الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما تَأْتِيهِمْ مِن آيَةٍ مِن آياتِ رَبِّهِمْ إلّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ لَمّا تَكَلَّمَ أوَّلًا في التَّوْحِيدِ، وثانِيًا في المَعادِ، وثالِثًا فِيما يُقَرِّرُ هَذَيْنِ المَطْلُوبَيْنِ ذَكَرَ بَعْدَهُ ما يَتَعَلَّقُ بِتَقْرِيرِ النُّبُوَّةِ وبَدَأ فِيهِ بِأنْ بَيَّنَ كَوْنَ هَؤُلاءِ الكُفّارِ مُعْرِضِينَ عَنْ تَأمُّلِ الدَّلائِلِ، غَيْرَ مُلْتَفِتِينَ إلَيْها وهَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ التَّقْلِيدَ باطِلٌ، والتَّأمُّلَ في الدَّلائِلِ واجِبٌ، ولَوْلا ذَلِكَ لَما ذَمَّ اللَّهُ المُعْرِضِينَ عَنِ الدَّلائِلِ. قالَ الواحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مِن في قَوْلِهِ: ﴿مِن آيَةٍ﴾ لِاسْتِغْراقِ الجِنْسِ الَّذِي يَقَعُ في النَّفْيِ كَقَوْلِكَ: ما أتانِي مِن أحَدٍ. والثّانِيَةُ وهي قَوْلُهُ: ﴿مِن آياتِ رَبِّهِمْ﴾ لِلتَّبْعِيضِ، والمَعْنى: وما يَظْهَرُ لَهم دَلِيلٌ قَطُّ مِنَ الأدِلَّةِ الَّتِي يَجِبُ فِيها النَّظَرُ والِاعْتِبارُ إلّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا بِالحَقِّ لَمّا جاءَهم فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى رَتَّبَ أحْوالَ هَؤُلاءِ الكُفّارِ عَلى ثَلاثِ مَراتِبَ، فالمَرْتَبَةُ الأُولى: كَوْنُهم مُعْرِضِينَ عَنِ التَّأمُّلِ في الدَّلائِلِ والتَّفَكُّرِ في البَيِّناتِ. والمَرْتَبَةُ الثّانِيَةُ: كَوْنُهم مُكَذِّبِينَ بِها وهَذِهِ المَرْتَبَةُ أزْيَدُ مِمّا قَبْلَها؛ لِأنَّ المُعْرِضَ عَنِ الشَّيْءِ قَدْ لا يَكُونُ مُكَذِّبًا بِهِ، بَلْ يَكُونُ غافِلًا عَنْهُ غَيْرَ مُتَعَرِّضٍ لَهُ، فَإذا صارَ مُكَذِّبًا بِهِ فَقَدْ زادَ عَلى الإعْراضِ. والمَرْتَبَةُ الثّالِثَةُ: كَوْنُهم مُسْتَهْزِئِينَ بِها؛ لِأنَّ المُكَذِّبَ بِالشَّيْءِ قَدْ لا يَبْلُغُ تَكْذِيبُهُ بِهِ إلى حَدِّ الِاسْتِهْزاءِ، فَإذا بَلَغَ إلى هَذا الحَدِّ فَقَدْ بَلَغَ الغايَةَ القُصْوى في الإنْكارِ، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّ أُولَئِكَ الكُفّارَ وصَلُوا إلى هَذِهِ المَراتِبِ الثَّلاثَةِ عَلى هَذا التَّرْتِيبِ، واخْتَلَفُوا في المُرادِ بِالحَقِّ، فَقِيلَ: إنَّهُ المُعْجِزاتُ؛ قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: انْشَقَّ القَمَرُ بِمَكَّةَ وانْفَلَقَ فِلْقَتَيْنِ فَذَهَبَتْ فِلْقَةٌ وبَقِيَتْ فِلْقَةٌ، وقِيلَ إنَّهُ القُرْآنُ، وقِيلَ: إنَّهُ مُحَمَّدٌ ﷺ، وقِيلَ: إنَّهُ الشَّرْعُ الَّذِي أتى بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ، والأحْكامُ الَّتِي جاءَ بِها مُحَمَّدٌ ﷺ وقِيلَ: إنَّهُ الوَعْدُ والوَعِيدُ الَّذِي يُرَغِّبُهم بِهِ تارَةً ويُحَذِّرُهم بِسَبَبِهِ أُخْرى، والأوْلى دُخُولُ الكُلِّ فِيهِ. (p-١٣١)وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ المُرادُ مِنهُ الوَعِيدُ والزَّجْرُ عَنْ ذَلِكَ الِاسْتِهْزاءِ، فَيَجِبُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالأنْباءِ لا نَفْسَ الأنْباءِ بَلِ العَذابُ الَّذِي أنْبَأ اللَّهُ تَعالى بِهِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَتَعْلَمُنَّ نَبَأهُ بَعْدَ حِينٍ﴾ [القصص: ٨٨]، والحَكِيمُ إذا تَوَعَّدَ فَرُبَّما قالَ: سَتَعْرِفُ نَبَأ هَذا الأمْرِ إذْ نَزَلَ بِكَ ما تَحْذَرُهُ، وإنَّما كانَ كَذَلِكَ؛ لِأنَّ الغَرَضَ بِالخَبَرِ الَّذِي هو الوَعِيدُ حُصُولُ العِلْمِ بِالعِقابِ الَّذِي يَنْزِلُ، فَنَفْسُ العِقابِ إذا نَزَلَ يُحَقِّقُ ذَلِكَ الخَبَرَ، حَتّى تَزُولَ عَنْهُ الشُّبْهَةُ، ثُمَّ المُرادُ مِن هَذا العَذابِ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ عَذابَ الدُّنْيا، وهو الَّذِي ظَهَرَ يَوْمَ بَدْرٍ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ عَذابَ الآخِرَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب