الباحث القرآني
الطالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (٢١) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ [غافر ٢١ - ٢٥].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تبارك وتعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ﴾.
قال الله تبارك وتعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ وهذا النظم موجود في القرآن كثيرًا أن تأتي أداة الاستفهام وبعدها حرف العطف ثم الجملة، وقد اختلف المُعْرِبُون في كيفية إعراب هذا النظم وهذا التركيب، فقال بعضهم: إن التقدير: وألم يسيروا في الأرض، فتكون الواو عاطفة على ما سبق، وتكون الهمزة داخلة على جملتها مُصدَّرة الجملة بها، وهذا القول لا يحتاج إلى تقدير، لكنه يَرِد عليه أن الهمزة متقدمة على حرف العطف، فأجابوا عن ذلك بأن الهمزة مقدمة وقالوا: إن تقديمها في مثل هذا سائغ.
والقول الثاني للمعربين أن الهمزة داخلة على شيء مُقَدَّر وأن حرف العطف عاطف على ذلك المُقَدَّر، وحينئذ نحتاج إلى تعيين ذلك المقدر ولا يُعَيِّنُه إلا السياق، فيقدر ذلك المحذوف بحسب ما يقتضيه السياق، فمثلًا يقال: أولم يسيروا أفرطوا ولم يسيروا في الأرض، أو أغفلوا ولم يسيروا في الأرض، أو ما يؤدي إلى هذا المعنى.
وقوله: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ هل المراد سير القلوب بالنظر والتأمل والتفكر أو المراد سير الأقدام حتى يقف الإنسان على ما حصل للأمم السابقة بعيني رأسه؟ كلاهما، فمن لم يتيسر له أن يسير بقدمه فليسر بقلبه، ولكن ما طريق سيره بقبله؟ طريق سيره بقلبه أن يقرأ تاريخ الأمم السابقة، وحينئذ بأي شيء يثبُت هذا التاريخ؟ يثبت هذا التاريخ بطريقين فقط: الطريق الأول القرآن، والطريق الثاني: السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن الله سبحانه وتعالى قال فيمن سبق: ﴿وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ﴾ وإذا كان لا يعلمهم إلا الله فإن مصدر التلقي لأخبارهم من عند الله أو من رسوله ﷺ.
أما ما حدَّثَت به بنو إسرائيل عمن سبق فهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما شهد شرعنا به أو ما شهد القرآن والسنة به فهذا مقبول؛ لا لأنه خبر بني إسرائيل ولكن لأن القرآن والسنة شهدت بصدقه.
الثاني: ما شهد القرآن والسنة بكذبه فهذا مرفوض ولا يجوز التحدث به إلا إذا أراد الإنسان بيان كذبه وبطلانه.
القسم الثالث: ما لم يشهد الوحي بصدقه ولا كذبه، أي: ما ليس في القرآن ولا في السنة تصديقه ولا تكذيبه فهذا قال فيه النبي ﷺ:« «حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ»[[أخرجه البخاري (٣٤٦١) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.]] فيكون من الكلام الذي يُباحُ نقله لكن لا فائدة منه فلا يشتغل به عن ما هو أهم منه، وبهذا نعرف كيف نسير بقلوبنا في أخبار مَنْ سبق، فصار مصدرُ التلقي في أخبار مَنْ سَبَق المصدر الأساسي الأكيد هو الكتاب والسنة، وأما ما وقع من أخبار بني إسرائيل فعرفتم أنه على ثلاثة أقسام.
وقوله: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ قال بعض المعربين: إن (في) هنا بمعنى (على)؛ لأنه لا يمكن السير في جوف الأرض بناء على أن (في) للظرفية والظرف محيط بالمظروف، كما إذا قلت: الماء في الإناء فإن الإناء محيط به والماء في جوفه.
ولكن ربما يقول قائل: إن هذا غير متعين؛ لأن المراد في الأرض أي في مناكب الأرض، كما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾ [الملك ١٥] وتكون الظرفية هنا ظرفية الأجواء أي: في أجواء الأرض، والأجواء ظرف لمن يسير فيها.
﴿فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [غافر ٢١] ﴿فَيَنْظُرُوا﴾ الفاء هنا قيل: إنها عاطفة، وعلى هذا فيكون السير منتفيًا والنظر أيضًا منتفٍ، والتقدير على هذا القول أو لم يسيروا في الأرض فألم ينظروا فيه كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلكم.
وقيل: إن الفاء للسببية أي: فبسبب سيرهم ينظروا كيف كان. والمعنيان متلازمان؛ لأنهم إذا لم يسيروا لم ينظروا وإن ساروا نظروا.
وقوله: ﴿فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ﴾ هل النظر هنا نظر قلب وبصيرة أو نظر عين وبصر؟
ينبني على ما سبق في السير إن كان سيرَ قلبٍ فالنظر نظر قلب وبصيرة، وإن كان سيرَ قدم فالنظر نظر عين وبَصَرٍ، وقد قلنا: إن السير صالح لهذا وهذا فيكون النظر أيضًا صالحًا لهذا وهذا.
﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ ﴿كَيْفَ﴾ اسم استفهام وهو في محل نصب على أنه خبر كان مقدم، و﴿عَاقِبَةُ﴾ اسمها.
﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ أي: مآلهم. ماذا كان مآلهم؟ سيأتي ذكر المآل لكن الله ذكر حالهم قبل أن يذكر مآلهم؛ قال: ﴿كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ ﴿أَشَدَّ﴾ من الشدة وهي الصلابة والعظم.
﴿وَمِنْهُمْ﴾ يقول فيها قراءتان: (وفي قراءة ﴿مِنْكُمْ﴾ ) فيكون في هذا التفات من الغيبة إلى الخطاب، ومعلوم أن الخطاب أشد وقعًا في النفس من الحديث بصيغة الغيبة، أليس كذلك؟ يعني: إذا كنت تخاطب الشخص مخاطبة فهو أشد وقعًا في نفسه مما إذا كنت تتحدث بصيغة الغيبة، ولهذا جاء قول الله تعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ بصيغة الغيبة، والعابس والمتولي الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يقل: عبست وتوليت، لأن الخطاب أشد وقعًا من الغيبة.
وقوله: (وفي قراءة ﴿مِنْكُمْ﴾ ) اعلم أن اصطلاح المؤلف رحمه الله أنه إذا قال: في قراءة، فهي سبعية. وإذا قال: وقُرِئَ، فهي شاذة ليست سبعية.
(وفي قراءة ﴿مِنْكُمْ﴾ ﴿قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ﴾ مِنْ مَصَانِع وَقُصُور) فهم أقوياء الأبدان، ولهم من الآثار في الأرض أكثر مما عند هؤلاء الذين كَذَّبُوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والشاهد في هذا ظاهر في ديار ثمود، فإن كلَّ مَنْ شاهدها تبيَّن له كيف كانت قوة القوم، وكذلك آثار عاد في الأحقاف التي اطُّلِعَ عليها وقال الله فيها: ﴿إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ﴾ [الفجر ٧، ٨] قوة عظيمة حتى إن عادًا قالوا: من أشد منا قوة، فماذا كانت حالهم؟ قال تعالى: ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ﴾ أهلكهم ﴿بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾.
هؤلاء القوم الأشداء الذين لهم من الآثار ما يبهر العقول أخذهم الله بذنوبهم، أهلكهم بسبب ذنوبهم، وذنوبهم مكونة من شيئين: التكذيب والتولِّي، فهم مكذبون للخبر، متولون عن الأمر، فكذبوا الأخبار وخالفوا الأوامر، وقعوا فيما نُهُوا عنه، وتركوا ما أمروا به، وكَذَّبوا ما يلزمهم تصديقه.
﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾ والباء هنا للسببية، ﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾ ﴿مَا﴾ نافية، و﴿مِنَ﴾ متعلقة بـ﴿وَاقٍ﴾، و﴿وَاقٍ﴾ اسم (كان) دخلت عليه (مِن) الزائدة للتوكيد، وأصل (واق) واقي فحُذِفَت الياء للتخفيف؛ أي: ما كان لهم من أحد يقيهم من عذاب الله حتى إن ابن نوح عليه السلام لم يقه مِنْ عذاب الله قُرْبُه من نوح، ولا دخوله في العموم لأن الله سبحانه وتعالى ذَكَر أنه منجيه وأهله -أعني نوحًا- فلما أرسل الله عليهم الغرق دعاه ابنه أن يركب معه في السفينة، ولكنه أبى وقال: ﴿سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ﴾ [هود ٤٣] فغرق، وقال نوح: ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾ [هود ٤٥] وقد وعده الله أن يُنْجِيَه وأهله، فقال الله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [هود ٤٦] فلم يَقِه هذا الابن قربُه من أبيه أحد أولي العزم من الرسل، ولكنه هلك فيمن هلك كما قال الله تعالى هنا: ﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾.
* في هذه الآية فوائد كثيرة منها: الحث على السير في الأرض؛ لقوله: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا﴾ بناء على أن الاستفهام هنا للإنكار والتوبيخ.
* ومن فوائدها: أنَّ السيرَ في الأرض في أرض المكذبين وبيان ما أحلَّ الله بهم من النكال إذا كان على سبيل العبرة فلا بأس به، على سبيل العبرة بما جرى لهم من الهلاك، لا العبرة بما كان لهم القوة، وبناء على ذلك نعرف أن الذين يذهبون الآن إلى ديار ثمود للاطَّلاع على قوتهم والاعتبار بصنعتهم على خطأ عظيم؛ لأنهم لم يسيروا في الأرض السيرَ الذي أمر الله به، بل ساروا في الأرض السير الذي نهى عنه رسول الله ﷺ فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَعَذَّبِينَ إِلَّا وَأَنْتُمْ بَاكُونَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بِاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٣٣) ومسلم (٢٩٨٠ / ٣٨) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، ولفظه: قال رسول الله ﷺ لأصحاب الحجر: «لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين، إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم».]]، فمن الذي يذهب الآن إلى ديار ثمود يقف يشاهد آثارهم وهو يبكي؟! لا أحد إلا مَنْ هداه الله عز وجل وتبين له الحق وإلا فإنهم يذهبون يتفرجون. والعجب أن بعض الجهال منا يرون أن هذا من الآثار المحترمة، فيقال: سبحان الله! الآثار المحترمة -أيها الجهال- هي الكتاب والسنة، آثار الوحي. أما آثار المكذبين للرسل فليست محترمة، ثم هل هي آثار آبائكم وأجدادكم؟ آثار قوم فَنُوا وأعقبهم أناس ثم أناس ثم قرون كثيرة، لكن هذا من الجهل والتقليد الأعمى الذي يجعل القوم يتعلقون بالآثار المادية دون الآثار المعنوية.
* ومن فوائد هذه الآيات الكريمة: أن عاقبة الذين كانوا من قبلهم عاقبة سيئة؛ لقوله: ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ﴾.
ومن فوائدها: أن هؤلاء الذين كانوا من قبلهم كانوا أشد منهم قوة في الأبدان وقوة في الصناعة وقوة في الآثار، ومع هذا لم تمنعهم قوتهم هذه من أخذ الله لهم.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن قوة الله سبحانه وتعالى فوق كل قوة؛ فإنه قال: ﴿كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾، ومع ذلك أخذهم الله عز وجل؛ ذلك لأن الله تعالى إذا أراد شيئًا قال له: كن فيكون، لا يحتاج أن يأتي بأحد يساعده، ولا يحتاج إلى صنع قنابل أو مدافع، لا، كن فيكون، انظروا إلى عاد افتخروا بقوتهم فأهلكهم الله تعالى بألطف الأشياء، سخَّر عليهم الريح ولم يُسَخِّرْها لهم بل سخرها عليهم، وهي الريح من ألطف الأشياء فدمرتهم ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾ [الأحقاف ٢٥] حتى كانوا كأعجاز نخل خاوية، يقولون: إن الريح تحمل الواحد منهم حتى يكون في عنان السماء ثم ترده إلى الأرض فينقلب منحنيًا كأنه عَجُز نخل خاوية، وأعجاز النخيل إذا رأيتموها تجدون أن النخلة قد تقوست، هؤلاء الذين كانوا أشداء أقوياء يقفون على أقدامهم أصبحوا ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ [الحاقة ٧]، والآية الثانية ﴿كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ﴾ [القمر ٢٠].
فرعون قال لقوله: ﴿يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الزخرف ٥١] بماذا أهلكه الله؟ أهلكه الله بأن أخرجه من مصر التي كان يفتخر بها باختياره، خرج مختارًا، بل خرج وكأنه غانم، كأنه رابح في المعركة، ثم أهلكه الله بجنس ما يفتخر به بالماء ليتبين أن القوة قوة الله سبحانه وتعالى، وأن الله أشد من هؤلاء قوة.
* من فوائد الآية الكريمة: أن الله تعالى إذا أراد بقوم سوءًا فلا مرد له؛ لقوله: ﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾ وقد بَيَّن الله ذلك صريحًا في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ﴾ [الرعد ١١] لا يقي دون ما أراد الله، لا قصور ولا مدافع ولا طائرات ولا أي شيء ﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة وهي التي بعدها: إثبات الأسباب وأنه لا يَجْنِي جان إلَّا على نفسه، من أين تؤخذ؟ من قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ﴾ إلى آخره، وقد تقدم لنا شرح هذه المسألة أعني مسألة الأسباب وتأثيرَها واختلاف الناس فيها، وبينَّا أن أعدل الأقوال وأصح الأقوال أن الأسباب لها تأثير مباشر، لكن ليس تأثيرًا ذاتيًّا بنفسها ولكن بما أودع الله تعالى فيها من القوى المؤثرة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات عدل الله عز وجل وأنه لا يؤاخذ أحدًا بدون ذنب؛ لقوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [غافر ٢٢].
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنه ما من أمة خلت إلا وقد جاءتها رسله؛ لقوله: ﴿كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾؛ كل أمة جاءها نذير وجاءها رسول أنذرها وبيَّن لها، وقد أقرَّت هذه الأمم بذلك؛ قال الله تبارك وتعالى في سورة الملك: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا﴾ أي: في النار ﴿فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ﴾ [الملك ٨، ٩] ثم قالوا: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك ١٠]، وقال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر ٢٤]، وهذا من تمام رحمة الله عز وجل وحكمته أن أرسل الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل، ولأجل مصلحة الخلق، نحن لولا رسول الله عليه الصلاة والسلام أرسله الله إلينا هل نعرف كيف نتوضأ؟ هل نعرف كيف نصلي؟ ما نعرف، لكن من رحمة الله عز وجل أن أرسل إلينا رسولًا عَلَّمَنا كيف نتوضأ كيف نصلي، ثم يترتب على هذا الوضوء والصلاة مغفرة الذنوب، إذا توضأ الإنسان فإن خطاياه تخرج مع آخر قطرة من قطر الماء، وإذا صلَّى فالصلوات الخمس مكفرات لما بينهن، وإذا توضأ في بيته وأسبغ الوضوء وخرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخطُ خطوة واحدة إلا رفع الله له بها درجة وحطَّ عنه بها خطيئة، أحصِ خطواتك من بيتك إلى المسجد في اليوم والليلة خمس مرات، كثير، كل هذا من فضل الله عز وجل، ولولا أن الله هدانا هداية إرشاد، ونسأل الله تعالى أن يتممها بهداية التوفيق، لولا ذلك لهلكنا ولم نعرف كيف نعبد الله، فهذا من رحمة الله عز وجل أنه أرسل الرسل إلى الأمم ليبيِّنوا لهم، وإذا قلتم: إننا لم نصل إلى هذه الآية فأنتم مُصَدَّقُون ونجعلها غدًا إن شاء الله.
* طالب: هل الإنسان مأجور على خطواته إذا جاء إلى المسجد وإذا عاد منه؟
* الشيخ: إي نعم، أما إذا جاء إلى المسجد فقد سمعت ما..، وأما إذا رجع ففي قصة صاحب الحمار الذي كان بعيدًا من المسجد «فقيل له: ألا تشتري حمارًا تركبه فقال: يا رسول الله إني أحتسب ممشاي إلى المسجد ورجوعي منه فقال: «لَكَ مَا احْتَسَبْتَ»[[أخرج أبو داود (٥٥٧) وابن ماجه واللفظ له (٧٨٣) من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رجل من الأنصار، بيته أقصى بيت بالمدينة، وكان لا تخطئه الصلاة مع رسول الله ﷺ، قال: فتوجعت له، فقلت: يا فلان لو أنك اشتريت حمارًا يقيك الرمض، ويرفعك من الوقع، ويقيك هوام الأرض فقال: والله، ما أحب أن بيتي بطنب بيت محمد ﷺ، قال: فحملت به حملًا، حتى أتيت بيت النبي ﷺ، فذكرت ذلك له، فدعاه، فسأله، فذكر له مثل ذلك، وذكر أنه يرجو في أثره، فقال رسول الله ﷺ: «إن لك ما احتسبت».]] فإذا احتسب الإنسان هذا فله ما احتسبه.
لكن يا إخواني أنا أقول لكم: إنه يفوتنا كثيرًا الاحتساب، ولا لا؟ كثيرا يفوتنا، نصلي نريد أن نؤدي الصلاة التي علينا فقط، لكن لا نشعر بأننا نحتسب أجرها وأننا سنجد أجر هذه الصلاة أو أجر هذا الوضوء أو أجر هذه الخطا، هذه تفوتنا كثيرًا، والاحتساب له أثره لا من جهة الثواب ولا من جهة أنه يحث المرء على العمل؛ لأن الإنسان إذا علم أنه إذا عمل جوزي يزداد عملًا، لكن إذا عمل على أنه فرض عليه يؤديه فقط صار كالذي يقضي الدين عن نفسه فيعطيه الدائن؛ ولذلك أنا أحث نفسي وإياكم على هذه المسألة مسألة الاحتساب، ويش معنى الاحتساب؟ أنه يريد بعمله الأجر والثواب؛ قال الله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا﴾ [الفتح ٢٩] اسمع الاحتساب: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ [الفتح ٢٩] احتسب الأجر من الله عز وجل، ونسأل الله أن يُذَكِّرنا ذلك ويعيننا عليه.
* طالب: العبرة من الإنسان إذا دخل في مكان القوم الذين أهلكوا، هل كل قوم أُهْلِكوا أم الكفار الذين لم يأتهم عذاب؟
* الشيخ: لا، المراد الذين أهلكوا.
* طالب: قلت: إن الذي يذهب إلى مدائن صالح فهو على خطر عظيم، ولكن لو قال قائل: أنا لا أتأثر بالقرآن لكن أتأثر بمشاهدة هذه الأقوام السابقة لآخذ العبرة والعظة؟
* الشيخ: هذا ذهب ليأخذ العبرة، والإنسان اللي يذهب ليأخذ العبرة لا شك أنه سيتأثر، لكن كثير من الناس الآن يذهبون ليعتبروا بما عندهم من القوة لا بأخذ الله لهم.
* طالب: الإنسان يقدم على شخص يدعوه فيرى أن هذا الإنسان كثير المعاصي عنده معاص كثيرة فيتذكر قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا﴾ [النساء ٩٤].. الإنسان يتذكر الأمر اللي مضت قبل التزامه فما يجرؤ (...) يعني ما يقدم على الولاء والبراء (...).
* الشيخ: ما فهمت أعطني القضية بدون مقدمات ونتائج. قل: هل يجوز أن أذهب إلى كذا؟ يعني: تقول هل يجوز أن أذهب إلى رجل عاص..؟
* الطالب: يعني يضيق صدري أن أذهب إليه وأرى المعاصي وهو طبعًا ما يتقبل مني من أول مرة فيضيق صدري فيدخل الشيطان على هذا الأمر بوسوسته.
* الشيخ: والسؤال الآن: هل تذهب إليه أو لا تذهب؟
* الطالب: هذا السؤال.
* الشيخ: طيب اذهب، ما دمت تريد الذهاب للدعوة فاذهب إليه، إذا ضاق صدرك اصبر حتى اللي يدعوا الناس في السوق والمسجد يضيق صدره إذا رآهم على ما هم عليه، اصبر ما دمت تريد أن تدعوه، أما إن ذهبت تريد أن تكرمه فلا يجوز.
* طالب: حديث النبي ﷺ: الإنسان إذا وضع في (...) شقي أو سعيد ما كتب على، فلماذا (...)؟
* الشيخ: صحيح، هذه حجة، واحتج بها الصحابة على الرسول عليه الصلاة والسلام لما قال لهم: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ لَهُ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ». قالوا: يا رسول الله ففيم العمل؟ ليش نعمل (...)؟ فقال: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»[[أخرج البخاري واللفظ له (٤٩٤٩) ومسلم (٢٦٤٧ / ٦) بسنديهما من حديث علي رضي الله عنه قال: كان النبي ﷺ في جنازة، فأخذ شيئًا فجعل ينكت به الأرض، فقال: «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار، ومقعده من الجنة» قالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا، وندع العمل؟ قال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاوة»، ثم قرأ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾ [الليل: ٥، ٦] الآية. ]] نقول: أنت مكتوب أنك في الجنة أو في النار بسبب عملك، فاعمل بعمل أهل الجنة لتكون من أهلها.
* طالب: قرى قوم لوط مثل قرى ثمود وعاد في عدم الجواز مثل هذه؟
* الشيخ: العلماء يقولون: لا فرق، كل شيء تذهب ليتبين لك آثارهم وقوتهم وتُعْجَب بهذه القوة فهو لا يجوز.
* الطالب: والآية يا شيخ؟
* الشيخ: الآية حكاية: ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ﴾ [الصافات ١٣٧، ١٣٨] هذه حكاية عن شيء واقع، كما قال الرسول: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»[[متفق عليه؛ البخاري (٧٣٢٠)، ومسلم (٢٦٦٩) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.]] هل معنى ذلك أن الرسول يفسح لنا المجال؟ خبر عن أمر واقع أو سيقع، وكما أخبر أن المرأة تذهب من صنعاء إلى حضر موت لا تخشى إلا الله.
* * *
* الطالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ [غافر ٢٢ - ٢٤].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تبارك وتعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ ﴿ذَلِكَ﴾ المشار إليه أخذ الله تعالى إياهم بذنوبهم، فهذه الذنوب أنه ﴿كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ قال المؤلف: (بالمعجزات الظاهرات).
﴿تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ﴾ جمع رسول، والرسول لكل أمة كما قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ [النحل ٣٦]، والرسل جاؤوهم بالبينات قال المؤلف: (بالمعجزات) والصواب أن يقال: بالآيات؛ لأن الله تعالى يعبر عنها هكذا ﴿آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ [يونس ١٥]، والمراد بالآيات ما يؤمن على مثله البشر، وهي نوعان: حسية ومعنوية، وخِلْقِيَّة وخُلُقِيَّة، كلها آيات بينات ظاهرة واضحة، قال النبي ﷺ: «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا آتَاهُ مِنَ الْآيَاتِ مَا عَلَى مِثْلِهِ يُؤْمِنُ الْبَشَرُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٧٢٧٤)، ومسلم (١٥٢ / ٢٣٩) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظه «ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيًا أوحى الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة». ]].
والحكمة من هذه الآيات هو أن البشر لا يمكن أن يقبلوا دعوة من شخص عاش بينهم يعرفونه فيأتي ويقول: إنه نبي أو إنه رسول، طيب بأي دليل؟ لا بد من آيات تدل على صدقه.
وكما قلت لكم: إن الآيات نوعان: آيات معنوية وهي ما يتضمنه الوحي الذي جاء به هؤلاء الرسل، وآيات حسية وهي ما يظهر من خوارق العادات؛ ولهذا قيل في تعريف الآية: إنها أمر خارق للعادة يظهره الله سبحانه وتعالى على يد الرسول تأييدًا له، هذه هي الآية.
فهذه الآيات قال العلماء: إنها تكون -أعني الآيات الحسية- تكون مناسبة للوقت الذي بُعِثَ فيه الرسول، واستشهدوا لذلك بأن موسى عليه الصلاة والسلام أُعْطِي آيات سحرية -أي تشبه السحر- لكنها أقوى منه تغلبه، فيضع العصا وهي من خشب على الأرض فتنقلب حية تسعى، ويدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء تلوح من غير عيب أي من غير برص؛ وهذا لأنه في وقته كان للسحر طور عال مرتفع، فجاء بآيات تغلب ذلك السحر، ويظهر هذا حينما اجتمع مع السحرة في اليوم الذي وعدهم فيه، فألقوا حبالهم وعصيهم حتى خُيِّلَ إليه من سحرهم أنها تسعى، فأوجس في نفسه خيفة موسى، فقال الله تعالى: ﴿لَا تَخَفْ﴾ [طه ٦٨] وأمره أن يضع العصا فوضعه فإذا هي حية تلقف ما يأفكون.
ثم عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بُعِثَ في زمن تَرَقَّى فيه الطب ترقيًّا عظيمًا بالغًا، فجاء بأمر يعجز عنه الأطباء، يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، ويحيي الموتى بإذن الله، بل يخرج الموتى من قبورهم بإذن الله، يقف على صاحب القبر فيخاطبه ويقول: اخرج فيخرج؛ وهذا أعظم من الطب الذي أتوا به.
أما محمد عليه الصلاة والسلام فقد بُعِثَ في وقت بلغت فيها البلاغة أَوْجَها، وصار الناس يتفاخرون أيهم أبلغ، فيأتي الشعراء ويأتي الخطباء إلى أسواق الجاهلية عكاظ وغيره يتبارون في أشعارهم وخطبهم، فجاء هذا القرآن قاضيًا عليها كلها وأعجزهم، وعجزوا عن أن يأتوا بآية منه مع أنهم هم أمراء البلاغة.
والمهم أنه لا بد لكل نبي من آية يؤمن على مثلها البشر؛ لأن الله سبحانه وتعالى حكيم ورحيم، حكيم لا يرسل شخصًا يقول للناس: أنا رسول بدون بينة، ورحيم حيث أَيَّد هؤلاء الرسل بالآيات من وجه، ورحم الخلق فجعل مع الرسل آيات من أجل أن تكون حجة الرسل مقبولة إليهم.
﴿تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا﴾ الفاء عاطفة، وتدل عل مبادرة هؤلاء بالكفر وأنهم لم يتأملوا ولم ينظروا، وجه ذلك أن الفاء تدل على الترتيب والتعقيب، ﴿فَكَفَرُوا﴾ أي: بالرسل وبالبينات التي جاؤوا بها.
﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ﴾ أي: أهلكهم، ﴿إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ أهلكهم الله سبحانه وتعالى بعامة إلا من آمن.
ثم بَيَّن أن هذا الأخذ شديد؛ لقوله: ﴿إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ قوي أزلًا وأبدًا، فلم يسبق قوته ضعف ولا يلحقها ضعف، أما البشر فإنهم ضعفاء أولًا ونهاية، ومنتهى قوتهم أيضًا ليس بشيء، حتى وإن بلغ الإنسان أشده وبلغ غاية قوته فإنه ليس بشيء، أما الرب عز وجل فإنه قوي أزلًا وأبدًا.
﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ هذا من باب إضافة الصفة إلى موصوفها. المعنى: عقابه شديد، الشديد يعني الصَّلف القوي الذي تحصل آثاره على من عوقب.
* في هذه الآية فوائد:
* منها: بيان سبب إهلاك الأمم وأن ذلك بذنوبهم؛ لقوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾.
* ومن فوائدها: أنه من أمة إلَّا خلا فيها نذير وجاءها رسول.
* ومن فوائدها: أن الرسل عليهم الصلاة والسلام بعثوا بالآيات البينة الظاهرة.
* ومن فوائدها: إقامة الحجة على الخلق بإرسال الرسل أولًا ثم بتأييدهم بالآيات البينات التي لا تدع مجالًا للشك أو للإنكار.
* ومن فوائد هذه الآية: أن هؤلاء الذين أُرْسَل إليهم لم يشكروا النعمة، بل بادروا بالكفر والتكذيب.
* ومن فوائدها: أنه لو تأمل العاقل ما جاءت به الرسل ما أدى ذلك إلى كفره، لكن غالب المكذبين للرسل يبادرون بالتكذيب؛ قال الله تعالى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الأنعام ١١٠].
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات الأسباب، وأن الله تعالى ربط المسببات بأسبابها، وهذا يدل على تمام حكمة الله، وأنه عز وجل لم يفعل شيئًا عبثًا ولا لمجرد المشيئة، خلافًا لمن قال من الجبرية وغيرهم: إن الله تعالى يفعل ما يشاء لمجرد المشيئة وليس لحكمة، وأنكروا حكمة الله، وقالوا: إن الحكمة تقتضي النقص، وهذا من غرائب الأفهام، الحكمة تقتضي النقص؟ قالوا: نعم، لأن الحكمة غرض فإذا فعل لكذا فإنه محتاج لهذا الغرض؛ فيقال لهم: تبًّا لكم ولأفهامكم، الحكمة هي غاية الحكم؛ أي أن الحكمة أكبر ما يدل على البعد عن السفه واللعب.
وأما قولكم: إن الحكمة غرض فإذا قلتم: إن الله فعل كذا لكذا لزم من ذلك أن يكون الله محتاج إليه فيقال: الحكمة التي يَشْرَع الله الشرائع من أجلها لا تعود إلى نفسه إلا من حيث الكمال فقط، أما المصلحة فالذي ينتفع بها مَنْ؟ الخلق، أما الله عز وجل فإن حكمته لا تعود إليه بشيء سوى بيان كمال صفاته عز وجل.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات القويِّ اسمًا من أسماء الله، وهو من الأسماء اللازمة أو المتعدية؟ اللازمة، قادر من الأفعال المعتدية، لكن القوي من اللازمة، وعلى هذا فلا بد من إثباته وإثبات ما دلَّ عليه من الصفة وهي القوة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله تعالى شديد العقاب، ولكن لمن عصاه.
* ومن فوائدها: التحذير من مخالفة الله؛ لأنه قوي وشديد العقاب، فيا ويح مَنْ خالف أمر ربه؛ سيتعرض لشدة العقاب من ذي قوة لا يلحقها ضعف ﴿إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.
{"ayahs_start":21,"ayahs":["۞ أَوَلَمۡ یَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَیَنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِینَ كَانُوا۟ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَانُوا۟ هُمۡ أَشَدَّ مِنۡهُمۡ قُوَّةࣰ وَءَاثَارࣰا فِی ٱلۡأَرۡضِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقࣲ","ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانَت تَّأۡتِیهِمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ فَكَفَرُوا۟ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُۚ إِنَّهُۥ قَوِیࣱّ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ"],"ayah":"۞ أَوَلَمۡ یَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَیَنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِینَ كَانُوا۟ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَانُوا۟ هُمۡ أَشَدَّ مِنۡهُمۡ قُوَّةࣰ وَءَاثَارࣰا فِی ٱلۡأَرۡضِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق