، فقالوا: يا رسول الله! لم فعلتَ هذا؟ قال: «لَعَلَّهُ يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا»[[متفق عليه؛ البخاري (٢١٦)، ومسلم (٢٩٢ / ١١١) من حديث ابن عباس.]].
﴿أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات٦]، ومن هذا النوع ما يُنسَب إلى بعض العلماء من الفتاوي التي لم يتكلم بها إطلاقًا أو تكلم بضد ما ينقل عنه، فإن بعض الناس قد يفهم من العالم كلمة على غير مراد العالم بها، وقد يسأل العالم سؤالًا يتصوَّره العالم غير ما في نفس هذا السائل، ثم يجيب على حسب ما فهمه، ثم يأتي هذا الرجلُ وينشُر هذا القول الذي ليس بصحيحٍ، وكم من أقوال نُسِبَت إلى علماء أجلاء ولكن لم يكن لها أصل، لهذا يجب التثبُّت فيما ينقل عن العلماء أو غير العلماء، ولا سيما كما قلت لكم آنفًا لا سيما في هذا الزمن الذي كثُرَت فيه الأهواء وكثُر فيه التَّعصُّب، وصار الناس كأنهم يمشون في عماء.
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات ٧]، هذه الآية كما تعلمون جاءت بعد قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ﴾ [الحجرات ٦، ٧].
وسبب ما سبق أن النبي ﷺ بلَغَه عن قومٍ ما ليس فيهم، فأمر الله تعالى بالتأكُّد من الأخبار إذا جاء بها مَن لا تعرف عدالته، وكأن بعض الصحابة رضي الله عنهم أرادوا من النبي ﷺ أن يعاقب هؤلاء الذين بلغه عنهم ما بلغه، ولكن النبي ﷺ لم يفعل بعد أن نزلت عليه الآية: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾.
ولكن العبرة بعموم اللفظ، وهو قوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ﴾ أي: لشَقَّ عليكم ما تطلبونه من الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وهذا له أمثلة كثيرة؛ منها: أن النبيَّ ﷺ قام بأصحابِه في رمضان يصلِّي بهم صلاة القيام، فانصرف وقد بقي من الليل ما بقي، فقالوا: يا رسول الله! لو نفلتنا بقية ليلتنا -يعني: طلبوا منه أن يقيم بهم كل الليل- ولكنه ﷺ قال لهم: «مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ»[[أخرجه أبو داود (١٣٧٥)، والترمذي (٨٠٦) من حديث أبي ذر.]] ولم يوافقهم على طلبهم، لما في ذلك من العَنَتِ والمشقة.
ومنها: أن نفرًا من أصحابِ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بحثوا عن عمله في السِّرِّ -يعني: فيما لا يَظْهَرُ للنَّاس- وهو العمل الذي يفعله في بيتِه من العبادات فكأنَّهم تقالُّوها، فقالوا: إن رسول الله ﷺ غفر الله له ما تقدَّم من ذنبِه وما تأخَّر؛ يعني: وأمَّا هم فلم يكن لهم ذلك، فقال أحدهم: أنا أصوم ولا أفطر، وقال الثاني: أنا أقوم ولا أنام، وقال الثالث: وأنا لا أتزوَّج النساء، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: «أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَقُومُ وَأَنَامُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٠٦٣)، ومسلم (١٤٠١ / ٥) من حديث أنس بن مالك.]] فحذَّرهم أن يعملوا عملًا يشق عليهم.
ومن ذلك أيضًا: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وعن أبيه أنَّه «بلَغَ النبي ﷺ قولَه: أنه ليصومن النهار وليقومن الليل ما عاش، فدعاه النبي ﷺ وقال: «أَنْتَ قُلْتَ هَذَا؟» قال: نعم، قال: «إِنَّكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٩٧٦)، ومسلم (١١٥٩ / ١٨١) من حديث عبد الله بن عمرو.]] ثم أرشده إلى ما هو أفضل وأهون.
والحاصل: أنه يوجد من الصحابة رضي الله عنهم مَنْ له هِمَّةٌ عالية، لكنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام لا يطيعهم في كثيرٍ من الأمر؛ لأنَّ ذلك يَشُقُّ عليهم لو أنَّه أطاعَهم.
ثم قال: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ﴾.
قد يقولُ قائلٌ: ما هو ارتباط قوله: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ﴾ بقوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ﴾؟
والجواب: أنَّكم تطيعونه -أي: الرسول عليه الصلاة والسلام- فيما يخالفكم فيه؛ لأن اللهَ حبب إليكم الإيمان، فتُقَدِّمون طاعةَ النبيِّ ﷺ فيما خالفكم فيه؛ لأنَّ الله حبَّب إليكم الإيمان وزيَّنه في قلوبكم، وهذا استدراكٌ من أبلغ ما يكون من الاستدراك؛ يعني: ولكن إذا خالفكم النبي ﷺ في كثير من الأمر الذي تريدونه فإنَّكم لن تكرهوا ذلك، ولن تخالفوه ولن تحملوا على الرسول ﷺ بسببه ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ﴾ أي: جعله محبوبًا في قلوبكم ﴿وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ يعني: جعلكم تحبونه، وزيَّنه في قلوبكم بحيث لا تتركونه بعد أن تقوموا به؛ وذلك أن فعل الإنسان الشيء للمحبة قد يكون محبةً عارضة، لكن إذا زُيِّنَ له الشيء ثبتَت المحبة ودامت؛ ولهذا قال: ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ﴾ وهذا في القلب، ﴿وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ أيضًا في القلب، لكن إذا زين الشيء المحبوب إلى الإنسان فإنه يستمر عليه ويثبت عليه.
﴿وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾ كرَّه إليكم الكُفْرَ الذي هو مقابلُ الإيمانِ، والفسوقَ الذي هو مقابلُ الاستقامة، والعصيانَ اللي هو مقابل الكمال، وهذا تدرُّج من الأعلى إلى ما دونه، الكفر أعظم من الفسق، والفسق أعظم من العصيان، فالكفر: هو الخروج من الإسلام بالكلية، وله أسباب معروفة في كتب أهل العلم ذكرها الفقهاء رحمهم الله في باب أحكام المرتد، وأما الفسق فهو دون الكفر لكنه فعل كبيرة؛ أن يفعل الإنسان كبيرةً من الكبائر ولم يتب منها؛ كالزنا، وشرب الخمر، والسرقة، والقذف، وما أشبه ذلك، والعصيان دون هذا، والعصيان هو الصغائرُ التي تكفر بالأعمال الصالحة، كما قال النبي ﷺ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ»[[أخرجه مسلم (٢٣٣ / ١٦) من حديث أبي هريرة.]] فالمؤمنون الخُلَّص حَبَّب اللهُ إليهم الإيمانَ، وزيَّنه في قلوبهم، وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
﴿أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ أولئك المشار إليه مَنْ حَبَّب الله إليهم الإيمان وزيَّنه في قلوبهم، وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان.
﴿أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ يعني: الذين سلكوا طريق الرشد، والرشد في الأصل حسن التصرف، وهو في كل موضع بحسبه، فالرشد في المال أن يُحسِن الإنسانُ التَّصرفَ فيه، ولا يبذله في غير فائدة.
والرشد في ولاية النكاح مثلًا: هو أن يكون الولي عارفًا بالكفء ومصالح النكاح.
والرشد في الدين: هو الاستقامة على دين الله عز وجل، فهؤلاء الذين حبَّب الله إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان هم الراشدون.
وهنا تجدون هذه الأفعالَ كلها مضافة إلى الله: حبَّب مَن؟ زيَّنه الله.. كره الله عز وجل..
ولهذا قال بعدها: ﴿فَضْلًا مِنَ اللَّهِ﴾ يعني: أن الله أفْضَلَ عليكُم فضلًا أي: تَفَضُّلًا منه، وليس بكسبِكم ولكنه من الله عز وجل، ولكن ليُعْلَم أنَّ الله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته، وأعلم حيث يجعل الإيمان في الشخص؛ فمن علم الله منه حُسْنَ النية وحسن القصد والإخلاص حبب إليه الإيمان، وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، ومن لم يعلم الله منه ذلك فإن الله تعالى يقول: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف ٥]، ويقول عزَّ وجل: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾ [المائدة ٤٩]، فالذنوب سببٌ للمخالفة والعصيان، فهؤلاء الذين تفضَّل الله عَلَيْهم وأنعم عليهم نعمة الدين هم الذين وُفِّقوا للحَقِّ قال الله عز وجل: ﴿فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً﴾ يعني: إنعامًا منه عليهم.
والنعمة نعمتان: نعمة في الدنيا، ونعمة في الآخرة.
فأما الكفار فهم مُنَعَّمون في الدنيا كما قال الله تعالى: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ﴾ [الدخان ٢٥ - ٢٧] أي: تَنَعُّمًا، فهؤلاء -أعني الكفار- عليهم نعمة في الدنيا، لكن في الآخرة عليهم العذاب واللعنة والعياذ بالله.
أما المؤمن فإنه يحصُل على النِّعْمَتَيْنِ جميعًا على نعمة الدنيا ونعمة الآخرة، حتى وإن كان فقيرًا أو مريضًا أو عقيمًا أو لا نسبَ له، فإنه في نعمة؛ لقول الله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل ٩٧].
هنا قال: ﴿فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً﴾ المراد بالنعمة هنا نعمةُ الدِّين التي تَتَّصِلُ بنعمة الآخرة.
وخلاصة الكلام في النعمة أن هناك نعمتين: نعمة عامة لجميع الخلق؛ الكافر والمؤمن، والفاسق والمطيع، ونعمة خاصة للمؤمن، وهذه النعمة الخاصة تتصل بنعمة الدين والدنيا، وأما الأولى فإنها خاصة بنعمة الدنيا فقط لتقوم على الكفار الحجة.
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ هذان اسمان من أسماء الله يَقْرِنُ الله بينهما دائمًا العلم والحكمة، عليم بكل شيء؛ قال الله تعالى: ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق١٢]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ [لقمان٣٤]، وقال تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام٥٩]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ [آل عمران٥].
فعِلْمُ اللهِ تعالى محيطٌ بكلِّ شيءٍ، والإنسان إذا عَلِم أن عِلْم الله محيط بكل شيء حتى ما يُضْمِرُه في قلبه فإنه يخاف، ويرهب، ويهرب من الله إليه عز وجل، ولا يقول قولًا يغضب الله، ولا يفعل فعلًا يغضب الله، ولا يضمر عقيدة تُغْضِب الله؛ لأنه يعلم أن الله سبحانه وتعالى يعلم ذلك لا يخفى عليه.
وأما الحكيم فهو ذو الحكمة البالغة، والحكمة هي: أن جميع ما يَحْكُم به جل وعلا موافق مطابق للمصالح، ما من شيء يحكم الله به إلا وهو حكمة عظيمة؛ قال الله تبارك وتعالى: ﴿حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾ [القمر٥]، وقال تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين٨]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة٥٠] هذا معنى الحكيم؛ أي: ذو الحكمة البالغة.
وله معنى آخر وهو: ذو الحُكْمِ التام؛ فإن الله تعالى له الحكم، كما قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى ١٠]، وقال تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [النساء ٥٩]، ولا أحَدَ يحكم بهواه: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون ٧١].
نسألُ الله تعالى أن يتولَّانا وإيَّاكم برحمته وعفوه، وأن يجعلنا مِمَّن عَلِمَ وانتفع بعلِمه؛ إنه على كل شيء قدير.
{"ayahs_start":6,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِن جَاۤءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإࣲ فَتَبَیَّنُوۤا۟ أَن تُصِیبُوا۟ قَوۡمَۢا بِجَهَـٰلَةࣲ فَتُصۡبِحُوا۟ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَـٰدِمِینَ","وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ فِیكُمۡ رَسُولَ ٱللَّهِۚ لَوۡ یُطِیعُكُمۡ فِی كَثِیرࣲ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ لَعَنِتُّمۡ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَیۡكُمُ ٱلۡإِیمَـٰنَ وَزَیَّنَهُۥ فِی قُلُوبِكُمۡ وَكَرَّهَ إِلَیۡكُمُ ٱلۡكُفۡرَ وَٱلۡفُسُوقَ وَٱلۡعِصۡیَانَۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلرَّ ٰشِدُونَ","فَضۡلࣰا مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعۡمَةࣰۚ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ"],"ayah":"فَضۡلࣰا مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعۡمَةࣰۚ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق