الباحث القرآني
قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾ [لقمان ٣٠] ﴿ذَلِكَ﴾ المشار إليه ما ذُكِر من تسخير الشمس والقمر، والقدرة على البعث والخلْق؛ أي: ذلك المذكور السابق.
﴿بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾ الباء للسببية؛ أي: بسبب أنَّ الله هو الحقُّ، ولكونه تعالى هو الحقُّ صارت هذه الأمور وتنظَّمت هذه النُّظُم؛ لأنه جل وعلا حقٌّ في ذاته، وحقٌّ في أفعاله، وحقٌّ في أحكامه، وحقٌّ في أسمائه وصفاته، ورسوله حقٌّ، وكتابه حقٌّ، ووعده حقٌّ، وثوابه حقٌّ، وعقابه حقٌّ، وكل ما صَدَر عنه فهو حقٌّ.
والحقُّ هو ضد الباطل، والباطل هو اللغو والعبث الذي لا خير فيه، فيكون المعنى أنَّ كل ما صَدَر عن الله عز وجل فإنه حقٌّ وخيرٌ ثابت.
﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ﴾ [لقمان ٣٠]. ﴿وَأَنَّ﴾ معطوفة على ﴿أنَّ﴾؛ يعني: وبأنَّ، معطوفة على ﴿أنَّ﴾ المفتوحة.
وقوله: ﴿مَا يَدْعُونَ﴾، ﴿مَا﴾ هذه اسم موصول؛ يعني: وأنَّ الذي يدعونه.
وقوله: ﴿يَدْعُونَ﴾ يشمل دعاء العبادة ودعاء المسألة؛ لأن الأصنام التي تُعبد من دون الله تُدعى بمعنى تُعبد، وتُدعى بمعنى تُسأل.
والدعاء له معنيان: دعاءُ عبادة، ودعاءُ مسألة. وقوله تعالى:﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة ١٨٦] أيش المراد؟ دعاء المسألة. وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر ٦٠] دعاء عبادة، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ [الرعد ١٤] أي: ما عبادتهم إلا في ضلال. فالدعاء إذَنْ يكون بمعنى دعاء المسألة ودعاء العبادة، فقوله: ﴿مَا يَدْعُونَ﴾ يشمل المعنيين؛ يعني ما يعبدون، وما يطلبون منه الحوائج.
﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ﴾ وقوله: (بالياء والتاء) يعني قراءتان سبعيتان: ﴿وَأَنَّ مَا تَدْعُونَ﴾ ، ﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ﴾، وكلاهما صحيح، لكنْ في قوله: ﴿وَأَنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ﴾ خِطاب، ولا يكون إلا للكافرين؛ لأن الخِطاب في مثل هذا لا يمكن أن يكون للرسول ﷺ ولا للمؤمنين من أصحابه.
* طالب: (...).
* الشيخ: دعاء مسألة.
* الطالب: دعاء مسألة، (...) دعاء عبادة.
* الشيخ: يقول: ﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ﴾، ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ أي: مِن سواه.
وقول المؤلف (يعبدون) (...) هذا فيه قصور، والصواب: يعبدون ويسألون؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [الأحقاف ٥]، ﴿يَدْعُو﴾ يعني يسأل ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ فهنا ينبغي أن يضاف: يعبدون ويسألون.
وقوله: ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ أي: مِن سواه.
وقوله: ﴿الْبَاطِلُ﴾ يقول المؤلف: (الزائل) وهذا فيه نظر؛ لأن المراد الباطل يعني الذي لا خير فيه، ومنه حديث: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٨٤١)، ومسلم (٢٢٥٦ / ٢) من حديث أبي هريرة. ]]، (باطل) معناه: لا خير فيه.
وقوله: ﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ﴾ هل المراد الباطل في عبادتهم إيَّاه، أو الباطل حتى في نفسه فليس مستحقًّا للعبادة؟
كلا الأمرين، يعني فهو باطلٌ بالنسبة لعبادتهم إيَّاه، وهو باطلٌ في نفسه لا يستحقُّ من الألوهية شيئًا.
(﴿وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ﴾ على خلْقه بالقهر ﴿الْكَبِيرُ﴾ العظيم).
﴿وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ﴾ هذه الجملة -كما ترون- جملةٌ خبريةٌ مؤكَّدةٌ بضمير الفصل، أين ضمير الفصل؟
* طلبة: ﴿هُوَ﴾.
* الشيخ: ﴿هُوَ الْعَلِيُّ﴾ يعني: لا غيره.
و﴿الْعَلِيُّ﴾ صفةٌ مشبَّهةٌ؛ لأنها على وزن (فَعِيل)، والصفة المشبَّهة يقول أهل العلم باللغة العربية: إنها تفيد الثبوت والاستمرار (...).
* * *
﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ [لقمان ٣٤] معروفٌ أنَّ ﴿اللَّهَ﴾ لفظ الجلالة اسم (إنَّ)، و(عند) خبر مقدَّم، و﴿عِلْمُ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة خبر (إنَّ). الجملة الخبرية فيها حصرٌ، وهو يستفاد من تقديم الخبر؛ تقديم ﴿عِنْدَهُ﴾، ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ﴾ لا عند غيره ﴿عِلْمُ السَّاعَةِ﴾، ويدلُّ على هذا الحصر قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي﴾ [الأعراف ١٨٧] حصر بطريق ﴿إِنَّمَا﴾؛ ﴿إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي﴾، فلو أنَّ مدَّعيًا قال: إنَّ الحصر هنا في الخبر لا في الجملة كلِّها. قلنا: لكن الخبر هو الذي دلَّ على انحصار علم الساعة لله عز وجل، ويدلُّ عليه ويؤكِّده الآية التي قلناها وهي: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي﴾، إذا جاءتكم مثل العبارة هذه: ﴿إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي﴾ فالمعنى: لا يعلمها إلا ربي، هذا معناها، كما إذا قلت: إنما القائم زيدٌ. معناه: لا قائم إلا زيد.
قوله: ﴿عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ متى تقوم، وفي أيِّ وقت، ولا يعلمه إلا الله؛ ولهذا سأل جبريل النبيَّ ﷺ: قال أخبرني عن الساعة. قال: «مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ» »[[متفق عليه؛ البخاري (٥٠)، ومسلم (٩ / ٥) من حديث أبي هريرة.]]. فتأمَّل، رسولانِ أحدهما أفضل الملائكة، والثاني أفضل البشر، كلاهما يقول: لا علم عندي؛ لأن قوله: «مَا الْمَسْؤُولُ بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ» » يعني: إذا كنتَ أنت لا تعلم فأنا من باب أَوْلى لا أعلم، فإذَنْ عِلمها يختصُّ بالله.
ولقد كذب مَن ادَّعى أنه يعلمها ولا سيما بالواسطة التي ذكر أنها دالة عليها، كما نُشِر عن شخصٍ يُسَمَّى رشاد خليفة؛ هذا رجلٌ في أمريكا، وهو رجلٌ عنده علم، لكنَّه اغترَّ اغترارًا عظيمًا بما يسمِّيه العدد تسعة عشر، حيث ادَّعى أنَّ القرآن كله مركَّبٌ على تسعة عشر حرفًا، وأنَّ هذه المادة اللي عنده؛ التسعة عشر، استدلَّ بها على أنه يعرف متى تقوم الساعة، وحدَّدها -أظن- في فوق ألفين بسنوات قليلة.
* طالب: (...) عام ألف وتسع مئة وتسعة.
* الشيخ: ألف وتسع مئة وتسعة؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: ألف وتسع مئة وتسعة، كيف؟
* الطالب: أقول: عام ألف وتسع مئة وتسعة هجري.
* الشيخ: هجري، طيب، هذا الرجل في الواقع الله أعلم هل هو متأوِّل أو معاند، لكن كلُّ مَن ادَّعى عِلْم الساعة فهو كافر؛ لأنه مكذِّبٌ لله ورسوله وإجماع المسلمين، والمسلمون مجمعون إجماعًا قطعيًّا على أنه لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله عز وجل.
﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ والساعة هي القيامة، وسُمِّيت الساعة لأنها أعظمُ حدثٍ يكون، ولأنَّ فيها وعيدًا للمكذِّبين، ولهذا يُتوعَّد بالساعة، يقال مثلًا: ساعتك عندي. إذا أردتَ أن تهدِّد إنسانًا تهدِّده بكلمة الساعة لأنه يقع فيها حدثٌ عظيمٌ.
ثانيا: ﴿وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ﴾ [لقمان ٣٤]، ولم يقُل: ويعلم متى يَنْزل الغيث، قال: ﴿وَيُنَزِّلُ﴾، اختلاف التعبير له معنى عظيم، وإلا فإنَّ هذه الخمس كلها من عِلْم الغيب؛ فإنَّ النبي ﷺ فسَّر قوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾ [الأنعام ٥٩] بهذه الخمسة، وألفاظ الحديث: «وَلَا يَعْلَمُ مَتَى يَنْزِلُ الْمَطَرُ إِلَّا اللَّهُ»[[أخرجه البخاري (٧٣٧٩) من حديث ابن عمر.]]، لكن القرآن يقول الله فيه: ﴿وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ﴾، فكيف نقول: إنَّه يُراد بها: لا يعلم متى ينزل الغيث إلا الله. نقول: لأنَّ الله إذا كان هو الذي يُنَزِّل الغيثَ فلا يعلمه إلا الله؛ لأنه هو المنَزِّل له، والمنَزِّل للشيء هو الذي يعلمه وغيره لا يعلمه.
وقوله: ﴿الْغَيْثَ﴾ [لقمان ٣٤] أي: المطر، وسُمِّيَ غيثًا؛ لأن به تزول الشدة، والاستغاثة طلب إزالة الشدة، فبالمطر تزول الشدائد؛ شدائد القحط، وشدائد الجدب، فيبقى الناس عندهم ماء وعندهم مزارع.
﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾ [لقمان ٣٤] ﴿يَعْلَمُ مَا﴾ أي: الذي في الأرحام، وعبر بـ(ما)؛ لأنها أعم وأشمل من (مَن)؛ إذ (مَن) تختص بماذا؟ بالعاقل، هذه من جهة، من جهة أخرى أن (ما) تختص بالصفات، و(مَن) بالذوات، ألم تَرَ إلى قوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء ٣]، ولم يقل: مَن طاب، مع أن المنكوحة من ذوات العقل ولَّا لا؟ ولكنه قال: ﴿مَا طَابَ﴾، دون (مَن)؛ لأن النكاح يرتكز على صفة المرأة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٠٩٠)، ومسلم (١٤٦٦ / ٥٣)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]]، وهنا قال: (ما) دون (مَن)؛ لأن علم ما في الأرحام من حيث الصفة أبلغ من علمه من حيث الذات، أبلغ من علمه من حيث كونه ذَكَرًا أو أنثى، فالجنين الذي في الرحم ليس العلم المختص به بمجرد كونه ذكرًا أو أنثى، أو طويلًا أو قصيرًا، أو صغيرًا أو كبيرًا، لا، هناك أبلغ من ذلك، وهو صفات هذا الجنين، ماذا يكون شقيًّا أم سعيدًا، طويل العمر أم قصير العمر؟ هل عمله صالح، أو عمله فاسد؟ ولهذا جاء التعبير بـ(ما) التي يلاحَظ فيها أيش؟ يلاحَظ فيها الصفات؛ لأن علم مَا في الأرحام من هذه الوجهة أعظم من كونه ذكرًا أو أنثى، ولهذا الآن يَطَّلِعُون على علمه بكونه ذكرًا أم أنثى، يعرفون ذلك قبل أن يولَد، بكونه ذكرًا أو أنثى، فعلى هذا يتبين بلاغة القرآن حيث عَبَّرَ بـ(ما) دون (مَن)؛ لأن (مَن) يحدد الشخصية، شخصية عاقل، وإذا كان غير عاقل يقال: (ما)، أما ما يتعلق بالصفات (...).
والصفة المشبهة يقول أهل العلم باللغة العربية: إنها تفيد الثبوت والاستمرار، و(الْعَلِيّ) معناه العلي بذاته والعلي بصفاته، فعُلُوُّه ذاتي لازم أبدًا، سواء كان عَلِيًّا بذاته أو عليًّا بصفاته.
وقوله: ﴿هُوَ الْعَلِيُّ﴾ [لقمان ٣٠] تقدم لنا أن من أهل البدع مَن ينكر العلو، أيّ العُلْوَيْنِ؟ الذاتي، وأما عُلُوّ المعنى فهو متَّفَق عليه بين المسلمين.
وقوله: ﴿الْكَبِيرُ﴾ [لقمان ٣٠] قال المؤلف: (العظيم)، فهو سبحانه وتعالى كبير بمعنى عظيم في ذاته وفي صفاته، ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [البقرة ٢٥٥]، وأخبر الله أن السماوات مطويات بيمينه، وأن الأرض جميعًا قبضته يوم القيامة، وأنه يطوي السماء كطَيِّ السجل للكتب، فكل هذا يدل على عِظَم ذاته سبحانه وتعالى كما أنه عظيم في صفاته.
* طالب: قوله: ﴿جَمِيعًا﴾ ما يدل على (...) ﴿وَالْأَرْضُ جَمِيعًا﴾ [الزمر ٦٧]؟
* الشيخ: لا، ما يدل على هذا، يدل على كل الأرض، بس ما يدل على العدد.
* الطالب: قوله: ﴿جَمِيعًا﴾.
* الشيخ: إي، كل الأرض جميعًا بما فيها الأشجار، مثل ما ورد في الحديث: «يَجْعَلُ الشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ»[[أخرج البخاري (٤٨١١)، ومسلم (٢٧٨٦ / ١٩) بسنديهما عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله ﷺ فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي ﷺ حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله ﷺ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر: ٦٧].]].
هنا لَمَّا ذكر أن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه الباطل، قال: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [لقمان ٣٠]، فلِعُلُوِّه وكبريائه تبارك وتعالى يتبين أن هذه الأصنام على الضد من ذلك، فهي سافلة لا عُلُوّ فيها، وهي ذليلة وصغيرة ليس فيها شيء من الكبرياء.
* طالب: تفسير العلي (...).
* الشيخ: لا، قوله: العلي على خلقه هنا بالقهر، إي نعم، وإنما الصواب أنه عَلِيٌّ بذاته وصفاته.
(﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ﴾ السفن، ﴿تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ﴾ يا مخاطبين بذلك ﴿مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ﴾ عِبَرًا ﴿لِكُلِّ صَبَّار﴾ عن معاصي الله، ﴿شَكُورٍ﴾ [لقمان ٣١] لنعمه).
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ﴾، هذا الاستفهام للتقرير؛ لأن هذا أمر مَرْئِيّ، فلا يُسْأَل عن ثبوته، ولكن يُقَرِّر ثبوته، والخطاب في قوله: ﴿تَرَ﴾ يعود لِمَن؟ إما للرسول ﷺ، وإما لكل مَن يصح منه الخطاب، وهذا أعم.
وقوله: ﴿أَنَّ الْفُلْكَ﴾ قال المؤلف: (السفن)، فكأنه حمله على الجمع، مع أنه يحتمل أن يراد به المفرد؛ لقوله: ﴿تَجْرِي﴾، والفلك كما سبق كلمة تُطْلَق على الجمع وعلى الواحد، قال الله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ [يونس ٢٢]، الفلك هنا للواحد ولَّا للجمع؟ للجمع، ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ﴾، ﴿جَرَيْنَ﴾ ما هي مفرد، جمع، ولم يقل: وجرت، وأما هنا ﴿أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي﴾ فظاهر الآية الكريمة أن المراد بها المفرَد؛ إذ لم يقل: ألم تر أن الفلك يَجْرِينَ، ومع ذلك فالمفرد يراد به الجمع من حيث المعنى؛ لأن الفلك ليس واحدًا بالعين، لكنه واحد بالجنس، أما بالعين فلا يُحْصَى أفراده.
وقوله: ﴿تَجْرِي فِي الْبَحْرِ﴾، (في) للظرفية، فهل هي على بابها، أو بمعنى (على).
* طلبة: بمعنى (على).
* الشيخ: هو على البحر ولَّا فيه.
* طالب: الغَوَّاصة في البحر.
* الشيخ: إي، الغواصة هي؟
* طالب: فلك،
* الشيخ: لكن الفلك التي تحمل الأنعام هذه على سطحها، لكنها في الحقيقة هي (...)، ما يغطيها، لكن أسفلها مغطى بالماء.
﴿فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ﴾ الباء متعلقة بـ﴿تَجْرِي﴾، يعني: تجري بالنعم، أي: حاملة النِّعم، ويحتمل أن تكون الباء للسببية، أي: تجري بسبب نعمت الله، أي أن الله أنعم على عباده بجريانها، وبين المعنيين فرق ولَّا لا؟ نعم؛ لأنها على المعنى الأول تفيد أن هذه السفن تحمل النِّعَم، وعلى المعنى الثاني تفيد أن السفن تجري بنعمة الله، يعني أنها من إنعام الله علينا؛ أن جريانها من إنعام الله علينا، والآية تحتمل المعنيين بدون مناقضة، وقد ذكرنا مرارًا وتكرارًا أن الآية إذا كانت تحتمل معنيين بدون مناقضة حُمِلَت على المعنيين.
* طالب: إذا كان فيه فرق، لكن الظاهر الأخير، هل نقول: (...) الأول؟
* الشيخ: لا.
* طالب: لكنها بنعمة الله جريانها تحمل الأنعام..
* الشيخ: لا؛ لأنها قد تجري فاضية ما فيها شيء، مجرد تمكين الله عز وجل لهذه السفن بأن تجري على الماء، والماء كما تعلمون ليس جِرْمًا صلبًا يحمل، بل هو جِرْم لَيِّن، لولا أن الله تعالى يَسَّرَ أن هذه السفن تمشي عليه ما مشت.
* طالب: أحيانًا قد تهبط في الماء.
* الشيخ: نعم، إذا كانت ركابًا فقط هي تكون على المعنى الأول بإنعام الله، والغالب أنه يكون فيها من نعم الله من الأرزاق ما هو شيء كثير، فتكون على المعنى الثاني، ونحن نقول: إنها على المعنيين جميعًا؛ أنها تجري بنعمة الله، أي: بإنعام الله علينا، أي أن جريانها من نعمه، وتجري بالنعم أي: حاملة نعمة الله.
تجري بنعمة الله ﴿لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ﴾، اللام متعلقة بـ﴿تَجْرِي﴾، وهي لام التعليل، أي: لأجل أن يُرِيَكُم، ومعنى (يُرِيَكم) يظهره حتى تروه، يعني: لأجل أن تَرَوْا من آيات الله ما يبهر عقولكم.
وقوله: ﴿لِيُرِيَكُمْ﴾ من آيات الله، (مِن) هنا للتبعيض؛ إذ إن السفن والراكب عليها لا يرى كل آيات الله، ولكنه يرى بعضًا منها.
وقوله: ﴿لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ﴾، أي: مما يدل على كماله في القدرة والإنعام، وغير ذلك، والآيات جمع آية، وهي في اللغة العلامة، والمراد بها كل ما يُسْتَدَلُّ به على كمال الله عز وجل في ذاته وصفاته، ما هي الآيات التي تُرَى في البحر؟
* طالب: (...) الفلك.
* الشيخ: مثل؟
* الطالب: السفن نفسها تطفو، كونه ما فيه -مثلًا- من حيوانات كثيرة جدًّا مختلفة الألوان والأشكال، وكلها آيات وعلامات على قدرة الله سبحانه وتعالى، كما هو في البر يوجد البحر.
* الشيخ: صح، هذه من الآيات، ما في البحر من الأسماك والحيتان العظيمة المتنوعة، وكذلك أيضًا من آياته ما يشاهَد في البحر في أمواجه وشدتها وخفتها، وكذلك أيضًا ما يشاهَد من البحر من الأبخرة التي تتصاعد وتتكون سحابًا بإذن الله عز وجل.
المهم أن هذه الآيات العظيمة أيضًا هي ليست كل الآيات، ولكنها من آيات الله، بعض آياته.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ المشار إليه ما ذُكِرَ في البحر من جريان السفن بنعم الله، وما يشاهَد في البحر من آيات الله.
﴿لَآيَاتٍ﴾ أي: لعلامات كثيرة، و(آيات) هذه اسم (إنَّ) مؤخر، و﴿فِي ذَلِكَ﴾ جارٌّ ومجرور خبرها مقدم.
يقول المؤلف: (﴿لَآيَاتٍ﴾ عِبَرًا)، يعتبر بها الإنسان، ويستدل بها على كمال قدرة الله سبحانه وتعالى.
(﴿لِكُلِّ صَبَّارٍ﴾ عن معاصي الله ﴿شَكُورٍ﴾ لنعمه)، (صَبَّار) صيغة مبالغة، يعني كثير الصبر، (شكور) أيضا صيغة مبالغة: كثير الشكر.
وقوله: ﴿لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ ويش المناسبة لذِكْر الصَّبَّار الشَّكُور بعد ذكر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله؟ المناسبة ظاهرة جدًّا؛ لأن هذه الفلك التي تجري في البحر تارة تعصف بها الأمواج، ويتأذى الإنسان بذلك، وربما يتضرر فيقابل ذلك بماذا؟ بالصبر، وقد يكون الأمر بالعكس، فيسهل العبور على البحر، ويحصل بذلك خير كثير، فيقابل ذلك بالشكر، فلما كانت هذه السفن فيها سَرَّاء وضَرَّاء ختم الله الآية بقوله: ﴿لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾.
وعلى هذا فنقول: في قول المؤلف: (﴿لِكُلِّ صَبَّارٍ﴾ عن معاصي الله) فيه شيء من القصور، بل نقول: لكل صبار عن معاصيه وعلى أقداره المؤلمة، وشكور لماذا؟ لنِعَمِه كما قال المؤلف.
(﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ﴾، أي: عَلَا الكفارَ ﴿مَوْجٌ كَالظُّلَلِ﴾ [لقمان ٣٢] كالجبال التي تُظَلِّل مَن تحتها).
﴿غَشِيَهُمْ﴾ يقول المؤلف: (أي: عَلَا الكفار)، وأصل التغشية التغطية، ومنه قوله تعالى: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً﴾ [الأنفال ١١]، وقوله: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾ [الأعراف ٥٤] أي: يُغَطِّيه، وقوله: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾ [الليل ١] أي: يغطي ويستر، وأمثلة ذلك كثيرة.
فمعنى قوله: ﴿إِذَا غَشِيَهُمْ﴾ أي: غَطَّاهم، ولا يغطيهم إلا بعد عُلُوِّه عليهم، والموج ما يحصل من الماء المتجمِّع الذي يعلو حتى ما يغطي السفن ويغرقها.
وقوله: ﴿كَالظُّلَلِ﴾ يقول المؤلف: (الجبال التي تظلل مَن تحتها) وهذا مشاهَد، الله أكبر، إذا رأيت البحر في شدة الأمواج تجد المياه تأتي كأنها جبال، وأحيانًا تتلاطم ثم يعلو منها زُمْرة كبيرة عالية جدًّا في البحر، هذه الأمواج إذا غشيتهم ﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [لقمان ٣٢] مَن هم؟ الكفار، يدعون الله ويسألونه، ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾، ما يسألون غيره في هذه الحال، هل يقول عابد اللات: يا لات أنقذينا؟ لأنه يعرف ما تنقذه، ولا عابد العزى ومناة، ولا عابد هُبَل، ولا غيرها من الأصنام، لا يمكن أن يدعو الأصنام في هذه الحال؛ لأنه يعرف أنها لا تنقذه، وإنما يدعو الله تعالى مخلصًا له الدين.
وقوله: ﴿لَهُ الدِّينَ﴾ المراد به (أي: الدعاء بأن ينجيهم، أي: لا يدعون معه غيره)، من أين أخذ المؤلف (لا يدعون معه غيره)؟ من قوله: ﴿مُخْلِصِينَ﴾؛ لأن الإخلاص بمعنى التخليص، يعني أنه يُجْعَل لهذا الشيء وحده، ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ﴾ [البينة ٥] فهم في هذه الحالة يعرفون الله ويدعونه، وهذا يدل على أن شرك مَن سبق أخف من شرك مَن لحق، فيه أناس الآن إذا غَشِيَهم موج كالظلل، أو أصابتهم الضراء مين يدعون؟ يدعون مخلوقًا، تجده بدل ما يقول: اللهم أَنْقِذْنِي يقول: يا علي أنقذني، يا عبد القادر أنقذني، يا فلان يا فلان أنقذني، فصار شرك هؤلاء أقبح من شرك الأولين؛ لأن الأَوَّلِين يعرفون الحق إذا أصابتهم الضراء، وأنه لا يكشف هذه الضراء إلا الله، أما هؤلاء فإنهم يزدادون عَمًى إلى عماهم، ومن المعلوم أنه لا يمكن أن يكشف ما نزل بهم من الضراء لا عبد القادر ولا البدوي ولا علي بن أبي طالب ولا غيرهم، كل هؤلاء هم بأنفسهم لو أصابتهم الضراء ما استطاعوا أن يكشفوها عن أنفسهم، فكيف يكشفونها عن غيرهم؟! هذا مع أنهم قد ماتوا وانقطع الرجاء بهم من كل وجه، لو كانوا أحياء حاضرين ربما يستغيث الإنسان بهم فينتفع، لكن إذا كانوا أمواتًا هل يمكن أن يستغيث بهم إلا جاهل؟ ما يمكن، هل يمكن أن يأتي علي بن أبي طالب من قبره من أجل أن ينقذك، أو عبد القادر الجيلاني من قبره لينقذك، أو البدوي من قبره لينقذك، أو غيره ممن يُدْعَى عند الشدائد لينقذ؟ أبدًا، والله أعلم. (...)
﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ يعني: لا يدعون غيره، ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ﴾ [لقمان ٣٢]، نَجَّاهم إلى البر هذه (...) بمعنى الإيصال، يعني نجاهم وأوصلهم إلى البر، لم يقل: نجاهم من هذه الظُّلَل فقط، بل نجاهم إنجاءً وصلوا فيه إلى شاطئ السلامة إلى البر، والبر هنا ضد البحر، فيشمل ما لو نجاهم إلى بلد، فإن البلد في هذه الآية مِن الْبَرّ، ﴿لَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ﴾ أين جواب (لما)؛ لأن (لما) هنا شرطية؟ الجواب: ﴿فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾ [لقمان ٣٢] يعني: ومنهم غير مقتصد، فالجواب إذن محذوف دَلَّ عليه قوله: ﴿فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾ أي: فلما نجاهم إلى البر انقسموا قسمين؛ فمنهم مقتصد، ومنهم كافر، و(لما) لها عدة معاني؛ تأتي شرطية، وتأتي جازمة نافية، وتأتي بمعنى (إلا)، وتأتي بمعنى (حين) ظرف، هذه أربعة معانٍ.
فتأتي شرطية كما في هذه الآية، ومثل: ﴿فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [الأعراف ١٦٦]، وتأتي بمعنى (إلا) كما في قوله تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق ٤] أي: إلا عليها حافظ، وتأتي جازمة نافية، كقوله تعالى: ﴿بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ [ص ٨]، أي: بل لم يذوقوا عذابي، وتأتي ظرفًا بمعنى (حين) تقول: زُرْتُك لما سمعت بقدومك، أي: حين سمعت بقدومك.
﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ﴾ انقسموا إلى قسمين، هذا الجواب محذوف، ﴿فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾، هذه (مِن) للتبعيض، يعني: فبعضهم مقتصد، قال: (متوسط بين الكفر والإيمان، ومنهم باقٍ على كفره)، هذا التقسيم الثاني، ﴿فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾ أي: متوسط، والاقتصاد في كل شيء هو التوسط فيه، فالمعنى أن منهم مَن صار لا مؤمنًا ولا كافرًا، إذا ذَكَرَ نعمة الله عليه بالإنجاء آمَن وشكر ربه، وإن غَرَّتْه السلامة كفر وطغى، فيكون مقتصدًا، ومنهم المقابل، ويش هو؟ كافر، ومنهم كافر.
الدليل أن المراد بالمقابل هنا الكافر قوله: ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾ [لقمان ٣٢]، وإلا فقد يقول قائل: من الذي يَدُلُّكم على أن المقابل هو الكافر، ألا يمكن أن يكون المقابل هو المؤمن كما في قوله: ﴿وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [فاطر ٣٢]؟ قلنا: هذا ممكن، لكن قوله: ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾ يدل على أن المقابل للمقتصد مَن؟ الكافر.
قال: ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا﴾ الجحد بمعنى: النفي والكتمان، وقد يُضَمَّن معنى التكذيب كما هنا، فإنه ضُمِّنَ معنى التكذيب؛ لأن الجحد الذي بمعنى الكتمان يتعدى بنفسه، فيقال: جَحَدَه، أي: كَتَمَه، لكن هنا ضُمِّنَ معنى التكذيب، ولذلك تَعَدَّى بالباء، فقيل: ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا﴾، أي: ما يُكَذِّب بها.
(ومنها الإنجاء من الموج، ﴿إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ﴾ غَدَّار، ﴿كَفُورٍ﴾ لنعم الله)، أعوذ بالله، ما يجحد بآيات الله عز وجل وينكرها ويكذِّب بها، والمراد بالآيات هنا ما يدل على نِعَمِه، كل ما يدل على نِعَمِه وتوحيده من الآيات الشرعية والآيات الكونية ما يجحد بها ويكذِّب إلا مَن جمع هذين الوصفين؛ الْخَتْر وهو الغَدْر، والثاني الكُفْر وهو الاستكبار.
فإذا قال قائل: كيف الغدر هنا؟ قلنا: لأن كل إنسان قد عاهد ربه، ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف ١٧٢]، وقال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة ٤٠]، كل إنسان قد عاهد ربه بمقتضى فطرته أن يؤمن به، فإذا كفر صار غادرًا ولَّا لا؟ صار غادرًا، لم يَفِ بالعهد.
﴿إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾ بنعم الله.
ثم قال تعالى: (﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ [لقمان ٣٣] أي: أهل مكة) (...).
هو الرب، فهو الخالق، وما دام هو الخالق فيجب أن يكون هو الذي يُتَّقَى، فكأنه يُعَلِّل الأمر بالتقوى، اتقوا ربكم لأنه ربكم الذي أوجدكم وأَعَدَّكُم وأَمَدَّكُم، فهنا إيجاد وإعداد وإمداد، أوجد الله الناس وأَعَدَّهُم هَيَّأَهم لما ينبغي أن يكونوا عليه، والثالث أمدَّهم بالعقول وأمدهم بالرسل التي جاءت بشريعة الله.
(﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي﴾ لا يغني ﴿وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ﴾ [لقمان ٣٣] فيه شيئًا)، ﴿اخْشَوْا يَوْمًا﴾، الخشية تقدَّم لنا أنها أخص من الخوف؛ لأنها تكون مع العلم بحال الْمَخْشِيّ؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر ٢٨]، ولأنها تكون من قوة الْمَخْشِيِّ، وأما الخوف فسببه ضعف الخائف، هذا هو الغالب، فالخشية أخف، يعني: اخشوا هذا اليوم العظيم الذي صفته كيت وكيت، وقد بَيَّنَها الله عز وجل.
(﴿يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ﴾ فيه شيئًا)، ومعنى يجزي: يُغْنِي، فلا أحد يستطيع أن يدفع عن أولاده شر ذلك اليوم أبدًا، مع أنه في الدنيا يغني عنهم ولَّا لا؟ يُغْنِي ويدافع، وربما يلقي بنفسه إلى التهلكة من أجل حياة أولاده، لكن في الآخرة ما فيها، بل إنه يَفِرُّ المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، يَفِرُّ منهم خشية أن يتعلَّقُوا به بتقصير حق قَصَّر فيه نحوهم، ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ﴾ [المؤمنون ١٠١]، ما أحد يسأل عن أحد، كلٌّ يقول: نفسي نفسي؛ لأن الأمر عظيم، الجبال تَنْدَكُّ حتى تكون كثيبًا مَهِيلًا، ثم بعد ذلك تكون كالعهن المنفوش، ثم تتطاير وتكون هباء منثورًا، هباء يطير في الجو، فالأمر أعظم من أن يَجْزِي والد عن ولده شيئًا.
وكلمة ﴿وَالِدٌ﴾ نكرة في سياق النفي، يشمل الأب، والجد، والأم، والجدة، وإن عَلَوْا.
﴿عَنْ وَلَدِهِ﴾ أي الذَّكَر؟ أيهم؟
* طالب: الذكر والأنثى.
* الشيخ: الذكر والأنثى؛ لأن الولد يُطْلَق على الذَّكَر والأنثى في اللغة العربية، ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء ١١].
﴿لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا﴾ [لقمان ٣٣]، قال: (﴿وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ﴾ فيه ﴿شَيْئًا﴾ )، قوله: ﴿مَوْلُودٌ﴾ يجوز أن تكون مبتدأ، و﴿هُوَ جَازٍ﴾ الجملة هذه خبر المبتدأ، يعني ﴿مَوْلُودٌ﴾ مبتدأ، و﴿هُوَ﴾ مبتدأ ثان، و﴿جَازٍ﴾ خبر المبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل رفع خبر المبتدأ الأول، وسَوَّغَ الابتداء بالنكرة في قوله: ﴿وَلَا مَوْلُودٌ﴾ أنها واردة في مقام التقسيم، ويجوز أن يكون قوله: ﴿وَلَا مَوْلُودٌ﴾ معطوفًا على قوله: ﴿وَالِدٌ﴾، يعني: ولا يجزي مولود، لكن على هذا التقدير يُشْكِل معنى قوله: ﴿هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا﴾، يصير المعنى: ولا يجزي مولود هو جازٍ عن والده شيئًا، فقد يظن ظانٌّ أن في هذه العبارة ركاكة، والأمر ليس كذلك، ويكون معنى قوله: ولا يجزي مولود هو جاز، يعني: لا يجزي مولود هو في الكفاءة محل لأن يجزي عن والده، فيكون ﴿هُوَ جَازٍ﴾ بيان لصفته، وأنه أهل لأن يجزي عن والده شيئًا ولكنه لا يجزي، وعلى هذا فيكون نظم الآية غير مختلف؛ لأن الْمَنْفِيَّ هو الفعل في الجملة الأولى وهي ﴿لَا يَجْزِي وَالِدٌ﴾، وفي الجملة الثانية وجهها؟
* طالب: ولا يجزي مولود.
* الشيخ: ولا مولود؛ لأن التقدير: ولا يجزي مولود، لكن يكون قوله: ﴿هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا﴾ يكون فيها بيان أن هذا المولود أهل لأن يجزي.
فإذا قال قائل: لماذا لم يُقَيِّد الوالد بهذا القيد أيضًا؟ قلنا: لأن الوالد غالبًا أهل لأن يجزي؛ لأن الوالد هو الأكبر، ويمكن يجزي، بخلاف الولد فالولد قد يكون صغيرًا ما يدري شيئًا، فلهذا قُيِّدَت بالنسبة للمولود بكونه أهلًا لأن يجزي.
إذن في قوله: ﴿وَلَا مَوْلُودٌ﴾ وجهان في الإعراب، أحدهما؟
* طالب: ﴿مَوْلُودٌ﴾ هذا وجهان.
* الشيخ: في إعرابه وجهان.
* الطالب: إي نعم، وجه أن (مولود) هو مبتدأ، و(هو) مبتدأ ثانٍ، و(جاز) خبر المبتدأ الثاني.
* الشيخ: والجملة؟
* الطالب: والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل خبر المبتدأ الأول.
* الشيخ: في محل رفع..
* طالب: رفع خبر المبتدأ الأول.
* الشيخ: الأول، هذا وجه.
* طالب: ووجه ثانٍ أن الجملة الأخيرة معطوفة على..
* الشيخ: لا، أن ﴿مَوْلُودٌ﴾ معطوف على؟
* الطالب: على ﴿وَالِدٌ﴾.
* الشيخ: على ﴿وَالِدٌ﴾، وجملة ﴿هُوَ جَازٍ﴾ صفة لـ﴿مَوْلُودٌ﴾، على الوجه الأول لا إشكال في المعنى، لكن فيه إشكال في تغيير النَّظْم، يعني في تغيير الأسلوب، حيث أتى بالنسبة للوالد بالفعل، وأتى بالنسبة للمولود بالجملة الاسمية، والجواب على هذا أن يقال: إنه أتى لمولود بالجملة الاسمية لئلا يطمع أحد من المسلمين الذين كانوا قد أسلموا في كفايتهم عن آبائهم شيئًا، أي: لئلا يطمع المولود المسلم في الإغناء عن أبيه الكافر أتى بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت والاستمرار.
الوجه الثاني: قلنا: إنه معطوف على ﴿وَالِدٌ﴾، وعلى هذا الوجه يَرِد إشكال في قوله: ﴿هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا﴾؛ إذ إن المعنى يكون: ولا يجزي مولود هو جازٍ عن والده شيئًا.
قلنا: الجواب على ذلك أن معنى ﴿هُوَ جَازٍ﴾ أي: هو أهلٌ لأن يجزي لكفايته، ولكنه في ذلك اليوم لا يجزي وإن كان من أهل الإجزاء، أو من أهل الجزاء.
﴿وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا﴾، إذن ما الذي ينفع الإنسان في ذلك اليوم؟ ينفعه ما ذكره الله عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام: ﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء ٨٧ - ٨٩]، هذا اللي ينتفع؛ مَن أتى الله بقلب سليم، أي : سليم مِن كل ما يُنَقِّصه من الشرك فما دونه.
يقول: (﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ [لقمان ٣٣] بالبعث)، يعني: بالبعث وما فيه، ليس بالبعث فقط، بالبعث والحساب والجزاء من خير وشر، ﴿حَقٌّ﴾ بمعنى: ثابت واقع، وهذا من ضمن قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾ [لقمان ٣٠]، من كونه حقًّا أن وَعْدَه سبحانه وتعالى حق، وَعْد غيره قد يكون حقًّا وقد يكون باطلًا غير مُوفًى به؛ لأن غير الله عز وجل قد يتخلف موعوده إما لكذب في الواعد، وإما لعجز فيه، هذا رجل قال لك: سآتي لك بعد صلاة العصر مباشرة بطَبَق من الخبز، أو ما يصلح طبق من الخبز.
* طالب: إذا كان مع الْمَرَق يصلح.
* الشيخ: يصلح؟
* الطالب: إي نعم.
* الشيخ: معه مَرَق.
* الطالب: نعم.
* الشيخ: بطبق من الخبز، وكأس من الْمَرَق، بعد العصر ما جاء لك بشيء، وعنده أطباق الخبز، وعنده كؤوس الْمَرَق، لكن ما جاء لك، لماذا؟ لكذبه، في اليوم الثاني ما جاء لك بشيء؛ لأنه ما عنده شيء، لا عنده فلوس يشتري بها، ولا عنده شيء في البيت، هذا أيضًا أخلف الموعِد لماذا؟ للعجز، ومن العجز أيضًا النسيان؛ لأن النسيان بالحقيقة نقص في الإنسان.
فالله عز وجل وَعْدُه حق لا بد أن يقع، ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾، وقال المؤلف: (بالبعث)، والصواب: بالبعث وغيره مما يكون في ذلك اليوم من الحساب والجزاء.
(﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ عن الإسلام، ﴿وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ﴾ في حلمه وإمهاله ﴿الْغَرُورُ﴾ [لقمان ٣٣] الشيطان).
﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ﴾ هنا الفعل مؤكَّد بنون التوكيد، ما نوع التوكيد في هذا الفعل، واجب؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: واجب، توافقون أخاكم؟
* طالب: لا، ما هو واجب.
* الشيخ: ما هو بواجب؟ متى يجب؟
* الطالب: يجب في أربعة شروط؛ المثبت، إذا (...).
* الشيخ: وهذا.
* الطالب: هذا منفي.
* الشيخ: ليس كذلك، لا هو نهي هذا، لكنه ليس واقعًا في جواب القسم، يعني ما دام هو في جواب قسم فليس بواجب، فإذن هو من غير الواجب، لكنه كثير.
يقول: ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾، الغُرُور الخداع، يعني: لا تَخْدَعَنَّكم بزخرفها ولذَّاتها ومسرَّاتها، ويش يعني؟
* طالب: عن الإسلام.
* الشيخ: عن الإسلام وشرائعه؛ عن الإسلام إن كان الإنسان كافرًا، وعن شرائعه إن كان مسلمًا.
وفي قوله تعالى: ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ تزهيد في هذه الحياة؛ لأنه قال: الدنيا، والدنيا فُعْلَى من الدُّنُوّ، وهي دانيةُ الزمنِ دانيةُ المعنى والمرتبة، فهي دُنْيَا لأنها سابقة للآخرة، ودنيا لأنها ناقصة، كما تقول: هذا دون هذا، يعني أنقص منه.
وقوله: ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ بالتوكيد دليل على أن غرورها شديد، فلهذا أُكِّدَ النهي بالنون، ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ﴾.
﴿وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾، قال المؤلف: (﴿بِاللَّهِ﴾ أي: حلمه وإمهاله)، يعني: لا يغرنكم بالله، الأمر كما قال المؤلف، يعني: بإمهاله وحلمه، والغَرُور هذه صفة مشبهة، ويراد بها أيش؟ الشيطان، كما قال تعالى: ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [النساء ١٢٠]، والشيطان يَغُرّ الإنسان بالله عز وجل، يقول له: لو أنك على باطل لعاقبك الله، هذه واحدة، أو يقول له: إن رحمة الله واسعة، والله غفور رحيم، أو يُمَنِّيه بالتوبة، يقول: صحيح هذه معصية، والإنسان معرِّضٌ نفسه للعقوبة، لكن التوبة أمامك، الآن تمتَّع بهذه المعصية وبعدئذ تتوب، ومن ذلك ما يُمَنِّيه بعض الناس بأن يقول: لا تُصَلِّ حتى تبلغ أربعين سنة، وهذا موجود عند بعض الناس، بعض الأجانب يقولون: إن أهلهم يقولون: ما تجب عليكم الصلاة إلا بعد بلوغ أربعين سنة، ولهذا يسألون دائمًا عن الصلاة الماضية هم يقضونها ولَّا لا؟ هذا من غرور الشيطان، من غرور الشيطان أيضًا أنه يقول له في الشيء الذي يعتقد أنه معصية، يقول له: هذه مسألة خلافية، ما دام فيها خلاف تَجَشَّمها، مع أنه يعتقد أنها معصية.
كذلك من غروره أنه يقول في الشيء الواجب اللي يعتقد الإنسان أنه واجب يقول: هذه مسألة خلافية، فيكون هذا الرجل إن احتاج للمُحَرَّم قال: المسألة خلافية، ويفعله، وإن لم يحتج له قال: الذي أدين الله به أن هذا مُحَرَّم ولا أفعله، فيكون هذا الشيء دِينًا بالأمس غير دين باليوم، أو يقول -مثلًا- إذا وافق هواه الواجب: والله هذا واجب، يجب علي أني أفعله، ما يجوز، المسلم ملتزم بأحكام الله، وإذا صار له شغل ذاك اليوم يقول: المسألة خلافية، وأنا مرتاح، ما دامت خلافية ما هي مجزوم بها.
مثال ذلك: الصلاة في المساجد جماعة، هذه مسألة خلافية، أو لا؟ صلاة الجماعة نفسها خلافية، وكونها في المسجد خلافية أيضًا، وهو يعتقد أن الصلاة في المساجد جماعة واجبة، وأنه ما يجوز الإنسان يترك الجماعة، ولا يجوز أن يصليها جماعة في بيته، لكن لو صار له شغل ويش يختار؟ المسألة خلافية، نبغي نصلي بهذا، يلَّا قوموا يا جماعة نصلي، وإن صار له شغل ولا عنده أحد قال: المسألة خلافية صلاة الجماعة، ما دام إنها خلافية أبغي أصلي لحالي و(...) شغل.
فالحاصل أن هذا من غرور الشيطان، ومن غرور الشيطان أيضًا أن يُفْتِي للناس بشيء ويفتي لنفسه بشيء آخر، نفسه يُرَخِّص لها ويُسَهِّل لها، ولغيره يشدِّد، فمثل هذه المسائل كلها من خداع الشيطان، والواجب أن يكون الإنسان على دين واحد، على دين الله لنفسه ولغيره، وفي جميع أحواله.
* طالب: في عكس الأخيرة.
* الشيخ: ويش هي؟
* الطالب: إذا كان يُسَهِّل للناس ويشدد على نفسه.
* الشيخ: إذا كان يشدد على نفسه تربيةً لنفسه فلا بأس، ما دام يعتقد أن حكم الله هو التسهيل، لكن يشدد على نفسه تَوَرُّعًا، وله أصل من الدليل فلا بأس.
* طالب: إذا كانت المسألة خلافية وهو يرى أن الأسهل أنها.. هو يعني..
* الشيخ: يعني -مثلًا- الآن بعض الناس يتورعون عن بعض المأكولات، هو بنفسه ما يأكل، لكن ما يقول للناس: لا تأكلوا؛ لأن ما عنده دليل، أو يتورع -مثلًا- عن بعض الأطياب، هو يتورع ما يبغيها، لكن ما يُحَرِّمها على الناس؛ لأن ما فيها دليل، أو -مثلًا- يُلْزِم نفسه بفعل شيء، الأدلة ما هي صريحة بالوجوب، فهو ما يُوجِبُه على الناس، لكن هو ما يحب إنه يتأخر، هذا ما فيه بأس؛ لأنه ما فيه هوى ذا، المشكلة الهوى أنه يُسَهِّل على نفسه ويشدد على الناس.
لكن ما رأيكم لو قال: أنا أبيح لنفسي فعل هذا؛ لأني أضبط نفسي، ما أتجاوز الحلال، وأنهى الناس عنه لأنني لو رَخَّصْتُ لهم فيه لتجاوزوا الحلال، فأنا أمنعه لئلا يتجاوزوا الحلال، وأما بالنسبة لنفسي فنذرتُ لنفسي إني ما أتعدى الحلال.
* طالب: إذن لا بأس.
* الشيخ: نقول: لا تقل: حرام على الناس، لكن قل: أخشى عليك أن تتجاوز، وما أشبه ذلك (...)، أما إنك تقول: حرام، تروح تمنع هذا الرجل من هذا الشيء وأنت تتمتع به كما تشاء، هذا ما يصلح، لكن قل له: أنا أخشى عليك أن تتجاوز الحلال، أو أن يقتدي بك مَن يتجاوز به، وما أشبه ذلك، حتى يتبين له الأمر أن حكم الله فيه حلال، ولكنه يُخْشَى من أن يزيد الناسُ فيه، والله أعلم. (...)
حيث عَبَّر بـ(ما) دون (مَن)؛ لأن (مَن) تحدد الشخصية، شخصية عاقل، وإذا كان غير عاقل يقال: ما، أما ما يتعلق بالصفات والأعمال فهذه يعبَّر عنها بـ(ما)، وأنا ضربت لكم شاهدًا بقوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ﴾ [النساء ٣] دون مَن طاب.
﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾، الأرحام جمع رَحِم، وهو وعاء الجنين، والجنين محاط بثلاثة جدران: البطن والرحم والمشيمة، المشيمة هذا القمقم الذي في الجنين، وهذا القمقم -سبحان الله العظيم- مادة غريبة، لا هي مائية محضة، ولا جامدة محضة، ولكنها لزجة سهلة لأجل أن يتيسر حركة الجنين، الآن السيارات اللي فيها يايات، وأظنكم تعرفون اليايات، تكون لَيِّنَة تتحرك بكل سهولة، هذا بإذن الله الذي في قمقم الجنين هذا المادة الغريبة.
* طالب: القمقم (...) اليايات.
* الشيخ: اليايات؟ اليايات عبارة عن شريط ملون.
* الطالب: (...).
* الشيخ: والله أنا ما أعرف.
* طالب: (...).
* الشيخ: على كل حال، أقول: إن هذه المادة -سبحان الله العظيم- من أجل تسهيل حركة الجنين، حتى أمه ما تحس بالتعب، وهو أيضًا ما يحس بتعب، وهذه، على كل الله عليم حكيم جل وعلا.
هذه الظلمات الثلاث كما قال تعالى: ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ﴾ [الزمر ٦]، وقال تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾ [المرسلات ٢١]، يعني ما يدخله أي شيء يؤذي هذا الجنين، لا هواء ولا غيره.
﴿يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾، قلنا: يعلم ما في الأرحام متعلَّق هذا العلم كونه ذكرًا أو أنثى، وكذلك ما يتعلق بالصفات كونه سعيدًا أم شقيًّا، وكونه عاملًا عملًا صالحًا أو عملًا سيئًا، وكون رزقه واسعًا أم ضيقًا، وكونه عمره طويلًا أم قصيرًا، كل هذه تتعلق بعلم الأجنة، فمنها شيء لا يمكن أن يُعْلَم أبدًا، ما يعلمه إلا الله عز وجل، ومنها ما يُعْلَم كالأمر المشاهَد المحسوس، هذا يمكن أن يُعْلَم، وقد تَوَصَّلُوا إليه الآن بما توصلوا إليه به.
لكن هل يمكن أن يعلموا أن هذا الجنين ذكر أو أنثى قبل أن يُخَلَّق؟ إلى الآن ما وصلوا إلى ذلك، ولا نقول: لا، نقول: إلى الآن ما وصلوا، وقد سمعت أن بعضهم يستدل على كونه ذكرًا أو أنثى بنفس الحيوان المنوي، وإن الذَّكَر له صفة خاصة، والأنثى لها صفة خاصة، فإذا صح هذا لا تقل: من أين.
* طالب: لا بد تلقح البويضة (...).
* الشيخ: هم الآن سمعت هذا وصوروه أيضًا، صوروا هذا، قالوا: إن المنوي الذَّكَر هذا له إشعاع خاص، ينطلق في إشعاع خاص، وهذه لها إشعاع خاص، والله أعلم، على كل حال هم إذا توصلوا إلى ذلك فإننا نقول: مَن يعلم إنه سيُقَدَّر الذَّكَر أو الأنثى إلا الله عز وجل، ثم الأحوال الأخرى التي ذكرنا أنه متعلَّق علم الأجنة ما يمكن يعلمونها.
* طالب: لكن هذا يا شيخ تخمينات ولَّا..
* الشيخ: لا، مشاهدات، عندهم الآن أشعة عظيمة تسلط على كل شيء.
أنا ذكرت لكم في كلامنا على هذه الآية في صحيح البخاري وقلت: يجب ألَّا نعارض الشيء هكذا ندفعه، يجب أن نتريَّث؛ لأننا لو ندفع هذا الشيء ونقول: هذا شيء محال، ثم يكون ثابتًا بمقتضى العلوم الحديثة، ويش يؤدي ذلك إليه؟ يَرُدّ القرآن، أو التشكيك فيه، ونحن نعلم أنه لا يمكن أن يتناقض أمران يقينيان، كل أمرين يقينيين فإنه لا يمكن أن يتعارضَا أبدًا، هذا مستحيل.
* طالب: طيب -مثلًا- الآية التي في سورة النجم ﴿خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا﴾، كلمة (إذا) يعني في وقت، ﴿إِذَا تُمْنَى﴾ في حال..
* الشيخ: والله على كل حال يمكن هذا ﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى﴾ [النجم ٤٥، ٤٦] إنه يمكن يقال: خلقها من نطفة في حال كونها تُمْنَى، أي: تراق يكون هذا الذكر والأنثى، بس إنه ما يتبين إلا فيما بعد.
* طالب: النطفة للأنثى؟
* الشيخ: إي نعم، الأنثى مخلوقة من النطفة.
* طالب: أقول: أم حاول، مثل الإنسان اللي يحاول الأمور هذه، هل يهتم ولَّا..
* الشيخ: على إنه يعلم؟
* الطالب: إي نعم.
* الشيخ: ويش اللي يعلم؟
* الطالب: ما دام إنه قال: ﴿يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾ حاولنا أن نعلم ما الأرحام.
* الشيخ: ﴿يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾ ولَّا قال: لا تعلموها، إحنا نعلم الآن لَمَّا كنا نتوصل لعلمها بهذه الوسائل (...).
أيضًا عندنا إشكال على ﴿وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ﴾ أوردناه في الدرس، لكن نسيته الآن، والآن ذكرته، هذه التي يقولون: إنها سيكون مطر غدًا، دي من علم الغيب ولَّا لا؟
* طالب: لا.
* الشيخ: ذكرنا أنها ليست من علم الغيب، وأنها توقُّعَات بواسطة الآلات الدقيقة التي يعلمون بها تكيُّف الجو وصلاحيته لأن يكون ممطرًا أم غير ممطر، ولهذا أحيانًا ما يكون الأمر كما توقعوا، ولَّا لا؟ ثم هم لا يستطيعون أن يتنبؤوا بالأمطار بعد سنوات، غاية ما هنالك إنها في مدة القريبة.
* طالب: شيخ، طفل الأنبوبة، أقول: لعلك سمعت عن طفل الأنبوبة؟
* الشيخ: هذا ما فيه شيء، إذا كانت المرأة زوجته فلا حرج فيه، أما إذا كان مَنِيّ رجل أجنبي هذا حرام ما يجوز.
* طالب: ما فيه حديث يعني من ناحية علم الذَّكَر إذا عَلَا مَنِيّ الرجل على المرأة قال: إنه يتوصل إن هذا (...) إذا علَا..
* الشيخ: ماءُ الرجل ماءَ المرأة.
* الطالب: هذه بيعرفوها اللي (...) يستدلون.
* الشيخ: المهم على كل حال أنه إذا وصلنا إلى علم هذا فلا ينافي الآية الكريمة؛ لأن هناك متعلَّقات في الجنين ما يتوصل إلى علمها أحد.
قال: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾، نفس هذه نكرة في سياق النفي، وتدري بمعنى تعلم، والنفس هنا نكرة في سياق النفي تَعُمّ كل نفس، أيّ نفس لا تدري ماذا تكسب غدًا، حتى لو كان من أشطر الناس في التدبير والتنظيم لوقته ما يدري ماذا يكسب غدًا، أو لا؟ ويدري ماذا يكسب غيره.
* طلبة: هذا غيب.
* الشيخ: من باب أولى، إذا كانت النفس لا تدري ماذا تكسب فإنها لا تدري ماذا يكسب غيرها من باب أولى، إذن ولا تدري ماذا يصنعه الله، نعم من باب أولى، إذا كانت لا تستطيع أن تعلم ما يتعلق بعلم المخلوق فكيف تعلم ما يتعلق بعلم الخالق، فهو من باب أولى ألَّا تعلمه.
إذن فلا أحد يدري ماذا يكسب غدًا من خير أو شر، أو مال أو ولد، أو غير ذلك، قد يتوقع الإنسان الشيء ولكنه لا يحصل له، يُصْرَف عنه، أو يُحَال بينه وبينه بسبب فلا يصل إلى كسبه.
وقوله: ﴿مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾، ما المراد بالغد؟ اليوم المباشر ليومك، أو كل المستقبل؟ المراد كل المستقبل، ما تدري ماذا تكسب فيه، ولو كان بعيدًا؛ لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ [الحشر ١٨]، يعني ليوم الأحد بعد يوم السبت؟ لا، ليوم القيامة، فكل مستقبل يصح أن يُطْلَق عليه غد.
﴿مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾ كلمة ﴿غَدًا﴾ منصوبة، وهي مفعول لـ﴿تَكْسِبُ﴾، به أو له أو فيه أو معه؟
* طلبة: فيه.
* طالب آخر: مفعول مطلق يا شيخ.
* الشيخ: ما تقولون، هذان رأيان؛ أحدهما مفعول مطلق، والثاني مفعول فيه؟ مفعول فيه؛ لأنها ظرف، يعني: ماذا تكسب في غدٍ، ألا تسمعون لقول الشاعر:
؎وَأَعْلَمُ عِلْمَ الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ ∗∗∗ وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍعَمِ
إذن فهي ظرف، ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ [لقمان ٣٤]، ﴿نَفْسٌ﴾ مثل ما قلنا في نفس الأولى: نكرة في سياق النفي فتعم كل نفس، ما تدري بأي أرض تموت، هل هي بأرضها التي وُلِدَت فيها، أو بقريب منها، أو ببعيد؟ ما تدري، ولا تدري بأي زمن تموت، بل من باب أولى؛ لأن المكان للإنسان فيه اختيار، أو لا؟ يختار يكون هنا، يختار يكون هناك، يختار يكون في محل آخر ثالث، لكن الزمن ما لك فيه اختيار، فإذا كنت لا تعلم المكان الذي تموت فيه مع أن لك فيه اختيارًا، فمن باب أولى ألَّا تعلم الزمن الذي تموت فيه، وهذه من حكمة الله عز وجل أن أخفى عن الإنسان اليوم الذي يعلم أنه يموت فيه، أو المكان الذي يعلم الله أن يموت فيه؛ لأن الإنسان لو علم بهذا لقلق في حياته، كان ما يصير همه إلا يحسر، راح اليوم ما بقي إلا -مثلًا- كذا وكذا من السنوات، أو من الأشهر، أو من الأيام، ويتعب تعبًا عظيمًا، لكن الآن كل يوم ييجي على الإنسان يقول: (...)، وقد يكون أجله أقرب من شراك نعله، لكن المهم أن عنده أملًا في الطول، ولا يلتفت إلى هذه المسألة إطلاقًا، لا يلتفت لأنه عارف أنه لا علم له بها، وأن علمها عند الله عز وجل، وهذه من رحمة الله عز وجل بنا.
هل الإنسان يقدِّر إنه يموت بالأرض الفلانية أو ما يقدر؟ قد يقدِّر هذا، أحيانًا إذا قيل له: أَلَا تسافر؟ قال: أبدًا، أنا بلدي فيها أحيا وفيها أموت، ولكن عند قرب أجله يسافر، يحصل له حاجة حتى يُحْمَل إلى الأرض التي يموت فيها، وأنا أعرف رجلًا ما خرج من بلده عُنَيْزَة أبدًا، منذ سنوات بعيدة، ولما مرض قُدِّرَ أن يكون علاجه في مصر، وهو ما عمره خرج من عنيزة إلا أظن للحج مرة، ولا عنده نية، كَبِرَ وانتهى عمره، لكن سبحان الله لَمَّا أراد أن ينقله الله إلى أرضه التي يموت فيها نُقِلَ إلى مصر ومات هناك، وأعرف ناسًا كثيرين نُقِلُوا إلى أماكن بعيدة ما كانوا يحلمون بأنهم يذهبون إليها، وذكرت لكم القصة التي حدثني بها الثقة؛ المرأة المريضة التي رجعوا بها من الحج، ولما كانوا في الرِّيع؛ رِيع الجبال المحيطة بالحجاز، ونزلوا ليلة من الليالي وأصبحوا حَمَّلُوا إبلهم على أنهم بيمشون، هذا الرجل كان معه أمه مريضة، فأراد أن.. بقي ليوطأ لها المكان على الراحلة، فمشى الناس وهو في مكانه، ولما أنهى ما أَحَبَّ أن ينهيه من التوطئة لأمه وركبت مشى، فضَيَّعَهُم ما عرف أين ذهبوا، دخل معها في الرِّيع ويمشي ويمشي ولا يسمع حِسًّا، ولا حوله أحد، حتى وصل إلى خباء، خِدْر صغير بَدْو، ونزل عندهم وسألهم عن الطريق، قالوا: الطريق وراءك، قال: بتليَّن شوي، لما نزل -سبحان الله العظيم- ونزَّل والدته ماتت في ذلك المكان، اللي ما كان هو ولا غيره يقدِّر إنه يأتي إليه، لكن من أجل أن تُحْمَل هذه المرأة إلى أرض موتها حصل ما حصل من الأسباب.
وهكذا أيضًا تجدون الحوادث الآن، الحوادث الإنسان في البلد ما يقدِّر إنه سيموت في مكان ما من البَرّ، ولكنه يُنْقَل إلى المكان الذي يموت فيه، حتى إنه يموت في المكان بالضبط على نفس حبات التراب التي قُدِّر أن يموت فيها، وهذا أمر مشاهَد.
في الزمن كذلك ما يدري الإنسان متى يموت، ربما يتأخر لحظات من أجل أن يستكمل زمنه ومدته، وهذا له شواهد، منها أيضًا ما قصصته عليكم، ولعل بعضكم لم يحضر، هنا في عنيزة حصل أن رجلًا جاء في سيارته مع الطريق العام، وفيه شابَّان على دابَّات قد أَتَيَا من طريق آخر معترض، فلما قرب كل من نهاية الملاقاة نقطة الملاقاة وقف ينتظر أن يَعْبُر الآخر، كل منهما قال: الآخر ما هو بعابر أبغي أمشي، مشى الجميع فصدمت السيارة المؤخَّر من الشابَّيْن مع الدابة ومات في الحال، لماذا وقف هذه الوقفة اللي هي لحظات؟ من أجل أن يستكمل الزمن المحدد. (...)
(﴿وَيُنَزِّلُ﴾ بالتخفيف والتشديد)، (يُنْزِلُ) و(يُنَزِّلُ)، وكلاهما جاء في القرآن؛ ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ [الأنعام ٩٩] هذه على قراءة التخفيف، قال: وقال تعالى: ﴿وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا﴾ [غافر ١٣]، ﴿يُنَزِّلُ﴾ هذه على قراءة التشديد.
يقول: (﴿الْغَيْثَ﴾ بوقت يعلمه)، الشاهد قال المؤلف: (بوقت يعلمه)، هذا هو الشاهد، يعني المؤلف بَيَّنَ أن المراد بتنزيل الغيث في الوقت الذي يعلمه؛ ليكون هذا من علم الغيب.
(﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾ أذكر أم أنثى، ولا يعلم واحدًا من الثلاثة غير الله تعالى)، ﴿يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾ اقتصاره على أذكر أم أنثى فيه نظر؛ لأن عِلْمَ ما في الأرحام ليس متعلقًا بالذكورة والأنوثة فقط، بل ما هو أعم، وقد سبق في التفسير (...).
الحكمة من التعبير بـ(ما) دون (مَن)، (...) وقوله: (فلا يعلم واحدًا من الثلاثة غير الله) نعم هذا قبل تكوينه ممكن، لكن بعد أن يتكون يعلمه غير الله، فهذا الملَك يعلم أنه ذكر أم أنثى.
(﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾ من خير أو شر)، ولكن اللي يعلمه الله، ولهذا قال: (ويعلمه الله تعالى).
(﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ ويعلمه الله، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ﴾ بكل شيء، ﴿خَبِيرٌ﴾ بباطنه كظاهره).
أيهما أَخَصّ الخبير أو العليم؟ الخبير أخص؛ لأن العلم يتعلق بالظاهر والباطن، والخبرة تتعلق بالباطن، ولهذا قال: (خبير بباطنه كظاهره)؛ لأن العليم بالباطن من باب أولى أن يكون عليمًا بالظاهر.
ثم قال: (روى البخاري[[أخرجه البخاري (٤٦٢٧). ]] عن ابن عمر حديث «مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسَةٌ؛ » ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ [لقمان ٣٤] إلى آخر السورة).
﴿وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾، وبَيَّنَّا في شرح صحيح البخاري وجه كونها مفاتح، فقلنا: الساعة مفتاح إلى آخره، تنزيل الغيث مفتاح للحياة؛ حياة الأرض والنبات، ويعلم ما في الأرحام مفتاح؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، غير.
* الطالب: (...).
* الشيخ: نعم، مفتاح لحياة الإنسان وابتداء خلقه، أول ما يمر بعد التكوين بالرحم، ولهذا الإنسان له أربع دُورٍ؛ الدار الأولى في بطن أمه، والثانية في الدنيا، والثالثة في البرزخ، والرابعة في الآخرة، ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص ٨٣].
﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾ مفتاح للعمل في المستقبل، ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ مفتاح للآخرة بالنسبة لموت كل إنسان بعينه. (...)
﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [لقمان ٣٠].
* يستفاد من هذه الآية: أولًا: أن الله هو الحق، والحق ضد الباطل، والباطل كل شيء لا فائدة منه ولا خير فيه.
* ويستفاد منه: أن كل ما يصدر عن الله فهو حق، من أين تؤخذ؟ لأنه لا يصدر عن الحق إلا حق.
* ويستفاد من الآية الكريمة: أن عبادة غير الله باطلة (...).
والكبرياء، ﴿وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾.
ثم قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ﴾ إلى آخره [لقمان: ٣١]، في هذه الآية تقرير المخاطَب بهذه النعمة؛ وهي جريان الفُلْك في البحر بنعمة الله.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن جريان الفُلْك على هذا الماء السَّيَّال مع أنها تحمل الأثقال الكثيرة من نعمة الله، بناء على أن الباء للسببية.
* ومن فوائد الآية الكريمة: عناية الله تعالى بالخلق في إيصال آياته لهم؛ لقوله: ﴿لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الآيات إنما ينتفع بها مَن جَمَعَ بين الصبر والشكر؛ لقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾، صبار عند الضَّرَّاء، وشكور عند السَّرَّاء.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن آيات الله سبحانه وتعالى تنقسم إلى حسية ومعنوية، الفُلْك اللي تجري في البحر حسي ولَّا معنوي؟ حسي، فجعلها الله من آياته، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ﴾.
ثم قال عز وجل مُبَيِّنًا حال هؤلاء المكذِّبِين: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ إلى آخره [لقمان: ٣٢]، في هذا دليل* يستفاد من الآية: أن إرسال الأمواج من الله عز وجل امتحان للعباد، من قوله: ﴿إِذَا غَشِيَهُمْ﴾ ﴿دَعَوُا اللَّهَ﴾، فيمتحنهم هل هم لا يعرفون الله إلا في الشدة، أو في الشدة والرخاء.
* ومن فوائد الآية: إثبات رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لقوله: ﴿إِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ﴾، الرسول عليه الصلاة والسلام ما ركب البحر حتى يعرف هذه الأمواج وأنها كالظُّلَل، ولكنه عليه الصلاة والسلام عَلِمَ بها مِن خَبَرِ الله، ﴿إِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ﴾، ولهذا قال بعض العلماء: إن كون هذه الآية تفيد كأن الرسول ﷺ في وصف البحر وهذا الموج يغشى يدل على أنه رسول الله حقًّا؛ لأنه ما كان ركب البحر، ولا يقال: إنه ربما أُخْبِرَ بذلك لأن الله أبطل هذا بقوله: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل ١٠٣].
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن هؤلاء المشركين إذا وقعوا في الشدة عرفوا الله.
* فيتفرع على ذلك: أن معرفة الله في مثل هذه الحال لا تجزئ، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ».[[أخرجه الحاكم في المستدرك (٦٤٣٧) بهذا اللفظ، وأخرجه أحمد (٢٨٠٣) بلفظ: «تعرَّف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة» من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.]]
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن المشركين مُقِرُّون بالربوبية؛ لقوله: ﴿دَعَوُا اللَّهَ﴾، ولا يدعونه إلا وهم يعلمون أنه قادر على إنقاذهم، وإلا ما يمكن أن يَدْعُوا مَن لا يعتقدون أنه قادر.
* ومن فوائدها: أن المشركين فيما سبق أحسن حالًا من المشركين الآن؛ لأن المشركين الآن إذا أصابتهم الشدة مَن يدعون؟ يدعون آلهتهم دون الله، يدعون الولي الفلاني، والصحابي الفلاني، وما أشبه ذلك، أما المشركون السابقون فإنما يدعون الله.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله عز وجل يجيب دعاءهم مع علمه بأنهم سيَكْفُرُون، أو لا؟
* طلبة: نعم.
* الشيخ: لقوله: ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا﴾، وهو يعلم ذلك سبحانه وتعالى.
* ومن فوائدها: إجابة دعوة المضطر ولو كان كافرًا، أو لا؟
* الطلبة: نعم.
* الشيخ: لأن هؤلاء أجاب الله دعوتهم مع علمه بأنهم كفار وسيكفرون، ويؤيد هذا عمومُ قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ [النمل ٦٢]، ولم يقل: المؤمن، بل قال: المضطر، عامّ وكذلك أيضًا المظلوم تُسْتَجَاب دعوته ولو كان كافرًا؛ لعموم قول الرسول عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل: «اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ».[[أخرجه الحاكم في المستدرك (٦٤٣٧) بهذا اللفظ، وأخرجه أحمد (٢٨٠٣) بلفظ: «تعرَّف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة» من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.]]
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن مَن نجا من نقمة من النقم فإنه إما أن يقوم بما يجب عليه فيكون مقتصدًا، أو يرجع إلى كفره فيكون غدَّارًا خدَّاعًا؛ لأنه لَمَّا دعا الله مخلصًا له الدين في حال الشدة كان مقتضى ذلك أن يكون بينه وبين الله عهد بأن يبقى على إطلاقه، فإذا كفر صار غدَّارًا خَتَّارًا.
* طالب: شيخ، ما يستفاد منها أن بعد ما المشرك يرى العذاب لو يرجع رجع (...)؟
* الشيخ: لكن هذه ذُكِرَت في سورة الأنعام ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ [الأنعام ٢٨].
* الطالب: ما دام إنه دعا الله وأخلص فإن (...).
* الشيخ: يدل على أن الكافر كافر في حال الشدة يُخْلِص وفي حال الرخاء يكفر، والعياذ بالله.
* وفي هذه الآية الكريمة من فوائدها: قدرة الله عز وجل؛ لقوله: ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ﴾.
* ومن فوائدها: إثبات علمه.
* ومن فوائدها: إثبات سمعه، السمع والعلم والقدرة، تؤخذ منين؟ من قوله: ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ﴾؛ لأنه لا ينجيهم إذا دَعَوْا إلا بعد أن يسمع دعاءهم ويعلم بحالهم، ويش بعد؟ ويقدر على إزالة ضررهم.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن مَن كان وَفِيَّ العهد فإنه لا يجحد بآيات الله؛ لقوله: ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾.
* ومن فوائدها: التحذير من الغدر، فإنه قد يكون سببًا لماذا؟ للكفر والجحد، ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ»، » وذكر منها: «إِذَا عَاهَدَ غَدَرَ»[[هذا حديث مركب من حديثين؛ فقوله ﷺ: «إذا عاهد غدر» فهو جزء من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعًا: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا...»، والحديث متفق عليه؛ البخاري (٣٤)، ومسلم (٥٨ / ١٠٦).أما حديث «آية المنافق ثلاث» فليس فيه ذِكْر الغدر، والحديث متفق عليه؛ البخاري (٣٣)، ومسلم (٥٩)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ]]، فإذا كان لا يجحد بالآيات إلا الغَدَّار فمعنى ذلك أن الغدر يكون سببًا للجحد والكفر.
ثم قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ﴾ إلى آخره.
* يستفاد من الآية الكريمة: وجوب تقوى الله، الدليل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾، الأمر، ولا سيما أنه قُرِنَ بالتحذير من اليوم الآخر في قوله: ﴿وَاخْشَوْا يَوْمًا﴾.
* ومن فوائدها: إثبات اليوم الآخر لقوله: ﴿وَاخْشَوْا يَوْمًا﴾، فلولا تحقُّقُه ما حُذِّر منه.
* ومنها: أن هذا اليوم لا ينفع فيه قريبٌ قريبَه، أو لا؟
* طلبة: نعم.
* الشيخ: طيب لو قال قائل: الله لم يذكر إلا الوالد والولد؟
فنقول: إذا انتفى انتفاع الوالد بولده، والولد بوالده، فغيرهم من باب أولى؛ لأن الولد بَضْعَة من أبيه، فإذا كان البَضْعَة لا ينتفع بكله، والكل لا ينتفع ببضعته فمن باب أولى من (...).
* ومن فوائد الآية الكريمة: تأكيد هذا اليوم ووقوعه؛ لقوله: ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾.
* ومن فوائدها: التحذير من الدنيا وغدرها وغرورها؛ لقوله: ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾.
* ومنها: أن الدنيا من أكبر الأسباب التي تَحُول بين المرء وبين خشيته لليوم الآخر؛ لأنه فَرَّع عليها قوله: ﴿وَاخْشَوْا يَوْمًا﴾، ثم قال: ﴿فَلَا﴾؛ ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ﴾، وهو كذلك.
* ومن فوائد الآية الكريمة: التحذير من الشيطان؛ لقوله: ﴿وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾.
* ومن فوائدها أيضًا: أن الشيطان خَدَّاع؛ لقوله: ﴿الْغَرُورُ﴾، فهي إما صيغة مبالغة، وإما صفة مشبهة، وكلاهما يدل على الثبوت والكثرة.
* طالب: (...) الشيطان، ما فيه غَرور غير الشيطان؟
* الشيخ: لا، هو فَسَّرَها بذلك، ويحتمل أنها تشمل حتى شياطين الإنس، كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام ١١٢].
* طالب: (...).
* الشيخ: إذا غَرَّه عن الحق فهو من شياطين الإنس، ولكن ظاهر الآية الغَرُور أن هذا وصفٌ لازم، ويحتمل أن يكون هذا من الشيطان.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ إلى آخره.
* يستفاد من هذه الآية الكريمة، أولًا: أن علم الساعة من خصائص علم الله وحده؛ لقوله: ﴿عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾، وهذا يفيد الحصر.
* ويستفاد منها: بيان فضل الله عز وجل بإنزال الغيث، كقوله: ﴿وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ﴾، والمنزِّل للشيء هو العالِم به، فيستفاد منه اختصاص الله تعالى بعلمِ نزولِ الغيث.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن عِلْمَ ما في الأرحام إلى الله وحده؛ لقوله: ﴿وَيَعْلَمُ﴾ (...).
فهذا هو الصحيح، نحن إذا نظرنا إلى ظاهر السياق: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾ لا ينفي أن غيره يعلم؛ لأن كون الله يعلم (...)، لكن تفسير الرسول عليه الصلاة والسلام بأن هذه مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا الله يدل على أنه لا يعلم ما في الأرحام إلا الله.
فإن قال قائل: لماذا لم تكن: ولا يعلم ما في الأرحام إلا الله، بهذه الصيغة؟
فالجواب -والله أعلم- أنه لما كان علم الأجنة قد يتمكن منه في بعض الأحوال قال: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾.
* ومن فوائد الآيات: أن الإنسان لا يعلم الغيب في المستقبل، ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾، فإذا كان الإنسان ما يدري ماذا يكسب هو بنفسه فما يُقَدَّر عليه من الله فجَهْلُه به من باب أولى، وما يكسبه غيره فجَهْلُه فيه من باب أولى، وعلى هذا فلو ادعى مُدَّعٍ بأن الله تعالى سيقدِّر على هذا الرجل كذا وكذا فإننا نجزم أنه كاذب؛ لأنه لا يعلم ما في غدٍ إلا الله، ولما قالت إحدى النساء بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام: «وفينا نبي يعلم ما في غدٍ»، نهاها الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: «قُولِى بِبَعْضِ مَا تَقُولِينَ»[[أخرج البخاري (٤٠٠١) بسنده عن الرُّبَيِّع بنت معوِّذ، قالت: دخل عليّ النبي ﷺ غداة بُنِيَ عليّ، فجلس على فراشي كمجلسك مني، وجويريات يضربن بالدف يندبن مَن قتل من آبائهن يوم بدر، حتى قالت جارية: وفينا نبي يعلم ما في غدٍ. فقال النبي ﷺ: «لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين». ]]، وهذا لا يجوز للرسول ولا لغيره أن يُدَّعَى أنه يعلم ما في غدٍ.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الإنسان لا يدري بأي أرض يموت؛ لقوله: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾.
* ومن فوائدها: أن الموت إنما يكون في الأرض، أو ما يمكن؟ ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾.
* طالب: لا بد أن يكون في الأرض.
* الشيخ: لا بد أن يكون في الأرض؟
* الطالب: قد يموت لكن الْمَقَرّ (...).
* الشيخ: اللي في السيارة.. ذكرنا في التفسير أن اللي في السيارة في الأرض، لكن هل يقال: إن ما يمكن أحد يموت فوق الجاذبية؟
* طالب: (...) في الفضاء.
* الشيخ: في الفضاء؟ فيه احتمال، لكن ما هو بظاهر؛ لأن قوله: ﴿بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ قد يكون هذا مبنيًّا على الغالب، مع أن لدينا آية في القرآن يقول الله تعالى: ﴿فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ﴾ [الأعراف ٢٥]، فتقديم المعمول اللي هو الظرف ﴿فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ﴾ يدل على الحصر، وهذا هو الأصل، فإن تَبَيَّن فيما بعد أن يموت أحدهم في الفضاء ولا يرجع إلى الأرض -مثلًا- فإنه يكون هذا بناء على الأغلب الكثير، ونحن إلى الآن ما سمعنا أن أحدًا مات في الفضاء، ما سمعنا أحدًا مات فوق الجاذبية، بل حتى لو مات فالظاهر أنه لا بد أن يرد.
* طالب: الروح (...).
* الشيخ: لا، ما هو بمقصور على الروح، نفس الجسم، ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنه لا يعلم أحد متى يموت، من أين تؤخذ؟ من أن جهلنا بمكان موتنا يستلزم جهلنا بزمان موتنا، بل جهلنا بالزمان أولى.
* ومن فوائد الآية: إثبات اسمين من أسماء الله، وهما العليم والخبير وما تضمناه من صفتي العلم والخبرة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن مَن ادَّعَى علم شيء مما اختص الله بعلمه فهو كافر؛ لأنه مُكَذِّب لله تعالى، والتكذيب لله كفر.
{"ayahs_start":30,"ayahs":["ذَ ٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّ مَا یَدۡعُونَ مِن دُونِهِ ٱلۡبَـٰطِلُ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡعَلِیُّ ٱلۡكَبِیرُ","أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱلۡفُلۡكَ تَجۡرِی فِی ٱلۡبَحۡرِ بِنِعۡمَتِ ٱللَّهِ لِیُرِیَكُم مِّنۡ ءَایَـٰتِهِۦۤۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّكُلِّ صَبَّارࣲ شَكُورࣲ","وَإِذَا غَشِیَهُم مَّوۡجࣱ كَٱلظُّلَلِ دَعَوُا۟ ٱللَّهَ مُخۡلِصِینَ لَهُ ٱلدِّینَ فَلَمَّا نَجَّىٰهُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ فَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدࣱۚ وَمَا یَجۡحَدُ بِـَٔایَـٰتِنَاۤ إِلَّا كُلُّ خَتَّارࣲ كَفُورࣲ","یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُوا۟ رَبَّكُمۡ وَٱخۡشَوۡا۟ یَوۡمࣰا لَّا یَجۡزِی وَالِدٌ عَن وَلَدِهِۦ وَلَا مَوۡلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِۦ شَیۡـًٔاۚ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣱّۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَا وَلَا یَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ","إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ وَیُنَزِّلُ ٱلۡغَیۡثَ وَیَعۡلَمُ مَا فِی ٱلۡأَرۡحَامِۖ وَمَا تَدۡرِی نَفۡسࣱ مَّاذَا تَكۡسِبُ غَدࣰاۖ وَمَا تَدۡرِی نَفۡسُۢ بِأَیِّ أَرۡضࣲ تَمُوتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرُۢ"],"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُوا۟ رَبَّكُمۡ وَٱخۡشَوۡا۟ یَوۡمࣰا لَّا یَجۡزِی وَالِدٌ عَن وَلَدِهِۦ وَلَا مَوۡلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِۦ شَیۡـًٔاۚ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣱّۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَا وَلَا یَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق