الباحث القرآني

أخبر سبحانه أنه قدر ما يصيبهم من البلاء في أنفسهم قبل أن يبرأ الأنفس أو المصيبة أو الأرض أو المجموع. وهو الأحسن. ثم أخبر أن مصدر ذلك قدرته عليه وأنه يسير عليه، وحكمته البالغة التي منها أن لا يحزن عباده على ما فاتهم إذا علموا أن المصيبة فيه بقدره وكتابته، ولا بد قد كتبت قبل خلقهم هان عليهم الفائت فلم يأسوا عليه، ولم يفرحوا بالحاصل لعلهم أن المصيبة مقدرة في كل ما على الأرض. فكيف يفرح بشيء قد قدرت المصيبة فيه قبل خلقه؟ ولما كانت المصيبة تتضمن فوات محبوب أو خوف فواته، أو حصول مكروه، أو خوف حصوله نبه بالأسى على الفائت على مفارقة المحبوب بعد حصوله، وعلى فوته حيث لم يحصل. ونبه بعدم الفرح به إذا وجد على توطين النفس لمفارقته قبل وقوعها، وعلى الصبر على مرارتها بعد الوقوع. وهذه هي أنواع المصائب فإذا تيقن العبد أنها مكتوبة مقدرة، وأن ما أصابه منها لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه هانت عليه، وخف حملها، وأنزلها منزلة الحر والبرد. * (فصل) وقال أبو داود الطيالسي ثنا عبد المؤمن هو ابن عبد الله قال كنا عند الحسن فأتاه يزيد بن أبي مريم السلولي يتوكأ على عصا فقال يا أبا سعيد أخبرني عن قول الله عز وجل: ﴿ما أصابَ مِن مُصِيبَةٍ في الأرْضِ ولا في أنْفُسِكم إلاَّ في كِتابٍ مِن قَبْلِ أنْ نَبْرَأها﴾ فقال الحسن: نعم والله إن الله ليقضي القضية في السماء ثم يضرب لها أجلا أنه كائن في يوم كذا وكذا في ساعة كذا وكذا في الخاصة والعامة حتى إن الرجل ليأخذ العصا ما يأخذها إلا بقضاء وقدر. قال: يا أبا سعيد والله لقد أخذتها وإني عنها لغني ثم لا صبر لي عنها. قال الحسن: أوَلا ترى. واختلف في الضمير قوله ﴿من قبل أن نبرأها﴾ فقيل هو عائد على الأنفس لقربها منه. وقيل هو عائد على الأرض. وقيل عائد على المصيبة. والتحقيق أن يقال هو عائد على البرية التي تعم هذا كله، ودل عليه السياق. وقوله ﴿نبرأها﴾ فينتظم التقادير الثلاثة انتظاما واحدا. والله أعلم. * (فصل) وَقَدْ أكْثَرَ النّاسُ مِنَ الكَلامِ في الزُّهْدِ وكَلٌّ أشارَ إلى ذَوْقِهِ. ونَطَقَ عَنْ حالِهِ وشاهِدِهِ. فَإنَّ غالِبَ عِباراتِ القَوْمِ عَنْ أذْواقِهِمْ وأحْوالِهِمْ. والكَلامُ بِلِسانِ العِلْمِ أوْسَعُ مِنَ الكَلامِ بِلِسانِ الذَّوْقِ، وأقْرَبُ إلى الحُجَّةِ والبُرْهانِ. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الإسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - يَقُولُ: الزُّهْدُ تَرْكُ ما لا يَنْفَعُ في الآخِرَةِ. والوَرَعُ تَرْكَ ما تَخافُ ضَرَرُهُ في الآخِرَةِ. وَهَذِهِ العِبارَةُ مِن أحْسَنِ ما قِيلَ في الزُّهْدِ والوَرَعِ وأجْمَعِها. وَقالَ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ: الزُّهْدُ في الدُّنْيا قِصَرُ الأمَلِ. لَيْسَ بِأكْلِ الغَلِيظِ، ولا لُبْسِ العَباءِ. وَقالَ الجُنَيْدُ: سَمِعْتُ سَرِيًّا يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ سَلَبَ الدُّنْيا عَنْ أوْلِيائِهِ وحَماها عَنْ أصْفِيائِهِ، وأخْرَجَها مِن قُلُوبِ أهْلِ وِدادِهِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَرْضَها لَهم. وَقالَ: الزُّهْدُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكم ولا تَفْرَحُوا بِما آتاكم واللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ﴾ فالزّاهِدُ لا يَفْرَحُ مِنَ الدُّنْيا بِمَوْجُودٍ. ولا يَأْسَفُ مِنها عَلى مَفْقُودٍ. وَقالَ يَحْيى بْنُ مُعاذٍ: الزُّهْدُ يُورِثُ السَّخاءَ بِالمُلْكِ، والحُبُّ يُورِثُ السَّخاءَ بِالرُّوحِ. وَقالَ ابْنُ الجَلاءِ: الزُّهْدُ هو النَّظَرُ إلى الدُّنْيا بِعَيْنِ الزَّوالِ، فَتَصْغُرُ في عَيْنَيْكَ، فَيَسْهُلُ عَلَيْكَ الإعْراضُ عَنْها. وَقالَ ابْنُ خَفِيفٍ: الزُّهْدُ وُجُودُ الرّاحَةِ في الخُرُوجِ مِنَ المُلْكِ. وَقالَ أيْضًا: الزُّهْدُ سُلُوُّ القَلْبِ عَنِ الأسْبابِ، ونَفُضُّ الأيْدِي مِنَ الأمْلاكِ. وَقِيلَ: هو عُزُوفُ القَلْبِ عَنِ الدُّنْيا بِلا تَكَلُّفٍ. وَقالَ الجُنَيْدُ: الزُّهْدُ خُلُوُّ القَلْبِ عَمّا خَلَتْ مِنهُ اليَدُ. وَقالَ الإمامُ أحْمَدُ: الزُّهْدُ في الدُّنْيا قِصَرُ الأمَلِ. وَعَنْهُ رِوايَةٌ أُخْرى أنَّهُ عَدَمُ فَرَحِهِ بِإقْبالِها. ولا حُزْنِهِ عَلى إدْبارِها. فَإنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ مَعَهُ ألْفُ دِينارٍ. هَلْ يَكُونُ زاهِدًا؟ فَقالَ: نَعَمْ. عَلى شَرِيطَةِ أنْ لا يَفْرَحَ إذا زادَتْ، ولا يَحْزَنَ إذا نَقَصَتْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب