الباحث القرآني
﴿فَقَدْ كَذَّبُوا بِالحَقِّ لَمّا جاءَهُمْ﴾ فَإنَّ الحَقَّ عِبارَةٌ عَنِ القُرْآنِ الَّذِي أعْرَضُوا عَنْهُ حِينَ أعْرَضُوا عَنْ كُلٍّ آيَةً آيَةً مِنهُ. وعَبَّرَ عَنْهُ بِذَلِكَ إظْهارًا لِكَمالِ فَظاعَةِ ما فَعَلُوا بِهِ. والفاءُ عَلى تَقْدِيرِ أنْ يُرادَ بِالآياتِ الآياتُ التَّنْزِيلِيَّةُ -كَما هو الأظْهَرُ عَلى ما قَرَّرَهُ مَوْلانا شَيْخُ الإسْلامِ- لِتَرْتِيبِ ما بَعْدَها عَلى ما قَبْلَها لا بِاعْتِبارِ أنَّهُ مُغايِرٌ لَهُ حَقِيقَةَ واقِعٍ عَقِيبَهُ أوْ حاصِلٌ بِسَبَبِهِ بَلْ عَلى أنَّهُ عَيَّنَهُ في الحَقِيقَةِ والتَّرْتِيبُ بِحَسْبِ التَّغايُرِ الِاعْتِبارِيِّ حَيْثُ أنَّ مَفْهُومَ التَّكْذِيبِ بِالحَقِّ أشْنَعُ مِنَ الإعْراضِ المَذْكُورِ إذْ هو مِمّا لا يُتَصَوَّرُ صُدُورُهُ مِن أحَدٍ
ولِذَلِكَ أُخْرِجَ مَخْرَجَ اللّازِمِ البَيِّنِ البُطْلانِ وتَرَتَّبَ عَلَيْهِ بِالفاءِ إظْهارًا لِغايَةِ بُطْلانِهِ. ثُمَّ قُيِّدَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ بِلا تَأمُّلٍ بَلْ آنَ المَجِيءُ تَأْكِيدًا لِشَناعَةِ فِعْلِهِمُ الفَظِيعِ. وعَلى تَقْدِيرِ أنْ يُرادَ الآياتُ التَّكْوِينِيَّةُ داخِلَةٌ عَلى جَوابِ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ. والمَعْنى عَلى الأوَّلِ حَيْثُ أعْرَضُوا عَنْ تِلْكَ الآياتِ حِينَ إتْيانِها فَقَدْ كَذَّبُوا بِما لا يُمْكِنُ لِعاقِلٍ تَكْذِيبُهُ أصْلًا مِن غَيْرِ أنْ يَتَدَبَّرُوا في حالِهِ ومَآلِهِ ويَقِفُوا عَلى ما في تَضاعِيفِهِ مِنَ الشَّواهِدِ المُوجِبَةِ لِتَصْدِيقِهِ. وعَلى الثّانِي أنَّهم إنْ كانُوا مُعْرِضِينَ عَنِ الآياتِ حالَ إتْيانِها فَلا تَعَجُّبَ مِن ذَلِكَ فَقَدْ فَعَلُوا بِما هو أعْظَمُ مِنها ما هو أعْظَمُ مِنَ الإعْراضِ حَيْثُ كَذَّبُوا بِالحَقِّ الَّذِي هو أعْظَمُ الآياتِ. واخْتارَ في البَحْرِ كَوْنَ الفاءِ سَبَبِيَّةً وما بَعْدَها مُسَبَّبٌ عَمّا قَبْلَها. وجُوِّزَ أيْضًا كَوْنُها سَبَبِيَّةً عَلى مَعْنى أنَّ ما بَعْدَها سَبَبٌ لِما قَبْلَها فَقَدْ قالَ الرَّضِيُّ: وقَدْ تَكُونُ الفاءُ السَّبَبِيَّةُ بِمَعْنى لامِ السَّبَبِيَّةِ وذَلِكَ إذا كانَ ما بَعْدَها سَبَبًا لِما قَبْلَها نَحْوُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاخْرُجْ مِنها فَإنَّكَ رَجِيمٌ﴾ وأطْلَقَ عَلَيْها الكَثِيرُ حِينَئِذٍ الفاءَ التَّعْلِيلِيَّةَ. وهَلْ تُفِيدُ التَّرْتِيبَ حِينَئِذٍ أمْ لا؟ لَمْ يُصَرِّحِ الرَّضِيُّ (p-93)بِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ ويُفْهَمُ كَلامُ البَعْضِ أنَّها لِلتَّرْتِيبِ والتَّعْقِيبِ أيْضًا
واسْتُشْكِلَ بِأنَّ السَّبَبَ مُتَقَدِّمٌ عَلى المُسَبِّبِ ولا مُتَعَقِّبَ إيّاهُ، وتَكَلَّفَ صاحِبُ التَّوْضِيحِ لِتَوْجِيهِهِ بِأنَّ ما بَعْدَ الفاءِ عِلَّةٌ بِاعْتِبارِ مَعْلُولٍ، ودُخُولُ الفاءِ عَلَيْهِ بِاعْتِبارِ المُعْلَوْلِيَةِ لا بِاعْتِبارِ العِلِّيَّةِ، ورُدَّ بِأنَّها لا تَتَأتّى في كُلِّ مَحَلٍّ وفي التَّلْوِيحِ الأقْرَبُ ما ذَكَرَهُ القَوْمُ مِن أنَّها إنَّما تُدْخِلُ عَلى العِلَلِ بِاعْتِبارِ أنَّها تَدُومُ فَتَتَراخى عَنِ ابْتِداءِ الحُكْمِ وفي شَرْحِ المِفْتاحِ الشَّرِيفِيِّ فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ يُتَصَوَّرُ تُرَتُّبُ السَّبَبِ عَلى المُسَبِّبِ قُلْتَ: مِن حَيْثُ أنَّ ذِكْرَ المُسَبِّبِ يَقْتَضِي ذِكْرَ السَّبَبِ انْتَهى، وعَلَيْهِ يَظْهَرُ وجْهُ التَّرْتِيبِ هُنا مُطْلَقًا لَكِنَّ ظاهِرَ كَلامِ النُّحاةِ وغَيْرِهِمْ أنَّ هَذِهِ الفاءَ تَخْتَصُّ بِالوُقُوعِ بَعْدَ الأمْرِ: كَأكْرِمْ زَيْدًا فَإنَّهُ أبُوكَ، واعْبُدِ اللَّهَ فَإنَّ العِبادَةَ حَقٌّ إلى غَيْرِ ذَلِكَ، فالوَجْهُ الأوَّلُ أوْلى ولَيْسَتِ الفاءُ فَصِيحَةً كَما تَوَهَّمَهُ بَعْضُهم مِن قَوْلِ العَلّامَةِ البَيْضاوِيِّ في بَيانِ مَعْنى الآيَةِ كَأنَّهُ قِيلَ: لَمّا كانُوا مُعْرِضِينَ عَنِ الآياتِ كُلِّها كَذَّبُوا بِالقُرْآنِ لِأنَّ الفاءَ الفَصِيحَةَ لا تُقَدَّرُ جَوابَ (لَمّا)، لِأنَّ جَوابَها الماضِيَ لا يَقْتَرِنُ بِالفاءِ عَلى الفَصِيحِ فَكَيْفَ يُقَدَّرُ لِلْفاءِ ما يَقْتَضِي عَدَمَها فَما مُرادُ العَلّامَةِ إلّا بَيانُ حاصِلِ المَعْنى، ولِذا أسْقَطَ الفاءَ نَعَمْ قِيلَ: إنَّ هَذا المَعْنى مِمّا يَنْبَغِي تَنْزِيهُ التَّنْزِيلِ عَنْهُ وفِيهِ تَأمُّلٌ
وقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ أنَّ أمْرَ التَّرْتِيبِ يَجْرِي في الآيَةِ سَواءً كانَتِ الآيَةُ بِمَعْنى الدَّلِيلِ أوِ المُعْجِزَةِ أوِ الآيَةُ القُرْآنِيَّةُ لِتَغايُرِ الإعْراضِ والتَّكْذِيبِ فِيها، والفاءُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾
5
- لِلتَّرْتِيبِ أيْضًا بِناءً عَلى أنَّ ما تَقَدَّمَ لِكَوْنِهِ أمْرًا عَظِيمًا يَقْتَضِي تَرَتُّبَ الوَعِيدِ عَلَيْهِ، وقِيلَ: (يستهزئون) إيذانًا بِأنَّ ما تَقَدَّمَ كانَ مَقْرُونًا بِالِاسْتِهْزاءِ
واسْتَدَلَّ بِهِ أبُو حَيّانَ عَلى أنَّ في الكَلامِ مَعْطُوفًا مَحْذُوفًا أيْ فَكَذَّبُوا بِالحَقِّ واسْتَهْزَءُوا بِهِ، ولا يَخْفى أنَّ ذَلِكَ مِمّا لا ضَرُورَةَ إلَيْهِ، و(ما) عِبارَةٌ عَنِ الحَقِّ المَذْكُورِ وعُبِّرَ عَنْهُ بِذَلِكَ تَهْوِيلًا لِأمْرِهِ بِإبْهامِهِ وتَعْلِيلًا لِلْحُكْمِ بِما في حَيِّزِ الصِّلَةِ، و(الأنْباءُ) جَمْعُ نَبَإٍ وهو الخَبَرُ الَّذِي يَعْظُمُ وقْعُهُ، والمُرادُ بِأنْباءِ القُرْآنِ الَّتِي تَأْتِيهِمْ ويَتَحَقَّقُ مَدْلُولُها فِيهِمْ ويُظْهِرُ لَهم آياتِ وعِيدِهِ وإخْبارُهُ بِما يَحْصُلُ بِهِمْ في الدُّنْيا بِما يَحْصُلُ بِهِمْ في الدُّنْيا مِنَ القَتْلِ والسَّبْيِ والجَلاءِ ونَحْوِ ذَلِكَ مِنَ العُقُوباتِ العاجِلَةِ، وقِيلَ: المُرادُ ما يَعُمُّ ذَلِكَ والعُقُوباتِ الَّتِي تَحِلُّ بِهِمْ في الآخِرَةِ مِن عَذابِ النّارِ ونَحْوِهِ؛ وقِيلَ: المُرادُ بِـ (أنْباءِ) ذَلِكَ ما تَضَمَّنَ عُقُوباتِ الآخِرَةِ أوْ ظُهُورَ الإسْلامِ وعُلُوَّ كَلِمَتِهِ. وظاهِرُ ما يَأْتِي مِنَ الآياتِ يُرَجِّحُ الأوَّلَ
وصَرَّحَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ بِأنَّ إضافَةَ (أنْباءٍ) بَيانِيَّةٌ وهو احْتِمالٌ مَقْبُولٌ. وادِّعاءُ أنَّهُ مُقْحَمٌ وأنَّ المَعْنى سَيَظْهَرُ لَهم ما اسْتَهْزَءُوا بِهِ مِنَ الوَعِيدِ الواقِعِ فِيهِ أوْ مِن نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أوْ نَحْوِ ذَلِكَ لا وجْهَ لَهُ إذْ لا داعِيَ لِإقْحامِهِ. وفي البَحْرِ إنَّما قُيِّدَ الكَذِبُ بِالحَقِّ هُنا وكانَ التَّنْفِيسُ بِـ (سَوْفَ) وفي الشُّعَراءِ (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ) بِدُونِ تَقْيِيدِ الكَذِبِ والتَّنْفِيسِ بِالسِّينِ لِأنَّ الأنْعامَ مُتَقَدِّمَةٌ في النُّزُولِ عَلى الشُّعَراءِ فاسْتُوفِيَ فِيها اللَّفْظُ وحُذِفَ مِنَ الشُّعَراءِ وهو مُرادٌ إحالَةً عَلى الأوَّلِ. وناسَبَ الحَذْفُ الاخْتِصارَ في حَرْفِ التَّنْفِيسِ فَجِيءَ بِالسِّينِ
{"ayah":"فَقَدۡ كَذَّبُوا۟ بِٱلۡحَقِّ لَمَّا جَاۤءَهُمۡ فَسَوۡفَ یَأۡتِیهِمۡ أَنۢبَـٰۤؤُا۟ مَا كَانُوا۟ بِهِۦ یَسۡتَهۡزِءُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











