الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واتْلُ ما أُوحِيَ إلَيْكَ مِن كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ ولَنْ تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا﴾ اعْلَمْ أنَّ مِن هَذِهِ الآيَةِ إلى قِصَّةِ مُوسى والخَضِرِ كَلامٌ واحِدٌ في قِصَّةٍ واحِدَةٍ، وذَلِكَ أنَّ أكابِرَ كُفّارِ قُرَيْشٍ احْتَجُّوا، وقالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ -ﷺ-: إنْ أرَدْتَ أنْ نُؤْمِنَ بِكَ فاطْرُدْ مِن عِنْدِكَ هَؤُلاءِ الفُقَراءَ الَّذِينَ آمَنُوا بِكَ، واللَّهُ تَعالى نَهاهُ عَنْ ذَلِكَ ومَنَعَهُ عَنْهُ، وأطْنَبَ في جُمْلَةِ هَذِهِ الآياتِ في بَيانِ أنَّ الَّذِي اقْتَرَحُوهُ والتَمَسُوهُ مَطْلُوبٌ فاسِدٌ واقْتِراحٌ باطِلٌ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى جَعَلَ الأصْلَ في هَذا البابِ شَيْئًا واحِدًا، وهو أنْ يُواظِبَ عَلى تِلاوَةِ الكِتابِ الَّذِي أوْحاهُ اللَّهُ إلَيْهِ وعَلى العَمَلِ بِهِ وأنْ لا يَلْتَفِتَ إلى اقْتِراحِ المُقْتَرِحِينَ وتَعَنُّتِ المُتَعَنِّتِينَ، فَقالَ: ﴿واتْلُ ما أُوحِيَ إلَيْكَ مِن كِتابِ رَبِّكَ﴾ وفي الآيَةِ مَسْألَةٌ وهي: إنَّ قَوْلَهُ: (اتْلُ) يَتَناوَلُ القِراءَةَ ويَتَناوَلُ الِاتِّباعَ، فَيَكُونُ المَعْنى: الزَمْ قِراءَةَ الكِتابِ الَّذِي أُوحِيَ إلَيْكَ والزَمِ العَمَلَ بِهِ، ثُمَّ قالَ: ﴿لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ﴾ أيْ يَمْتَنِعُ تَطَرُّقُ التَّغْيِيرِ والتَّبْدِيلِ إلَيْهِ، وهَذِهِ الآيَةُ يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِها في إثْباتِ أنَّ تَخْصِيصَ النَّصِّ بِالقِياسِ غَيْرُ جائِزٍ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿واتْلُ ما أُوحِيَ إلَيْكَ مِن كِتابِ رَبِّكَ﴾ مَعْناهُ: الزَمِ العَمَلَ بِمُقْتَضى هَذا الكِتابِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ العَمَلِ بِمُقْتَضى ظاهِرِهِ، (p-٩٨)فَإنْ قِيلَ: فَيَجِبُ ألّا يَتَطَرَّقَ النَّسْخُ إلَيْهِ، قُلْنا: هَذا هو مَذْهَبُ أبِي مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيِّ فَلَيْسَ يَبْعُدُ، وأيْضًا فالنَّسْخُ في الحَقِيقَةِ لَيْسَ بِتَبْدِيلٍ؛ لِأنَّ المَنسُوخَ ثابِتٌ في وقْتِهِ إلى وقْتِ طَرَيانِ النّاسِخِ، فالنّاسِخُ كالغايَةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ تَبْدِيلًا ؟ أمّا قَوْلُهُ: ﴿ولَنْ تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا﴾ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ المُلْتَحَدَ هو المَلْجَأُ، قالَ أهْلُ اللُّغَةِ: هو مِن لَحَدَ وألْحَدَ إذا مالَ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ﴾ (النَّحْلِ: ١٠٣) والمُلْحِدُ المائِلُ عَنِ الدِّينِ، والمَعْنى: ولَنْ تَجِدَ مِن دُونِهِ مَلْجَأً في البَيانِ والرَّشادِ. ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهم بِالغَداةِ والعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهم تُرِيدُ زِينَةَ الحَياةِ الدُّنْيا ولا تُطِعْ مَن أغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا واتَّبَعَ هَواهُ وكانَ أمْرُهُ فُرُطًا﴾ اعْلَمْ أنَّ أكابِرَ قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا، وقالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ -ﷺ-: إنْ أرَدْتَ أنْ نُؤْمِنَ بِكَ فاطْرُدْ هَؤُلاءِ الفُقَراءَ مِن عِنْدِكَ، فَإذا حَضَرْنا لَمْ يَحْضُرُوا، وتُعَيِّنُ لَهم وقْتًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ عِنْدَكَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ (الأنْعامِ: ٥٢) الآيَةَ، فَبَيَّنَ فِيها أنَّهُ لا يَجُوزُ طَرْدُهم بَلْ تُجالِسُهم وتُوافِقُهم وتُعَظِّمُ شَأْنَهم، ولا تَلْتَفِتُ إلى أقْوالِ أُولَئِكَ الكُفّارِ ولا تُقِيمُ لَهم في نَظَرِكَ وزْنًا سَواءٌ غابُوا أوْ حَضَرُوا، وهَذِهِ القِصَّةُ مُنْقَطِعَةٌ عَمّا قَبْلَها وكَلامٌ مُبْتَدَأٌ مُسْتَقِلٌّ، ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ قَدْ سَبَقَ في سُورَةِ الأنْعامِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿ولا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهم بِالغَداةِ والعَشِيِّ﴾ (الأنْعامِ: ٥٢) فَفي تِلْكَ الآيَةِ نُهِيَ الرَّسُولُ -ﷺ- عَنْ طَرْدِهِمْ وفي هَذِهِ الآيَةِ أمَرَهُ بِمُجالَسَتِهِمْ والمُصابَرَةِ مَعَهم، فَقَوْلُهُ: ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ﴾ أصْلُ الصَّبْرِ الحَبْسُ، ومِنهُ نَهى رَسُولُ اللَّهِ -ﷺ- عَنِ المَصْبُورَةِ، وهي البَهِيمَةُ تُحْبَسُ فَتُرْمى، أمّا قَوْلُهُ: ﴿مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهم بِالغَداةِ والعَشِيِّ﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ ابْنُ عامِرٍ بِالغُدْوَةِ بِضَمِّ الغَيْنِ، والباقُونَ بِالغَداةِ، وكِلاهُما لُغَةٌ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في قَوْلِهِ: ﴿بِالغَداةِ والعَشِيِّ﴾ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: المُرادُ كَوْنُهم مُواظِبِينَ عَلى هَذا العَمَلِ في كُلِّ الأوْقاتِ، كَقَوْلِ القائِلِ: لَيْسَ لِفُلانٍ عَمَلٌ بِالغَداةِ والعَشِيِّ إلّا شَتْمَ النّاسِ. الثّانِي: أنَّ المُرادَ صَلاةُ الفَجْرِ والعَصْرِ. الثّالِثُ: المُرادُ أنَّ الغَداةَ هي الوَقْتُ الَّذِي يَنْتَقِلُ الإنْسانُ فِيهِ مِنَ النَّوْمِ إلى اليَقَظَةِ، وهَذا الِانْتِقالُ شَبِيهٌ بِالِانْتِقالِ مِنَ المَوْتِ إلى الحَياةِ، والعَشِيُّ هو الوَقْتُ الَّذِي يَنْتَقِلُ الإنْسانُ فِيهِ مِنَ اليَقَظَةِ إلى النَّوْمِ ومِنَ الحَياةِ إلى المَوْتِ، والإنْسانُ العاقِلُ يَكُونُ في هَذَيْنِ الوَقْتَيْنِ كَثِيرَ الذِّكْرِ لِلَّهِ عَظِيمَ الشُّكْرِ لِآلاءِ اللَّهِ ونَعْمائِهِ، ثُمَّ قالَ: ﴿ولا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ﴾ يُقالُ: عَداهُ إذا جاوَزَهُ ومِنهُ قَوْلُهم: عَدا طَوْرَهُ وجاءَ القَوْمُ عَدا زَيْدًا، وإنَّما عُدِّيَ بِلَفْظَةِ عَنْ؛ لِأنَّها تُفِيدُ المُباعَدَةَ، فَكَأنَّهُ تَعالى نَهى عَنْ تِلْكَ المُباعَدَةِ، وقُرِئَ: (ولا تُعَدِّ عَيْنَيْكَ) ولا تُعَدِّ عَيْنَيْكَ مِن أعْداهُ وعَدّاهُ نَقْلًا بِالهَمْزَةِ وتَثْقِيلِ الحَشْوِ، ومِنهُ قَوْلُهُ شِعْرًا: ؎فَعَدِّ عَمّا تَرى إذْ لا ارْتِجاعَ لَهُ والمَقْصُودُ مِنَ الآيَةِ: أنَّهُ تَعالى نَهى رَسُولَ اللَّهِ -ﷺ- عَنْ أنْ يَزْدَرِيَ فُقَراءَ المُؤْمِنِينَ وأنْ تَنْبُوَ عَيْناهُ عَنْهم، لِأجْلِ رَغْبَتِهِ في مُجالَسَةِ الأغْنِياءِ وحُسْنِ صُورَتِهِمْ، وقَوْلِهِ: ﴿تُرِيدُ زِينَةَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ نُصِبَ في مَوْضِعِ الحالِ، يَعْنِي: أنَّكَ (إنْ) فَعَلْتَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إقْدامُكَ عَلَيْهِ إلّا لِرَغْبَتِكَ في زِينَةِ الحَياةِ الدُّنْيا * * * ولَمّا بالَغَ في أمْرِهِ بِمُجالَسَةِ الفُقَراءِ مِنَ المُسْلِمِينَ بالَغَ في النَّهْيِ عَنِ الِالتِفاتِ إلى أقْوالِ الأغْنِياءِ والمُتَكَبِّرِينَ، فَقالَ: ﴿ولا تُطِعْ مَن أغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا واتَّبَعَ هَواهُ وكانَ أمْرُهُ فُرُطًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: (p-٩٩)المَسْألَةُ الأُولى: احْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّهُ تَعالى هو الَّذِي يَخْلُقُ الجَهْلَ والغَفْلَةَ في قُلُوبِ الجُهّالِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿أغْفَلْنا﴾ يَدُلُّ عَلى هَذا المَعْنى، قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: المُرادُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا﴾ أنّا وجَدْنا قَلْبَهُ غافِلًا، ولَيْسَ المُرادُ خَلْقَ الغَفْلَةِ فِيهِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ ما رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الزَّبِيدِيِّ أنَّهُ قالَ لِبَنِي سُلَيْمٍ: قاتَلْناكم فَما أجَبْناكم، وسَألْناكم فَما أبْخَلْناكم، وهَجَوْناكم فَما أفْحَمْناكم، أيْ ما وجَدْناكم جُبَناءَ ولا بُخَلاءَ ولا مُفْحَمِينَ، ثُمَّ نَقُولُ: حَمْلُ اللَّفْظِ عَلى هَذا المَعْنى أوْلى ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَما اسْتَحَقُّوا الذَّمَّ. الثّانِي: أنَّهُ تَعالى قالَ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿فَمَن شاءَ فَلْيُؤْمِن ومَن شاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ ولَوْ كانَ تَعالى خَلَقَ الغَفْلَةَ في قَلْبِهِ لَما صَحَّ ذَلِكَ. الثّالِثُ: لَوْ كانَ المُرادُ هو أنَّهُ تَعالى جَعَلَ قَلْبَهُ غافِلًا لَوَجَبَ أنْ يُقالَ: ولا تُطِعْ مَن أغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا فاتَّبَعَ هَواهُ؛ لِأنَّ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَكُونُ ذَلِكَ مِن أفْعالِ المُطاوَعَةِ، وهي إنَّما تُعْطَفُ بِالفاءِ لا بِالواوِ، ويُقالُ: كَسَرْتُهُ فانْكَسَرَ، ودَفَعْتُهُ فانْدَفَعَ، ولا يُقالُ: وانْكَسَرَ وانْدَفَعَ. الرّابِعُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واتَّبَعَ هَواهُ﴾ ولَوْ كانَ تَعالى أغْفَلَ في الحَقِيقَةِ قَلْبَهُ لَمْ يَجُزْ أنْ يُضافَ ذَلِكَ إلى اتِّباعِهِ هَواهُ. والجَوابُ: قَوْلُهُ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿أغْفَلْنا﴾ أيْ وجَدْناهُ غافِلًا، ولَيْسَ المُرادُ تَحْصِيلَ الغَفْلَةِ فِيهِ. قُلْنا: الجَوابُ عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ الِاشْتِراكَ خِلافُ الأصْلِ فَوَجَبَ أنْ يُعْتَقَدَ أنَّ وزْنَ الأفْعالِ حَقِيقَةٌ في أحَدِهِما مَجازٌ في الآخَرِ، وجَعْلُهُ حَقِيقَةً في التَّكْوِينِ مَجازًا في الوِجْدانِ أوْلى مِنَ العَكْسِ، وبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ مَجِيءَ بِناءِ الأفْعالِ بِمَعْنى التَّكْوِينِ أكْثَرُ مِن مَجِيئِهِ بِمَعْنى الوِجْدانِ والكَثْرَةُ دَلِيلُ الرُّجْحانِ. وثانِيها: أنَّ مُبادَرَةَ الفَهْمِ مِن هَذا البِناءِ إلى التَّكْوِينِ أكْثَرُ مِن مُبادَرَتِهِ إلى الوِجْدانِ ومُبادَرَةُ الفَهْمِ دَلِيلُ الرُّجْحانِ. وثالِثُها: أنّا إنْ جَعَلْناهُ حَقِيقَةً في التَّكْوِينِ أمْكَنَ جَعْلُهُ مَجازًا في الوِجْدانِ؛ لِأنَّ العِلْمَ بِالشَّيْءِ تابِعٌ لِحُصُولِ المَعْلُومِ، فَجَعْلُ اللَّفْظِ حَقِيقَةً في المَتْبُوعِ ومَجازًا في التَّبَعِ مُوافِقٌ لِلْمَعْقُولِ، أمّا لَوْ جَعَلْناهُ حَقِيقَةً في الوِجْدانِ مَجازًا في الإيجادِ لَزِمَ جَعْلُهُ حَقِيقَةً في التَّبَعِ مَجازًا في الأصْلِ وأنَّهُ عَكْسُ المَعْقُولِ فَثَبَتَ أنَّ الأصْلَ جَعْلُ هَذا البِناءِ حَقِيقَةً في الإيجادِ لا في الوِجْدانِ. الوَجْهُ الثّانِي: في الجَوابِ عَنِ السُّؤالِ: إنّا نُسَلِّمُ كَوْنَ اللَّفْظِ مُشْتَرِكًا بِالنِّسْبَةِ إلى الإيجادِ وإلى الوِجْدانِ، إلّا أنّا نَقُولُ يَجِبُ حَمْلُ قَوْلِهِ: ﴿أغْفَلْنا﴾ عَلى إيجادِ الغَفْلَةِ، وذَلِكَ لِأنَّ الدَّلِيلَ العَقْلِيَّ دَلَّ عَلى أنَّهُ يَمْتَنِعُ كَوْنُ العَبْدِ مُوجِدًا لِلْغَفْلَةِ في نَفْسِهِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أنَّهُ إذا حاوَلَ إيجادَ الغَفْلَةِ، فَإمّا أنْ يُحاوِلَ إيجادَ مُطْلَقِ الغَفْلَةِ أوْ يُحاوِلَ إيجادَ الغَفْلَةِ عَنْ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، والأوَّلُ باطِلٌ، وإلّا لَمْ يَكُنْ بِأنْ تَحْصُلَ لَهُ الغَفْلَةُ عَنْ هَذا الشَّيْءِ أوْلى بِأنْ تَحْصُلَ لَهُ الغَفْلَةُ عَنْ شَيْءٍ آخَرَ؛ لِأنَّ الطَّبِيعَةَ المُشْتَرَكَ فِيها بَيْنَ الأنْواعِ الكَثِيرَةِ تَكُونُ نِسْبَتُها إلى كُلِّ تِلْكَ الأنْواعِ عَلى السَّوِيَّةِ، أمّا الثّانِي فَهو أيْضًا باطِلٌ؛ لِأنَّ الغَفْلَةَ عَنْ كَذا عِبارَةٌ عَنْ غَفْلَةٍ لا تَمْتازُ عَنْ سائِرِ أقْسامِ الغَفَلاتِ إلّا بِكَوْنِها مُنْتَسِبَةً إلى ذَلِكَ الشَّيْءِ المُعَيَّنِ بِعَيْنِهِ، فَعَلى هَذا لا يُمْكِنُهُ أنْ يَقْصِدَ إلى إيجادِ الغَفْلَةِ عَنْ كَذا إلّا إذا تَصَوَّرَ أنَّ تِلْكَ الغَفْلَةَ غَفْلَةٌ عَنْ كَذا، ولا يُمْكِنُهُ أنْ يَتَصَوَّرَ كَوْنَ تِلْكَ الغَفْلَةِ غَفْلَةً عَنْ كَذا إلّا إذا تَصَوَّرَ كَذا؛ لِأنَّ العِلْمَ بِنِسْبَةِ أمْرٍ إلى أمْرٍ آخَرَ مَشْرُوطٌ بِتَصَوُّرِ كُلِّ واحِدٍ مِنَ المُنْتَسِبِينَ، فَثَبَتَ أنَّهُ لا يُمْكِنُهُ القَصْدُ إلى إيجادِ الغَفْلَةِ عَنْ كَذا إلّا مَعَ الشُّعُورِ بِكَذا، لَكِنَّ الغَفْلَةَ عَنْ كَذا ضِدُّ الشُّعُورِ بِكَذا؛ فَثَبَتَ أنَّ العَبْدَ لا يُمْكِنُهُ إيجادُ هَذِهِ الغَفْلَةِ إلّا عِنْدَ اجْتِماعِ الضِّدَّيْنِ وذَلِكَ مُحالٌ، والمَوْقُوفُ عَلى المُحالِ مُحالٌ، فَثَبَتَ أنَّ العَبْدَ غَيْرُ قادِرٍ عَلى إيجادِ الغَفْلَةِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ خالِقُ الغَفَلاتِ ومُوجِدُها في العِبادِ هو اللَّهَ، وهَذِهِ نُكْتَةٌ قاطِعَةٌ في (p-١٠٠)إثْباتِ هَذا المَطْلُوبِ، وعِنْدَ هَذا يَظْهَرُ أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تُطِعْ مَن أغْفَلْنا قَلْبَهُ﴾ هو إيجادُ الغَفْلَةِ لا وِجْدانُها، أمّا حَدِيثُ المَدْحِ والذَّمِّ، فَقَدْ عارَضْناهُ مِرارًا وأطْوارًا بِالعِلْمِ والدّاعِي، أمّا قَوْلُهُ تَعالى بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿فَمَن شاءَ فَلْيُؤْمِن ومَن شاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكَهْفِ: ١٢٥) فالبَحْثُ عَنْهُ سَيَأْتِي -إنْ شاءَ اللَّهُ- تَعالى، أمّا قَوْلُهُ: ﴿ولا تُطِعْ مَن أغْفَلْنا قَلْبَهُ﴾ لَوْ كانَ المُرادُ إيجادَ الغَفْلَةِ لَوَجَبَ ذِكْرُ الفاءِ، لا ذِكْرُ الواوِ، فَنَقُولُ: هَذا إنَّما يَلْزَمُ لَوْ كانَ خَلْقُ الغَفْلَةِ في القَلْبِ مِن لَوازِمِهِ حُصُولُ اتِّباعِ الهَوى، كَما أنَّ الكَسْرَ مِن لَوازِمِهِ حُصُولُ الِانْكِسارِ، ولَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ؛ لِأنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن حُصُولِ الغَفْلَةِ عَنِ اللَّهِ حُصُولُ مُتابَعَةِ الهَوى لِاحْتِمالِ أنْ يَصِيرَ غافِلًا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، ومَعَ ذَلِكَ فَلا يَتَّبِعُ الهَوى، بَلْ يَبْقى مُتَوَقِّفًا لا يُنافِي مَقامَ الحَيْرَةِ والدَّهْشَةِ والخَوْفِ مِنَ الكُلِّ فَسَقَطَ هَذا السُّؤالُ، وذَكَرَ القَفّالُ في تَأْوِيلِ الآيَةِ عَلى مَذْهَبِ المُعْتَزِلَةِ وُجُوهًا أُخْرى: فَأحَدُها: أنَّهُ تَعالى لَمّا صَبَّ عَلَيْهِمُ الدُّنْيا صَبًّا، وأدّى ذَلِكَ إلى رُسُوخِ الغَفْلَةِ في قُلُوبِهِمْ، صَحَّ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ أنَّهُ تَعالى حَصَّلَ الغَفْلَةَ في قُلُوبِهِمْ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَمْ يَزِدْهم دُعائِي إلّا فِرارًا﴾ (نُوحٍ: ٦) . والوَجْهُ الثّانِي: أنَّ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿أغْفَلْنا﴾ أيْ تَرَكْناهُ غافِلًا، فَلَمْ نَسِمْهُ بِسِمَةِ أهْلِ الطَّهارَةِ والتَّقْوى، وهو مِن قَوْلِهِمْ: بَعِيرٌ غُفْلٌ أيْ لا سِمَةَ عَلَيْهِ. وثالِثُها: أنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ: أغْفَلْنا قَلْبَهُ أيْ خَلّاهُ مَعَ الشَّيْطانِ، ولَمْ يَمْنَعِ الشَّيْطانَ مِنهُ. فَيُقالُ في الوَجْهِ الأوَّلِ: أنَّ فَتْحَ بابِ لَذّاتِ الدُّنْيا عَلَيْهِ هَلْ يُؤَثِّرُ في حُصُولِ الغَفْلَةِ في قَلْبِهِ أوْ لا يُؤَثِّرُ، فَإنْ أثَّرَ كانَ أثَرُ إيصالِ اللَّذّاتِ إلَيْهِ سَبَبًا لِحُصُولِ الغَفْلَةِ في قَلْبِهِ، وذَلِكَ عَيْنُ القَوْلِ بِأنَّهُ تَعالى فَعَلَ ما يُوجِبُ حُصُولَ الغَفْلَةِ في قَلْبِهِ، وإنْ كانَ لا تَأْثِيرَ لَهُ في حُصُولِ هَذِهِ الغَفْلَةِ بَطَلَ إسْنادُهُ إلَيْهِ. وقَدْ يُقالُ في الوَجْهِ الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: أغْفَلْنا قَلْبَهُ بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ: سَوَّدْنا قَلْبَهُ وبَيَّضْنا وجْهَهُ، ولا يُفِيدُ إلّا ما ذَكَرْناهُ. ويُقالُ في الوَجْهِ الثّالِثِ: إنْ كانَ لِتِلْكَ التَّخْلِيَةِ أثَرٌ في حُصُولِ تِلْكَ الغَفْلَةِ فَقَدْ صَحَّ قَوْلُنا، وإلّا بَطَلَ اسْتِنادُ تِلْكَ الغَفْلَةِ إلى اللَّهِ تَعالى. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿ولا تُطِعْ مَن أغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا واتَّبَعَ هَواهُ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ شَرَّ أحْوالِ الإنْسانِ أنْ يَكُونَ قَلْبُهُ خالِيًا عَنْ ذِكْرِ الحَقِّ، ويَكُونَ مَمْلُوءًا مِنَ الهَوى الدّاعِي إلى الِاشْتِغالِ بِالخَلْقِ، وتَحْقِيقُ القَوْلِ: أنَّ ذِكْرَ اللَّهِ نُورٌ وذِكْرَ غَيْرِهِ ظُلْمَةٌ؛ لِأنَّ الوُجُودَ طَبِيعَةُ النُّورِ والعَدَمَ مَنبَعُ الظُّلْمَةِ، والحَقَّ تَعالى واجِبُ الوُجُودِ لِذاتِهِ، فَكانَ النُّورُ الحَقُّ هو اللَّهَ، وما سِوى اللَّهِ فَهو مُمْكِنُ الوُجُودِ لِذاتِهِ. والإمْكانُ طَبِيعَةٌ عَدَمِيَّةٌ، فَكانَ مَنبَعَ الظُّلْمَةِ، فالقَلْبُ إذا أشْرَقَ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ، فَقَدْ حَصَلَ فِيهِ النُّورُ والضَّوْءُ والإشْراقُ، وإذا تَوَجَّهَ القَلْبُ إلى الخَلْقِ فَقَدْ حَصَلَ فِيهِ الظُّلْمُ والظُّلْمَةُ بَلِ الظُّلُماتُ، فَلِهَذا السَّبَبِ إذا أعْرَضَ القَلْبُ عَنِ الحَقِّ، وأقْبَلَ عَلى الخَلْقِ فَهو الظُّلْمَةُ الخالِصَةُ التّامَّةُ، فالإعْراضُ عَنِ الحَقِّ هو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿أغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا﴾ والإقْبالُ عَلى الخَلْقِ هو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿واتَّبَعَ هَواهُ﴾ . المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قِيلَ: ﴿فُرُطًا﴾ أيْ مُجاوِزًا لِلْحَدِّ مِن قَوْلِهِمْ: فَرَسٌ فُرُطٌ، إذا كانَ مُتَقَدِّمًا الخَيْلَ، قالَ اللَّيْثُ: الفُرُطُ الأمْرُ الَّذِي يُفْرَطُ فِيهِ، يُقالُ: كُلُّ أمْرِ فُلانٍ فُرُطٌ، وأنْشَدَ شِعْرًا: ؎لَقَدْ كَلَّفَنِي شَطَطا وأمْرًا خائِبًا فُرُطا أيْ مُضَيَّعًا، فَقَوْلُهُ: وكانَ أمْرُهُ فُرُطًا؛ مَعْناهُ: أنَّ الأمْرَ الَّذِي يَلْزَمُهُ الحِفْظُ لَهُ والِاهْتِمامُ بِهِ، وهو أمْرُ دِينِهِ، يَكُونُ مَخْصُوصًا بِإيقاعِ التَّفْرِيطِ والتَّقْصِيرِ فِيهِ، وهَذِهِ الحالَةُ صِفَةُ مَن لا يَنْظُرُ لِدِينِهِ، وإنَّما عَمَلُهُ لِدُنْياهُ، فَبَيَّنَ تَعالى مِن حالِ الغافِلِينَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ التّابِعِينَ لِهَواهم أنَّهم مُقَصِّرُونَ في مُهِمّاتِهِمْ مُعْرِضُونَ عَمّا وجَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّدَبُّرِ (p-١٠١)فِي الآياتِ والتَّحَفُّظِ بِمُهِمّاتِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، والحاصِلُ: أنَّهُ تَعالى وصَفَ أُولَئِكَ الفُقَراءَ بِالمُواظَبَةِ عَلى ذِكْرِ اللَّهِ والإعْراضِ عَنْ غَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، فَقالَ: ﴿مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهم بِالغَداةِ والعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ﴾ ووَصَفَ هَؤُلاءِ الأغْنِياءَ بِالإعْراضِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعالى، والإقْبالِ عَلى غَيْرِ اللَّهِ وهو قَوْلُهُ: ﴿أغْفَلْنا قَلْبَهُ﴾ ﴿واتَّبَعَ هَواهُ﴾ ثُمَّ أمَرَ رَسُولَهُ بِمُجالَسَةِ أُولَئِكَ والمُباعَدَةِ عَنْ هَؤُلاءِ، رَوى أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: «كُنْتُ جالِسًا في عِصابَةٍ مِن ضُعَفاءِ المُهاجِرِينَ، وإنَّ بَعْضَهم لَيَسْتُرُ بَعْضًا مِنَ العُرْيِ، وقارِئٌ يَقْرَأُ القُرْآنَ فَجاءَ رَسُولُ اللَّهِ -ﷺ- فَقالَ: ماذا كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ ؟ قُلْنا: يا رَسُولَ اللَّهِ كانَ واحِدٌ يَقْرَأُ مِن كِتابِ اللَّهِ ونَحْنُ نَسْتَمِعُ، فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ مِن أُمَّتِي مَن أُمِرْتُ إلى أنْ أصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُمْ“ ثُمَّ جَلَسَ وسَطَنا، وقالَ: ”أبْشِرُوا يا صَعالِيكَ المُهاجِرِينَ بِالنُّورِ التّامِّ يَوْمَ القِيامَةِ، تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ الأغْنِياءِ بِمِقْدارِ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ» “ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب