الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهم وإنَّ فَرِيقًا مِنهم لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وهم يَعْلَمُونَ﴾ ﴿الحَقُّ مِن رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِن المُمْتَرِينَ﴾ ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هو مُوَلِّيها فاسْتَبِقُوا الخَيْراتِ أيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إنَّ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ﴿وَمِن حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ وإنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَبِّكَ وما اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ﴾ (p-٣٧٨)"الَّذِينَ" في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ، والخَبَرُ "يَعْرِفُونَهُ"، ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ خَفْضٍ نَعْتًا لِلظّالِمِينَ، و"يَعْرِفُونَهُ" في مَوْضِعِ الحالِ. وخُصَّ الأبْناءُ دُونَ الأنْفُسِ وهي ألْصَقُ، لِأنَّ الإنْسانَ يَمُرُّ عَلَيْهِ مِن زَمَنِهِ بُرْهَةً لا يَعْرِفُ فِيها نَفْسَهُ، ولا يَمُرُّ عَلَيْهِ وقْتٌ لا يَعْرِفُ فِيهِ ابْنَهُ. والمُرادُ هُنا مَعْرِفَةُ الوَجْهِ ومَيْزُهُ لا مَعْرِفَةَ حَقِيقَةِ النَسَبِ، ولِعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلامٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ في هَذا المَوْضِعِ كَلامٌ مُعْتَرِضٌ يَأْتِي مَوْضِعُهُ إنْ شاءَ اللهُ. والضَمِيرُ في "يَعْرِفُونَهُ" عائِدٌ عَلى الحَقِّ في القِبْلَةِ والتَحَوُّلِ بِأمْرِ اللهِ إلى الكَعْبَةِ. قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ، وابْنُ جُرَيْجٍ، والرَبِيعُ. وقالَ قَتادَةُ أيْضًا، ومُجاهِدٌ، وغَيْرُهُما: هو عائِدٌ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ، أيْ يَعْرِفُونَ صِدْقَهُ ونُبُوَّتَهُ. (p-٣٧٩)والفَرِيقُ: الجَماعَةُ، وخُصَّ لِأنَّ مِنهم مَن أسْلَمَ ولَمْ يَكْتُمْ، والإشارَةُ بِالحَقِّ إلى ما تَقَدَّمَ مِنَ الخِلافِ في ضَمِيرِ "يَعْرِفُونَهُ"، فَعَمَّ الحَقَّ مُبالَغَةً في ذَمِّهِمْ. ﴿وَهم يَعْلَمُونَ﴾ ظاهِرٌ في صِحَّةِ الكُفْرِ عِنادًا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿الحَقُّ مِن رَبِّكَ﴾، الحَقُّ رُفِعَ عَلى إضْمارِ الِابْتِداءِ، والتَقْدِيرُ هو الحَقُّ، ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ ابْتِداءً والخَبَرُ مُقَدَّرٌ بَعْدَهُ. وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "الحَقَّ" بِالنَصْبِ عَلى أنْ يَعْمَلَ فِيهِ "يَعْلَمُونَ"، ويَصِحُّ نَصْبُهُ عَلى تَقْدِيرِ: الزَمِ الحَقَّ. ﴿فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ﴾، الخِطابُ لِلنَّبِيِّ ﷺ، والمُرادُ أُمَّتُهُ. وامْتَرى في الشَيْءِ إذا شَكَّ فِيهِ، ومِنهُ المِراءُ لِأنَّ هَذا يَشُكُّ في قَوْلِ هَذا، وأنْشَدَ الطَبَرِيُّ شاهِدًا عَلى أنَّ المُمْتَرِينَ الشاكُونَ: قَوْلُ الأعْشى: ؎ تَدُرُّ عَلى أسْؤُقِ المُمْتَرِينَ رَكَضًا إذا ما السَرابُ ارْجَحَنْ ووَهِمَ في ذَلِكَ لِأنَّ أبا عُبَيْدَةَ وغَيْرَهُ قالُوا: المُمْتَرُونَ في البَيْتِ هُمُ الَّذِينَ يَمُرُّونَ الخَيْلَ بِأرْجُلِهِمْ هَمْزًا لِتَجْرِيَ، كَأنَّهم يَحْتَلِبُونَ الجَرْيَ مِنها، فَلَيْسَ في البَيْتِ مَعْنًى مِنَ الشَكِّ كَما قالَ الطَبَرِيُّ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ﴾، الوِجْهَةُ: فِعْلَةٌ مِنَ المُواجَهَةِ، كالقِبْلَةِ، وقَوْلُهُ: "هُوَ" (p-٣٨٠)عائِدٌ عَلى اللَفْظِ المُفْرَدِ في "كُلٍّ"، والمُرادُ بِهِ الجَماعاتُ، المَعْنى: لِكُلِّ صاحِبِ مِلَّةٍ وِجْهَةٌ هو مُوَلِّيها نَفْسَهُ. قالَهُالرَبِيعُ، وعَطاءٌ، وابْنُ عَبّاسٍ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ عامِرٍ وحْدَهُ مِنَ السَبْعَةِ: "هُوَ مَوْلاها". وقالَتْ طائِفَةٌ: الضَمِيرُ في "هُوَ" عائِدٌ عَلى اللهِ تَعالى، والمَعْنى: اللهُ مُوَلِّيها إيّاهُمْ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: المَعْنى في الآيَةِ أنَّ لِلْكُلٍّ دِينًا وشَرْعًا وهو دِينُ اللهِ ومِلَّةُ مُحَمَّدٍ، وهو مُوَلِّيها إيّاهُمُ، اتَّبَعَها مَنِ اتَّبَعَها، وتَرَكَها مَن تَرَكَها. وقالَ قَتادَةُ: المُرادُ بِالآيَةِ أنَّ الصَلاةَ إلى الشامِ ثُمَّ الصَلاةَ إلى الكَعْبَةِ، لِكُلِّ واحِدَةٍ مِنهُما وجِهَةٌ، اللهُ مُوَلِّيها إيّاهم. وحَكى الطَبَرِيُّ أنَّ قَوْمًا قَرَؤُوا: "لِكُلٍّ وِجْهَةٌ" بِإضافَةِ "كُلٍّ إلى وِجْهَةٍ، وخَطَّأها الطَبَرِيُّ، وهي مُتَّجِهَةٌ، أيْ: فاسْتَبْقُوا الخَيْراتِ لِكُلِّ وِجْهَةٍ ولاكَمُوها، ولا تَعْتَرِضُوا فِيما أمَرَكم مِن هَذِهِ وهَذِهِ، أيْ إنَّما عَلَيْكُمُ الطاعَةَ في الجَمِيعِ، وقَدَّمَ قَوْلَهَ: "كُلٍّ وِجْهَةٌ" عَلى الأمْرِ في قَوْلِهِ: "فاسْتَبِقُوا" لِلِاهْتِمامِ بِالوِجْهَةِ كَما يُقَدَّمُ المَفْعُولُ، وذَكَرَ أبُو عَمْرٍو الدانِيُّ هَذِهِ القِراءَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ. وسَلِمَتِ الواوُ في "وِجْهَةٍ" ولَمْ تَجْرِ كَعِدَةٍ وزِنَةٍ، لِأنَّ جْهَةً ظَرْفٌ، وتِلْكَ مَصادِرُ فَسَلِمَتْ لِلْفَرْقِ، وأيْضًا فَلْيُكْمِلْ بِناءَ الهَيْئَةِ كالجِلْسَةِ، وقالَ أبُو عَلِيٍّ: ذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّهُ مَصْدَرٌ شَذَّ عَنِ القِياسِ فَسَلِمَ، وقَوْمٌ إلى أنَّهُ اسْمٌ لَيْسَ بِمَصْدَرٍ، قالَ غَيْرُ أبِي عَلِيٍّ: وإذا أرَدْتَ المَصْدَرَ قُلْتَ: جِهَةً وقَدْ يُقالُ الجِهَةُ في الظَرْفِ. وحَكى الطَبَرِيُّ عن مَنصُورٍ أنَّهُ قالَ: نَحْنُ نَقْرَؤُها: "وَلِكُلٍّ جَعَلْنا قِبْلَةً يَرْضَوْنَها"، ثُمَّ أمَرَ تَعالى عِبادَهُ بِاسْتِباقِ الخَيْراتِ والبِدارِ إلى سَبِيلِ النَجاةِ، ثُمَّ وعَظَهم بِذِكْرِ الحَشْرِ مَوْعِظَةً تَتَضَمَّنُ وعِيدًا وتَحْذِيرًا. (p-٣٨١)وَقَوْلُهُ: ﴿يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا﴾، يَعْنِي بِهِ البَعْثَ مِنَ القُبُورِ. ثُمَّ اتَّصَفَ اللهُ تَعالى بِالقُدْرَةِ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ لِتَناسُبِ الصِفَةِ مَعَ ما ذُكِرَ مِنَ الإتْيانِ بِهِمْ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمِن حَيْثُ خَرَجْتَ﴾ مَعْناهُ: حَيْثُ كُنْتُ وأنّى تَوَجَّهْتُ مِن مَشارِقِ الأرْضِ ومَغارِبِها، ثُمَّ تَكَرَّرَتْ هَذِهِ الآيَةُ تَأْكِيدًا مِنَ اللهِ تَعالى لِأنَّ مَوْقِعَ التَحْوِيلِ كانَ صَعْبًا في نُفُوسِهِمْ جِدًّا فَأكَّدَ الأمْرَ لِيَرى الناسُ التَهَمُّمَ بِهِ فَيَخِفُّ عَلَيْهِمْ وتَسْكُنُ نُفُوسُهم إلَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب