الباحث القرآني

(p-٢٣)قوله عزّ وجلّ: ﴿قالُوا إنّا إلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ﴾ ﴿وَما تَنْقِمُ مِنّا إلا أنْ آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا لَمّا جاءَتْنا رَبِّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا وتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ﴾ ﴿وَقالَ المَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أتَذَرُ مُوسى وقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا في الأرْضِ ويَذَرَكَ وآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أبْناءَهم ونَسْتَحْيِي نِساءَهم وإنّا فَوْقَهم قاهِرُونَ﴾ هَذا تَسْلِيمٌ مِن مُؤْمِنِي السَحَرَةِ، واتِّكالٌ عَلى اللهِ وثِقَةٌ بِما عِنْدَهُ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "تَنْقِمُ" بِكَسْرِ القافِ، وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ، وأبُو البَرَهْسَمِ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ، والحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: "تَنْقَمُ" بِفَتْحِها، وهُما لُغَتانِ. قالَ أبُو حاتِمٍ: الوَجْهُ في القِراءَةِ كَسْرُ القافِ، وكُلُّ العُلَماءِ أنْشَدَ بَيْتَ ابْنِ الرُقَيّاتِ: ؎ ما نَقَمُوا مِن بَنِي أُمَيَّةَ.... ∗∗∗.............................. بِفَتْحِ القافِ. ومَعْناهُ: وما تَعُدُّ عَلَيْنا ذَنْبًا وتُؤاخِذُنا بِهِ. وقَوْلُهُمْ: ﴿أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا﴾ مَعْناهُ: عُمَّنا كَما يَعُمُّ الماءُ مَن أُفْرِغَ عَلَيْهِ، وهي هُنا اسْتِعارَةٌ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: لَمّا آمَنَتِ السَحَرَةُ اتَّبَعَ مُوسى سِتُّمِائَةِ ألْفٍ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، وحَكى النَقّاشُ عن مُقاتِلٍ أنَّهُ قالَ: مَكَثَ مُوسى بِمِصْرَ بَعْدَ إيمانِ السَحَرَةِ عامًا أو نَحْوَهُ يُرِيهِمُ الآياتِ. وقَوْلُ مَلَإ فِرْعَوْنَ: ﴿أتَذَرُ مُوسى وقَوْمَهُ﴾ مَقالَةٌ تَتَضَمَّنُ إغْراءَ فِرْعَوْنَ بِمُوسى وقَوْمِهِ، وتَحْرِيضَهُ عَلى قَتْلِهِمْ أو تَغْيِيرِ ما بِهِمْ حَتّى لا يَكُونَ لَهم خُرُوجٌ عن دِينِ فِرْعَوْنَ، ومَعْنى ﴿أتَذَرُ مُوسى﴾ ؟ أتَتْرُكُ؟، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "وَيَذَرَكَ"، ونَصْبُهُ عَلى مَعْنَيَيْنِ؛ أحَدُهُما: أنْ يُقَدَّرَ: "وَأنْ يَذَرَكَ" فَهي واوُ الصَرْفِ، فَكَأنَّهم قالُوا: أتَذَرُهُ وأنْ يَذَرَكَ؟ أيْ: أتَتْرُكُهُ وتَرْكَكَ؟، والمَعْنى الآخَرُ أنْ يُعْطَفَ عَلى قَوْلِهِ: "لِيُفْسِدُوا". وقَرَأ نُعَيْمُ بْنُ (p-٢٤)مَيْسَرَةَ، والحَسَنُ بِخِلافٍ عنهُ: "وَيَذَرُكَ" بِالرَفْعِ عَطْفًا عَلى قَوْلِهِمْ: "أتَذَرُ"، وقَرَأ أنَسُ بْنُ مالِكٍ: "وَنَذَرُكَ" بِالنُونِ ورَفْعِ الفِعْلِ عَلى مَعْنى تَوَعُّدٍ مِنهُمْ، أو عَلى مَعْنى إخْبارِ أنَّ الأمْرَ يَؤُولُ إلى هَذا، وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وعَبْدُ اللهِ: "فِي الأرْضِ وقَدْ تَرَكُوكَ أنْ يَعْبُدُوكَ وآلِهَتَكَ"، قالَ أبُو حاتِمٍ: وقَرَأ الأعْمَشُ: "وَقَدْ تَرَكَكَ وآلِهَتَكَ"، وقَرَأ السَبْعَةُ وجُمْهُورٌ مِنَ العُلَماءِ: "وَآلِهَتَكَ" عَلى الجَمْعِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا عَلى ما رُوِيَ أنَّ فِرْعَوْنَ كانَ في زَمَنِهِ لِلنّاسِ آلِهَةٌ مِن بَقَرٍ وأصْنامٍ وغَيْرِ ذَلِكَ، وكانَ فِرْعَوْنُ قَدْ شَرَعَ ذَلِكَ وجَعَلَ نَفْسَهُ الإلَهَ الأعْلى، فَقَوْلُهُ -عَلى هَذا- ﴿أنا رَبُّكُمُ الأعْلى﴾ [النازعات: ٢٤] إنَّما هو بِمُناسَبَةٍ بَيْنِهِ وبَيْنَ سِواهُ مِنَ المَعْبُوداتِ. وقِيلَ: إنَّ فِرْعَوْنَ كانَ يَعْبُدُ حَجَرًا كانَ يُعَلِّقُهُ في صَدْرِهِ كَياقُوتَةٍ أو نَحْوِها، قالَ الحَسَنُ: كانَ لِفِرْعَوْنَ حَنّانَةٌ مُعَلَّقَةٌ في نَحْرِهِ يَعْبُدُها ويَسْجُدُ لَها، وقالَ سُلَيْمانُ التَيْمِيُّ: بَلَغَنِي أنَّهُ كانَ يَعْبُدُ البَقَرَ، ذَكَرَهُ أبُو حاتِمٍ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وعَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وأنَسُ بْنُ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهم أجْمَعِينَ، وجَماعَةٌ وغَيْرُهُمْ: "وَإلاهَتَكَ"، أيْ: وعِبادَتَكَ والتَذَلُّلَ لَكَ، وزَعَمَتْ هَذِهِ الفِرْقَةُ أنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يُبِحْ عِبادَةَ شَيْءٍ سِواهُ، وأنَّهُ في قَوْلِهِ: "الأعْلى" إنَّما أرادَ: "الأعْظَمَ والأكْبَرَ" دُونَ مُناسَبَةٍ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: كانَ فِرْعَوْنُ يُعْبَدُ ولا يَعْبُدُ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: "سَنَقْتُلُ" بِالتَخْفِيفِ، و"يُقَتِّلُونَ" بِالتَشْدِيدِ، وخَفَّفَهُما جَمِيعًا نافِعٌ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، وعاصِمٌ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "يُقَتِّلُونَ" و"سَنُقَتِّلُ" بِالتَشْدِيدِ عَلى المُبالَغَةِ، والمَعْنى: سَنَسْتَمِرُّ عَلى ما كُنّا عَلَيْهِ مِن تَعْذِيبِهِمْ وقَطْعِهِمْ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنّا فَوْقَهم قاهِرُونَ﴾ يُرِيدُ: في المَنزِلَةِ والتَمَكُّنِ مِنَ الدُنْيا، و"قاهِرُونَ" يَقْتَضِي تَحْقِيرَ أمْرِهِمْ، أيْ: هم أقَلُّ مِن أنْ يُهْتَمَّ بِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب