الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿إنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا والَّذِينَ آمَنُوا في الحَياةِ الدُنْيا ويَوْمَ يَقُومُ الأشْهادُ﴾ ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظالِمِينَ مَعْذِرَتُهم ولَهُمُ اللَعْنَةُ ولَهُمُ سُوءُ الدارِ﴾ ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى الهُدى وأورَثْنا بَنِي إسْرائِيلَ الكِتابَ﴾ ﴿هُدًى وذِكْرى لأُولِي الألْبابِ﴾ ﴿فاصْبِرْ إنَّ وعْدَ اللهِ حَقٌّ واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالعَشِيِّ والإبْكارِ﴾ ﴿إنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ في آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أتاهم إنَّ في صُدُورِهِمْ إلا كِبْرٌ ما هم بِبالِغِيهِ فاسْتَعِذْ بِاللهِ إنَّهُ هو السَمِيعُ البَصِيرُ﴾ أخْبَرَ اللهُ تَعالى أنَّهُ يَنْصُرُ رُسُلَهُ والمُؤْمِنِينَ في الحَياةِ الدُنْيا وفي الآخِرَةِ، قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: وهَذا خاصٌّ فِيمَن أظْهَرَهُ اللهُ عَلى أُمَّتِهِ كَنُوحٍ (p-٤٤٩)وَمُوسى ومُحَمَّدٍ عَلَيْهِمُ الصَلاةُ والسَلامُ، ولَيْسَ بِعامٍّ، لِأنّا نَجَدُ مِنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَلامُ مَن قَتَلَهُ قَوْمُهُ كَيَحْيى عَلَيْهِ السَلامُ ولَمْ يُنْصَرْ عَلَيْهِمْ. وقالَ السُدِّيُّ: الخَبَرُ عامٌّ عَلى وجْهِهِ، وذَلِكَ أنَّ نُصْرَةَ الرُسُلِ عَلَيْهِمُ الصَلاةُ والسَلامُ واقِعَةٌ ولا بُدَّ، إمّا في حَياةِ الرَسُولِ المَنصُورِ كَنُوحٍ ومُوسى عَلَيْهِما السَلامُ، وإمّا فِيما يَأْتِي مِنَ الزَمانِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، ألّا تَرى إلى ما صَنَعَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى بِبَنِي إسْرائِيلَ بَعْدَ قَتْلِهِمْ يَحْيى عَلَيْهِ السَلامُ مِن تَسْلِيطِ بُخْتَنَصَّرَ عَلَيْهِمْ حَتّى انْتَصَرَ لِيَحْيى عَلَيْهِ السَلامُ؟ ونَصْرُ المُؤْمِنِينَ داخِلٌ في نَصْرِ الرُسُلِ عَلَيْهِمُ السَلامُ، وأيْضًا فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لِلْمُؤْمِنِينَ الفُضَلاءِ وُدًّا، ووَهَبَهم نَصْرًا إذا ظُلِمُوا، وحَضَّتِ الشَرِيعَةُ عَلى نَصْرِهِمْ، ومِنهُ قَوْلُهُ ﷺ: « "مَن رَدَّ عن أخِيهِ المُسْلِمِ في عَرْضِهِ، كانَ حَقًّا عَلى اللهِ أنْ يَرُدَّ عنهُ نارَ جَهَنَّمَ"،» وقَوْلُهُ ﷺ: « "مَن حَمى مُؤْمِنًا مِن مُنافِقٍ يَغْتابُهُ، بَعَثَ اللهُ مَلَكًا يَحْمِيهِ يَوْمَ القِيامَةِ".» وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهادُ﴾، يُرِيدُ يَوْمَ القِيامَةِ، وقَرَأ الأعْرَجُ، وأبُو عَمْرٍو - بِخِلافٍ -: [تَقُومُ] بِالتاءِ، وقَرَأ نافِعٌ، وأبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ: [يَقُومُ] بِالياءِ، و[الأشْهادُ]: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِنَ الشَهادَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِنَ المُشاهَدَةِ بِمَعْنى المَصْدَرِ، قالَ الزَجّاجُ: أشْهادٌ جَمْعُ شاهِدٍ كَصاحِبٍ وأصْحابُ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: أشْهادٌ جُمَعُ شَهْدٍ، وشَهْدٌ جَمْعُ شاهِدٍ كَصاحِبٍ وصَحِبٍ وتاجَرٍ وتَجْرٍ، وقالَ الطَبَرِيُّ: أشْهادٌ جَمْعُ شَهِيدٍ كَشَرِيفٍ وأشْرافٍ. و ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ﴾ بَدَلٌ مِنَ الأوَّلِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وقَتادَةُ، وعِيسى، وأهْلُ مَكَّةَ: "لا تَنْفَعُ" بِالتاءِ مِن فَوْقُ، وقَرَأ الباقُونَ: "لا يَنْفَعُ" بِالياءِ، وهي قِراءَةُ أبِي جَعْفَرٍ، وطَلْحَةَ، وعاصِمٍ، وأبِي رَجاءٍ، وهَذا لِأنَّ تَأْنِيثَ المَعْذِرَةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، ولِأنَّ (p-٤٥٠)الحائِلَ قَدْ وقَعَ، و"المَعْذِرَةُ" مَصْدَرٌ كالعُذْرِ. و[اللَعْنَةُ]: الإبْعادُ، و﴿سُوءُ الدارِ﴾ فِيهِ حَذْفُ مُضافٍ تَقْدِيرُهُ: سُوءُ عاقِبَةِ الدارِ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى بِقِصَّةِ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ وما آتاهُ اللهُ تَعالى مِنَ النُبُوَّةِ تَأْنِيسًا لِمُحَمَّدٍ ﷺ، وضَرَبَ أُسْوَةً، وتَذْكِيرًا لِما كانَتِ العَرَبُ تُعْرِفُهُ مِن أمْرِ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ، فَيُبَيِّنُ ذَلِكَ أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ لَيْسَ بِبِدَعٍ مِنَ الرُسُلِ. و"الهُدى": النُبُوَّةُ والحِكْمَةُ، والتَوْراةُ تَعُمُّ جَمِيعَهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "وَأورَثْنا"﴾ عِبارَةٌ عن أنَّ طَوائِفَ بَنِي إسْرائِيلَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ تَصِيرُ فِيهِمُ التَوْراةُ إمامًا، فَكانَ بَعْضُهم يَرِثُها عن بَعْضٍ، وتَجِيءُ التَوْراةُ في حَقِّ الصَدْرِ الأوَّلِ مِنهم عَلى تَجَوُّزٍ. و"الكِتابَ": التَوْراةُ. ثُمَّ أمْرَ اللهُ تَعالى نَبِيَّهُ ﷺ بِالصَبْرِ وانْتِظارِ إنْجازِ الوَعْدِ، أيْ: فَسَتَكُونُ عاقِبَةُ أمْرِكَ كَعاقِبَةِ أمْرِهِ، وقالَ الكَلْبِيُّ: نَسَخَتْ آيَةُ القِتالِ الصَبْرَ حَيْثُ وقَعَ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ إعْلامِ اللهِ إيّاهُ أنَّهُ قَدْ غَفَرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأخَّرَ؛ لِأنَّ آيَةَ هَذِهِ السُورَةِ مَكِّيَّةٌ وآيَةَ سُورَةِ الفَتْحِ مَدَنِيَّةٌ مُتَأخِّرَةٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الخُطّابُ في هَذِهِ الآيَةِ لَهُ والمُرادُ أمَّتُهُ، أيْ أنَّهُ إذا أُمِرَ هو بِهَذا فَغَيْرُهُ أحْرى بِامْتِثالِهِ. و"الإبْكارُ" والبُكُورُ بِمَعْنىً واحِدٍ، وقالَ الطَبَرِيُّ: الإبْكارِ مِن طُلُوعِ الفَجْرِ الثانِي إلى طُلُوعِ الشَمْسِ، وحُكِيَ عن قَوْمٍ أنَّهُ مِن طُلُوعِ الشَمْسِ إلى ارْتِفاعِ الضُحى، وقالَ الحَسَنُ: "بِالعَشِيِّ" يُرِيدُ صَلاةَ العَصْرِ، [والإبْكارِ] يُرِيدُ بِهِ صَلاةَ الصُبْحِ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى عن أُولَئِكَ الكُفّارِ الَّذِينَ يُجادِلُونَ في آياتِ اللهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ ولا بُرْهانٍ، وهم يُرِيدُونَ بِذَلِكَ طَمْسَها والرَدِّ في وجْهِها، أنَّهم لَيْسُوا عَلى شَيْءٍ، بَلْ في صُدُورِهِمْ وضَمائِرِهِمْ كِبْرٌ وأنَفَةٌ عَلَيْكَ حَسَدًا مِنهم عَلى الفَضْلِ الَّذِي آتاكَ اللهُ تَعالى، ثُمَّ نَفى أنْ يَكُونُوا يَبْلُغُونَ آمالَهم بِحَسْبِ ذَلِكَ الكِبَرِ فَقالَ: ﴿ما هم بِبالِغِيهِ﴾، وهُنا حَذْفُ مُضافٍ تَقْدِيرُهُ: بِبالِغَيْ إرادَتِهِمْ فِيهِ، وهَذا النَفْيُ الَّذِي تَضْمَّنَ أنَّهم لا يَبْلُغُونَ أمَلًا تَأْنِيسٌ لِمُحَمَّدٍ ﷺ. ثُمَّ أمَرَهُ تَعالى بِالِاسْتِعاذَةِ بِاللهِ في كُلِّ أمْرِهِ مِن كُلِّ مُسْتَعاذٍ مِنهُ لِأنَّ اللهَ يَسْمَعُ أقْوالَهُ وأقْوالَ مُخالِفِيهِ، وهو بَصِيرٌ بِمَقاصِدِهِمْ ونِيّاتِهِمْ ويُجازِي كُلًّا بِما يَسْتَوْجِبُهُ، والمَقْصِدُ بِأنْ يُسْتَعاذَ مِنهُ عِنْدَ قَوْمِ الكِبَرِ المَذْكُورِ، كَأنَّهُ قالَ: هَؤُلاءِ لَهم كِبَرٌ لا يَبْلُغُونَ مِنهُ أمَلًا، فاسْتَعِذْ بِاللهِ مِن حالِهِمْ في ذَلِكَ. وذَكَرَ الثَعْلَبِيُّ: أنَّ هَذِهِ الِاسْتِعاذَةَ هي مِنَ الدَجّالِ وفِتْنَتِهِ، والأظْهَرُ ما قَدَّمْناهُ مِنَ العُمُومِ في كُلِّ مُسْتَعاذٍ مِنهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب