الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أنْ آذَنَ لَكم إنَّ هَذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ في المَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنها أهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أيْدِيَكم وأرْجُلَكم مِن خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكم أجْمَعِينَ﴾ ﴿قالُوا إنّا إلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ﴾ ﴿وما تَنْقِمُ مِنّا إلّا أنْ آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا لَمّا جاءَتْنا رَبَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا وتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ﴾ . فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ عاصِمٌ في رِوايَةِ حَفْصٍ ”أمِنتُمْ“ بِهَمْزَةٍ واحِدَةٍ عَلى لَفْظِ الخَبَرِ، وكَذَلِكَ في طه والشُّعَراءِ. وقَرَأ عاصِمٌ في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ وحَمْزَةَ والكِسائِيِّ ”أأمِنتُمْ“ بِهَمْزَتَيْنِ في جَمِيعِ القُرْآنِ، وقَرَأ الباقُونَ بِهَمْزَةٍ واحِدَةٍ مَمْدُودَةٍ في جَمِيعِهِ عَلى الِاسْتِفْهامِ. قالَ الفَرّاءُ: أمّا قِراءَةُ حَفْصٍ ”أمِنتُمْ“ بِلَفْظِ الخَبَرِ مِن غَيْرِ مَدٍّ، فالوَجْهُ فِيها أنَّهُ يُخْبِرُهم بِإيمانِهِمْ عَلى وجْهِ التَّقْرِيعِ لَهم والإنْكارِ عَلَيْهِمْ، وأمّا القِراءَةُ بِالهَمْزَتَيْنِ فَأصْلُهُ ”أأمِنتُمْ“ عَلى وزْنِ أفَعِلْتُمْ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ فِرْعَوْنَ لَمّا رَأى أنَّ أعْلَمَ النّاسِ بِالسِّحْرِ أقَرَّ بِنُبُوَّةِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ عِنْدَ اجْتِماعِ الخَلْقِ العَظِيمِ، خافَ أنْ يَصِيرَ ذَلِكَ حُجَّةً قَوِيَّةً عِنْدَ قَوْمِهِ عَلى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَألْقى في الحالِ نَوْعَيْنِ مِنَ الشُّبْهَةِ إلى أسْماعِ العَوامِّ؛ لِتَصِيرَ تِلْكَ الشُّبْهَةُ مانِعَةً لِلْقَوْمِ مِنَ اعْتِقادِ صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ. فالشُّبْهَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿إنَّ هَذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ في المَدِينَةِ﴾ والمَعْنى: أنَّ إيمانَ هَؤُلاءِ بِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَيْسَ لِقُوَّةِ الدَّلِيلِ، بَلْ لِأجْلِ أنَّهم تَواطَئُوا مَعَ مُوسى أنَّهُ إذا كانَ كَذا وكَذا فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِكَ ونُقِرُّ بِنُبُوَّتِكَ، فَهَذا الإيمانُ إنَّما حَصَلَ بِهَذا الطَّرِيقِ. والشُّبْهَةُ الثّانِيَةُ: أنَّ غَرَضَ مُوسى والسَّحَرَةِ فِيما تَواطَئُوا عَلَيْهِ إخْراجُ القَوْمِ مِنَ المَدِينَةِ وإبْطالُ مُلْكِهِمْ، ومَعْلُومٌ عِنْدَ جَمِيعِ العُقَلاءِ أنَّ مُفارَقَةَ الوَطَنِ والنِّعْمَةِ المَأْلُوفَةِ مِن أصْعَبِ الأُمُورِ، فَجَمَعَ فِرْعَوْنُ اللَّعِينُ بَيْنَ الشُّبْهَتَيْنِ اللَّتَيْنِ لا يُوجَدُ أقْوى مِنهُما في هَذا البابِ. ورَوى مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، في حَدِيثٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ مَسْعُودٍ، وغَيْرِهِما مِنَ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم، أنَّ مُوسى وأمِيرَ السَّحَرَةِ التَقَيا، فَقالَ مُوسى عَلَيْهِ (p-١٧٠)السَّلامُ: أرَأيْتُكَ إنْ غَلَبْتُكَ، أتُؤْمِنُ بِي وتَشْهَدُ أنَّ ما جِئْتُ بِهِ الحَقُّ ؟ قالَ السّاحِرُ: لَآتِيَنَّ غَدًا بِسِحْرٍ لا يَغْلِبُهُ سِحْرٌ، فَواللَّهِ لَئِنْ غَلَبْتَنِي لَأُومِنَنَّ بِكَ، وفِرْعَوْنُ يَنْظُرُ إلَيْهِما ويَسْمَعُ قَوْلَهُما، فَهَذا هو قَوْلُ فِرْعَوْنَ: ﴿إنَّ هَذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ﴾ واعْلَمْ أنَّ هَذا يَحْتَمِلُ أنَّهُ كانَ قَدْ حَصَلَ، ويَحْتَمِلُ أيْضًا أنَّ فِرْعَوْنَ ألْقى هَذا الكَلامَ في البَيْنِ؛ لِيَصِيرَ صارِفًا لِلْعَوامِّ عَنِ التَّصْدِيقِ بِنُبُوَّةِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ. قالَ القاضِي: وقَوْلُهُ: ﴿قَبْلَ أنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ دَلِيلٌ عَلى مُناقَضَةِ فِرْعَوْنَ في ادِّعاءِ الإلَهِيَّةِ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ إلَهًا لَما جازَ أنْ يَأْذَنَ لَهم في أنْ يُؤْمِنُوا بِهِ مَعَ أنَّهُ يَدْعُوهم إلى إلَهِيَّةِ غَيْرِهِ. ثُمَّ قالَ: وذَلِكَ مِن خِذْلانِ اللَّهِ تَعالى الَّذِي يَظْهَرُ عَلى المُبْطِلِينَ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ لا شُبْهَةَ في أنَّهُ ابْتِداءُ وعِيدٍ، ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلى هَذا الوَعِيدِ المُجْمَلِ، بَلْ فَسَّرَهُ فَقالَ: ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أيْدِيَكم وأرْجُلَكم مِن خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكم أجْمَعِينَ﴾ وقَطْعُ اليَدِ والرِّجْلِ مِن خِلافٍ مَعْرُوفُ المَعْنى، وهو أنْ يَقْطَعَهُما مِن جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، إمّا مِنَ اليَدِ اليُمْنى والرِّجْلِ اليُسْرى، أوْ مِنَ اليَدِ اليُسْرى والرِّجْلِ اليُمْنى، وأمّا الصَّلْبُ فَمَعْرُوفٌ. فَتَوَعَّدَهم بِهَذَيْنَ الأمْرَيْنِ العَظِيمَيْنِ. واخْتَلَفُوا في أنَّهُ هَلْ وقَعَ ذَلِكَ مِنهُ ؟ ولَيْسَ في الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى أحَدِ الأمْرَيْنِ. واحْتَجَّ بَعْضُهم عَلى وُقُوعِهِ بِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى حَكى عَنِ المَلَأِ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أنَّهم قالُوا لَهُ: ﴿أتَذَرُ مُوسى وقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا في الأرْضِ﴾ ولَوْ أنَّهُ تَرَكَ أُولَئِكَ السَّحَرَةَ وقَوْمَهُ أحْياءً وما قَتَلَهم لَذَكَرَهم أيْضًا، ولَحَذَّرَهم عَنِ الإفْسادِ الحاصِلِ مِن جِهَتِهِمْ. ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ عَنْهُ بِأنَّهم دَخَلُوا تَحْتَ قَوْمِهِ، فَلا وجْهَ لِإفْرادِهِمْ بِالذِّكْرِ. والثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى حِكايَةً عَنْهم: ﴿رَبَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ قَدْ نَزَلَ بِهِمْ بَلاءٌ شَدِيدٌ عَظِيمٌ، حَتّى طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ تَعالى أنْ يُصَبِّرَهم عَلَيْهِ. ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ عَنْهُ بِأنَّهم طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ تَعالى الصَّبْرَ عَلى الإيمانِ وعَدَمَ الِالتِفاتِ إلى وعِيدِهِ. الثّالِثُ: ما نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ وقَطَّعَ أيْدِيَهم وأرْجُلَهم مِن خِلافٍ، وهَذا هو الأظْهَرُ؛ مُبالَغَةً مِنهُ في تَحْذِيرِ القَوْمِ عَنْ قَبُولِ دِينِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ. وقالَ آخَرُونَ: إنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِن فِرْعَوْنَ ذَلِكَ، بَلِ اسْتَجابَ اللَّهُ تَعالى لَهُمُ الدُّعاءَ في قَوْلِهِمْ: ﴿وتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ﴾ لِأنَّهم سَألُوهُ تَعالى أنْ يَكُونَ تَوَفِّيهِمْ مِن جِهَتِهِ لا بِهَذا القَتْلِ والقَطْعِ. وهَذا الِاسْتِدْلالُ قَرِيبٌ. ثُمَّ حَكى تَعالى عَنِ القَوْمِ ما لا يَجُوزُ أنْ يَقَعَ مِنَ المُؤْمِنِ عِنْدَ هَذا الوَعِيدِ أحْسَنُ مِنهُ، وهو قَوْلُهم لِفِرْعَوْنَ: ﴿وما تَنْقِمُ مِنّا إلّا أنْ آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا لَمّا جاءَتْنا﴾ فَبَيَّنُوا أنَّ الَّذِي كانَ مِنهم لا يُوجِبُ الوَعِيدَ ولا إنْزالَ النِّقْمَةِ بِهِمْ، بَلْ يَقْتَضِي خِلافَ ذَلِكَ، وهو أنْ يَتَأسّى بِهِمْ في الإقْرارِ بِالحَقِّ والِاحْتِرازِ عَنِ الباطِلِ عِنْدَ ظُهُورِ الحُجَّةِ والدَّلِيلِ. يُقالُ: نَقَمْتُ أنْقِمُ إذا بالَغْتَ في كَراهِيَةِ الشَّيْءِ، وقَدْ مَرَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿قُلْ ياأهْلَ الكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنّا﴾ [المائدة: ٥٩] قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ: ما أتَيْنا بِذَنْبٍ تُعَذِّبُنا عَلَيْهِ إلّا أنْ آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا. والمُرادُ: ما أتى بِهِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ المُعْجِزاتِ القاهِرَةِ الَّتِي لا يَقْدِرُ عَلى مِثْلِها إلّا اللَّهُ تَعالى. ثُمَّ قالُوا: ﴿رَبَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا﴾ مَعْنى الإفْراغِ في اللُّغَةِ: الصَّبُّ. يُقالُ: دِرْهَمٌ مُفْرَغٌ إذا كانَ مَصْبُوبًا في قالَبِهِ ولَيْسَ بِمَضْرُوبٍ، وأصْلُهُ مِن إفْراغِ الإناءِ وهو صَبُّ ما فِيهِ حَتّى يَخْلُوَ الإناءُ وهو مِنَ الفَراغِ، فاسْتُعْمِلَ في الصَّبْرِ عَلى التَّشْبِيهِ بِحالِ إفْراغِ الإناءِ. قالَ مُجاهِدٌ: المَعْنى: صُبَّ عَلَيْنا الصَّبْرَ عِنْدَ الصَّلْبِ والقَطْعِ. وفي الآيَةِ فَوائِدُ: الفائِدَةُ الأُولى: ﴿أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا﴾ أكْمَلُ مِن قَوْلِهِ: أنْزِلْ عَلَيْنا صَبْرًا؛ لِأنّا ذَكَرْنا أنَّ إفْراغَ الإناءِ هو (p-١٧١)صَبُّ ما فِيهِ بِالكُلِّيَّةِ، فَكَأنَّهم طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ كُلَّ الصَّبْرِ لا بَعْضَهُ. والفائِدَةُ الثّانِيَةُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿صَبْرًا﴾ مَذْكُورٌ بِصِيغَةِ التَّنْكِيرِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى الكَمالِ والتَّمامِ، أيْ صَبْرًا كامِلًا تامًّا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَتَجِدَنَّهم أحْرَصَ النّاسِ عَلى حَياةٍ﴾ [البقرة: ٩٦] أيْ عَلى حَياةٍ كامِلَةٍ تامَّةٍ. والفائِدَةُ الثّالِثَةُ: أنَّ ذَلِكَ الصَّبْرَ مِن قِبَلِهِمْ ومِن أعْمالِهِمْ، ثُمَّ إنَّهم طَلَبُوهُ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ فِعْلَ العَبْدِ لا يَحْصُلُ إلّا بِتَخْلِيقِ اللَّهِ وقَضائِهِ. قالَ القاضِي: إنَّما سَألُوهُ - تَعالى - الألْطافَ الَّتِي تَدْعُوهم إلى الثَّباتِ والصَّبْرِ، وذَلِكَ مَعْلُومٌ في الأدْعِيَةِ. والجَوابُ: هَذا عُدُولٌ عَنِ الظّاهِرِ، ثُمَّ الدَّلِيلُ يَأْباهُ، وذَلِكَ لِأنَّ الفِعْلَ لا يَحْصُلُ إلّا عِنْدَ حُصُولِ الدّاعِيَةِ الجازِمَةِ، وحُصُولُها لَيْسَ إلّا مِن قِبَلِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، فَيَكُونُ الكُلُّ مِنَ اللَّهِ تَعالى. * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ﴾ فَمَعْناهُ تَوَفَّنا عَلى الدِّينِ الحَقِّ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: احْتَجَّ أصْحابُنا عَلى أنَّ الإيمانَ والإسْلامَ لا يَحْصُلُ إلّا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعالى، ووَجْهُ الِاسْتِدْلالِ بِهِ ظاهِرٌ. والمُعْتَزِلَةُ يَحْمِلُونَهُ عَلى فِعْلِ الألْطافِ، والكَلامُ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ مِمّا سَبَقَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: احْتَجَّ القاضِي بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ الإيمانَ والإسْلامَ واحِدٌ، فَقالَ: إنَّهم قالُوا أوَّلًا: ﴿آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا﴾ ثُمَّ قالُوا ثانِيًا: ﴿وتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ﴾ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ هَذا الإسْلامُ هو ذاكَ الإيمانَ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ أحَدَهُما هو الآخَرُ. واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب