الباحث القرآني

﴿إذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أسْلِمْ قالَ أسْلَمْتُ لِرَبِّ العالَمِينَ﴾: هَذا مِنَ الِالتِفاتِ، إذْ لَوْ جَرى عَلى الكَلامِ السّابِقِ، لَكانَ: إذْ قُلْنا لَهُ أسْلِمْ، وعَكْسُهُ في الخُرُوجِ مِنَ الغائِبِ إلى الخِطابِ قَوْلُهُ: ؎باتَتْ تَشَكّى إلَيَّ النَّفْسُ مُجْهِشَةً وقَدْ حَمَلْتُكِ سَبْعًا بَعْدَ سَبْعِينا والعامِلُ في إذْ: قالَ أسْلَمْتُ. وقِيلَ: ولَقَدِ اصْطَفَيْناهُ، أيِ: اخْتَرْناهُ في ذَلِكَ الوَقْتِ، وجَوَّزَ بَعْضُهم أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن قَوْلِهِ: في الدُّنْيا، وأبْعَدَ مَن جَعَلَ ”إذْ قالَ“ في مَوْضِعِ الحالِ مِن قَوْلِهِ: ”ولَقَدِ اصْطَفَيْناهُ“، وجَعَلَ العامِلَ في الحالِ اصْطَفَيْناهُ، وقِيلَ: مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ اذْكُرْ. وعَلى تَقْدِيرِ أنَّ العامِلَ اصْطَفَيْناهُ أوِ اذْكُرِ المُقَدَّرَةُ، يَبْقى قَوْلُهُ: قالَ أسْلَمْتُ، لا يَنْتَظِمُ مَعَ ما قَبْلَهُ، إلّا إنْ قُدِّرَ، يُقالُ: فَحُذِفَ حَرْفُ العَطْفِ، أوْ جُعِلَ جَوابًا لِكَلامٍ مُقَدَّرٍ، أيْ: ما كانَ جَوابُهُ ؟ قالَ: أسْلَمْتُ. وهَلِ القَوْلُ هُنا عَلى بابِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ وطَلَبٍ، أمْ هَذا كِنايَةٌ عَمّا جَعَلَ اللَّهُ في سَجِيَّتِهِ مِنَ الدَّلائِلِ المُفْضِيَةِ إلى الوَحْدانِيَّةِ وإلى شَرِيعَةِ الإسْلامِ ؟ فَجُعِلَتِ الدَّلالَةُ قَوْمًا عَلى سَبِيلِ المَجازِ، وإذا حُمِلَ عَلى القَوْلِ حَقِيقَةً، فاخْتَلَفُوا مَتى قِيلَ لَهُ ذَلِكَ. فالأكْثَرُونَ عَلى أنَّهُ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وقَبْلَ البُلُوغِ، وذَلِكَ عِنْدَ اسْتِدْلالِهِ بِالكَوْكَبِ والقَمَرِ والشَّمْسِ، واطِّلاعِهِ عَلى أماراتِ الحُدُوثِ فِيها، وإحاطَتِهِ بِافْتِقارِها إلى مُدَبِّرٍ يُخالِفُها في الجِسْمِيَّةِ (p-٣٩٦)وأماراتِ الحُدُوثِ، فَلَمّا عَرَفَ رَبَّهُ، قالَ تَعالى لَهُ: أسْلِمْ. وقِيلَ: كانَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، فَيُئَوَّلُ الأمْرُ بِالإسْلامِ عَلى أنَّهُ أمَرَ بِالثَّباتِ والدَّيْمُومَةِ، إذْ هو مُتَحَلٍّ بِهِ وقْتَ الأمْرِ، ويَكُونُ الإسْلامُ هُنا عَلى بابِهِ، والمَعْنى: عَلى شَرِيعَةِ الإسْلامِ. وقِيلَ: الإسْلامُ هُنا غَيْرُ المَعْرُوفِ، وأُوِّلَ عَلى وُجُوهٍ، فَقالَ عَطاءٌ: مَعْناهُ سَلِّمْ نَفْسَكَ. وقالَ الكَلْبِيُّ وابْنُ كَيْسانَ: أخْلِصْ دِينَكَ. وقِيلَ: اخْشَعْ واخْضَعْ لِلَّهِ. وقِيلَ: اعْمَلْ بِالجَوارِحِ؛ لِأنَّ الإيمانَ هو صِفَةُ القَلْبِ، والإسْلامَ هو صِفَةُ الجَوارِحِ، فَلَمّا كانَ مُؤْمِنًا بِقَلْبِهِ كَلَّفَهُ بَعْدُ عَمَلَ الجَوارِحِ، وفي قَوْلِهِ: أسْلَمَ، تَقْدِيرُ مَحْذُوفٍ، أيْ: أسْلِمْ لِرَبِّكَ. وأجابَ بِأنَّهُ أسْلَمَ لِرَبِّ العالَمِينَ، فَتُضَمَّنُ أنَّهُ أسْلَمَ لِرَبِّهِ؛ لِأنَّهُ فَرْدٌ مِن أفْرادِ العُمُومِ، وفي العُمُومِ مِنَ الفَخامَةِ ما لا يَكُونُ في الخُصُوصِ؛ لِذَلِكَ عَدَلَ عَنْ أنْ يَقُولَ: أسْلَمْتُ لِرَبِّي، ومَن كانَ رَبًّا لِلْعالَمِينَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ جَمِيعُهم مُسْلِمِينَ لَهُ مُنْقادِينَ. وقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآياتُ الكَرِيمَةُ ابْتِداءً قِصَصَ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَذَكَرَ أوَّلًا ابْتِلاءَهُ بِالكَلِماتِ، وإتْمامَهُ إيّاهُنَّ، واسْتِحْقاقَهُ الإمامَةِ بِذَلِكَ عَلى النّاسِ كُلِّهِمْ في زَمانِهِ، وسُؤالَ إبْراهِيمَ الإمامَةَ لِذُرِّيَّتِهِ؛ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ ومَحَبَّةً مِنهُ لَهم، وإيثارًا أنْ يَكُونَ في ذُرِّيَّتِهِ مَن يَخْلُفُهُ في الإمامَةِ، وإجابَةُ اللَّهِ لَهُ بِأنَّ عَهْدَهُ لا يَنالُهُ ظالِمٌ، وفي طَيِّهِ أنَّ مَن كانَ عادِلًا قَدْ يَنالُ ذَلِكَ. وكانَ في ابْتِداءِ قِصَصِ إبْراهِيمَ بَنِيهِ وذُرِّيَّتِهِ مِن بَنِي إسْرائِيلَ وغَيْرِهِمْ، عَلى فَضِيلَتِهِ وخُصُوصِيَّتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، لِيَكُونَ ذَلِكَ حامِلًا لَهم عَلى اتِّباعِهِ، فَإنَّهُ إذا كانَ لِلشَّخْصِ والِدٌ مُتَّصِفٌ بِصِفاتِ الكَمالِ، أوْشَكَ ولَدُهُ أنْ يَتْبَعَهُ وأنْ يَسْلُكَ مَنهَجَهُ، لِما في الطَّبْعِ مِنَ اتِّباعِ الآباءِ والِاقْتِفاءِ لِآثارِهِمْ؛ ألا تَرى إلى قَوْلِهِ: ”﴿إنّا وجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ﴾ [الزخرف: ٢٢]“ ؟ . ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى شَرَفَ البَيْتِ الحَرامِ، وجَعْلَهُ مَقْصِدًا لِلنّاسِ يَؤُمُّونَ إلَيْهِ، ومَلْجَأً يَأْمَنُونَ فِيهِ، وأمْرَهُ تَعالى لِلنّاسِ بِالِاتِّخاذِ مِن مَقامِ إبْراهِيمَ مُصَلًّى، فَحَصَلَ لَهُمُ الِاقْتِداءُ بِأنْ جَعَلَ مَقامَهُ مَكانَ عِبادَةٍ ومَحَلَّ إجابَةٍ. ثُمَّ ذَكَرَ عَهْدَهُ لِإبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ بِتَطْهِيرِ البَيْتِ، حَيْثُ صارَ مَحَلَّ عِبادَةٍ لِلَّهِ تَعالى، ومَكانُ عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى يَجِبُ أنْ يَكُونَ مُطَهَّرًا مِنَ الأرْجاسِ والأنْجاسِ. وأشارَ بِتَطْهِيرِ المَحَلِّ إلى تَطْهِيرِ الحالِ فِيهِ ظاهِرًا وباطِنًا، وإلى تَطْهِيرِ ما يَقَعُ فِيهِ مِنَ العِبادَةِ، بِالإخْلاصِ لِلَّهِ تَعالى، فَلا يُنَجَّسُ بِشَيْءٍ مِنَ الرِّياءِ، بَلْ يُطَهَّرُ بِإخْلاصِها لِلَّهِ تَعالى. ثُمَّ أشارَ إلى مَن طُهِّرَ البَيْتُ لِأجْلِهِ، وهُمُ الطّائِفُونَ والعاكِفُونَ والمُصَلُّونَ، فَنَبَّهَ عَلى هَذِهِ العِباداتِ الَّتِي تَكُونُ في البَيْتِ، ودَلَّ عَلى أنَّ البَيْتَ لا يَصْلُحُ بِشَيْءٍ مِن أُمُورِ الدُّنْيا، كالبَيْعِ والشِّراءِ وعَمَلِ الصَّنائِعِ والحِرَفِ والخُصُوماتِ، وأنَّهُ إنَّما هُيِّيءَ لِوُقُوعِ العِباداتِ فِيهِ. ثُمَّ ذَكَرَ دُعاءَ إبْراهِيمَ رَبَّهُ بِجَعْلِ هَذا البَيْتِ مَحَلَّ أمْنٍ، ودُعاءَهُ لَهم بِالخِصْبِ والرِّزْقَ، وتَخْصِيصَ ذَلِكَ الدُّعاءِ بِالمُؤْمِنِينَ، إذِ الأمْنُ والخِصْبُ هُما سَبَبانِ لِعِمارَةِ هَذا البَيْتِ وقَصْدِ النّاسِ لَهُ. ثُمَّ أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى أنَّ مَن كَفَرَ فَتَمْتِيعُهُ قَلِيلٌ ومَآلُهُ إلى النّارِ؛ لِيَكُونَ التَّخْوِيفُ حامِلًا عَلى التَّقَيُّدِ بِالإيمانِ والِانْقِيادِ لِلطّاعاتِ، ولِيَدُلَّ عَلى أنَّ الرِّزْقَ في الدُّنْيا لَيْسَ مُخْتَصًّا بِمَن آمَنَ، بَلْ رِزْقُ اللَّهِ يَشْتَرِكُ فِيهِ البَرُّ والفاجِرُ. ثُمَّ ذَكَرَ رَفْعَ إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ قَواعِدَ البَيْتِ، وما دَعَوا بِهِ إذْ ذاكَ مِن طَلَبِ تَقَبُّلِ ما يَفْعَلانِهِ، والثَّباتِ عَلى الإسْلامِ، والدُّعاءِ بِأنْ يَكُونَ مِن ذُرِّيَّتِهِما مُسْلِمُونَ، وإراءَةِ المَناسِكِ والتَّوْبَةِ، وبَعْثَةِ رَسُولٍ مِن أُمَّتِهِ يَهْدِيهِمْ إلى طَرِيقِ الإسْلامِ بِما يُوحى إلَيْهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ، ويُطَهِّرُهم مِنَ الجَرائِمِ والآثامِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى مَشْرُوعِيَّةِ الأدْعِيَةِ الصّالِحَةِ عِنْدَ الِالتِباسِ بِالعِباداتِ، وأفْعالِ الطّاعاتِ، وأنَّ ذَلِكَ الوَقْتَ مَظَنَّةُ إجابَةٍ، وفي ذَلِكَ جَوازُ الدُّعاءِ لِلْمُلْتَبِسِ بِالطّاعَةِ، ولِمَن أحَبَّ أنْ يَدْعُوَ لَهُ. وخَتَمَ كُلَّ دُعاءٍ بِما يُناسِبُهُ مِمّا قَبْلَهُ. ولَمْ يَكُنْ في هَذا الدُّعاءِ شَيْءٌ مُتَعَلِّقٌ بِأحْوالِ الدُّنْيا، إنَّما كانَ كُلُّهُ دُعاءً بِما يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدِّينِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى عَدَمِ اكْتِراثِ إبْراهِيمَ وابْنِهِ إسْماعِيلَ بِأحْوالِ الدُّنْيا حالَةَ بِناءِ هَذا البَيْتِ ورَفْعِ قَواعِدِهِ. وقَدْ تَقَدَّمَ دُعاؤُهُ بِالأمْنِ والخِصْبِ، لَكِنْ كانَ (p-٣٩٧)ذَلِكَ بَعْدَ أنْ كَمَّلَ البَيْتَ وفَرَغَ مِنَ التَّعَبُّدِ بِبِنائِهِ ورَفْعِ قَواعِدِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ شَرَفَ إبْراهِيمَ وطَواعِيَتُهُ لِرَبِّهِ، واخْتِصاصُهُ في زَمانِهِ بِالإمامَةِ، وصَيْرُورَتُهُ مُقْتَدًى بِهِ. ذَكَرَ أنَّهُ لا يَرْغَبُ عَنْ طَرِيقَتِهِ إلّا خاسِرُ الصَّفْقَةِ؛ لِأنَّهُ المُصْطَفى في الدُّنْيا، الصّالِحُ في الآخِرَةِ. وخَتَمَ ذَلِكَ بِانْقِيادِهِ لِأمْرِ اللَّهِ تَعالى، فَأوَّلُ قِصَّتِهِ إتْمامُهُ ما كَلَّفَهُ اللَّهُ بِهِ، وآخِرُها التَّسْلِيمُ لِلَّهِ، والِانْقِيادُ إلَيْهِ - صَلّى اللَّهُ عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِ وسَلَّمَ - .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب