الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَهُوَ اللهُ في السَماواتِ وفي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكم وجَهْرَكم ويَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ﴾ ﴿وَما تَأْتِيهِمْ مِن آيَةٍ مِن آياتِ رَبِّهِمْ إلا كانُوا عنها مُعْرِضِينَ﴾ ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا بِالحَقِّ لَمّا جاءَهم فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ قاعِدَةُ الكَلامِ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ حُلُولَ اللهِ تَعالى في الأماكِنِ مُسْتَحِيلٌ؛ وكَذَلِكَ مُماسَّتُهُ لِلْأجْرامِ؛ أو مُحاذاتُهُ لَها؛ أو تَحَيُّزُهُ في جِهَةٍ؛ لِامْتِناعِ جَوازِ ذَلِكَ عَلَيْهِ - تَبارَكَ وتَعالى-؛ فَإذا تَقَرَّرَ هَذا فَبَيِّنٌ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وَهُوَ اللهُ في السَماواتِ وفي الأرْضِ﴾ ؛ لَيْسَ عَلى حَدِّ قَوْلِنا: "زَيْدٌ في الدارِ"؛ بَلْ هو عَلى وجْهٍ مِنَ التَأْوِيلِ آخَرَ؛ قالَتْ فِرْقَةٌ: ذَلِكَ عَلى تَقْدِيرِ صِفَةٍ مَحْذُوفَةٍ مِنَ اللَفْظِ؛ ثابِتَةٍ في المَعْنى؛ كَأنَّهُ قالَ: "وَهُوَ اللهُ المَعْبُودُ في السَماواتِ وفي الأرْضِ"؛ وعَبَّرَ بَعْضُهم بِأنْ قَدَّرَ: "هُوَ اللهُ المُدَبِّرُ لِلْأمْرِ في السَماواتِ وفي الأرْضِ"؛ وقالَ الزَجّاجُ: "فِي"؛ مُتَعَلِّقَةٌ بِما تَضَمَّنَهُ اسْمُ اللهِ تَعالى مِنَ المَعانِي؛ كَما يُقالُ: " أمِيرُ المُؤْمِنِينَ الخَلِيفَةُ في المَشْرِقِ والمَغْرِبِ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا عِنْدِي أفْضَلُ الأقْوالِ؛ وأكْثَرُها إحْرازًا لِفَصاحَةِ اللَفْظِ؛ وجَزالَةِ المَعْنى؛ وإيضاحُهُ أنَّهُ أرادَ أنْ يَدُلَّ عَلى خَلْقِهِ؛ وإيثارِ قُدْرَتِهِ؛ وإحاطَتِهِ؛ واسْتِيلائِهِ؛ ونَحْوِ هَذِهِ الصِفاتِ؛ فَجَمَعَ هَذِهِ كُلَّها في قَوْلِهِ: "وَهُوَ اللهُ"؛ أيْ: "اَلَّذِي لَهُ هَذِهِ كُلُّها في السَماواتِ وفي الأرْضِ"؛ كَأنَّهُ قالَ: "وَهُوَ الخالِقُ؛ الرازِقُ؛ المُحْيِي؛ المُحِيطُ؛ في السَماواتِ؛ وفي الأرْضِ"؛ كَما تَقُولُ: "زَيْدٌ السُلْطانُ في الشامِ؛ والعِراقِ"؛ فَلَوْ قَصَدْتَ ذاتَ "زَيْدٍ" لَقُلْتَ مُحالًا؛ وإذا كانَ مَقْصِدُ (p-٣١٤)قَوْلِكَ: "زَيْدٌ الآمِرُ الناهِي؛ المُبْرِمُ؛ الَّذِي يَعْزِلُ ويُوَلِّي؛ في الشامِ؛ والعِراقِ"؛ فَأقَمْتَ "اَلسُّلْطانُ"؛ مَقامَ هَذِهِ؛ كانَ فَصِيحًا؛ صَحِيحًا؛ فَكَذَلِكَ في الآيَةِ؛ أقامَ لَفْظَةَ "اَللَّهُ"؛ مَقامَ تِلْكَ الصِفاتِ المَذْكُورَةِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: ﴿وَهُوَ اللهُ﴾ ؛ اِبْتِداءٌ؛ وخَبَرٌ؛ تَمَّ الكَلامُ عِنْدَهُ؛ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ؛ وتَعَلَّقَ قَوْلُهُ: ﴿فِي السَماواتِ﴾ ؛ بِمَفْعُولِ "يَعْلَمُ"؛ كَأنَّهُ قالَ: "وَهُوَ اللهُ؛ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ؛ وجَهْرَكُمْ؛ في السَماواتِ؛ وفي الأرْضِ"؛ فَلا يَجُوزُ - مَعَ هَذا التَعْلِيقِ - أنْ يَكُونَ "هُوَ" ضَمِيرَ أمْرٍ وشَأْنٍ؛ لِأنَّهُ يَرْفَعُ "اللهُ"؛ بِالِابْتِداءِ؛ و"يَعْلَمُ"؛ في مَوْضِعِ الخَبَرِ؛ وقَدْ فَرَّقَ ﴿فِي السَماواتِ وفي الأرْضِ﴾ ؛ بَيْنَ الِابْتِداءِ والخَبَرِ؛ وهو ظَرْفٌ غَرِيبٌ مِنَ الجُمْلَةِ؛ ويَلْزَمُ قائِلِي هَذِهِ المَقالَةِ أنْ تَكُونَ المُخاطَبَةُ في الكافِ؛ في قَوْلِهِ: ﴿سِرَّكم وجَهْرَكُمْ﴾ ؛ لِجَمِيعِ المَخْلُوقِينَ؛ الإنْسِ والمَلائِكَةِ؛ لِأنَّ الإنْسَ لا سِرَّ ولا جَهْرَ لَهم في السَماءِ؛ فَتَرْتِيبُ الكَلامِ عَلى هَذا القَوْلِ: "وَهُوَ اللهُ؛ يَعْلَمُ يا جَمِيعَ المَخْلُوقِينَ سِرَّكم وجَهْرَكم في السَماواتِ؛ وفي الأرْضِ". وقالَتْ فِرْقَةٌ: "وَهُوَ"؛ ضَمِيرُ الأمْرِ والشَأْنِ؛ و﴿اللهُ في السَماواتِ﴾ ؛ اِبْتِداءٌ؛ وخَبَرٌ؛ تَمَّ الكَلامُ عِنْدَهُ؛ ثُمَّ ابْتَدَأ؛ كَأنَّهُ قالَ: "وَيَعْلَمُ في الأرْضِ سِرَّكم وجَهْرَكُمْ"؛ وهَذا القَوْلُ؛ إذْ قَدْ تَخَلَّصَ مِن لُزُومِ مُخاطَبَةِ المَلائِكَةِ؛ فَهو مُخَلِّصٌ مِن شُبْهَةِ الكَوْنِ في السَماءِ؛ بِتَقْدِيرِ حَذْفِ "اَلْمَعْبُودُ"؛ أو "اَلْمُدَبِّرُ"؛ عَلى ما تَقَدَّمَ؛ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَعْلَمُ سِرَّكم وجَهْرَكم ويَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ﴾ ؛ خَبَرٌ؛ في ضِمْنِهِ تَحْذِيرٌ؛ وزَجْرٌ؛ و"تَكْسِبُونَ"؛ لَفْظٌ عامٌّ لِجَمِيعِ الِاعْتِقاداتِ؛ والأفْعالِ؛ والأقْوالِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما تَأْتِيهِمْ﴾ ؛ اَلْآيَةَ: "ما"؛ نافِيَةٌ؛ و"مِن"؛ اَلْأُولى؛ هي الزائِدَةُ؛ الَّتِي تَدْخُلُ عَلى الأجْناسِ بَعْدَ النَفْيِ؛ فَكَأنَّها تَسْتَغْرِقُ الجِنْسَ؛ و"مِن"؛ اَلثّانِيَةُ؛ لِلتَّبْعِيضِ؛ و"اَلْآيَةُ": اَلْعَلامَةُ؛ والدَلالَةُ؛ والحُجَّةُ؛ وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في وزْنِها؛ في صَدْرِ الكِتابِ؛ (p-٣١٥)وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآيَةُ مَذَمَّةَ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ بِاللهِ سِواهُ؛ بِأنَّهم يُعْرِضُونَ عن كُلِّ آيَةٍ تَرِدُ عَلَيْهِمْ؛ ثُمَّ اقْتَضَتِ الفاءُ في قَوْلِهِ "فَقَدْ"؛ أنَّ إعْراضَهم عَنِ الآياتِ قَدْ أعْقَبَ أنْ كَذَّبُوا بِالحَقِّ؛ وهو مُحَمَّدٌ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ -؛ وما جاءَ بِهِ؛ ثُمَّ تَوَعَّدَهم بِأنْ يَأْتِيَهم عِقابُ اسْتِهْزائِهِمْ؛ و"ما"؛ بِمَعْنى "اَلَّذِي"؛ ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً؛ وفي الكَلامِ حَذْفُ مُضافٍ؛ تَقْدِيرُهُ: "يَأْتِيهِمْ مُضَمَّنُ أنْباءِ القُرْآنِ الَّذِي كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ"؛ وإنْ جُعِلَتْ "ما"؛ مَصْدَرِيَّةً؛ فالتَقْدِيرُ: "يَأْتِيهِمْ نَبَأُ كَوْنِهِمْ مُسْتَهْزِئِينَ"؛ أيْ: "عِقابٌ يُخْبَرُونَ أنَّهُ عَلى ذَلِكَ الِاسْتِهْزاءِ"؛ وهَذِهِ العُقُوباتُ الَّتِي تُوُعِّدُوا بِها تَعُمُّ عُقُوباتِ الدُنْيا؛ كَبَدْرٍ؛ وغَيْرِها؛ وعُقُوباتِ الآخِرَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب