الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَأنْذِرْهم يَوْمَ الآزِفَةِ إذِ القُلُوبُ لَدى الحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظّالِمِينَ مِن حَمِيمٍ ولا شَفِيعٍ يُطاعُ﴾ ﴿يَعْلَمُ خائِنَةَ الأعْيُنِ وما تُخْفِي الصُدُورُ﴾ ﴿واللهُ يَقْضِي بِالحَقِّ والَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إنَّ اللهَ هو السَمِيعُ البَصِيرُ﴾ ﴿أوَلَمْ يَسِيرُوا في الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِن قَبْلِهِمْ كانُوا هم أشَدَّ مِنهم قُوَّةً وآثارًا في الأرْضِ فَأخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وما كانَ لَهم مِن اللهُ مِن واقٍ﴾ أمْرَ اللهُ تَعالى نَبِيَّهُ ﷺ بِالإنْذارِ لِلْعالَمِ والتَحْذِيرِ مِن يَوْمِ القِيامَةِ وأهْوالِهِ، وهو الَّذِي أرادَ بِـ[يَوْمَ الآزِفَةِ]، قالَهُ مُجاهِدٌ، وابْنُ زَيْدٍ، وقَتادَةُ، ومَعْنى ﴿ [الآزِفَةِ]:﴾ القَرِيبَةُ، مَن أزِفَ الشَيْءُ إذا قَرُبَ، والآزِفَةُ في الآيَةِ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ قَدْ عُلِمَ واسْتَقَرَّ في النُفُوسِ هَوْلُهُ، فَعَبَّرَ عنهُ بِالقُرْبِ تَخْوِيفًا، والتَقْدِيرُ: يَوْمَ الساعَةِ الآزِفَةِ، أوِ الطامَّةِ الآزِفَةِ، ونَحْوَ هَذا، فَكَما لَوْ قالَ: "وَأُنْذِرْهُمُ الساعَةَ لَعُلِمَ هَوْلُها بِما اسْتَقَرَّ في النُفُوسِ مِن أمْرِها، (p-٤٣١)فَكَذَلِكَ عُلِمَ هُنا إذا جاءَ بِصِفَتِها الَّتِي تَقْتَضِي حُلُولَها واقْتِرابَها. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذِ القُلُوبُ لَدى الحَناجِرِ﴾ مَعْناهُ: عِنْدَ الحَناجِرِ، قَدْ صَعِدَتْ مِن شِدَّةِ الهَوْلِ والجَزَعِ، وهَذا أمْرٌ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ حَقِيقَةً يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ انْتِقالِ قُلُوبِ البَشَرِ إلى حَناجِرِهِمْ وتَبْقى حَياتُهُمْ، بِخِلافِ الدُنْيا الَّتِي لا تَبْقى فِيها لِأحَدٍ مَعَ تَنَقُّلِ قَلْبِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ تَجُوُّزًا عَبَّرَ عَمّا يَجِدُهُ الإنْسانُ مِنَ الجَزَعِ وصُعُودِ نَفْسِهِ وتُضايُقِ حَنْجَرَتِهِ بِصُعُودِ القَلْبِ، وهَذا كَما تَقُولُ العَرَبُ: كادَتْ نَفْسِي أنَّ تَخْرُجَ، وهَذا المَعْنى يَجِدُهُ المُفَرِّطُ الجَزِعُ كالَّذِي يُقَرَّبُ لِلْقَتْلِ ونَحْوِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ [كاظِمِينَ]﴾ حالٌ مِمّا أُبْدِلَ مِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذِ القُلُوبُ لَدى الحَناجِرِ﴾، أو مِمّا تَنْضافُ إلَيْهِ [القُلُوبُ] إذِ المُرادُ: إذْ قُلُوبُ الناسِ لَدى حَناجِرِهِمْ، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصارُ﴾ [إبراهيم: ٤٢] ﴿مُهْطِعِينَ﴾ [إبراهيم: ٤٣]، أرادَ تَعالى: تَشْخَصُ فِيهِ أبْصارُهم. و"الكاظِمُ": الَّذِي يَرُدُّ غَيْظَهُ وجَزَعُهُ في صَدْرِهِ. فَمَعْنى الآيَةِ أنَّهم يَطْمَعُونَ بِرَدِّ ما يَجِدُونَهُ في الحَناجِرِ والحالُ تُغالِبُهُمْ، ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّ الظالِمِينَ ظُلْمَ الكَفْرِ هم في تِلْكَ الحالِ لَيْسَ لَهم حَمِيمٌ، أيْ قَرِيبٌ يَهْتَمُّ لَهم ويَتَعَصَّبُ، ولا لَهم شَفِيعٌ يُطاعُ فِيهِمْ، وإنْ هَمَّ بَعْضُهم بِالشَفاعَةِ لِبَعْضٍ فَهي شَفاعَةٌ لا تُقْبَلُ، وقَدْ رُوِيَ أنَّ بَعْضَ الكَفَرَةِ يَقُولُونَ لِإبْلِيسَ يَوْمَ القِيامَةِ: اشْفَعْ لَنا، فَيَقُومُ لِيَشْفَعَ، فَتَبْدُو مِنهُ أنْتُنُ رِيحٍ يُؤْذِي بِها أهْلَ المَحْشَرِ، ثُمَّ يَنْحَصِرُ ويَكِعُّ ويَخْزى. و"يُطاعُ" في مَوْضِعِ الصِفَةِ لِـ[شَفِيعٍ]؛ لِأنَّ التَقْدِيرَ: ولا شَفِيعَ يُطاعُ، ومَوْضِعُ [يُطاعُ] يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خَفْضًا حَمْلًا عَلى اللَفْظِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ رَفْعًا عَطْفًا عَلى المَوْضِعِ قَبْلَ دُخُولِ [مِن]. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذِهِ الآيَةُ كُلُّها عِنْدِي اعْتِراضٌ في الكَلامِ بَلِيغٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَعْلَمُ خائِنَةَ الأعْيُنِ﴾ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: ﴿سَرِيعُ الحِسابِ﴾ [غافر: ١٧] ؛ لِأنَّ سُرْعَةَ حِسابِهِ تَعالى لِلْخَلْقِ إنَّما هي بِعِلْمِهِ الَّذِي لا يَحْتاجُ مَعَهُ إلى رَوِيَّةٍ وفِكْرَةٍ، ولا لِشَيْءِ مِمّا يَحْتاجُهُ الحاسِبُونَ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: [يَعْلَمُ] مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا يَخْفى عَلى اللهِ مِنهم (p-٤٣٢)شَيْءٌ﴾ [غافر: ١٦]، وهَذا قَوْلٌ حَسَنٌ، يُقَوِّيهِ تَناسُبُ المَعْنَيَيْنِ، ويُضْعِفُهُ بُعْدُ الآيَةِ مِنَ الآيَةِ وكَثْرَةُ الحائِلِ. والخائِنَةُ مَصْدَرٌ كالخِيانَةِ، ويَحْتَمِلُ في الآيَةِ أنْ يَكُونَ [خائِنَةَ] اسْمَ فاعِلٍ، كَما تَقُولُ: ناظِرَةُ الأعْيُنِ، أيْ: يَعْلَمُ الأعْيُنَ إذا خانَتْ في نَظَرِها، وهَذِهِ الآيَةُ عِبارَةٌ عن عِلْمِ اللهِ تَعالى بِجَمِيعِ الخَفِيّاتِ، فَمِن ذَلِكَ كَسْرُ الجُفُونِ، والغَمْزُ بِالعَيْنِ، والنَظْرَةُ الَّتِي تُفْهِمُ مَعْنىً، أو يُرِيدُ بِها صاحِبُها مَعْنىً، ومِن هَذا «قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ حِينَ جاءَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أبِي سَرَحٍ لِيُسْلِمَ بَعْدَ رِدَّتِهِ بِشَفاعَةِ عُثْمانَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فَتَلَكَّأ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ ثُمَّ بايَعَهُ، ثُمَّ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِأصْحابِهِ: "هَلّا قامَ إلَيْهِ رَجُلٌ حِينَ تَلَكَّأتُ عَلَيْهِ فَضَرَبَ عُنُقَهُ؟" فَقالُوا: يا رَسُولَ اللهِ، ألا أومَأتْ إلَيْنا، فَقالَ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: "ما يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أنْ تَكُونَ لَهُ خائِنَةُ الأعْيُنِ"،» وفي بَعْضِ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ مِن قَوْلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: "أنا مِرْصادُ الهِمَمِ، أنا العالِمُ بِمَجالِ الفِكْرِ وكَسَرِ الجُفُونِ"، وقالَ مُجاهِدٌ: ﴿خائِنَةَ الأعْيُنِ:﴾ مُسارَقَةَ النَظَرِ إلى ما لا يَجُوزُ. ثُمَّ قَوّى اللهُ تَعالى هَذِهِ الأخْبارُ بِأنَّهُ يَعْلَمُ ما تُخْفِي الصُدُورَ، مِمّا لَمَّ يَظْهَرْ عَلى عَيْنٍ ولا غَيْرِها، ومَثَّلَ المُفَسِّرُونَ في هَذِهِ الآيَةِ بِنَظَرِ رَجُلٍ إلى امْرَأةٍ هي حُرْمَةٌ لِغَيْرِهِ فَقالُوا: خائِنَةُ الأعْيُنِ هي النَظْرَةُ الثانِيَةُ، وما تُخْفِي الصُدُورُ، أيْ عِنْدِ النَظْرَةِ الأُولى الَّتِي لا يُمْكِنُ المَرْءُ دَفْعَها. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ وهَذا المِثالُ جُزْءٌ مِن خائِنَةَ الأعْيُنِ. ثُمَّ قَدَحَ في جِهَةِ الأصْنامِ، فَأعْلَمَ أنَّهُ لا رَبَّ غَيْرُهِ، يَقْضِي بِالحَقِّ، أيْ يُجازِي الحَسَنَةَ بِعَشْرٍ والسَيِّئَةَ بِمِثْلِها، ويُنْصِفُ المَظْلُومَ مِنَ الظالِمِ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن أقْضِيَةِ الحَقِّ والعَدْلِ، والأصْنامُ لا تَقْضِي بِشَيْءٍ ولا تُنْفِذُ أمْرًا. و"يَدْعُونَ" مَعْناهُ: يَعْبُدُونَ، وقَرَأ (p-٤٣٣)جُمْهُورُ القُرّاءِ: "يَدْعُونَ" بِالياءِ عَلى ذِكْرِ الغائِبِ، وقَرَأ نافِعٌ - بِخِلافٍ عنهُ - وأبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ: "تَدْعُونَ" بِالتاءِ، عَلى مَعْنى: قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ: والَّذِينَ تَدْعُونَ أنْتُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى لِنَفْسِهِ صِفَتَيْنِ بَيَّنٌ عُرُوُّ الأوثانِ عنهُما، وهي في جِهَةِ اللهِ تَعالى عِبارَةٌ عَنِ الإدْراكِ عَلى إطْلاقِهِ. ثُمَّ أحالَ كُفّارَ قُرَيْشٍ - وهم أصْحابُ الضَمِيرِ في "يَسِيرُوا" - عَلى الِاعْتِبارِ بِالأُمَمِ القَدِيمَةِ الَّتِي كَذَّبَتْ أنْبِياءَها فَأهْلَكَها اللهُ تَعالى، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَيَنْظُرُوا﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يُجْعَلَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ جَوابَ الِاسْتِفْهامِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَجْزُومًا عَطْفًا عَلى ﴿يَسِيرُوا﴾، و"كَيْفَ" في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ﴾ خَبَرُ "كانَ" مُقَدَّمٌ، وفي "كَيْفَ" ضَمِيرٌ، وهَذا عَلى أنْ تَكُونَ "كانَ" الناقِصَةَ، وأمّا إنْ جُعِلَتْ تامَّةً بِمَعْنى حَدَثَ ووَقَعَ فَـ"كَيْفَ" ظَرْفٌ مُلْغى لا ضَمِيرَ فِيهِ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وحْدَهُ: "أشَدَّ مِنكُمْ" بِالكافِ، وكَذَلِكَ هي في مَصاحِفِ أهْلِ الشامِ، وذَلِكَ عَلى الخُرُوجِ مِن غَيْبَةٍ إلى الخِطابِ، وقَرَأ الباقُونَ: "أشَدَّ مِنهُمْ"، وكَذَلِكَ هي في سائِرِ المَصاحِفِ، وذَلِكَ أوفَقُ لِتُناسِبَ ذِكْرَ الغائِبِ، و"الآثارُ في الأرْضِ" هي المَبانِي والمَآثِرُ والصِيتُ الدُنْيَوِيُّ. و"ذُنُوُبُهُمْ" كانَتْ تَكْذِيبَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَلاةُ والسَلامُ، و"الواقِي": الساتِرُ المانِعُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الوِقايَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب