الباحث القرآني

﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الكهف: ٢٨] إلى آخره، ﴿اصْبِرْ نَفْسَكَ﴾ يعني: احبسها مع هؤلاء الذين يدعون الله دعاء مسألة ودعاء عبادة، ﴿بالغداة﴾ أول النهار، ﴿وَالْعَشِيِّ﴾ آخر النهار، مخلصين لله عز وجل ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ ولا يريدون شيئًا من الدنيا؛ يعني: أنهم يفعلون ذلك لله وحده لا لأحد سواه. وفي الآية إثبات الوجه لله عز وجل، وقد أجمع علماء أهل السنة على ثبوت الوجه لله تعالى؛ لدلالة الكتاب والسنة على ذلك، قال الله تعالى: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ [الرحمن ٢٧]، وقال النبي ﷺ: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٦٢٢٧)، ومسلم (٢٨٤١ / ٢٨) من حديث أبي هريرة.]]، وأجمع سلف الأمة وأئمتها على ثبوت الوجه لله. ولكن هل يكون هذا الوجه مماثلًا لأوجه المخلوقين؟ اسمعوا يا إخواني ولا سيما الجدد، لا يمكن أن يكون وجه الله مماثلًا لأوجه المخلوقين؛ لقول الله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى ١١]، وقوله تعالى: ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم ٦٥] أي: شبيهًا ونظيرًا، وقال الله تبارك وتعالى: ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة ٢٢]، وهكذا كل ما وصف الله به نفسه فالواجب علينا أن نجريه على ظاهره، لكن بدون تمثيل. فإن قال قائل: إذا أثبت لله وجهًا لزم من ذلك التمثيل، ونحمل قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ يعني: إلا فيما أثبته، كالوجه واليدين مثلًا؟ فالجواب: أن هذا مكابرة؛ لأننا نعلم حسًّا وعقلًا أن كل مضاف إلى شيء فإنه يناسب ذلك الشيء، أليس للإنسان وجه، وللجمل وجه، وللحصان وجه، وللفيل وجه، هل هذه الأوجه متفقة؟ لا، أبدًا، تناسب ما أضيفت إليه، بل إن الوقت والزمن له وجه، كما في قوله تعالى: ﴿آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ﴾ [آل عمران ٧٢]، ﴿وَجْهَ النَّهَارِ﴾ فأثبت للزمن وجهًا، هل يمكن لأحد أن يقول: وجه النهار مثل وجه الإنسان؟ لا يمكن. إذن ما أضافه الله لنفسه من الوجه لا يمكن أن يكون مماثلًا لأوجه المخلوقين؛ لأن كل صفة تناسب الموصوف. فإن قال قائل: إنه جاء في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٦٢٢٧)، ومسلم (٢٨٤١ / ٢٨) من حديث أبي هريرة.]]، فما الجواب؟ الجواب من أحد وجهين: إما أن يقال: على صورة الله، لكن لا يلزم من كونه على صورته أن يكون مماثلًا له، الدليل أن النبي ﷺ أخبر بأن «أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٢٤٥)، ومسلم (٢٨٣٤ / ١٧) من حديث أبي هريرة.]]، ونحن نعلم أنه ليس هناك مماثلة بين هؤلاء والقمر، لكن على صورته من حيث العموم؛ إضاءةً وابتهاجًا ونورًا. الوجه الثاني: أن يقال: على صورته؛ أي: على الصورة التي اختارها عز وجل، فإضافة صورة الآدمي إلى الله على سبيل التشريف والتعظيم، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ [البقرة ١١٤]، ومن المعلوم أن الله ليس يصلي في المساجد، لكن أضيفت إلى الله على سبيل أيش؟ التشريف والتعظيم؛ ولأنها إنما بنيت لطاعة الله، وكقول صالح لقومه: ﴿نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا﴾ [الشمس ١٣]، ومعلوم أن الله عز وجل ليست هذه الناقة له يركبها، لكن أضيفت إلى الله على سبيل التشريف والتعظيم، فيكون خلق آدم على صورته أو على صورة الرحمن؛ يعني: على الصورة التي اختارها من بين سائر المخلوقات. قال الله تعالى في سورة الانفطار: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ﴾ [الانفطار ٦، ٧] أي: جعلك ذا اعتدال، وهذا يشمل اعتدال القامة واعتدال الخلقة. ففهمنا الآن -والحمد لله- أن الله تعالى له وجه حقيقي وأنه لا يشبه أوجه المخلوقين. ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ وفي هذا إشارة إلى الإخلاص؛ لقوله: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾، فعليك أخي المسلم بالإخلاص حتى تنتفع بالعمل. ﴿وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ يعني: لا تعد عيناك عن هؤلاء السادة الكرام، ﴿تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ بل اجعل نظرك إليهم دائمًا وصحبتك لهم دائمًا، وفي قوله: ﴿تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ إشارة إلى أنه لو أن الرسول عليه الصلاة والسلام فارقهم لمصلحة دينية، فهل يدخل هذا في النهي أو لا؟ لا، النهي أن تترك أهل الخير للدنيا لا لمصلحة دينية. ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ ﴿لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا﴾ يعني: عن ذكره إيانا، أو عن الذكر الذي أنزلناه، فعلى الأول يكون المراد: أن الإنسان الذي يذكر الله بلسانه دون قلبه داخل في الآية، وعلى الثاني يكون المراد: الرجل الذي أغفل الله قلبه عن القرآن، فلم يرفع به رأسًا ولم ير في مخالفته بأسًا. ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ ولم يتبع الهدى، ﴿وَكَانَ أَمْرُهُ﴾ أي: شأنه، ﴿فُرُطًا﴾ أي: منفرطًا عليه، تمضي الأيام والليالي ولا يحس بشيء. * وفي هذه الآية: إشارة إلى أهمية حضور القلب عند ذكر الله، وأن الإنسان الذي يذكر الله بلسانه لا بقلبه تنزع البركة من أعماله وأوقاته حتى يكون أمره فرطًا عليه، تجده يبقى الساعات الطويلة وهو لم يحصِّل شيئًا، لكن لو كان قلبه مع الله لحصلت له البركة في جميع أعماله، ﴿وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب