الباحث القرآني

﴿رَبَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا وتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ﴾ لَمّا أوْعَدَهم بِالقَطْعِ والصَّلْبِ سَألُوا اللَّهَ تَعالى أنْ يَرْزُقَهُمُ الصَّبْرَ عَلى ما يَحُلُّ بِهِمْ إنْ حَلَّ، ولَيْسَ في هَذا السُّؤالِ ما يَدُلُّ عَلى وُقُوعِ هَذا المُوعَدِ بِهِمْ خِلافًا لِمَن قالَ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ ولا في قَوْلِهِ: وتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لَمْ يَحُلَّ بِهِمُ المَوْعُودُ خِلافًا لِمَن قالَ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ؛ لِأنَّهم سَألُوا اللَّهَ أنْ يَكُونَ تَوَفِّيهِمْ مِن جِهَتِهِ لا بِهَذا القَطْعِ والقَتْلِ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى جُمْلَةِ ﴿رَبَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا﴾ سَألُوا المَوْتَ عَلى الإسْلامِ وهو الِانْقِيادُ إلى دِينِ اللَّهِ وما أمَرَ بِهِ. ﴿وقالَ المَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أتَذَرُ مُوسى وقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا في الأرْضِ ويَذَرَكَ وآلِهَتَكَ﴾ [الأعراف: ١٢٧] . (p-٣٦٧)قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَمّا آمَنَتِ السَّحَرَةُ اتَّبَعَ مُوسى سِتُّمِائَةِ ألْفٍ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، قالَ مُقاتِلٌ: ومَكَثَ مُوسى بِمِصْرَ بَعْدَ إيمانِ السَّحَرَةِ عامًا، أوْ نَحْوَهُ يُرِيهِمُ الآياتِ، وتَضَمَّنُ قَوْلُ المَلَأِ إغْراءَ فِرْعَوْنَ بِمُوسى وقَوْمِهِ وتَحْرِيضَهُ عَلى قَتْلِهِمْ وتَعْذِيبِهِمْ حَتّى لا يَكُونَ لَهم خُرُوجٌ عَنْ دِينِ فِرْعَوْنَ، ويَعْنِي بِقَوْمِهِ مَنِ اتَّبَعَهُ مِن بَنِي إسْرائِيلَ فَيَكُونُ الِاسْتِفْهامُ عَلى هَذا اسْتِفْهامَ إنْكارٍ وتَعَجُّبٍ، وقِيلَ: هو اسْتِخْبارٌ، والغَرَضُ بِهِ أنْ يَعْلَمُوا ما في قَلْبِ فِرْعَوْنَ مِن مُوسى ومَن آمَنَ بِهِ، قالَ مُقاتِلٌ: والإفْسادُ هو خَوْفُ أنْ يَقْتُلُوا أبْناءَ القِبْطِ ويَسْتَحْيُوا نِساءَهم عَلى سَبِيلِ المُقاصَّةِ مِنهم، كَما فَعَلُوا هم بِبَنِي إسْرائِيلَ، وقِيلَ: الإفْسادُ دُعاؤُهُمُ النّاسَ إلى مُخالَفَةِ فِرْعَوْنَ وتَرْكِ عِبادَتِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (ويَذَرَكَ) بِالياءِ وفَتْحِ الرّاءِ عَطْفًا عَلى (لِيُفْسِدُوا)، أيْ: لِلْإفْسادِ ولِتَرْكِكَ وتَرْكِ آلِهَتِكَ، وكانَ التَّرْكُ هو لِذَلِكَ وبَدَءُوا أوَّلًا بِالعِلَّةِ العامَّةِ وهي الإفْسادُ، ثُمَّ اتَّبَعُوهُ بِالخاصَّةِ لِيَدُلُّوا عَلى أنَّ ذَلِكَ التَّرْكَ مِن فِرْعَوْنَ لِمُوسى وقَوْمِهِ هو أيْضًا يَئُولُ إلى شَيْءٍ يَخْتَصُّ بِفِرْعَوْنَ قَدَحُوا بِذَلِكَ زَنْدَ تَغَيُّظِهِ عَلى مُوسى وقَوْمِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أبْقى عَلَيْهِمْ إذْ هُمُ الأشْرافُ، وبِتَرْكِ مُوسى وقَوْمِهِ بِمِصْرَ يَذْهَبُ مُلْكُهم وشَرَفُهم، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ النُّصْبُ عَلى جَوابِ الِاسْتِفْهامِ، والمَعْنى: أنّى يَكُونُ الجَمْعُ بَيْنَ تَرْكِكَ مُوسى وقَوْمَهُ لِلْإفْسادِ وبَيْنَ تَرْكِهِمْ إيّاكَ وعِبادَةِ آلِهَتِكَ، أيْ: إنَّ هَذا مِمّا لا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ، وقَرَأ نُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ، والحَسَنُ بِخِلافٍ عَنْهُ (ويَذَرُكَ) بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلى (أتَذَرُ)، بِمَعْنى أتَذَرُهُ ويَذَرُكَ، أيْ: أتُطْلِقُ لَهُ ذَلِكَ، أوْ عَلى الِاسْتِئْنافِ، أوْ عَلى الحالِ عَلى تَقْدِيرِ وهو يَذَرُكَ، وقَرَأ الأشْهَبُ العُقَيْلِيُّ، والحَسَنُ بِخِلافٍ عَنْهُ (ويَذَرْكَ) بِالجَزْمِ عَطْفًا عَلى التَّوَهُّمِ كَأنَّهُ تَوَهَّمَ النُّطْقَ يُفْسِدُوا جَزْمًا عَلى جَوابِ الِاسْتِفْهامِ كَما قالَ: ﴿فَأصَّدَّقَ وأكُنْ مِنَ الصّالِحِينَ﴾ [المنافقون: ١٠]، أوْ عَلى التَّخْفِيفِ مِن (ويَذَرَكَ)، وقَرَأ أنَسُ بْنُ مالِكٍ (ونَذَرُكَ) بِالنُّونِ ورَفْعِ الرّاءِ، تَوَعَّدُوهُ بِتَرْكِهِ وتَرْكِ آلِهَتِهِ، أوْ عَلى مَعْنى الإخْبارِ، أيْ: إنَّ الأمْرَ يَئُولُ إلى هَذا، وقَرَأ أُبَيٌّ وعَبْدُ اللَّهِ: (في الأرْضِ)، وقَدْ تَرَكُوكَ أنْ يَعْبُدُوكَ (وآلِهَتَكَ)، وقَرَأ الأعْمَشُ، وقَدْ تَرَكَكَ وآلِهَتَكَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (وآلِهَتَكَ) عَلى الجَمْعِ، والظّاهِرُ أنَّ فِرْعَوْنَ كانَ لَهُ آلِهَةٌ يَعْبُدُها، وقالَ سُلَيْمانُ التَّيْمِيُّ: بَلَغَنِي أنَّهُ كانَ يَعْبُدُ البَقَرَ، وقِيلَ: كانَ يَعْبُدُ حَجَرًا يُعَلِّقُهُ في صَدْرِهِ كَياقُوتَةٍ، أوْ نَحْوِها، وقِيلَ: الإضافَةُ هي عَلى مَعْنى أنَّهُ شَرَعَ لَهم عِبادَةَ آلِهَةٍ مِن بَقَرٍ وأصْنامٍ وغَيْرِ ذَلِكَ وجَعَلَ نَفْسَهُ الإلَهَ الأعْلى، فَقَوْلُهُ عَلى هَذا ﴿أنا رَبُّكُمُ الأعْلى﴾ [النازعات: ٢٤] إنَّما هو بِمُناسَبَةٍ بَيْنَهُ وبَيْنَ سِواهُ مِنَ المَعْبُوداتِ، قِيلَ: كانُوا قِبْطًا يَعْبُدُونَ الكَواكِبَ ويَزْعُمُونَ أنَّها تَسْتَجِيبُ دُعاءَ مَن دَعاها، وفِرْعَوْنُ كانَ يَدَّعِي أنَّ الشَّمْسَ اسْتَجابَتْ لَهُ ومَلَّكَتْهُ عَلَيْهِمْ، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، وعَلِيٌّ، وابْنُ عَبّاسٍ، وأنَسٌ وجَماعَةٌ غَيْرُهم: (وإلَهَتَكَ) وفَسَّرُوا ذَلِكَ بِأمْرَيْنِ أحَدِهِما: أنَّ المَعْنى وعِبادَتَكَ، فَيَكُونُ إذْ ذاكَ مَصْدَرًا، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانَ فِرْعَوْنُ يُعْبَدُ ولا يَعْبُدُ، والثّانِي: أنَّ المَعْنى ومَعْبُودَكَ وهي الشَّمْسُ الَّتِي كانَ يَعْبُدُها، والشَّمْسُ تُسَمّى إلَهَةً عَلَمًا عَلَيْها مَمْنُوعَةَ الصَّرْفِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب