الباحث القرآني

﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ﴾ أيِ احْبِسْها وثَبِّتْها، يُقالُ: صَبَرْتُ زَيْدًا؛ أيْ: حَبَسْتُهُ، وفي الحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ صَبْرِ الحَيَوانِ؛ أيْ: حَبْسِهِ لِلرَّمْيِ، واسْتِعْمالُ ذَلِكَ في الثَّباتِ عَلى الأمْرِ وتَحَمُّلِهُ تَوَسُّعٌ، ومِنهُ الصَّبْرُ بِمَعْناهُ المَعْرُوفِ، ولَمْ يُجْعَلْ هَذا مِنهُ لِتَعَدِّي هَذا ولُزُومِهِ ﴿مَعَ الَّذِينَ﴾ أيْ: مُصاحَبَةً مَعَ الَّذِينَ ﴿يَدْعُونَ رَبَّهم بِالغَداةِ والعَشِيِّ﴾ أيْ: يَعْبُدُونَهُ دائِمًا، وشاعَ اسْتِعْمالُ مِثْلِ هَذِهِ العِبارَةِ لِلدَّوامِ وهي نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: ضُرِبَ زَيْدٌ الظَّهْرَ والبَطْنَ، يُرِيدُونَ (p-262)بِهِ ضُرِبَ جَمِيعُ بَدَنِهِ، وأبْقى غَيْرُ واحِدٍ الغَداةَ والعَشِيَّ عَلى ظاهِرِهِما ولَمْ يُرِدْ عُمُومَ الأوْقاتِ؛ أيْ: يَعْبُدُونَهُ في طَرَفَيِ النَّهارِ، وخُصّا بِالذِّكْرِ لِأنَّهُما مَحَلُّ الغَفْلَةِ والِاشْتِغالِ بِالأُمُورِ، والمُرادُ بِتِلْكَ العِبادَةِ قِيلَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعالى، ورُوِيَ ذَلِكَ مِن طَرِيقِ مُغِيرَةَ عَنْ إبْراهِيمَ، وقِيلَ: قِراءَةُ القُرْآنِ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الخِيارِ، وأخْرَجَ الحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أنَّ المُرادَ بِها المُفاوَضَةُ في الحَلالِ والحَرامِ. وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ومُجاهِدٍ هي شُهُودُ الصَّلَواتِ الخَمْسِ، وعَنْ قَتادَةَ شُهُودُ صَلاةِ الصُّبْحِ والعَصْرِ، وفِيما تَقَدَّمَ ما يُؤَيِّدُ ثانِيَ الأقْوالِ وفِيما بَعْدُ ما يُؤَيِّدُ ظاهِرُهُ أوَّلَها فَتَدَبَّرْ جِدًّا، والمُرادُ بِالمَوْصُولِ فُقَراءُ الصَّحابَةِ؛ عَمّارٌ وصُهَيْبٌ وسَلْمانُ وابْنُ مَسْعُودٍ وبِلالٌ وأضْرابُهم قالَ كُفّارُ قُرَيْشٍ كَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وغَيْرِهِ مِن صَنادِيدِ أهْلِ مَكَّةَ: لَوْ أبْعَدْتَ هَؤُلاءِ عَنْ نَفْسِكَ لَجالَسْناكَ؛ فَإنَّ رِيحَ جِبابِهِمْ تُؤْذِينا فَنَزَلَتِ الآيَةُ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وأبُو نُعَيْمٍ في الحِلْيَةِ والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ عَنْ سَلْمانَ قالَ: «جاءَتِ المُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهم إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ والأقْرَعُ بْنُ حابِسٍ فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ جَلَسْتَ في صَدْرِ المَجْلِسِ وتَغَيَّبْتَ عَنْ هَؤُلاءِ وأرْواحِ جِبابِهِمْ، يَعْنُونَ سَلْمانَ وأبا ذَرٍّ وفُقَراءَ المُسْلِمِينَ، وكانَتْ عَلَيْهِمْ جِبابُ الصُّوفِ جالَسْناكَ أوْ حَدَّثْناكَ وأخَذْنا عَنْكَ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿واتْلُ ما أُوحِيَ إلَيْكَ مِن كِتابِ رَبِّكَ﴾ إلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿أعْتَدْنا لِلظّالِمِينَ نارًا﴾ يَتَهَدَّدُهم بِالنّارِ». ورَوى أبُو الشَّيْخِ عَنْ سَلْمانَ أنَّها «لَمّا نَزَلَتْ قامَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يَلْتَمِسُهم حَتّى أصابَهم في مُؤَخَّرِ المَسْجِدِ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعالى فَقالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتّى أمَرَنِي أنْ أُصَبِّرَ نَفْسِي مَعَ رِجالٍ مِن أُمَّتِي مَعَكُمُ الحَياةَ والمَماتَ». والآيَةُ عَلى هَذا مَدَنِيَّةٌ وعَلى الأوَّلِ مَكِّيَّةٌ، قالَ أبُو حَيّانَ: وهو أصَحُّ لِأنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وأقُولُ: أكْثَرُ الرِّواياتِ تُؤَيِّدُ الثّانِيَ، وعَلَيْهِ تَكُونُ الآياتُ مُسْتَثْناةً مِن حُكْمِ السُّورَةِ وكَمْ مِثْلُ ذَلِكَ، وقَدْ أخْرَجَ ما يُؤَيِّدُ الأوَّلَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن طَرِيقِ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحّاكِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، ولَعَلَّ الآياتِ بَعْدُ تُؤَيِّدُهُ أيْضًا، والتَّعْبِيرُ عَنْ أُولَئِكَ بِالمَوْصُولِ لِتَعْلِيلِ الأمْرِ بِما في حَيِّزِ الصِّلَةِ مِنَ الخَصْلَةِ الدّاعِيَةِ إلى إدامَةِ الصُّحْبَةِ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ «بِالغَدْوَةِ» وخُرِّجَ ذَلِكَ عَلى ما ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ والخَلِيلُ مِن أنَّ بَعْضَ العَرَبِ يُنَكِّرُ غَدْوَةً فَيَقُولُ: جاءَ زَيْدٌ غَدْوَةً بِالتَّنْوِينِ، عَلى أنَّ الرَّضِيَّ قالَ: إنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمالُها نَكِرَةً اتِّفاقًا، والمَشْهُورُ أنَّ الأكْثَرَ اسْتِعْمالُها عَلَمَ جِنْسٍ مَمْنُوعًا مِنَ الصَّرْفِ فَلا تَدْخُلُ عَلَيْها ألْ؛ لِأنَّهُ لا يَجْتَمِعُ في كَلِمَةٍ تَعْرِيفانِ، ومَتى أُرِيدَ إدْخالُها عَلَيْها قُصِدَ تَنْكِيرُها فَأُدْخِلَتْ كَما قُصِدَ تَنْكِيرُ العَلَمِ الشَّخْصِيِّ في قَوْلِهِ: ؎وقَدْ كانَ مِنهم صاحِبٌ وابْنُ عَمِّهِ أبُو جَنْدَلٍ والزَّيْدُ زَيْدُ المَعارِكِ والقِراءَةُ المَذْكُورَةُ مُخَرَّجَةٌ عَلى ذَلِكَ، واخْتارَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ التَّخْرِيجَ الأوَّلَ وقالَ: إنَّهُ أحْسَنُ دِرايَةً ورِوايَةً؛ لِأنَّ التَّنْكِيرَ في العَلَمِ الشَّخْصِيِّ ظاهِرٌ، وأمّا في الجِنْسِيِّ فَفِيهِ خَفاءٌ؛ لِأنَّهُ شائِعٌ في إفْرادِهِ قَبْلَ تَنْكِيرِهِ فَتَنْكِيرُهُ إنَّما يُتَصَوَّرُ بِتَرْكِ حُضُورِهِ في الذِّهْنِ الفارِقِ بَيْنَهُ وبَيْنَ النَّكِرَةِ، وهو خَفِيٌّ؛ فَلِذا أنْكَرَهُ الفَنارِيُّ في حَواشِيهِ عَلى التَّلْوِيحِ في تَنْكِيرِ رَجَبٍ عَلَمِ الشَّهْرِ انْتَهى، ولِلْبَحْثِ فِيهِ مَجالٌ. وهَذِهِ الآيَةُ كَما في البَحْرِ أبْلَغُ مِنَ الَّتِي في الأنْعامِ وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهم بِالغَداةِ والعَشِيِّ يُرِيدُونَ﴾ بِذَلِكَ الدُّعاءِ ﴿وجْهَهُ﴾ أيْ: رِضاهُ سُبْحانَهُ وتَعالى دُونَ الرِّياءِ والسُّمْعَةِ بِناءً عَلى ما قالَهُ الإمامُ السُّهَيْلِيُّ مِن أنَّ الوَجْهَ إذا أُضِيفَ إلَيْهِ تَعالى يُرادُ بِهِ الرِّضا والطّاعَةُ المَرْضِيَّةُ مَجازًا لِأنَّ مَن رَضِيَ (p-263)عَلى شَخْصٍ يُقْبِلُ عَلَيْهِ، ومَن غَضِبَ يُعْرِضُ عَنْهُ، وقِيلَ: المُرادُ بِالوَجْهِ الذّاتُ والكَلامُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ. وقِيلَ: هو بِمَعْنى التَّوَجُّهِ، والمَعْنى: يُرِيدُونَ التَّوَجُّهَ إلَيْهِ تَعالى والزُّلْفى لَدَيْهِ سُبْحانَهُ، والأوَّلُ أوْلى، والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ الحالِ مِن فاعِلِ «يَدْعُونَ» أيْ: يَدْعُونَ مُرِيدِينَ ذَلِكَ. ﴿ولا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ﴾ أيْ: لا تَصْرِفْ عَيْناكَ النَّظَرَ عَنْهم إلى أبْناءِ الدُّنْيا، والمُرادُ النَّهْيُ عَنِ احْتِقارِهِمْ وصَرْفِ النَّظَرِ عَنْهم لِرَثاثَةِ حالِهِمْ إلى غَيْرِهِمْ فَعَدا بِمَعْنى صَرَفَ المُتَعَدِّي إلى مَفْعُولٍ بِنَفْسِهِ وإلى آخَرَ بِعَنْ، قالَ في القامُوسِ يُقالُ: عَداهُ عَنِ الأمْرِ عَدُوًّا وعُدْوانًا صَرَفَهُ، واخْتارَ هَذا أبُو حَيّانَ وهو الَّذِي قَدَّرَ المَفْعُولَ كَما سَمِعْتَ، وقَدْ تَتَعَدّى عَدا إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ بِعْنَ كَما تَتَعَدّى إلَيْهِ بِنَفْسِها فَتَكُونُ بِمَعْنى جاوَزَ وتَرَكَ؛ قالَ في القامُوسِ: يُقالُ: عَدا الأمْرَ وعَنْهُ جاوَزَهُ وتَرَكَهُ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ مَعْنى الآيَةِ عَلى ذَلِكَ كَأنَّهُ قِيلَ: لا تَتْرُكْهم عَيْناكَ، وقِيلَ: إنَّ عَدا حَقِيقَةُ مَعْناهُ تَجاوَزَ كَما صَرَّحَ بِهِ الرّاغِبُ، والتَّجاوُزُ لا يَتَعَدّى بِعَنْ إلّا إذا كانَ بِمَعْنى العَفْوِ كَما صَرَّحُوا بِهِ أيْضًا وهو هُنا غَيْرُ مُرادٍ؛ فَلا بُدَّ مِن تَضْمِينِ عَدا مَعْنى نَبا وعَلا في قَوْلِكَ: نَبَتْ عَنْهُ عَيْنُهُ، وعَلَتْ عَنْهُ عَيْنُهُ، إذا اقْتَحَمَتْهُ ولَمْ تَعْلَقْ بِهِ، وهو الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ ثُمَّ قالَ: لَمْ يَقِلْ: ولا تَعْدُهم عَيْناكَ أوْ ولا تَعْلُ عَيْناكَ عَنْهم وارْتَكَبَ التَّضْمِينَ لِيُعْطِيَ الكَلامَ مَجْمُوعَ مَعْنَيَيْنِ؛ وذَلِكَ أقْوى مِن إعْطاءِ مَعْنًى فَذٍّ، ألا تَرى كَيْفَ رَجَعَ المَعْنى إلى قَوْلِكَ: ولا تُقْحِمْهم عَيْناكَ مُجاوِزَتَيْنِ إلى غَيْرِهِمْ، وتَعَقَّبَهُ أبُو حَيّانَ بِأنَّ التَّضْمِينَ لا يَنْقاسُ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، وإنَّما يُذْهَبُ إلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، أمّا إذا أمْكَنَ إجْراءُ اللَّفْظِ عَلى مَدْلُولِهِ الوَضْعِيِّ فَإنَّهُ يَكُونُ أوْلى، واعْتُرِضَ أيْضًا ما قِيلَ: بِأنَّهُ لا يَلْزَمُ مِنَ اتِّحادِ الفِعْلَيْنِ في المَعْنى اتِّحادُهُما في التَّعْدِيَةِ فَلا يَلْزَمُ مِن كَوْنِ عَدا بِمَعْنى تَجاوَزَ أنْ يَتَعَدّى كَما يَتَعَدّى لِيُقالَ: إنَّ التَّجاوُزَ لا يَتَعَدّى بِعَنْ إلّا إذا كانَ بِمَعْنى العَفْوِ وهو غَيْرُ مُرادٍ، فَلا بُدَّ مِن تَضْمِينِ عَدا مَعْنى فِعْلٍ مُتَعَدٍّ بِعَنْ، ويَكْفِي كَلامُ القامُوسِ مُسْتَنَدًا لِمَن خالَفَ الزَّمَخْشَرِيَّ فَتَدَبَّرْ ولا تَغْفُلْ. وقَرَأ الحَسَنُ: «ولا تُعْدِ عَيْنَيْكَ» بِضَمِّ التّاءِ وسُكُونِ العَيْنِ وكَسْرِ الدّالِ المُخَفَّفَةِ مِن أعْداهُ، ونَصْبِ العَيْنَيْنِ، وعَنْهُ وعَنْ عِيسى والأعْمَشِ أنَّهم قَرَءُوا: «ولا تُعَدِّ عَيْنَيْكَ» بِضَمِّ التّاءِ وفَتْحِ العَيْنِ وتَشْدِيدِ الدّالِ المَكْسُورَةِ مِن عَدّاهُ يُعَدِّيهِ ونَصْبِ العَيْنَيْنِ أيْضًا، وجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وصاحِبُ اللَّوامِحِ الهَمْزَةَ والتَّضْعِيفَ لِلتَّعْدِيَةِ. وتَعَقَّبَ ذَلِكَ في البَحْرِ بِأنَّهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ بَلِ الهَمْزَةُ والتَّضْعِيفُ في هَذِهِ الكَلِمَةِ لِمُوافَقَةِ أفْعَلَ وفَعَّلَ لِلْفِعْلِ المُجَرَّدِ وذَلِكَ لِأنَّهُ قَدْ أقَرَّ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأنَّها قَبْلَ ذَيْنِكَ الأمْرَيْنِ مُتَعَدِّيَةٌ بِنَفْسِها إلى واحِدٍ، وعُدِّيَتْ بِعَنْ لِلتَّضْمِينِ، فَمَتى كانَ الأمْرانِ لِلتَّعْدِيَةِ لَزِمَ أنْ تَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ مَعَ أنَّها لَمْ تَتَعَدَّ في القِراءَتَيْنِ المَذْكُورَتَيْنِ إلَيْهِما. ﴿تُرِيدُ زِينَةَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ أيْ: تَطْلُبُ مُجالَسَةَ مَن لَمْ يَكُنْ مِثْلَهم مِنَ الأغْنِياءِ وأصْحابِ الدُّنْيا، والجُمْلَةُ عَلى القِراءَةِ المُتَواتِرَةِ حالٌ مِن كافِ ﴿عَيْناكَ﴾ وجازَتِ الحالُ مِنهُ لِأنَّهُ جُزْءُ المُضافِ إلَيْهِ، والعامِلُ عَلى ما قِيلَ مَعْنى الإضافَةِ ولَيْسَ بِشَيْءٍ. وقالَ في الكَشْفِ: العامِلُ الفِعْلُ السّابِقُ كَما تَقَرَّرَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿بَلْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا﴾ ولَكَ أنْ تَقُولَ: هاهُنا خاصَّةً العَيْنُ مُقْحِمَةٌ لِلتَّأْكِيدِ ولا يَبْعُدُ أنْ يُجْعَلَ حالًا مِنَ الفاعِلِ، وتَوْحِيدُ الضَّمِيرِ إمّا لِاتِّحادِ الإحْساسِ أوْ لِلتَّنْبِيهِ عَلى مَكانِ الإقْحامِ أوْ لِلِاكْتِفاءِ بِأحَدِهِما عَنِ الآخَرِ أوْ لِأنَّهُما عُضْوٌ واحِدٌ في الحَقِيقَةِ، واسْتِبْشاعُ إسْنادِ الإرادَةِ إلى العَيْنِ مُنْدَفِعٌ بِأنَّ إرادَتَها كِنايَةٌ عَنْ إرادَةِ صاحِبِها، ألا تَرى إلى ما شاعَ مِن نَحْوِ قَوْلِهِمْ: (p-264)يَسْتَلِذُّهُ العَيْنُ أوِ السَّمْعُ، وإنَّما المُسْتَلِذُّ الشَّخْصُ عَلى أنَّ الإرادَةَ يُمْكِنُ جَعْلُها مَجازًا عَنِ النَّظَرِ لِلَّهْوِ لا لِلْعِبَرِ اه. ولا يَخْفى أنَّ فِيهِ عُدُولًا عَنِ الظّاهِرِ مِن غَيْرِ داعٍ، وقَوْلُ بَعْضِهِمْ: إنَّهُ لا يَجُوزُ مَجِيءُ الحالِ مِنَ المُضافِ إلَيْهِ في مِثْلِ هَذا المَوْضِعِ لِاخْتِلافِ العامِلِ في الحالِ وذِيها لا يَصْلُحُ داعِيًا لِظُهُورِ ضَعْفِهِ، ثُمَّ الظّاهِرُ أنَّهُ لا فَرْقَ في جَوازِ كَوْنِ الجُمْلَةِ حالًا مِنَ المُضافِ إلَيْهِ، أوِ المُضافُ عَلى تَقْدِيرِ أنْ يُفَسَّرَ ﴿تَعْدُ﴾ بِتَجاوُزٍ، وتَقْدِيرِ أنْ تُفَسَّرَ بِتَصَرُّفٍ. وخَصَّ بَعْضُهم كَوْنَها حالًا مِنَ المُضافِ إلَيْهِ عَلى التَّقْدِيرِ الأوَّلِ وكَوْنِها حالًا مِنَ المُضافِ عَلى التَّقْدِيرِ الثّانِي ولَعَلَّهُ أمْرٌ اسْتِحْسانِيٌّ، وذَلِكَ لِأنَّ في أوَّلِ الكَلامِ عَلى التَّقْدِيرِ الثّانِي إسْنادُ ما هو مِنَ الأفْعالِ الِاخْتِيارِيَّةِ لَيْسَ إلّا وهو الصَّرْفُ إلى العَيْنِ فَناسَبَ إسْنادُ الإرادَةِ إلَيْها في آخِرِهِ لِيَكُونَ أوَّلُ الكَلامِ وآخِرُهُ عَلى طَرْزٍ واحِدٍ مَعَ رِعايَةِ ما هو الأكْثَرُ في أحْوالِ الأحْوالِ مِن مَجِيئِها مِنَ المُضافِ دُونَ المُضافِ إلَيْهِ، وتَضَمَّنَ ذَلِكَ عَدَمَ مُواجَهَةِ الحَبِيبِ ﷺ بِإسْنادِ إرادَةِ الحَياةِ الدُّنْيا إلَيْهِ صَرِيحًا وإنْ كانَتْ مَصَبَّ النَّهْيِ، ولَيْسَ في أوَّلِ الكَلامِ ذَلِكَ عَلى التَّقْدِيرِ الأوَّلِ؛ إذِ الظّاهِرُ أنَّ التَّجاوُزَ لَيْسَ مِنَ الأفْعالِ الِاخْتِيارِيَّةِ لا غَيْرُ، بَلْ يَتَّصِفُ بِهِ المُخْتارُ وغَيْرُهُ، مَعَ أنَّ في جَعْلِ الجُمْلَةِ حالًا مِنَ الفاعِلِ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ مَعَ قَوْلِ بَعْضِ المُحَقِّقِينَ؛ إنَّ المُتَجاوِزَ في الحَقِيقَةِ هو النَّظَرُ احْتِياجًا إلى اعْتِبارِ الشَّيْءِ وتَرْكِهِ في كَلامٍ واحِدٍ، ولَيْسَ لَكَ أنْ تَجْعَلَهُ اسْتِخْدامًا بِأنْ تُرِيدَ مِنَ العَيْنَيْنِ أوَّلًا النَّظَرَ مَجازًا وتُرِيدُ عِنْدَ عَوْدِ ضَمِيرِ ﴿تُرِيدُ﴾ مِنهُما الحَقِيقَةَ لِأنَّ التَّثْنِيَةَ تَأْبى ذَلِكَ، وإنِ اعْتُبِرَ ذَلِكَ أوَّلًا وآخِرًا ولَمْ يُتْرَكْ احْتِيجَ إلى مُؤَنٍ لا تَخْفى عَلى المُتَأمِّلِ فَتَأمَّلْ وتَدَبَّرْ، وهي عَلى القِراءَتَيْنِ الشّاذَّتَيْنِ حالٌ مِن فاعِلِ الفِعْلِ المُسْتَتِرِ؛ أيْ: لا تَعْدُ أوْ لا تُعَدِّ عَيْنَيْكَ عَنْهم مُرِيدًا ذَلِكَ. ﴿ولا تُطِعْ﴾ في تَنْحِيَةِ الفُقَراءِ عَنْ مَجْلِسِكَ ﴿مَن أغْفَلْنا قَلْبَهُ﴾ أيْ: جَعَلْنا قَلْبَهُ غافِلًا ﴿عَنْ ذِكْرِنا﴾ لِبُطْلانِ اسْتِعْدادِهِ لِلذِّكْرِ بِالمَرَّةِ؛ كَأُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَكَ إلى طَرْدِ الفُقَراءِ فَإنَّهم غافِلُونَ عَنْ ذِكْرِنا عَلى خِلافِ ما عَلَيْهِ أُولَئِكَ الفُقَراءُ مِنَ الدُّعاءِ في الغَداةِ والعَشِيِّ، وفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ الباعِثَ لَهم إلى اسْتِدْعاءِ الطَّرْدِ غَفْلَةُ قُلُوبِهِمْ عَنْ جَنابِ اللَّهِ تَعالى شَأْنُهُ ومُلاحَظَةِ المَعْقُولاتِ وانْهِماكِهِ في الحِسِّيّاتِ حَتّى خَفِيَ عَلَيْهِ أنَّ الشَّرَفَ بِحِلْيَةِ النَّفْسِ لا بِزِينَةِ الجَسَدِ. ومَعْنى الذِّكْرِ ظاهِرٌ، وفَسَّرَهُ المُفَضَّلُ بِالقُرْآنِ. والآيَةُ ظاهِرَةٌ في مَذْهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ، وأوَّلَها المُعْتَزِلَةُ فَقِيلَ: المُرادُ أغْفَلْنا قَلْبَهُ بِالخِذْلانِ وهَذا هو التَّأْوِيلُ المَشْهُورُ عِنْدَهم في أمْثالِ ذَلِكَ، وحالُهُ مَعْلُومٌ عِنْدَكَ، وقِيلَ: المُرادُ صادَفْناهُ غافِلًا كَما في قَوْلِهِمْ: سَألْناكم فَما أفْحَمْناكم وقاتَلْناكم فَما أجَبْناكم. وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ لا يَنْبَغِي أنْ يُتَجَرَّأ عَلى تَفْسِيرِ فِعْلٍ أسْنَدَهُ اللَّهُ تَعالى إلَيْهِ بِالمُصادَفَةِ الَّتِي تُفْهِمُ وِجْدانَ الشَّيْءِ بَغْتَةً عَنْ جَهْلٍ سابِقٍ وعَدَمِ عِلْمٍ، وقِيلَ: المُرادُ: نَسَبْناهُ إلى الغَفْلَةِ كَما في قَوْلِ الكُمَيْتِ: ؎وطائِفَةٌ قَدْ أكْفَرُونِي بِحُبِّكم ∗∗∗ وطائِفَةٌ قالُوا مُسِيءٌ ومُذْنِبُ وهُوَ كَما تَرى، وقالَ الرُّمّانِيُّ: المُرادُ: لَمْ نَسِمْ قَلْبَهُ بِالذِّكْرِ ولَمْ نَجْعَلْهُ مِنَ القُلُوبِ الَّتِي كَتَبْنا فِيها الإيمانَ كَقُلُوبِ المُؤْمِنِينَ مِن قَوْلِهِمْ: أغْفَلَ فُلانٌ إبِلَهُ إذا تَرَكَها غُفْلًا مِن غَيْرِ سِمَةٍ وعَلامَةٍ بِكَيٍّ ونَحْوِهِ، ومِنهُ إغْفالُ الخَطِّ لِعَدَمِ إعْجامِهِ فالإغْفالُ المَذْكُورُ اسْتِعارَةٌ لِجَعْلِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعالى الدّالِّ عَلى الإيمانِ بِهِ كالسِّمَةِ لِأنَّهُ عَلامَةٌ لِلسَّعادَةِ كَما (p-265)جُعِلَ ثُبُوتُ الإيمانِ في القَلْبِ بِمَنزِلَةِ الكِتابَةِ، وهو تَأْوِيلٌ رَقِيقُ الحاشِيَةِ لَطِيفُ المَعْنى وإنْ كانَ خِلافَ الظّاهِرِ؛ فَهو مِمّا لا بَأْسَ بِهِ لِمَن لَمْ يَكُنْ غَرَضُهُ مِنهُ الهَرَبَ مِن مَذْهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ، واحْتَجَّ بَعْضُهم عَلى أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ ظاهِرَ الآيَةِ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿واتَّبَعَ هَواهُ﴾ في طَلَبِ الشَّهَواتِ حَيْثُ أسْنَدَ اتِّباعَ الهَوى إلى العَبْدِ فَيَدُلُّ عَلى أنَّهُ فِعْلُهُ لا فِعْلُ اللَّهِ تَعالى، ولَوْ كانَ ذَلِكَ فِعْلَ اللَّهِ سُبْحانَهُ والإسْنادُ مَجازِيٌّ لَقِيلَ: فاتَّبَعَ بِالفاءِ السَّبَبِيَّةِ؛ لِتَفَرُّعِهِ عَلَيْهِ. وأُجِيبَ بِأنَّ فِعْلَ العَبْدِ لِكَوْنِهِ بِكَسْبِهِ وقُدْرَتِهِ، وخَلْقُ اللَّهِ تَعالى يَجُوزُ إسْنادُهُ إلَيْهِ بِالِاعْتِبارِ الأوَّلِ وإلى اللَّهِ تَعالى بِالثّانِي، والتَّنْصِيصُ عَلى التَّفْرِيعِ لَيْسَ بِلازِمٍ؛ فَقَدْ يُتْرَكُ لِنُكْتَةٍ كالقَصْدِ إلى الإخْبارِ بِهِ اسْتِقْلالًا؛ لِأنَّهُ أدْخَلُ في الذَّمِّ وتَفْوِيضًا إلى السّامِعِ في فَهْمِهِ ولا حاجَةَ إلى تَقْدِيرِ: فَقِيلَ: واتَّبَعَ هَواهُ. وقَرَأ عُمَرُ بْنُ فائِدٍ ومُوسى الأسْوارِيُّ وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: «أغْفَلَنا» بِفَتْحِ الفاءِ واللّامِ «قَلْبُهُ» بِالرَّفْعِ عَلى أنَّهُ فاعِلُ أغْفَلَنا، وهو عَلى هَذِهِ القِراءَةِ مِن أغْفَلَهُ إذا وجَدَهُ غافِلًا، والمُرادُ ظَنَنّا وحَسَبَنا غافِلِينَ عَنْ ذِكْرِنا لَهُ ولِصَنِيعِهِ بِالمُؤاخَذَةِ بِجَعْلِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعالى لَهُ كِنايَةً عَنْ مَجازاتِهِ سُبْحانَهُ، واسْتُشْكِلَ النَّهْيُ عَنْ إطاعَةِ أُولَئِكَ الغافِلِينَ في طَرْدِ أُولَئِكَ المُؤْمِنِينَ بِأنَّهُ ورَدَ أنَّهم أرادُوا طَرْدَهم لِيُؤْمِنُوا فَكانَ يَنْبَغِي تَحْصِيلُ إيمانِهِمْ بِذَلِكَ، وغايَةُ ما يَلْزَمُ تَرَتُّبُ نَفْعٍ كَثِيرٍ وهو إيمانُ أُولَئِكَ الكَفَرَةِ عَلى ضَرَرٍ قَلِيلٍ وهو سُقُوطُ حُرْمَةِ أُولَئِكَ البَرَرَةِ وفي عَدَمِ طَرْدِهِمْ لَزِمَ تَرَتُّبُ ضَرَرٍ عَظِيمٍ وهو بَقاءُ أُولَئِكَ الكَفَرَةِ عَلى كُفْرِهِمْ عَلى نَفْعٍ قَلِيلٍ. ومِن قَواعِدِ الشَّرْعِ المُقَرَّرَةِ: تُدْفَعُ المَفْسَدَةُ الكُبْرى بِالمَفْسَدَةِ الصُّغْرى، وأُجِيبَ بِأنَّهُ سُبْحانَهُ عَلِمَ أنَّ أُولَئِكَ الكَفَرَةَ لا يُؤْمِنُونَ إيمانًا حَقِيقِيًّا بَلْ إنْ يُؤْمِنُوا يُؤْمِنُوا إيمانًا ظاهِرِيًّا، ومِثْلُهُ لا يُرْتَكَبُ لَهُ إسْقاطُ حُرْمَةِ أُولَئِكَ الفُقَراءِ الأبْرارِ؛ فَلِذا جاءَ النَّهْيُ عَنِ الإطاعَةِ. وقَدْ يُقالُ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعالى قَدْ عَلِمَ أنَّ طَرْدَ أُولَئِكَ الفُقَراءِ السّابِقِينَ إلى الإيمانِ المُنْقَطِعِينَ لِعِبادَةِ الرَّحْمَنِ وكَسْرِ قُلُوبِهِمْ وإسْقاطِ حُرْمَتِهِمْ لِجَلْبِ الأغْنِياءِ وتَطْيِيبِ خَواطِرِهِمْ يُوجِبُ نُفْرَةَ القُلُوبِ وإساءَةَ الظَّنِّ بِرَسُولِهِ ﷺ فَرُبَّما يَرْتَدُّ مَن هو قَرِيبُ عَهْدٍ بِإسْلامٍ ويَقِلُّ الدّاخِلُونَ في دِينِهِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وذَلِكَ ضَرَرٌ عَظِيمٌ فَوْقَ ضَرَرِ بَقاءِ شِرْذِمَةٍ مِنَ الكُفّارِ عَلى الكُفْرِ؛ فَلِذا نَهى جَلَّ وعَلا عَنْ إطاعَةِ مَن أغْفَلَ قَلْبَهُ واتَّبَعَ هَواهُ ﴿وكانَ أمْرُهُ﴾ في اتِّباعِ الهَوى وتَرْكِ الإيمانِ ﴿فُرُطًا﴾ أيْ: ضَياعًا وهَلاكًا، قالَهُ مُجاهِدٌ، أوْ مُتَقَدِّمًا عَلى الحَقِّ والصَّوابِ نابِذًا لَهُ وراءَ ظَهْرِهِ مِن قَوْلِهِمْ: فَرَسٌ فُرُطٌ أيْ: مُتَقَدِّمٌ لِلْخَيْلِ وهو في مَعْنى ما قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ مُخالِفًا لِلْحَقِّ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الفَرَطُ بِمَعْنى التَّفْرِيطِ والتَّضْيِيعِ؛ أيْ: كانَ أمْرُهُ الَّذِي يَجِبُ أنْ يَلْزَمَ ويَهْتَمَّ بِهِ مِنَ الدِّينِ تَفْرِيطًا، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى الإفْراطِ والإسْرافِ؛ أيْ: كانَ أمْرُهُ وهَواهُ الَّذِي هو سَبِيلُهُ إفْراطًا وإسْرافًا، وبِالإسْرافِ فَسَّرَهُ مُقاتِلٌ، والتَّعْبِيرُ عَنْ صَنادِيدِ قُرَيْشٍ المُسْتَدْعِينَ طَرْدَ فُقَراءِ المُؤْمِنِينَ بِالمَوْصُولِ لِلْإيذانِ بِعِلِّيَّةِ ما في حَيِّزِ الصِّلَةِ لِلنَّهْيِ عَنِ الإطاعَةِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب