الباحث القرآني
ثم ذكر الله فائدة أخرى كم تكون؟ ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [آل عمران ١٤١].
* الطلبة: الرابعة.
* الشيخ: الرابعة. قال: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ (يمحص) بمعنى: ينقي، (يمحص) أي: ينقي، وهل المراد تنقيتهم من غيرهم بحيث يتبين المؤمن النقي الصافي الإيمان، أو تنقيتهم من الذنوب بما أصابهم من القرح، أو الأمران جميعًا؟ الأمران جميعًا؛ لأنا لدينا قاعدة سبقت وهي: أن اللفظ إذا كان يحتمل معنيين لا ينافي أحدهما الآخر، فإنه يُحمل عليهما جميعًا.
إذن فهو يمحصهم: ينقيهم من الذنوب بما أصابهم من القرح، وينقيهم أيضًا باعتبار الخلاصة، يعني يتبين بذلك خلاصة المؤمنين ممن في إيمانهم شيء من الشك أو الكفر، وهذا أمر ظاهر، وهو كما أشار الله في قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [آل عمران ١٤٠].
إذن من الحكمة فيما حصل للمسلمين من القرح أن الله يمحص مَن؟ الذين آمنوا، ينقيهم من الذنوب بما أصابهم من هذه المصيبة، وينقيهم ببيان الخُلَّص أهل الصفوة.
الخامسة: قال: ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران ١٤١] يمحق الكافرين، سبحان الله! إذا نصرهم يكون سببًا لمحقهم؟ نعم، يكون سببًا لمحقهم؛ لأنهم إذا انتصروا علوا واستكبروا وانتفخوا في أنفسهم، وظنوا أن لهم السيطرة دائمًا، فحينئذ يعيدون الكَرة مرة أخرى بقتال المسلمين، وبذلك يكون محقهم، هذا هو وجه الآية، وقال بعض أهل العلم: يمحق الكافرين: يهلكهم بما جنوه على المسلمين من القرح، فجعل المحق يعني العذاب والهلاك في الآخرة، ولكن المعنى الأول أوجه؛ أنه يمحقهم محقًا حسيًّا؛ وذلك لأنهم إذا انتصروا في هذه المرة حاولوا أن يعيدوا الكرة مرة ثانية؛ لأجل أيش؟ الأجل لانتصار مرة أخرى، وبذلك يكون محقهم والقضاء عليهم.
وقوله: ﴿الْكَافِرِينَ﴾ مأخوذ من الكفر، وأصل الكفر في اللغة الستر، ومنه سُمي الكُفُرَّى، يعني وِعاء طَلْع النخل؛ لأنه يستر ما كان فيه.
إذن ذكر الله في هاتين الآيتين لمس القرح كم فائدة؟ خمس فوائد.
ثم قال: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ [آل عمران ١٤٢] (أم) هنا منقطعة، فتكون بمعنى (بل) وهمزة الاستفهام، أي: بل أحسبتم أن تدخلوا الجنة. وقولهم: (منقطعة) احترازًا من المتصلة، فما هو الفرق بينهما: بين المتصلة والمنفصلة، يجيب عنه الأخ، نعم، ما الفرق بين (أم) المنقطعة و(أم) المتصلة؟
* الطالب: المتصلة تكون عاطفة.
* الشيخ: وهذه عاطفة.
* الطالب: (...) الجملة الثانية..
* الشيخ: وهذه عاطفة.
* الطالب: أي كل ما تعلق بها (...) ابتداء كلام جديد.
* طالب آخر: المتصلة هو الذي يكون وقوع أحد الأمرين متيقِّنًا، وبعضه يذكر المتصلة مثل القول يعني هذا ولّا هذا، ويذكر بعضه بعد الاستفهام حقيقة أو لفظًا، ويليه مع الهمز، أحد الأمرين، هذا شروطه.
* طالب آخر: الفرق بينهما من وجه: أولًا هذه المنقطعة بمعنى (بل) والهمزة، والمتصلة بمعنى (أو). الثاني..
* الشيخ: نعم، المنقطعة بمعنى (بل) والهمزة، وهاديك بمعنى (أو).
* الطالب: المتصلة يذكر معها المعادل.
* الشيخ: (أم) المتصلة يذكر معها المعادل، و(أم) المنقطعة ليس لها معادل.
وهذا معنى ما قال الأخ (هداية الله)، يعني الفرق إذن يتضح بالمثال، قال الله تعالى: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة ٦] ويش نقول في هذه؟
* الطلبة: متصلة.
* الشيخ: متصلة؛ لأنه ذُكر فيها معادل، ولأنها بمعنى (أو). طيب ﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ [الطور ٣٢]؟
* الطالب: منقطعة.
* الشيخ: انتبهوا ﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾.
* طلبة: منقطعة.
* طلبة آخرون: بمعنى (بل).
* الشيخ: بمعنى (بل)؛ نعم لأن أمر أحلامهم -يعني عقولهم- بهذا ليس معادلًا لكونهم طغاةً، بل قال: أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم لم تأمرهم؟ الجواب: لم تأمرهم ولكنهم قوم طاغون.
طيب هنا: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ متصلة أم منقطعة؟
* الطلبة: منقطعة.
* الشيخ: منقطعة؛ لأنه لم يذكر المعادل، ولأنها بمعنى (بل) والهمزة.
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ أي: أظننتم أن تدخلوا الجنة، والاستفهام هنا للتوبيخ، يعني هل تظنون أن تدخلوا الجنة بلا اختبار، ولهذا قال: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران ١٤٢]، ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ﴾، الجنة هي مأوى المتقين ودار الخلد -جعلنا الله وإياكم من أهلها- ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ﴾ لما يعلم، (لما) هنا جازمة، والدليل على جزمها أن الفعل جُزم بعدها، ونسأل الأخ هل الفعل بعدها مجزوم؟
* طالب: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ﴾ نعم مجزوم.
* الشيخ: مجزوم، الفعل ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ﴾ كسر، ﴿يَعْلَمِ اللَّهُ﴾، كيف تقول: مجزوم؟
* طالب: كسر لالتقاء الساكنين.
* الشيخ: يعني حرك بالكسر
* الطالب: لالتقاء الساكنين.
* الشيخ: وأصله؟
* الطالب: وأصله: ولما يعلمْ.
* الشيخ: ولما يعلمْ، لكن لما كان ما بعده ساكنًا كسر؛ لأنه على القاعدة التي أشار إليها ابن مالك في الكافية:
؎إِنْ سَاكِنَانِ الْتَقَيَا اكْسِرْ مَا سَبَقْ ∗∗∗ وَإِنْ يَكُنْ لَيْنًا فَحَذْفَهُاسْتَحَقْ
قوله: ﴿لَمَّا يَعْلَمِ﴾ (لما) قلنا: إنها جازمة، بدليل أن الفعل جُزم بعدها، لكنه حُرك بالكسر لالتقاء الساكنين.
هل تأتي (لما) غير جازمة؟ نريد أن نستذكر ما مضى، هل تأتي (لما) غير جازمة؟
* طالب: زيادة.
* الشيخ: زيادة؟
* الطالب: يجي (لما) شرطية ولما (زيادة) (...).
* طالب: الظاهر تأتي يا شيخ.
* الشيخ: تأتي أيش؟
* الطالب: تأتي غير جازمة.
* الشيخ: لكن تأتي لأي معنى؟
* الطالب: يعني المعنى الذي تأتي له..
* الشيخ: تأتي جازمة، انتهينا منها، وتأتي؟
* الطالب: وأحفظ مثال.. تأتي شرطية.
* الشيخ: تأتي شرطية، مثل؟
* الطالب: لما قام زيد قام عمرو.
* الشيخ: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾ [الجن ١٩]، هذه واحدة.
* طالب: تأتي ظرفية.
* الشيخ: ظرفية، بمعنى؟
* الطالب: بمعنى (حين).
* الشيخ: مثل؟
* الطالب: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ﴾ [سبأ ١٤].
* الشيخ: هذه شرطية.
* طالب: قوله تعالى: ﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ [هود ١٠١].
* الشيخ: نعم، ﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ أي حين جاء أمر ربك، هذه ثلاثة.
* طالب: بمعنى (إلا) استثنائية.
* الشيخ: بمعنى (إلا) استثنائية.
* الطالب: ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق ٤].
* الشيخ: ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ أي: إلا عليها حافظ، أربعة معانٍ.
* طالب: شيخ، أحسن الله إليك، في قوله سبحانه تعالى: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ ما نأخذ من هذه يا شيخ قاعدة عامة: أن الله سبحانه وتعالى لا يتخذ كل الناس شهداء، وإنما يتخذ من به صفات الإيمان والتقى، هم الذين يتخذهم شهداء؟
* الشيخ: هذا يحتمل إذا قلنا: (من) للتبعيض، أما إذا قلنا: إنها بيانية فلا يتعين.
* الطالب: يعني قد يتخذ شهداء من غير..
* الشيخ: عقلًا جائز، لكنه واقع لم يكن؛ لأن كثيرًا من المسلمين ماتوا على غير الشهادة.
* طالب: خاصة في الجهاد؟
* الشيخ: إي نعم، حتى في الجهاد، كثير من المسلمين لم يحصل لهم الشهادة.
* الطالب: ما نأخذها قاعدة عامة؟
* الشيخ: لا، ما نأخذها قاعدة عامة؛ لأنه ما دام أن (مِن) تحتمل أن تكون بيانية، ما نجزم بأنها للتبعيض.
* طالب: القاعدة –يا شيخ- في الاستدلال بمفهوم بعض الآيات في إثبات الصفات مثل: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران ١٤٠] (...) لأن هذه قد يدل عليها نصوص أخرى، لكن فيه آيات ما يدل عليها نصوص أخرى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [لقمان ١٨] (...)؟
* الشيخ: إي، يحب من انتفى عنه ذلك.
* الطالب: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [لقمان ١٨]، غير المختال وغير الفخور هل نقول: يحبه الله.
* الشيخ: نعم، يحب من انتفت عنه هاتان الصفتان.
* الطالب: يمكن يكون متصفًا بغير هذه الصفة؟
* الشيخ: نعم، يمكن يتصف بصفة أخرى توجب كراهته، وبصفة أخرى توجب محبته، لكن نفي المحبة عن المختال الفخور يدل على ثبوت المحبة لغيره، أو لضده أحسن.
* الطالب: لكن يا شيخ على الضد قد يكون في الصفات؟
* الشيخ: إي نعم، لكن يتصف بصفات توجب بغضه، لكن كما قلنا: البغض والمحبة يتبعض، يحب الله الشخص من وجه ويكرهه من وجه آخر، ما يمنع.
* طالب: شيخ، بعض الناس إذا أصابتهم مصيبة استدل بهذه الآية: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران ١٤٠] هل الاستدلال بمثل هذا (...)؟
* الشيخ: أيش تقولون يا جماعة؟ صحيح؟
* الطلبة: صحيح.
* الشيخ: إي نعم، صحيح.
* طالب: أحسن الله إليك، هل يؤخذ من هذا أنه إذا حصل قتال مثلًا بين طائفتين أنه لا بد دائمًا أن المنتصرة هي التي يحبها الله؟
* الشيخ: إي نعم؛ لأن الله تعالى قد يبتلي الأخرى بهذه البلوى امتحانًا، لكن لا يجوز أبدًا أن نظن أن الله سبحانه وتعالى يديل الباطل على الحق إدالة مستقلة.
* طالب: بارك الله فيك، إذا كان هناك فريقين كرة قدم وانتصر فريق على الآخر، فاستدل أحدهم قال: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ فهل هذا استهزاء بكلام الله عز وجل؟
* الشيخ: ماذا تقولون؟ يقول: انتصر فريق في كرة القدم على فريق آخر، وفي اليوم الثاني بالعكس، فهل نقول: نستدل بالآية: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾؟
* الطلبة: نعم.
* الشيخ: إي نعم، يمكن، انتصار الأولين بأمر الله وقدره، وانتصار الآخرين أيضا بأمر الله وقدره.
* * *
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران ١٤١].
هذه هي الحكمة الرابعة من حكم مداولة الأيام بين الناس، وما جرى للنبي ﷺ وأصحابه في أحد، الرابعة: ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾.
* يستفاد من هذه الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى قد يبتلي المؤمن من أجل تمحيصه، وقد ذكرنا أن التمحيص من وجهين:
الوجه الأول: بيان من إيمانه صادق يصبر على الضراء، ومن إيمانه متهزهز لا يصبر.
الوجه الثاني: أن هذه المصائب فيها تمحيص للمؤمنين بتكفير السيئات.
* ومن فوائدها، الفائدة الخامسة: محق الكافرين، فيستفاد من هذا فائدة، وهي: أن النعمة قد تكون سببًا للنقمة، فإن انتصار الكفار يوجب فرحهم وبطرهم حتى إذا بطروا محقوا.
* ومن فوائدها: أن الكافر مآله المحق؛ لقوله: ﴿وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾، وهذا كقوله: ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام ٢١] ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس ٨١] وأمثال ذلك كثير.
* ومنها: أن الله سبحانه وتعالى له التدبير الكامل في عباده؛ لقوله: ﴿يُمَحِّصَ﴾ ﴿وَيَمْحَقَ﴾ فإن هذا الفعل كان فيه خير للمؤمنين وشر للكافرين.
ثم قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ (أم) هنا منقطعة بمعنى (بل) وهمزة الاستفهام، والمراد بالاستفهام هنا التوبيخ، يعني: أتظنون أن تدخلوا الجنة ولم يحصل ما ذُكر. وقوله: ﴿حَسِبْتُمْ﴾ أي ظننتم، فالحسبان هنا بمعنى الظن: ﴿أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾، وهي دار المتقين التي أعدها الله سبحانه وتعالى لهم، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وكل مؤمن بها لا بد أن يسعى لها ويرجو دخولها.
وقوله: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ﴾ الواو هنا حالية، يعني: والحال أن الله لا يعلم الذين جاهدوا منكم.
و(لما) تأتي على أربعة أوجه في اللغة العربية، وقد ذكرناها فيما سبق، وهي هنا حرف نفي وجزم، ويفرق بينها وبين (لم) بأن مدخولها مترقب الحصول؛ كقوله تعالى: ﴿بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ [ص ٨] أي: لم يذوقوه ولكنه قريب، وهنا قال: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ﴾ أي أن الله لم يعلم ولكن علمهم بذلك قريب.
وقوله: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا﴾ أي بذلوا جهدهم في إعلاء كلمته بالقتال في سبيله، والعلم هنا ليس كالعلم الأزلي، فإن علم الله عز وجل نوعان: أزلي سابق لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب، وعلم بما حصل بعد حصوله، وهذا هو الذي يترتب عليه الثواب والعقاب، ويسميه بعض العلماء علم ظهور، أي يعلمه ظاهرًا بعد أن لم يكن، فالمراد بالعلم هنا أيش؟ علم الشيء بعد كونه ووجوده؛ لأنه هو العلم الذي يترتب عليه الثواب والعقاب.
وقوله: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾ قلنا: الذين بذلوا جهدهم وطاقتهم في إعلاء كلمته، ﴿وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ (يعلم) معطوفة على (يعلم) السابقة، ولهذا جاءت مجزومة لكنها حركت بالكسر لالتقاء الساكنين، ﴿يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ أي الذين يصبرون على ما أصابهم، عندكم بالفتح؟ أنا ظننتها بالكسرة: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ﴾ هي بس مشكولة عندكم؟ لا بالفتح، نعم ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ كان فيها قراءة بالكسر، بالجزم عندك؟
* طالب: قوله: ﴿وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ العامة على فتح الميم، وفيها تخريجان، أشهرهما.
* الشيخ: بعده، بعد هذه، والثاني؟
* الطالب: هذه تمنوا.
* الشيخ: لا (...) قال: العامة، ضد العامة؟
* الطالب: العامة على فتح الميم، وفيها تخريجان:
أشهرهما أن الفعل منصوب، ثم النصب بـ(أن) مقدرة بعد الواو المقتضية للجمع، فهي كقولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، أي لا تجمع بينهما، وهو مذهب البصريين، أو بواو الصرف، وهو مذهب الكوفيين، يعنون أنه كان من حق هذا الفعل أن يعرب بإعراب ما قبله.
والثاني: أن فتحة لالتقاء الساكنين، والفعل مجزوم، فلما وقع بعده ساكن آخر احتيج إلى تحريك آخره، فكانت الفتحة أولى لأنها أخف، والإتباع بحركة اللام، كقراءة: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمَ اللَّهُ﴾ بفتح الميم. والأول هو الوجه، وقرأ الحسن وابن يعمر وغيرهما بكسر الميم عطفًا على (يعلم) المجزوم بـ(لما)، وقرأ عبد الوارث عن ابن عمرو وابن العلاء: ﴿وَيَعْلَمُ﴾ بالرفع.
* الشيخ: لكن القراءة ليست سبعية، القراءتان الأخريان ليست سبعية، إذن ﴿وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ بالفتح، ﴿وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ يعلم بالفتح، وهنا فيها ثلاثة أوجه في الإعراب: الوجه الأول: أن الواو واو المعية، كقولهم: (لا تأكل السمك وتشرب اللبن)، ولنقف على هذا المثال لننظر اختلاف المعنى باختلاف اللفظ، تقول: (لا تأكل السمك وتشربَ اللبن) فيكون لها معنى، وتقول: (لا تأكل السمك وتشربِ اللبن)، فيكون لها معنًى آخر غير الأول، وتقول: (لا تأكل السمك وتشربُ اللبن)، فيكون لها معنى غير الأول والثاني. فما معناها على وجه الأول؟
* طالب: واو المعية.
* الشيخ: إيه ويش معناها (لا تأكل السمك وتشربَ اللبن)؟
* الطالب: يعني السمك مع اللبن.
* الشيخ: يعني لا تجمع بينهما، فإن أكلت السمك على انفراد وشربت اللبن على انفراد فلا بأس. إذن يكون السمك واللبن مباحين، لكن المحرم الجمع بينهما.
طيب على الضم: (لا تأكل السمك وتشربُ اللبن)؟
* الطالب: فيه النهي عن أكل السمك وجواز شرب اللبن.
* الشيخ: إي نعم، وإباحة شرب اللبن. على الجزم؟
* الطالب: على الجزم أي: لا تأكل السمك ولا تشرب اللبن.
* الشيخ: يعني؟
* الطالب: يعني كل واحد ما في..
* الشيخ: كل واحد ممنوع، سواء جميعًا أو على انفراد.
﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ يعني مع علمه بالصابرين، والصبر هنا في هذا المقام يشمل الصبر بأنواعه الثلاثة؛ وذلك لأن الجهاد فيه صبر على طاعة الله، وفيه صبر عن معصية الله، وفيه صبر على الأقدار المؤلمة، أليس كذلك؟ ففيه الصبر على طاعة الله؛ لأن الإنسان يصبر نفسه ويحبسها، قال الله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة ٢١٦] فلا بد من أن يصبر الإنسان نفسه ويحبسها حتى يخرج في الجهاد، فيه صبر عن معصية الله، عن الفرار حين يتلاقى الصفان، فإن هذا يحتاج إلى صبر وتحمل؛ لأن صبر الإنسان قبل الدخول في المعركة قد يكون محتملًا، لكن بعد الدخول وإذا رأى السيوف أمام وجهه فإنه قد يفر، ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [الأنفال ١٦]. صبر على أقدار الله المؤلمة؛ لأن الجهاد لا يخلو من جراح ومن تعب ومن عناء ومشقة، ففيها أنواع الصبر الثلاثة: ﴿وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾.
* في هذه الآية الكريمة من الفوائد: أن التمني رأس مال المفاليس، يعني كون الإنسان يتمنى بدون أن يفعل السبب هذا خسران، رأس مال المفلس الذي لن يحصل شيئًا؛ لقوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾ إلى آخره [آل عمران: ١٤٢].
* وفيه من فوائدها: أن الجنة لا تدرَك بالتمني، كما قال بعض السلف؛ الحسن البصري رحمه الله: «ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي -ليس بالتمني بالقلب ولا بالتحلي بالمظهر- وإنما الإيمان ما وقر في القلب وصدقته الأعمال»[[أخرجه ابن أبي شيبة (٣٠٨٦٦) من حديث الحسن البصري.]].
* ومن فوائدها: أن الجنة غالية رخيصة، غالية لكون ثمنها غاليًا، لأنه بذل النفوس في طاعة الله، والجهاد لإعلاء كلمته، رخيصة لأن هذا الأمر على من سهله الله يسير جدًّا، ولهذا تجد الموفق يسابق إلى أن يكون ممن يكتب اسمه في الجهاد حتى يخرج فيجاهد في سبيل الله.
* ومن فوائدها: أن الله سبحانه وتعالى يمتحن العبد بما يدل على صبره أو ضجره؛ لقوله: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾.
* ومن فوائدها: أن جزاء الله، سواء كان عقوبة أو مثوبة لا بد أن يسبقه ما يمتحن فيه العبد؛ لقوله: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ﴾ فلا بد من امتحان أولًا ليُنظر.
* ومنها: أن علم الله عز وجل الأزلي لا يترتب عليه الثواب والعقاب، وإنما يترتب الثواب والعقاب على علم الله المقرون بالفعل الذي يكون علمًا بالشيء بعد وجوده.
* ومن فوائدها: أن الجهاد سبب لدخول الجنة؛ لقوله: ﴿وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾، ولا فرق بين الجهاد بالسلاح والجهاد بالعلم، كلاهما جهاد، بل قد تحتاج الأمة الإسلامية إلى جهاد العلم أكثر مما تحتاج إلى جهاد السلاح، وقد يكون بالعكس، وقد يستويان، ولكنه لا بد من وجودهما في الأمة الإسلامية، لا بد من وجود علماء، لا بد من وجود طلبة العلم، لا بد من وجود مسلحين يقاتلون الكفار بالسلاح؛ لأن الجهاد لا ينزل علمه إلى يوم القيامة، لا بد أن يكون قائمًا.
* ومن فوائد هذه الآية: أن الصبر سبب لدخول الجنة أيضًا؛ لقوله: ﴿وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾. واعلم أن الجزاء يكون على قدر العمل، فإذا كان ثواب الجهاد الجنة، وكذلك ثواب الصبر الجنة، دل على عظم مرتبتهما في دين الله عز وجل.
* ومن فوائدها: أن الصبر درجة عالية، لكنه يحتاج إلى مصبور عليه؛ لأن الصبر على ما يلائم الطبيعة ليس بصبر، ولهذا لا يقال للإنسان الذي وقف تحت الدش يصب عليه ماء باردًا في اليوم الحار لا يقال: إنه صابر، ليش؟ هذا يلائم طبيعته، هذا يلائم الطبيعة، الصبر لا بد له من شيء يعانيه الإنسان لا يلائم الطبيعة.
{"ayahs_start":141,"ayahs":["وَلِیُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَیَمۡحَقَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ","أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُوا۟ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا یَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ جَـٰهَدُوا۟ مِنكُمۡ وَیَعۡلَمَ ٱلصَّـٰبِرِینَ"],"ayah":"وَلِیُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَیَمۡحَقَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق