الباحث القرآني
ثم قال تعالى: (﴿وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا﴾ [غافر ٤٩] أي: قَدْر يوم ﴿مِنَ الْعَذَابِ﴾ ) استمع لهذا النداء الدال على البؤس واليأس، ﴿قَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ﴾ خزنة: جمع خازن، وهم الذين قاموا على خزانتها وحمايتها وحفظها؛ لأن النار لها خزنة، وكذلك الجنة لها خزنة، وكل أمر مُحْكَم، ويؤتى بجهنم يوم القيامة تُقادُ بسبعين ألف زمام، كل زمام يقوده سبعون ألف مَلَك، وما أدراك ما الملائكة وما قوتها، فهذه النار محكمة لها خزنة ولها قُوَّاد يقودونها يوم القيامة.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ﴾ و﴿جَهَنَّمَ﴾ اسم من أسماء النار، قيل: إنها عربية، وقيل: إنها عجمية، فعلى القول أنها عربية تكون مأخوذة من الجُهْمَة وهي الظلمة، لأن النار سوداء مظلمة، أعاذنا الله وإياكم منها.
وعلى القول بأنها أعجمية يقال: إن أصلها كهنام، ولكنها عُرِّبَت حتى صارت جهنم، وهي من أسماء النار.
يقول: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ﴾ ويقولون: هذا -والله أعلم- حين يقولون لربهم عز وجل: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (١٠٧) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون ١٠٧، ١٠٨] حينئذ يتوسلون بغيرهم أن يكلموا الله، يقولون: ادعوا ربكم، ولم يقولوا: ادعوا ربنا؛ لأنهم قد كُسِرُوا من جهة ربهم، قال لهم: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾، لكن توسلوا بعد ذلك بطلب من الملائكة أن يدعوا الله لهم ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ﴾ ﴿يُخَفِّفْ﴾ بالجزم جوابًا للأمر، وهو قوله: ﴿ادْعُوا﴾ وأقول: للأمر باعتبار صيغته، وإلا فهو في الحقيقة دعاء وسؤال.
﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ﴾ ما الذي طلبوا؟ طلبوا تخفيفًا لا رفعًا، وطلبوا يومًا لا دوامًا لأنهم آيسون، لكن قال: لعل المسألة تنفع ولو بتخفيف يومًا من العذاب، نسأل الله العافية، ومقتضى هذا أنهم في أشد ما يكونوا من العذاب، وأنهم طلبوا أن يستريحوا ولو يومًا.
﴿يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا﴾ قال المؤلف: (أي: قَدْرَ يومٍ) وإنما قال: قَدْرَ يوم؛ لأنه في يوم القيامة ليس هناك يوم ولا ليلة، الشمس والقمر مُكَوَّران في نار جهنم، وكل شيء من أمور الدنيا منتهٍ، ما فيه إلا أمر الآخرة، سبحان الله! فيقول المؤلف: (قدر يوم ﴿مِنَ الْعَذَابِ﴾ ).
قال لهم الخزنة: (﴿قَالُوا﴾ أي: الخزنة تهكمًا) هكذا قال المؤلف: تَهَكُّمًا، ويحتمل أنهم قالوا ذلك تقريعًا وتوبيخًا وتنديمًا ليس تهكمًا، لأن الأمر واقع، فهم يُقَرِّرُونَهُم بشيء حاصل تنديمًا لهم ليزدادوا حُزْنًا.
(﴿أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالمعجزات الظاهرات) ليته قال: بالآيات الظاهرات، لأن الرسل جاؤوا بالآيات لا بالمعجزات، لكن الآيات أمر خارق للعادة فهي معجزة، وقد بَيَّنَّا في كرامة الأولياء في التوحيد أن الأولى أن يُسَمَّى ما جاءت به الرسل من الدلالة على رسالتهم آيات.
(﴿بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى﴾ أي: فكفروا بهم ﴿قَالُوا فَادْعُوا﴾ ) هذا التهكم.
قوله: ﴿أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ مثل هذا التعبير يقع كثيرًا في القرآن؛ أي أن الهمزة تأتي ثم يأتي بعدها حرف عطف، مثل ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا﴾ [غافر ٢١] ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا﴾ [غافر ٨٢] ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ﴾ [يونس ٥١] وما أشبه ذلك، فكيف نقول في إعرابها؟ نقول: في إعرابها وجهان للنحويين:
الوجه الأول: أن الجملة معطوفة على ما سبق، وأن الواو مُقَدَّمة على محلها، وأن التقدير في ﴿أَوَلَمْ تَكُ﴾: وألم تكن، وهذا الوجه ليس فيه إلا دعوى التقديم والتأخير لكنه سهل؛ يعني: يَسْهُل أن تقول: هذا معطوف على ما سبق.
وقال بعضهم: إن الهمزة داخلة على جملة محذوفة، فالجملة مستأنفة، هذه الجملة يكون تقديرُها بحسب السياق؛ ففي قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا﴾ التقدير: أغفلوا ولم يسيروا، وهذا من حيث القواعد أَقْعَد، لكنه تواجهك أحيانًا آياتٌ لا تستطيع أن تعرف ما هو المُقَدَّر، فصار هذا أقعد وذاك أسهل؛ الوجهان؟
* طالب: (...).
* الشيخ: أنا عندي مما ضمر الأدمغة: الآلة الحاسبة، كمبيوتر الفرائض، المسجلات. ولَّا لا؟
الآلة الحاسبة ضمرت تحرك العقل جمعًا وطرحًا وضربًا. كمبيوتر الفرائض خلاص مَوَّت العقل ما عاد يبحث بالفرائض؛ نضغط على الزر وتطلع لك المسألة والقسمة. الثالث قال: مش لازم أتابع المعلم، المسجل عندي (...) استمعت إليه.
* الشيخ: ما الذي قلنا في مثل هذه التركيب: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا﴾ ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا﴾ ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ﴾؟
* الطالب: الوجه الأول: أن يكون هناك تقديم وتأخير.
* الشيخ: الوجه الأول: أن تكون الجملة معطوفة على ما سبق، وليس في هذا إلا أن نقول: الواو مؤخرة عن مكانها.
* الطالب: الوجه الثاني أن تكون بعد الهمزة جملة مقدرة..
* الشيخ: الوجه الثاني: أن تكون الهمزة داخلة؟
* الطالب: على جملة محذوفة مقدرة، وتقدر حسب السياق، كل جملة بحسبها، وهذه أقعد ولكن فيها صعوبة.
* الشيخ: صعوبة في أيش؟
* الطالب: صعوبة في التقدير.
* الشيخ: في التقدير؛ لأنك أحيانًا لا تكاد تعرف ما الذي يناسب المقام وتلك أسهل. هذا الإعراب في كل تقدير يجيئك على هذا الوجه.
وقوله: ﴿أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ﴾ الاستفهام هنا للتقرير، ويقال: كلما دخل الاستفهام على نفي فهو للتقرير، كقوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح ١]، ﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ﴾ [القيامة ٣٧]، ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ﴾ [الزمر ٣٧] وما أشبه ذلك، يقولون: كلما دخل الاستفهام على النفي فهو للتقرير.
طيب إذن نحن نقول: للتقرير، لكن هل يخرج عن معنى التقرير أو يُضَمُّ إلى معنى التقرير معنى آخر بحسب السياق؟
الجواب: نعم، ففي قوله: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ هو للتقرير إظهارًا لمنة الله عليه، ﴿أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ﴾ [غافر ٥٠] للتقرير توبيخًا وتنديمًا.
قالوا: ﴿بَلَى﴾ جواب الاستفهام المقرون بالنفي الإثبات بـ(بلى)، وجواب الاستفهام غير المقرون بالنفي الإثبات بـ(نعم)، وجواب الاستفهام المقرون بالنفي في حال النفي (نعم)، وجواب الاستفهام المقرون بالإثبات في حال النفي (لا). اعرفوا الفرق.
يقال: إن ابن عباس رضي الله عنه وعن أبيه قال في قوله تبارك وتعالى: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف ١٧٢] «قال: لو قالوا: نعم. لكفروا»[[ذكره السَّمينُ الحلبي في تفسيره (١ / ٤٥٦) من قول ابن عباس رضي الله عنه.]].
وقال الفقهاء: لو قيل للرجل: ألست طلقت امرأتك؟ فقال: نعم، لا تَطْلُق. وإن قال: بلى، طلقت.
قال ابن عباس: لو قالوا: نعم. لكفروا، وهذا مُسَلَّم فيما إذا كان الإنسان يعرف اللغة العربية جيدًا، وأما العامي فعنده نعم وبلى سواء؛ ولهذا لو قيل للعامي: ألستَ طلقتَ امرأتك؟ قال: نعم، أيش يكون؟ على القول الصحيح تَطْلُق، العبرة بالمعاني، على أنه جاء في اللغة العربية جواب هذا بـ(نعم)، ومنه قول العاشق:
؎أَلَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أُمَّ عَمْرٍو ∗∗∗ وَإِيَّانَا فَذَاكَ لَنَا تَدَانِي
أم عمرو معشوقته.
؎نَعَمْ وَتَرى الْهِلَالَ كَمَا أَرَاهُ ∗∗∗ وَيَعْلُوهَا النَّهَارُ كَمَا عَلَانِي
فقال: (نعم)، لكن الرجل هذا قنوع اكتفى أن يجمعه الليلُ مع معشوقته ولو كان في المشرق وهو بالمغرب وكذلك النهار، وترى الهلال كما يراه، هي في المشرق ترى الهلال وهو في المغرب يرى الهلال يكفي، نعم اقتران.
على كل حال الآن فهمنا جواب الاستفهام المقرون بالنفي إثباتًا (بلى)، ونفيًا (نعم)، والاستفهام المقرون بالإثبات إثباتًا؟
* طلبة: نعم.
* الشيخ: ونفيًا (لا)، بارك الله فيكم.
قالوا: ﴿بَلَى﴾ يعني: قد أتتنا، ولكنهم -والعياذ بالله- كفروا.
﴿قَالُوا فَادْعُوا﴾ هذا الأمر للتهكم؛ لأن الملائكة تعلم أنهم لن يُقْبَل منهم؛ فقوله: ﴿ادْعُوا﴾ تَهَكُّم بهم، والتهكم هو الذي يُسَمَّى عندنا في اللغة العربية (الهَكُّ)، هَكَكْتُ عليه يعني: لعبت بعقله، فهنا قالوا: ﴿فَادْعُوا﴾ تَهَكُّمًا بهم؛ لأن الملائكة تعلم أنهم لن يجابوا.
(﴿قَالُوا فَادْعُوا﴾ أنتم فإنا لا نشفع للكافرين)؛ لأن الشفاعة للكافرين مضيعة وقت؛ إذ إن الكافر لا تنفع فيه الشفاعة إلا كافرًا واحدًا نفعت فيه الشفاعة بالتخفيف عنه، من؟
* طلبة: أبو طالب.
* الشيخ: أبو طالب، نفعت شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام فيه فقط، لو جاء أبو بكر أو عمر يشفع في أبي طالب رُدَّ، لكن النبي ﷺ قُبِلَت شفاعته في عمه أبي طالب فخُفِّفَ عنه العذاب؛ لماذا؟ لأن أبا طالب حصل منه خيرٌ كثير للرسول ﷺ، وحصل منه ما يُسَمَّى بالدعاية العظيمة له حتى قال:
؎وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ∗∗∗ مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا
هذا قاله في الدين، وقال في الرسول:
؎لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لَا مُكَذَّبٌ ∗∗∗ لَدَيْنَا وَلَا يُعْنَى بِقَوْلِالْأَبَاطِلِ
ودافع عنه، وحُوصِرَ معه في الشعب؛ فلذلك قَبِلَ الله سبحانه وتعالى شفاعة الرسول ﷺ فيه أن يُخَفِّفَ عنه، أما شفاعة الرسول في أمه فمنعه الله، في أمه وهي أقرب من عمه، لما استأذن اللهَ أن يستغفرَ لها قال: لا، ولما استأذنه أن يزور قبرَها قال: نعم، أذن له، فزار النبي ﷺ قبر أمه، وقف عليه وجعل يبكي لكن لا يدعو لها، وأبكى مَنْ معه[[أخرج مسلم (٩٧٦ / ١٠٨) عن أبي هريرة قال: زار النبي ﷺ قبرَ أمِّه فبكى وأبكى مَن حولَه، فقال: «استأذنْتُ رَبِّي في أن أستغفرَ لها فلم يؤذَنْ ليِ، واستأذنته في أنْ أزورَ قبرَها فأذِنَ لي، فزوروا القبورَ فإنَّها تُذكّرُ الموتَ». ]].
فالكفار لا تنفع فيهم الشفاعة؛ لأن الشفاعة مضيعة بلا فائدة، ثم هي لن يُؤْذَن فيها من قِبَل الله، ولا يمكن أبدًا شفاعة بدون إذن الله.
قال تعالى: ﴿وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ ﴿وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ ﴿مَا﴾ نافية حجازية، و﴿دُعَاءُ﴾ اسمها، ربنا افتح بيننا وبين قومنا هل هي حجازية يا إخوان؟
* طالب: ما فيها (ما).
* الشيخ: فيها (ما) ﴿وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ﴾.
* طلبة: ربنا افتح بيننا.
* الشيخ: إحنا اللي نقول: افتح الآن، أنتم غلطتم، وشفت بعضكم يكتب، لما قلتم أنا (ما) حجازية شرع بعضكم بالكتابة يكتب أنها (ما) حجازية فأسألكم الآن واللهم افتح بيننا وبين قومنا بالحق، هل هي حجازية؟
* طالب: لا، يا شيخ.
* الشيخ: لماذا؟
* طلبة: نافية.
* الشيخ: هي نافية والنافية حجازية.
* طالب: اللي بعدها مرفوع.
* الشيخ: ما بعدها مرفوع! ﴿فِي ضَلَالٍ﴾ جار ومجرور ما يدري عنه مرفوع ولَّا منصوب.
* الطالب: (...).
* الشيخ: لأنه انتقض النفي، وابن مالك يقول:
؎إِعْمَالَ (لَيْسَ) أُعْمِلَتْ مَا دُونَ (إِنْ) ∗∗∗ مَعَ بَقَا النَّفْيِ وَتَرْتِيبٍ زُكِنْ
النفي الآن ما بقي، قال: ﴿وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ صار إثباتًا، إذن (ما) هنا ليست حجازية لاتفاق اللغتين لغة التميميين والحجازيين فيها، وأنها لا تعمل في هذه الحال.
﴿وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ أي: ما طلبهم ﴿إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ أي في ضياع؛ وقول المؤلف: (انعدام) فيه نظر، الضلال الضياع وعدم الاهتداء، فما دعاء الكافرين إلا في ضلال، لا تُقْبَل دعوة الكافر أبدًا إلا في حالين:
الحال الأولى: إذا كان مضطرًا؛ لقوله تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ [النمل ٦٢]، ولقوله تعالى: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ﴾ [لقمان ٣٢] وإنما أجيبت دعوة المضطر لصدق لجوئه إلى الله؛ لأن المضطر صادق اللجوء إلى الله.
الحال الثانية: إذا كان مظلومًا فإنها تُقْبَل دعوته على ظالمه؛ لقول النبي ﷺ: «اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٣٤٧) ومسلم (١٩ / ٢٩) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.]] وهذا وإن كان يخاطبه في قوم أسلموا لكنها عامة، وإنما أُجِيبَتْ دعوة الكافر إذا كان مظلومًا إقامةً للعدل؛ لأن الله لم يُجِبْ الكافر محبة له ولكن إقامة للعدل؛ لأنه الآن هناك خصمان: مظلوم وظالم، فلإقامة العدل يستجيب الله تعالى دعوة الكافر.
* طالب: أكرمك الله، في البيت الذي ذكرته عن أم عمرو قال: الجواب: نعم، ما قال: بلى. فيه نفي (...).
* الشيخ: ما قلنا يا إخواني؟
* طالب: شاهد.
* الشيخ: قلنا: هذا شاهد على أنها تُجَابُ بـ(نعم) بمعنى (بلى)، وقلنا لكم: إننا إذا قلنا للعامي الذي قيل له: ألست طلقت امرأت؟ قال: نعم. قلنا: إنها تطلق؛ لأن هذه اللغة العامية، وأيضًا لها أصل في اللغة العربية، وجئنا بالبيتين هذين.
* الطالب: شيخ فيه حديث يدل على ما جاء به البيت هذا من الشعر على أن (نعم) تفيد (...).
* الشيخ: هل يُطْلَب الحديث دليلًا على إثبات مسألة لغوية؟
* الطالب: نعم، يا شيخ، خير من تكلم بالفصحى النبي ﷺ.
* الشيخ: لكن إذا جاء عن العرب، ما يحتاج دليل؛ لأن قول العرب هو الدليل، ألم تعلم أن بعض النحويين يقول: لا نستدل بالحديث على اللغة العربية. لماذا؟ لأن الرواة يُجَوِّزون رواية الحديث بالمعنى، ومن المعلوم أن مِنْ بَيْنِ الرواة مَنْ تَغَيَّرَتْ لغته. الإمام أحمد قديم ومن أئمة الحديث، وسمعته ـ مر علينا في قواعد اللغة العربية ـ ماذا يقول في أي شيء؟ يقول: أيش، وهكذا الرواة ربما نقلوا بالمعنى على لغتهم التي يتكلمون بها، فحصل الخطأ، أما القرآن فنعم؛ لأنه منقول بالمتواتر، لكن كثيرًا من علماء النحو يقولون: إنه يحتج بالأحاديث النبوية على اللغة العربية؛ لأن الأصل عدم التغيير.
* طالب: (...) ﴿قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ هل نستدل بهذا على العذر بالجهل (...) يريدون أن يقرروهم بأنه قد قامت عليهم الحجة، فلا يعذرون بالجهل؟
* الشيخ: نعم، لا شك أنها تدل على أنهم لو لم تأتهم لعُذِروا، لكن قد يقال: إن قصدهم بذلك إقامة الحجة عليهم لأنها قد قامت، أما العذر بالجهل فلا شك أن العذر بالجهل ثابت وما عندنا في هذا إشكال، لا في مسألة الكفر ولا فيما دونها متى كان الإنسان يقول: إنه مسلم.
* طالب: (...).
* الشيخ: صحيح، لكن إذا قال الرسول لنا: إن الله أبى أن يستغفر له نعترض على الله؟ ما ندري، قد يكون قامت عليه الحجة؛ لأن فيه بقايا من دين إسماعيل في العرب، وفيه ورقة بن نوفل تَنَصَّر.
* طالب: قول الله تعالى: (...) بدخول الهمزة على العطف يعني ما يقال: إن تقديم العطف على الهمزة (...) لأن الأصل عدم (...)؟
* الشيخ: الأصل عدم مخالفة الترتيب، حذف المعلوم كثير، وأنت سمعته الآن في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ﴾ وأن التقدير: (...). حَذْفُ ما يُعْلَم كثيرٌ في القرآن وفي اللغة العربية، لكن الترتيب والزَّحْلَقة هذا قليل، إلا أني قلت لكم: إن الإخلال بالترتيب هنا أيسر للإنسان لأنه أحيانًا تَرِد عليك آيات ما تدري ويش تُقَدِّر؟ إلا أن تقول: إن عرفت التقدير فاسلك الأقعد، وإن لم تعرف فاسلك الأسهل، لتكون متتبعًا للرخص، يصلح؟ إي نعم يصلح، يعني: رخص النحويين ما فيه مانع، نحن قلنا لكم قاعدة مفيدة جدًّا فيما إذا اختلف النحويون في شيء فالصواب الأسهل.
* الطالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (٥١) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (٥٣) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [غافر ٥١ - ٥٤].
* الشيخ: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ﴾ [غافر ٤٩] إلى آخر الآية.
* من فوائد هذه الآية الكريمة: بيان شدة حسرة أهل النار؛ لقوله: ﴿يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ﴾.
* ومن فوائدها: أن أهل النار يتحاجون ويُحاجُّون أيضًا، يتحاجون كما سبق فيما بينهم، وكذلك يحاجون غيرَهم أو يسألون غيرهم؛ لقوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ﴾.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: بيان إحكام الله عز وجل لمخلوقاته كما أحكم مشروعاته؛ حيث جعل للنار خَزَنة يحفظونها ويقومون عليها.
* ومن فوائد هذه الآية: شدة خجل أهل النار من مخاطبة الله عز وجل، لقوله؟
* الطالب: قالوا لخزنة النار: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ﴾.
* الشيخ: أنهم توسلوا بقول الخزنة أن يدعوا ربهم ولم يقولوا: ادعوا ربنا، هذا يدل على أن هذا بعد أن قال الله لهم: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون ١٠٨].
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن أهل النار في أَشَدِّ ما يكون من العذاب، من أين تُؤْخذ؟ ﴿يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ﴾، يدل على أن عليهم شدة. وأنهم يَتَمَنَّوْن يومًا واحدًا فقط.
ثم قال تعالى: ﴿قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ﴾ [غافر ٥٠] إلى آخره.
* من فوائد هذه الآية الكريمة: أن أهل النار يُعَذَّبون عذابًا بدنيًّا وعذابًا قلبيًّا. منين؟
* الطالب: التقريع والتوبيخ لهم.
* الشيخ: التقريع والتوبيخ لهم ﴿قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ فهذا يكون أشدَّ عليهم من عذاب البدن؛ ولهذا يقولون كما في سورة تبارك: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك ١٠] قال تعالى: ﴿فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ﴾.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن لكل أمة من أهل النار رسولًا.
* طالب: من قول الملائكة لهم: ﴿أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى﴾ (...).
* الشيخ: ﴿رُسُلُكُمْ﴾ كل أمة لها رسول.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الله تعالى لم يُرْسِل رسولًا إلا بآيات تدل على أنه رسول الله حقًّا.
* طالب: لقوله: ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾.
* الشيخ: لقوله: ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾، صحيح.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الاهتمام بالوصف أشد من الاهتمام بالأصل؛ لأن الوصف هو اللي يبين الأشياء من أين؟
* طالب: من قوله: ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾، ولم يقل: بالآيات البينات.
* الشيخ: من قوله: ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ حيث أتى بالوصف وطوى ذكر الموصوف؛ لأن المهم هو الوصف.
* ومن فوائد الآية الكريمة: تَهَكُّم الرسل بهؤلاء أي بأهل النار.
* طالب: ﴿أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى﴾.
* طالب آخر: ﴿قَالُوا فَادْعُوا﴾.
* الشيخ: ﴿قَالُوا فَادْعُوا﴾ هذا من باب التهكم بهم؛ لأن الملائكة يعرفون أنهم لن يجابوا.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنه لا قَبول لدعاء الكافرين.
* طالب: ﴿وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾.
* الشيخ: ﴿وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ طيب.
هل يشمل هذا دعاء المسألة ودعاء العبادة، أو دعاء المسألة فقط، أو دعاء العبادة فقط؟
* طالب: دعاء العبادة فقط، أما دعاء المسألة.
* طالب آخر: دعاء المسألة ودعاء العبادة إلا في حالة الاضطرار.
* الشيخ: يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة. طيب، ما الذي يستثنى من دعاء المسألة في إجابة الكافر؟
* طالب: المضطر والمظلوم.
* الشيخ: نعم، المضطر والمظلوم، ما هو الدليل على استثناء المضطر أنه يجاب ولو كان كافرًا؟
* الطالب: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ [النمل ٦٢].
* الشيخ: طيب قد يقول لك قائل: هذه في المسلم.
* الطالب: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ﴾ (...) العموم.
* الشيخ: نعم إذا ادَّعى أنه يخرج منها الكافر. قلنا: أين الدليل؟ طيب، هذا صحيح، لكن نريد نصًّا واضحًا في إجابة الكافر في حال الضرورة؟
* الطالب: قوله تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾.
* الشيخ: نعم، قوله تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ [العنكبوت ٦٥] طيب، صحيح.
ما الحكمة من إجابة الكافر في حال الضرورة؟
* طالب: لأنه في هذه الحال يكون أخلص في الدعاء.
* الشيخ: لأنه في هذه الحال يكون مخلصًا لله في الدعاء مُظْهِرًا للافتقار إليه، فيجيبه الله.
المظلوم، الدليل على أنه يجيب دعوة الكافر المظلوم؟
* طالب: حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه النبي ﷺ إلى أهل اليمن في آخر الحديث قال له: «وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٣٤٧)، ومسلم (١٩ / ٢٩) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.]].
* الشيخ: لو قال لك قائل: المظلوم من المؤمنين؟
* الطالب: لم يُخَصَّص في هذا الحديث.
* الشيخ: ما الحكمة من إجابة دعوة المظلوم الكافر؟
* الطالب: لإقامة العدل.
* الشيخ: أحسنت، بارك الله فيك، طيب إذن: ﴿وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة، طيب ما الدليل على أن العبادة لا تُقْبَل من الكافر؟
* طالب: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ﴾ [التوبة ٥٤].
* الشيخ: ﴿إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ﴾.
ثم قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا﴾ إلى آخره، الجملة هذه مؤكدة بمؤكدين: أحدهما: (إن)، والثاني: اللام.
وقوله: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ﴾ أتى بصيغة التعظيم؛ لأن المقام يقتضيه؛ إذ إن النصر لا بد أن يكون من قوي، ولم يقل الله جل وعلا: أنا أنصر، قال: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ﴾؛ لأن المقام يقتضي العظمة والقدرة والقوة.
﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ ﴿رُسُلَنَا﴾ جمع رسول، وهم كل الرسل؛ لأن (رسل) جمع مضاف، والجمع المضاف يكون للعموم.
وقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ معطوفة على ﴿رُسُلَنَا﴾ أي: وننصر الذين آمنوا، آمنوا بمن؟ آمنوا بما يجب الإيمان به. والإيمان هو الإقرار المستلزم للقَبول والإذعان، فمَنْ أَنْكَر فليس بمؤمن، ومن أَقَرَّ ولم يَقْبَل فليس بمؤمن، ومن أَقَرَّ ولم يذعن فليس بمؤمن؛ فأبو طالب مثلًا مقر برسالة الرسول عليه الصلاة والسلام لكنه لم يَقْبَلْ ولم يُذْعِن، فلا يكون مؤمنًا، فالذين آمنوا هم الذين أَقَرُّوا بقلوبهم، وأذعنوا واستسلموا بجوارحهم، وقَبِلوا ما أخبرت به الرسل، هؤلاء هم المؤمنون.
وقوله: ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ متعلق بـ﴿نَنْصُرُ﴾ أي: ننصرهم في الحياة الدنيا؛ ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ ﴿وَيَوْمَ﴾ هذه معطوفة أيضًا على ما سبق، وهي متعلقة ب﴿نَنْصُرُ﴾، أي: وننصرهم يوم يقوم الأشهاد وذلك يوم القيامة.
و﴿الْأَشْهَادُ﴾ جمع شاهد، يقول المؤلف: (وهم الملائكة يشهدون للرسل بالبلاغ وعلى الكفار بالتكذيب) هكذا قال المؤلف رحمه الله خَصَّها بالملائكة، والصحيح أنها أَعَمُّ من الملائكة، فالملائكة يشهدون، وهذه الأمة تَشْهَد على مَنْ سبق كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [البقرة ١٤٣]، والجلود تشهد، والجوارح تشهد، فكلُّ ما ثبتت شهادتُه فإنه داخل في قوله: ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ وذلك يوم القيامة.
* في هذه الآية الكريمة: تأكيد نصر الله سبحانه وتعالى للرسل والذين آمنوا؛ لقوله: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا﴾.
* وفي هذه الآية: شُبْهَةٌ استدلَّ بها النصراني يقول: إن الله ثالث ثلاثة، ولي عليكم دليل وهو قوله: ﴿إِنَّا﴾، وقوله: ﴿نَحْنُ﴾، و﴿نُرِيهِمْ﴾، وما أشبهها مما يدلُّ على الجمع، فإذن أنا أقول -يقوله النصراني-: إن الله ثالث ثلاثة ولي حجة، فبماذا نجيبه؟
نجيبه بقولنا: إنك ممن زاغ قلبه؛ لأنك اتبعتَ المتشابه، والله عز وجل يقول: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ [آل عمران ٧] وتركتَ المحكم المؤكد بأن الله واحد لا شريك له مثل قوله تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة ١٦٣]، ومثل قوله في تكذيب هؤلاء النصارى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المائدة ٧٣]. فهذا النصراني اتبع المتشابه.
وكذلك كُلُّ مبطل يحتج بآية فإنه يكون ممن اتبع المتشابه، والله عز وجل حكيم جعل في آياته الشرعية وفي آياته الكونية أيضًا ما يكون متشابهًا ابتلاء وامتحانًا لأيش؟ للذين آمنوا والذي في قلوبهم زيغ؛ الآن انظر إلى القرآن، انظر إلى السنة، تجد في بعض الأحاديث أو في بعض الآيات ما ظاهره التعارض، أو في بعض الأحاديث أو الآيات ما ظاهره باطل، مثلًا هذا إن سَلَّمْنَا وإلا ليس في القرآن ولا السنة الصحيح ما ظاهره باطل إطلاقًا، لكن هذا من باب التَّنَزُّل مع الخصم، ونقول: هذا من باب الابتلاء والامتحان.
كذلك في الآيات الكونية نجد أن الله تعالى يصيب الناس بكوارث عظمية تموت بها الأَنْفُس، وتُدَمَّر بها البلاد، يفسد بها الحرث والنسل، حتى يَبْلُوَ العباد: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ [محمد ٣١]، وانتبه لهذه النقطة وهي امتحان الله تعالى للعباد بما يأتي من الآيات الشرعية والآيات الكونية.
إذن رددنا على النصارى الذي ادَّعى تَعَدُّدَ الآلهة محتجًّا بمثل قوله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا﴾ [غافر ٥١] إلى آخره.
وفي الآية إشكال؛ وهو أن الله تعالى ذَكَر أن من الناس من يقتلون الأنبياء بغير حق، يقتلون الأنبياء، فأين النصر في الحياة الدنيا لمن قُتِلَ؟
والجواب من أحد وجهين: إما أن يكون المراد بالنصر نصرَ ما جاؤوا به من الشرع وبيانَ أنه حقٌّ، وهذا ثابت لكل رسول، وهل تأييد ما جاء به الرسول نصرٌ له أو لا؟ نصر له، لا شك أنه نصر، وحينئذ لا يستثنى من الرسل أحد إذا قلنا: إن المراد بالنصر نصر ما جاؤوا به من الحق.
وإما أن يُراد بـ﴿رُسُلَنَا﴾ الذين أُمِروا بالجهاد؛ لأن النصر يقتضي أن يكون هناك جهاد ينتصر فيه أحد الطرفين على الآخر، فيكون المراد بالرسل هنا ليس جميع الرسل بل مَنْ أُمِروا بالجهاد، وحينئذ يزول الإشكال، هذا باعتبار النصر في الحياة الدنيا، أما باعتبار النصر يوم يقوم الأشهاد فلا يُسْتَثْنَى أحد ولا إشكال فيه.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن نَصْرَ الله العبد في الدنيا نعمةٌ؛ يعني له أن يفرح بها، للإنسان أن يفرح بما أعطاه الله تعالى من النصر سواء نصرًا فعليًّا أو قوليًّا، المهم أن الإنسان إذا نصره الله عز وجل على من ناوأه يُعْتَبر هذا نعمة ومنة من الله عز وجل فليفرح به الإنسان؛ لقوله تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [يونس ٥٨].
* من فوائد الآية الكريمة: إثبات الأشهاد يوم القيامة؛ لقوله: ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر ٥١].
* من فوائد الآية الكريمة: التحذير من مخالفة الرسل من ذلك اليوم الذي يقوم فيه الأشهاد؛ لأنه في ذلك اليوم لا يستطيع أحد أن يُكَذِّب، لو أن الإنسان أنكر وكذَّب من يشهد عليه؟ تشهد عليه جوارحه.
قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام ٢٣] يقولون هذا؛ لأنهم يشاهدون المخلصين يُنْصَرون يوم القيامة، فيقولون: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ رجاء أن يُنْصروا معهم فيقول الله عز وجل: ﴿انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ [الأنعام ٢٤] هم كذبوا على أنفسهم؛ لأنهم يقولون: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ وهم مشركون، بل قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام ٢٨].
الآن استدركنا على المفسر رحمه الله ماذا؟ قَصْرَه الأشهاد على الملائكة، وقلنا: إنها أعم.
{"ayahs_start":49,"ayahs":["وَقَالَ ٱلَّذِینَ فِی ٱلنَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ٱدۡعُوا۟ رَبَّكُمۡ یُخَفِّفۡ عَنَّا یَوۡمࣰا مِّنَ ٱلۡعَذَابِ","قَالُوۤا۟ أَوَلَمۡ تَكُ تَأۡتِیكُمۡ رُسُلُكُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِۖ قَالُوا۟ بَلَىٰۚ قَالُوا۟ فَٱدۡعُوا۟ۗ وَمَا دُعَـٰۤؤُا۟ ٱلۡكَـٰفِرِینَ إِلَّا فِی ضَلَـٰلٍ","إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَیَوۡمَ یَقُومُ ٱلۡأَشۡهَـٰدُ"],"ayah":"إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَیَوۡمَ یَقُومُ ٱلۡأَشۡهَـٰدُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق