الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عن مِلَّةِ إبْراهِيمَ إلا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ولَقَدِ اصْطَفَيْناهُ في الدُنْيا وإنَّهُ في الآخِرَةِ لَمِنَ الصالِحِينَ﴾ ﴿إذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أسْلِمْ قالَ أسْلَمْتُ لِرَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿وَوَصّى بِها إبْراهِيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ "مَنِ" اسْتِفْهامٌ في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ، و"يَرْغَبُ" خَبَرُهُ، والمَعْنى يَزْهَدُ فِيها ويَرْبَأُ بِنَفْسِهِ عنها، والمِلَّةُ: الشَرِيعَةُ والطَرِيقَةُ، و"سَفِهَ" مِنَ السَفَهِ الَّذِي مَعْناهُ الرِقَّةُ والخِفَّةُ. واخْتُلِفَ في نَصْبِ "نَفْسَهُ" فَقالَ الزَجّاجُ: "سَفِهَ" بِمَعْنى جَهِلَ، وعَدّاهُ بِالمَعْنى، وقالَ غَيْرُهُ: "سَفِهَ" بِمَعْنى أُهْلِكَ. وحَكى ثَعْلَبٌ، والمُبَرِّدُ: أنْ "سَفِهَ" بِكَسْرِ الفاءِ يَتَعَدّى كَسَفَهٍ بِفَتْحِ الفاءِ وشَدِّها، وحُكِيَ عن أبِي الخَطّابِ أنَّها لُغَةٌ. وقالَ الفَرّاءُ: نَصْبُها عَلى التَمْيِيزِ. (p-٣٥٤)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: لِأنَّ السَفَهَ يَتَعَلَّقُ بِالنَفْسِ والرَأْيِ والخُلُقِ، فَكَأنَّهُ مَيَّزَها بَيْنَ هَذِهِ، ورَأْيِي أنَّ هَذا التَعْرِيفَ لَيْسَ بِمَحْضٍ لِأنَّ الضَمِيرَ فِيهِ الإبْهامُ الَّذِي في "مَن"، فَكَأنَّ الكَلامَ: إلّا مَن سَفِهَ نَفْسًا. وقالَ البَصْرِيُّونَ: لا يَجُوزُ التَمْيِيزُ مَعَ هَذا التَعْرِيفِ، وإنَّما النَصْبُ عَلى تَقْدِيرِ حَذْفِ "فِي"، فَلَمّا انْحَذَفَ حَرْفُ الجَرِّ قَوِيَ الفِعْلُ، وهَذا يَجْرِي عَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ فِيما حَكاهُ مِن قَوْلِهِمْ: ضَرَبَ فَلانٌ الظَهْرَ والبَطْنَ أيْ في الظَهْرِ والبَطْنِ. وحَكى مَكِّيٌّ أنَّ التَقْدِيرَ "إلّا مَن سَفِهَ قَوْله نَفْسَهُ"، عَلى أنَّ نَفْسَهُ تَأْكِيدٌ، حُذِفَ المُؤَكَّدُ وأُقِيمَ التَوْكِيدُ مَقامَهُ قِياسًا عَلى النَعْتِ والمَنعُوتِ، وهَذا قَوْلٌ مُتَحامِلٌ. واصْطَفى: افْتَعَلَ مِنَ الصَفْوَةِ، مَعْناهُ: تَخَيَّرَ الأصْفى، وأُبْدِلَتِ التاءُ طاءً لِتَناسُبِها مَعَ الصادِ في الإطْباقِ. ومَعْنى هَذا الِاصْطِفاءِ أنَّهُ نَبَّأهُ واتَّخَذَهُ خَلِيلًا، و﴿فِي الآخِرَةِ﴾ مُتَعَلِّقٌ باسِمِ فاعِلٍ مُقَدَّرٍ مِنَ الصَلاحِ، ولا يَصْلُحُ تَعَلُّقُهُ بِـ "الصالِحِينَ" لِأنَّ الصِلَةَ لا تَتَقَدَّمُ المَوْصُولَ، هَذا عَلى أنْ تَكُونَ الألِفُ واللامُ بِمَعْنى الَّذِي، وقالَ بَعْضُهُمُ: الألِفُ واللامُ هُنا لِلتَّعْرِيفِ، ويَسْتَقِيمُ الكَلامُ، وقِيلَ: المَعْنى أنَّهُ في عَمَلِ الآخِرَةِ ﴿لَمِنَ الصالِحِينَ﴾، فالكَلامُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أسْلِمْ﴾، العامِلُ في ( إذِ اصْطَفَيْناهُ )، وكانَ هَذا القَوْلُ مِنَ اللهِ حِينَ ابْتَلاهُ بِالكَوْكَبِ والقَمَرِ والشَمْسِ. والإسْلامُ هُنا عَلى أتَمِّ وُجُوهِهِ. (p-٣٥٥)وَقَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ: "وَأوصى". وقَرَأ الباقُونَ ووَصّى، والمَعْنى واحِدٌ، إلّا أنَّ وصّى يَقْتَضِي التَكْثِيرَ، والضَمِيرُ في "بِها" عائِدٌ عَلى كَلِمَتِهِ الَّتِي هِيَ: ﴿أسْلَمْتُ لِرَبِّ العالَمِينَ﴾، وقِيلَ: عَلى المِلَّةِ المُتَقَدِّمَةِ، والأوَّلُ أصْوَبُ لِأنَّهُ أقْرَبُ مَذْكُورٍ. وقَرَأ عَمْرُو بْنُ فائِدٍ الأسْوارِيُّ: ويَعْقُوبَ بِالنَصْبِ عَلى أنَّ يَعْقُوبَ داخِلٌ فِيمَن أوصى. واخْتُلِفَ في إعْرابِ رَفْعِهِ، فَقالَ قَوْمٌ مِنَ النُحاةِ: التَقْدِيرُ، ويَعْقُوبُ أوصى بَنِيهِ أيْضًا، فَهو عَطْفٌ عَلى " إبْراهِيمُ ". وقالَ بَعْضُهُمْ: هو مَقْطُوعٌ مُنْفَرِدٌ بِقَوْلِهِ: "يا بَنِيَّ" فَتَقْدِيرُ الكَلامِ "وَيَعْقُوبَ قالَ: يا بَنِيَّ". واصْطَفى هُنا مَعْناهُ تَخَيَّرَ صَفْوَةَ الأدْيانِ، والألِفُ واللامُ في "الدِينَ" لِلْعَهْدِ لِأنَّهم قَدْ كانُوا عَرَفُوهُ. وكُسِرَتْ "إنَّ بَعْدَ وصّى"؛ لِأنَّها بِمَعْنى القَوْلِ، ولِذَلِكَ سَقَطَتْ "أنِ" الَّتِي تَقْتَضِيها "أوصى" في قَوْلِهِ: "أنْ يا بَنِيَّ". وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ والضَحّاكُ: "أنْ يا بَنِيَّ" بِثُبُوتٍ أنْ. وقَوْلُهُ: ﴿فَلا تَمُوتُنَّ إلا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ إيجازٌ بَلِيغٌ، وذَلِكَ أنَّ المَقْصُودَ مِنهُ أمْرُهم بِالإسْلامِ والدَوامِ عَلَيْهِ فَأتى ذَلِكَ بِلَفْظٍ مُوجَزٍ يَقْتَضِي المَقْصُودَ ويَتَضَمَّنُ وعْظًا وتَذْكِيرًا (p-٣٥٦)بِالمَوْتِ، وذَلِكَ أنَّ المَرْءَ يَتَحَقَّقُ أنَّهُ يَمُوتُ ولا يَدْرِي مَتى، فَإذا أمَرَ بِأمْرٍ لا يَأْتِيهِ المَوْتُ إلّا وهو عَلَيْهِ فَقَدْ تُوَجِّهَ مِن وقْتِ الأمْرِ دائِبًا لازِمًا. وحَكى سِيبَوَيْهِ -فِيما يُشْبِهُ هَذا المَعْنى- قَوْلَهُمْ: لا أُرِيَنَّكَ هاهُنا، ولَيْسَ إلى المَأْمُورِ أنْ يَحْجُبَ إدْراكَ الأمْرِ عنهُ، فَإنَّما المَقْصُودُ: اذْهَبْ وزِلْ عن هاهُنا، فَجاءَ بِالمَقْصُودِ بِلَفْظٍ يَزِيدُ مَعْنى الغَضَبِ والكَراهِيَةِ. ﴿وَأنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ابْتِداءٌ وخَبَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب