الباحث القرآني

يَقُولُ سُبْحانَهُ لَمْ تَكُنْ مَحَبَّتُكم لِلْإيمانِ وإرادَتُكم لَهُ، وتَزْيِينُهُ في قُلُوبِكم مِنكُمْ، ولَكِنَّ اللَّهَ هو الَّذِي جَعَلَهُ في قُلُوبِكم كَذَلِكَ، فَآثَرْتُمُوهُ ورَضِيتُمُوهُ، فَلِذَلِكَ لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِي، ولا تَقُولُوا حَتّى يَقُولَ، ولا تَفْعَلُوا حَتّى يَأْمُرَ، فالَّذِي حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمانَ أعْلَمُ بِمَصالِحِ عِبادِهِ مِنكُمْ، وأنْتُمْ فَلَوْلا تَوْفِيقُهُ لَكم لَما أذْعَنَتْ نُفُوسُكم لِلْإيمانِ، فَلَمْ يَكُنِ الإيمانُ بِمَشُورَتِكم وتَوْفِيقِ أنْفُسِكُمْ، ولا تَقَدَّمْتُمْ بِهِ إلَيْها، فَنُفُوسُكم تَقْصُرُ وتَعْجِزُ عَنْ ذَلِكَ ولا تَبْلُغُهُ، فَلَوْ أطاعَكم رَسُولِي في كَثِيرٍ مِمّا تُرِيدُونَ لَشَقَّ عَلَيْكم ذَلِكَ ولَهَلَكْتُمْ وفَسَدَتْ مَصالِحُكم وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ، ولا تَظُنُّوا أنَّ نُفُوسَكم تُرِيدُ لَكُمُ الرُّشْدَ والصَّلاحَ كَما أرَدْتُمُ الإيمانَ، فَلَوْلا أنِّي حَبَّبْتُهُ إلَيْكم وزَيَّنْتُهُ في قُلُوبِكُمْ، وكَرَّهْتُ إلَيْكم ضِدَّهُ لَما وقَعَ مِنكُمْ، ولا سَمَحَتْ بِهِ أنْفُسُكم. فَهَذا الحُبُّ وهَذِهِ الكَراهَةُ لَمْ يَكُونا في النَّفْسِ ولا بِها، ولَكِنْ هو اللَّهُ الَّذِي مَنَّ بِهِما، فَجَعَلَ العَبْدَ بِسَبَبِهِما مِنَ الرّاشِدِينَ. ﴿فَضْلًا مِنَ اللَّهِ ونِعْمَةً واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (عَلِيمٌ) بِمَن يَصْلُحُ لِهَذا الفَضْلِ ويَزْكُو عَلَيْهِ وبِهِ، ويُثْمِرُ عِنْدَهُ. (حَكِيمٌ) فَلا يَضَعُهُ عِنْدَ غَيْرِ أهْلِهِ فَيُضَيِّعُهُ بِوَضْعِهِ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ. * وقال في (شفاء العليل) قوله تعالى: ﴿واعْلَمُوا أنَّ فِيكم رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكم في كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ ولَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمانَ وزَيَّنَهُ في قُلُوبِكم وكَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ والفُسُوقَ والعِصْيانَ أُولَئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ﴾ فتحبيبه سبحانه الإيمان إلى عباده المؤمنين هو إلقاء محبته في قلوبهم وهذا لا يقدر عليه سواه وأما تحبيب العبد الشيء إلى غيره فإنما هو بتزيينه وذكر أوصافه وما يدعو إلى محبته فأخبر سبحانه أنه جعل في قلوب عباده المؤمنين الأمرين حبه وحسنه الداعي إلى حبه وألقى في قلوبهم كراهة ضده من الكفر والفسوق والعصيان وإن ذلك محض فضله ومنته عليهم حيث لم يكلهم إلى أنفسهم بل تولى هو سبحانه هذا التحبيب والتزيين وتكريه ضده فجاد عليهم به فضلا منه ونعمة والله عليم بمواقع فضله ومن يصلح له ومن لا يصلح حكيم بجعله في مواضعه. * [فَصْلٌ الفُسُوقُ] وَأمّا الفُسُوقُ: فَهو في كِتاب اللَّهِ نَوْعانِ: مُفْرَدٌ مُطْلَقٌ، ومَقْرُونٌ بِالعِصْيانِ. والمُفْرَدُ نَوْعانِ أيْضًا: فُسُوقُ كُفْرٍ، يُخْرِجُ عَنِ الإسْلامِ، وفُسُوقٌ لا يُخْرِجُ عَنِ الإسْلامِ، فالمَقْرُونُ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمانَ وزَيَّنَهُ في قُلُوبِكم وكَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ والفُسُوقَ والعِصْيانَ أُولَئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ﴾ [الحجرات: ٧]. والمُفْرَدُ الَّذِي هو فُسُوقُ كُفْرٍ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ويَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وما يُضِلُّ بِهِ إلّا الفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٦] الآيَةَ. وَقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ ﴿وَلَقَدْ أنْزَلْنا إلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وما يَكْفُرُ بِها إلّا الفاسِقُونَ﴾ [البقرة: ٩٩] وَقَوْلِهِ: ﴿وَأمّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النّارُ كُلَّما أرادُوا أنْ يَخْرُجُوا مِنها أُعِيدُوا فِيها﴾ [السجدة: ٢٠] الآيَةَ. فَهَذا كُلُّهُ فَسُوقُ كُفْرٍ. وَأمّا الفُسُوقُ الَّذِي لا يُخْرِجُ عَنِ الإسْلامِ فَكَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وَإنْ تَفْعَلُوا فَإنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨٢] الآيَةَ، وَقَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكم فاسِقٌ بِنَبَإٍ﴾ الآيَةَ. والمَقْصُودُ ذِكْرُ الفُسُوقِ الَّذِي لا يَخْرُجُ إلى الكُفْرِ. والفُسُوقُ الَّذِي تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنهُ أعَمُّ مِنَ الفُسُوقِ الَّذِي تُرَدُّ بِهِ الرِّوايَةُ والشَّهادَةُ. وَكَلامُنا الآنَ فِيما تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنهُ، وهو قِسْمانِ: فِسْقٌ مِن جِهَةِ العَمَلِ، وفِسْقٌ مِن جِهَةِ الِاعْتِقادِ. فَفِسْقُ العَمَلِ نَوْعانِ: مَقْرُونٌ بِالعِصْيانِ ومُفْرَدٌ. فالمَقْرُونَ بِالعِصْيانِ: هو ارْتِكابُ ما نَهى اللَّهُ عَنْهُ، والعِصْيانُ: هو عِصْيانُ أمْرِهِ، كَما قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أمَرَهُمْ﴾ [التحريم: ٦] وَقالَ مُوسى لِأخِيهِ هارُونَ عَلَيْهِما السَّلامُ ﴿ما مَنَعَكَ إذْ رَأيْتَهم ضَلُّوا ألّا تَتَّبِعَنِ أفَعَصَيْتَ أمْرِي﴾ [طه: ٩٢] وقالَ الشّاعِرُ: ؎أمَرْتُكَ أمْرًا جازِمًا فَعَصَيْتَنِي ∗∗∗ فَأصْبَحْتَ مَسْلُوبَ الإمارَةِ نادِمًا فالفِسْقُ أخَصُّ بِارْتِكابِ النَّهْيِ، ولِهَذا يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَثِيرًا، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وَإنْ تَفْعَلُوا فَإنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ [البقرة: ٢٨٢] والمَعْصِيَةُ أخَصُّ بِمُخالَفَةِ الأمْرِ كَما تَقَدَّمَ، ويُطْلَقُ كُلٌّ مِنهُما عَلى صاحِبِهِ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿إلّا إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: ٥٠] فَسَمّى مُخالَفَتَهُ لِلْأمْرِ فِسْقًا، وقالَ ﴿وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى﴾ [طه: ١٢١] فَسَمّى ارْتِكابَهُ لِلنَّهْيِ مَعْصِيَةً، فَهَذا عِنْدَ الإفْرادِ، فَإذا اقْتَرَنا كانَ أحَدُهُما لِمُخالَفَةِ الأمْرِ، والآخَرُ لِمُخالَفَةِ النَّهْيِ. والتَّقْوى اتِّقاءُ مَجْمُوعِ الأمْرَيْنِ، وبِتَحْقِيقِها تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنَ الفُسُوقِ والعِصْيانِ، بِأنْ يَعْمَلَ العَبْدُ بِطاعَةِ اللَّهِ عَلى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، يَرْجُو ثَوابَ اللَّهِ، ويَتْرُكُ مَعْصِيَةَ اللَّهِ، عَلى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، يَخافُ عِقابَ اللَّهِ. وَفِسْقُ الِاعْتِقادِ كَفِسْقِ أهْلِ البِدَعِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ واليَوْمِ الآخِرِ ويُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ، ويُوجِبُونَ ما أوْجَبَ اللَّهُ، ولَكِنْ يَنْفُونَ كَثِيرًا مِمّا أثْبَتَ اللَّهُ ورَسُولُهُ، جَهْلًا وتَأْوِيلًا، وتَقْلِيدًا لِلشُّيُوخِ، ويُثْبِتُونَ ما لَمْ يُثْبِتْهُ اللَّهُ ورَسُولُهُ كَذَلِكَ. وَهَؤُلاءِ كالخَوارِجِ المارِقَةِ، وكَثِيرٍ مِنَ الرَّوافِضِ، والقَدَرِيَّةِ، والمُعْتَزِلَةِ، وكَثِيرٍ مِنَ الجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ لَيْسُوا غُلاةً في التَّجَهُّمِ. وَأمّا غالِيَّةُ الجَهْمِيَّةِ فَكَغُلاةِ الرّافِضَةِ، لَيْسَ لِلطّائِفَتَيْنِ في الإسْلامِ نَصِيبٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب