الباحث القرآني

(p-٥١١)قوله عزّ وجلّ: ﴿رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الفُلْكَ في البَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ إنَّهُ كانَ بِكم رَحِيمًا﴾ ﴿وَإذا مَسَّكُمُ الضُرُّ في البَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إلا إيّاهُ فَلَمّا نَجّاكم إلى البَرِّ أعْرَضْتُمْ وكانَ الإنْسانُ كَفُورًا﴾ ﴿أفَأمِنتُمْ أنْ يَخْسِفَ بِكم جانِبَ البَرِّ أو يُرْسِلَ عَلَيْكم حاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكم وكِيلا﴾ ﴿أمْ أمِنتُمْ أنْ يُعِيدَكم فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكم قاصِفًا مِنَ الرِيحِ فَيُغْرِقَكم بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكم عَلَيْنا بِهِ تَبِيعًا﴾ "الإزْجاءُ": سُوقُ الثَقِيلِ السَيْرِ؛ إمّا لِضَعْفٍ أو ثِقَلِ حَمْلٍ أو غَيْرِهِ، فالإبِلُ الضِعافُ تُزْجى، ومِنهُ قَوْلُ الفَرَزْدَقَ: ؎ عَلى زَواحِفَ تُزْجِيها مَحاسِيرِ والسَحابُ تُزْجى، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللهَ يُزْجِي سَحابًا﴾ [النور: ٤٣]، والبِضاعَةُ المُزْجاةُ هي الَّتِي تَحْتاجُ لِاخْتِلالِها أنْ تُساقَ بِشَفاعَةٍ وتُدْفَعَ بِمُعاوِنٍ إلى الَّذِي يَقْبِضُها، وإزْجاءُ الفُلْكِ سُوقُهُ بِالرِيحِ اللَيِّنَةِ والمَجادِيفِ. و"الفُلْكُ" هُنا جَمْعٌ. و"البَحْرُ": الماءُ الكَثِيرُ عَذْبًا كانَ أو مِلْحًا، وقَدْ غَلُبَ الِاسْمُ عَلى هَذا المَشْهُورِ والفُلْكُ تَجْرِي فِيهِ، وقَوْلُهُ: ﴿لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ﴾ لَفْظٌ يَعُمُّ البَحْرَ وطَلَبَ الأجْرِ في حَجٍّ أو غَزْوٍ أو نَحْوَهُ، ولا خِلافَ في جَوازِ رُكُوبِهِ لِلْحَجِّ والجِهادِ والمَعاشِ، واخْتُلِفَ في وُجُوبِهِ لِلْحَجِّ، أعْنِي الكَثِيرَ مِنهُ. واخْتُلِفَ في كَراهِيَتِهِ لِلثَّرْوَةِ وتَزِيدًا لِمالٍ، وقَدْ أُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِرُكُوبِهِ لِلْغَزْوِ في حَدِيثِ أُمِّ حَرامٍ، وقَدْ رُوِيَ عنهُ أنَّهُ قالَ: « "البَحْرُ لا أرْكَبُهُ أبَدًا"،» وهو حَدِيثٌ يَحْتَمِلُ أنَّهُ رَأْيٌ رَآهُ لِنَفْسِهِ، ويُحْتَمَلُ أنَّهُ أُوحِيَ إلَيْهِ ذَلِكَ، وهَذِهِ الآيَةُ تَوْقِيفٌ عَلى آلاءِ اللهِ وفَضْلِهِ عِنْدَ عِبادِهِ. (p-٥١٢)وَ"الضُرُّ" لِفَظٍّ يَعُمُّ خَوْفَ الغَرَقِ، والإمْساكَ في المَشْيِ، وأهْوَلُ حالاتِهِ اضْطِرابُهُ وتَمَوُّجُهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: "ضَلَّ" مَعْناهُ: تَلِفَ وفَقَدَ، وهي عِبارَةُ تَحْقِيرٍ لِمَن يَدَّعِي إلَهًا مَن دُونِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى، والمَعْنى في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ الكُفّارَ إنَّما يَعْتَقِدُونَ في أصْنامِهِمْ أنَّها شافِعَةٌ، وأنَّ لَها فَضْلًا، وكُلُّ واحِدٍ مِنهم بِالفِطْرَةِ يَعْلَمُ عِلْمًا لا يَقْدِرُ عَلى مُدافَعَتِهِ أنَّ الأصْنامَ لا فِعْلَ لَها في الشَدائِدِ العِظامِ، فَوَفَقَهُمُ اللهُ مِن ذَلِكَ عَلى حالَةِ البَحْرِ، وقَوْلُهُ تَعالى: "كَفُورًا" أيْ بِالنِعَمِ. و"الإنْسانُ" هُنا لِلْجِنْسِ، وكُلُّ أحَدٍ لا يَكادُ يُؤَدِّي شُكْرَ اللهِ تَعالى كَما يَجِبُ. وقالَ الزَجّاجُ: "الإنْسانُ" يُرادُ بِهِ الكُفّارُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا غَيْرُ بارِعٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَأمِنتُمْ أنْ يَخْسِفَ بِكم جانِبَ البَرِّ﴾ الآيَةُ. المَعْنى: أفَأمِنتُمْ أيُّها المُعْرِضُونَ الناسُونَ الشِدَّةَ حِينَ صِرْتُمْ إلى الرَخاءِ أنْ يَخْسِفَ اللهُ بِكم مَكانَكم مِنَ البَرِّ؛ إذا أنْتُمْ في قَبْضَةِ القُدْرَةِ في البَحْرِ والبَرِّ. و"الحاصِبُ": العارِضُ الرامِي بِالبَرَدِ والحِجارَةِ ونَحْوَ ذَلِكَ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ مُسْتَقْبِلِينَ شَمالَ الشامِ تَضْرِبُنا ∗∗∗ ∗∗∗ بِحاصِبٍ كَنَدِيفِ القُطْنِ مَنثُورِ ومِنهُ قَوْلُ الأخْطَلِ: ؎ تَرْمِي العِضاةُ بِحاصِبٍ مِن ثَلْجِها ∗∗∗ ∗∗∗ حَتّى يَبِيتَ عَلى العِضاهِ جِفالًا (p-٥١٣)وَمِنهُ الحاصِبُ الَّذِي أصابَ قَوْمَ لُوطٍ. والحَصْبُ: الرَمْيُ بِالحَصْباءِ، وهي الحِجارَةُ الصِغارُ. وقَرَأ نافِعٌ، وعاصِمٌ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "يَخْسِفُ" بِالياءِ، عَلى مَعْنى: يَخْسِفُ اللهُ، وكَذَلِكَ "يُرْسِلَ" و"يُعِيدَكُمْ" و"فَيُرْسِلُ" و "فَيُغْرِقَكُمْ"، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرُو ذَلِكَ كُلَّهُ بِالنُونِ، وقَرَأ - أبُو جَعْفَرٍ، ومُجاهِدٌ: "فَتُغْرِقَكُمْ" بِالتاءِ، أيِ الرِيحِ. وقَرَأ حَمِيدٌ "فَنُغْرِقْكُمْ" بِالنُونِ حَفِيفَةً، وأدْغَمَ القافَ في الكافِ، ورُوِيَتْ عن أبِي عَمْرُو، وابْنِ مُحَيْصِنٍ، وقَرَأ الحَسَنُ، وأبُو رَجاءٍ: "فَنُغَرِّقَكُمْ" بِشَدِّ الراءِ. و"الوَكِيلُ": القائِمُ بِالأُمُورِ، و"القاصِفُ": الَّذِي يَكْسَرُ كُلَّ ما يُلْقى ويَقْصِفُهُ. و"تارَةً" جَمْعُها تاراتٌ وتِيَرٌ، ومَعْناها: مَرَّةٌ أُخْرى، وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ: "مِنَ الرِياحِ" بِالجَمْعِ. و"التَبِيعُ": الَّذِي يَطْلُبُ ثَأْرًا أو دَيْنًا أو نَحْوَ هَذا، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ غَدْوْا وغَدَتْ غِزْلانُهم فَكَأنَّها ∗∗∗ ∗∗∗ ضَوامِنُ عُزْمٍ لَزَّهُنَّ تَبِيعُ ومِن هَذِهِ اللَفْظَةِ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: « "إذا اتَّبَعَ أحَدُكم عَلى مَلِيٍّ فَلْيَتَّبِعْ"،» فالمَعْنى: لا تَجِدُونَ مَن يَتَّبِعُ فِعْلَنا بِكم ويَطْلُبُ نُصْرَتَكم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب