الباحث القرآني

ثم قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الأنعام ٥]. ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ﴾ الفاء عاطفة، و(قد) تفيد التحقيق، في الفعل الماضي هو الأغلب أنها تفيد التحقيق، في الفعل المضارع الأغلب أنها تفيد التقليل؛ كقولهم: قد يجود البخيل، وقد يصدق الكاذب، لكنها قد تأتي للتوكيد حتى في المضارع، ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا﴾ [الأحزاب ١٨]. فـ(قد) هنا أيش؟ للتوكيد لا شك، لكنها تفيد الاستمرار؛ أي: قد يعلم هذا في الحاضر والمستقبل. قوله هنا: (قد كذبوا) للتحقيق. ﴿كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ﴾ الحق ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، فكله حق؛ لأنه من عند الله، والحق هو الشيء الثابت؛ إن كان خبرًا فبوقوعه وإن كان حكمًا فبثبوته، وضده الباطل؛ ففي الأخبار الباطل فيها الكذب، وفي الأحكام الباطل فيها ما خالَف الشريعة هنا، كذبوا بالحق لما جاءهم نقول: الحق ما جاءت به الرسل من أخبار صادقة وأحكام عادلة. ﴿لَمَّا جَاءَهُمْ﴾ ﴿لَمَّا﴾ بمعنى (حين)؛ أي: حين جاءهم، واعلم أن ﴿لَمَّا﴾ لها معانٍ؛ فتأتي بمعنى (حين)، فتكون ظرفية كما في الآية، وتأتي شرطية فتشارك (إن) في الشرط، مثل قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [يونس٧٦]، فهي شرطية، وتأتي بمعنى (إلا) كما في قوله تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق ٤]؛ يعني إلا عليها حافظ، وتأتي نافية تجزم الفعل المضارع، كما في قول الله تعالى: ﴿بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ [ص ٨] بمعنى أيش؟ بمعنى (لم)، لكنها تفيد قرب مدخولها ليست (لم) للنفي المطلق، أما (لما) فإنها للنفي، لكنها تفيد قُرب مدخولها، تقول مثلًا: فلان لم يقم، هذا نفي مطلق، وتقول: لَمّا يقم فلان، هذا نفي؛ يعني إلى الآن ما قام، لكنه سيقوم عن قُرب. في الآية الكريمة التي نقرؤها الآن: ﴿لَمَّا جَاءَهُمْ﴾، ماذا نعربها؟ ظرف بمعنى (حين)، وفي هذه الحال تكون مبنية؛ لأنها حرف في الواقع، ما هي مشابهة للحرف، وأصل البناء -كما عرفتم- هو مشابهة الاسم للحرف، لكن هذه نفسها حرف، فتكون ظرفًا، لكنها مبنية على السكون في محل نصب بمعنى (حين). ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ﴾ الفاء عاطفة، ويحتمل أن تكون للسببية أيضًا. ﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أي: سوف يأتيهم الْمَخْبَر الذي أخبروا به، الأنباء أتتهم من قبل، لكن المراد يأتيهم عقوبة الأنباء التي كانوا يستهزئون بها. ﴿أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أي: يتخذونه هزوًا ولعبًا وضحكًا، وكما نعلم جميعًا أن الكفار يتخذون الدين هزوًا، وأنهم يتخذون أهل الدين هزوًا أيضًا، أليس كذلك؟ * طلبة: بلى. * الشيخ: قال الله تعالى: ﴿قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾ [التوبة ٦٥]، وقال عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ﴾ [المطففين ٢٩ - ٣١]. فقوله: ﴿مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ يشمل استهزاءهم بالدين، واستهزاءهم بالرسل وبأتباعهم، بل وبالله عز وجل سيجدون هذا. نرجع إلى الفوائد. * من فوائد الآية الكريمة: أن هؤلاء مع تواتر الآيات عليهم كذبوا بالحق ولم يستجيبوا له، والتكذيب بالحق بعد مجيئه أشد من التكذيب به قبل أن يأتي بحيث يسمع الإنسان عنه، ولكنه لم يتأكد، فإن هذا الذي أتاه الحق وكذَّب به يكون تكذيبه أعظم. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن هذا الحكم لمن قامت عليه الحجة بمجيء الحق إليه، وأما من لم يعرف الحق فإنه على قسمين تارةً يدين بدين الحق، لكنه لا يعرفه، وتارة يدين بدين الباطل، ولا ينتسب لدين الحق. الأول: الذي يدين بالباطل، لكنه ينتسب لدين الحق، فيصلي، ويُزكّي، ويصوم، ويحج، لكنه يستغيث بالأموات، هذا نقول: إنا لا نحكم بإسلامه إذا لم تقم عليه الحجة. والآخر: لا يدين بدين الإسلام أصلًا، هو لم تبلغه الحجة، ولم يدرِ أنه على ضلال، لكنه يدين بدين غير الإسلام، فكيف نعامله؟ نعامله بأنه كافر؛ ولهذا لو مات أحد الآن لم تبلغه الدعوة من غير المسلمين فإننا لا نصلي عليه، ولا نترحم عليه؛ لأنه يدين بدين غير الإسلام، لكنه في الآخرة أمره إلى الله عز وجل، أما لو كان مسلمًا يدين بدين الإسلام، ويقول: أشهد أن لا إله الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، لكنه يأتي شركًا أكبر لا يدري أنه شرك أكبر، فهذا نعامله معاملة المسلم، نُغسّله، ونُكفّنه، ونصلي عليه، وندفنه معنا ما دام لم تقم عليه الحجة. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: الإشارة إلى أن هؤلاء سوف يُمهلون، ولا يأتيهم العذاب؛ لقوله: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾. قال الله تعالى: ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ فسّرناها. * من فوائد هذه الآية الكريمة: أن هؤلاء كذبوا بالحق بعد أن جاءهم فيكون تكذيبهم أشد قبحًا وأعظم إثمًا؛ ذلك لقيام الحجة عليهم. * ومن فوائدها: تهديد هؤلاء بالعذاب؛ لقوله: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن تكذيب هؤلاء مقرون بالاستهزاء؛ إذ إنهم يسخرون: كيف نُبعث وقد كنا عظامًا ورفاتًا؟! ويقولون: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص ٥] فسيأتيهم هذا أنباء ما كانوا به يستهزئون. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن هؤلاء الكفار عندهم عناد والعياذ بالله؛ وذلك أنهم قرنوا كفرهم بالاستهزاء فلم يَسلم الشرع، ولا من جاء بالشرع من استهزائهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب