الباحث القرآني
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ ورَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهم وما يُعْلِنُونَ﴾
أي سبحانه المتفرد بالخلق والاختيار مما خلق وهو الاصطفاء والاجتباء ولهذا كان الوقف التام عند قوله ويختار ثم نفى عنهم الاختيار الذي اقترحوه بإرادتهم وأن ذلك ليس إليهم بل إلى الخلاق العليم الذي هو أعلم بمحالّ الاختيار ومواضعه لا من قال: ﴿لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ فأخبر سبحانه أنه لا يبعث الرسل باختيارهم وأن البشر ليس لهم أن يختاروا على الله بل هو الذي يخلق ما يشاء ويختار ثم نفى سبحانه أن تكون لهم الخيرة كما ليس لهم الخلق ومن زعم أن ما مفعول يختار فقد غلط إذ لو كان هذا هو المراد لكانت الخيرة منصوبة على أنها خبر كان ولا يصح المعنى ما كان لهم الخيرة فيه وحذف العائد فإن العائد هاهنا مجرور بحرف لم يجر الموصول بمثله فلو حذف مع الحرف لم يكن عليه دليل فلا يجوز حذفه وكذلك لم يفهم معنى الآية من قال أن الاختيار هاهنا هو الإرادة كما يقوله المتكلمون أنه سبحانه فاعل بالاختيار فإن هذا الاصطلاح حادث منهم لا يحمل عليه كلام الله بل لفظ الاختيار في القرآن مطابق لمعناه في اللغة وهو اختيار الشيء على غيره وهو يقتضي ترجيح ذلك المختار وتخصيصه وتقديمه على غيره وهذا أمر أخص من مطلق الإرادة والمشيئة.
قال في الصحاح: الخيرة الاسم من قولك خار الله لك في هذا الأمر، والخيرة أيضا يقول محمد خيرة الله من خلقه وخيرة الله أيضا بالتسكين والاختيار الاصطفاء، وكذلك التخيير والاستخارة طلب الخيرة يقال استخر الله يخر لك وخيرته بين الشيئين فوضت إليه الاختيار انتهى.
فهذا هو الاختيار في اللغة وهو أخص مما اصطلح عليه أهل الكلام ومن هذا قوله: ﴿وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذا قَضى اللَّهُ ورَسُولُهُ أمْرًا أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أمْرِهِمْ﴾
وقوله تعالى: ﴿واخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا﴾ أي اختار منهم وبهذا يحصل جواب السؤال الذي تورده القدرية يقولون في الكفر والمعاصي هل هي واقعة باختيار الله أم بغير اختياره فإن قلتم باختياره فكل مختار مرضي مصطفى محبوب فتكون مرضية محبوبة له، وإن قلتم بغير اختياره لم يكن بمشيئته واختياره.
وجوابه أن يقال ما تعنون بالاختيار العام في اصطلاح المتكلمين وهو المشيئة والإرادة.
أم تعنون به الاختيار الخاص الواقع في القرآن والسنة وكلام العرب.
وإن أردتم بالاختيار الأول فهي واقعة باختياره بهذا الاعتبار لكن لا يجوز أن يطلق ذلك عليها لما في لفظ الاختيار من معنى الاصطفاء والمحبة بل يقال واقعة بمشيئته وقدرته، وإن أردتم بالاختيار معناه في القرآن ولغة العرب فهي غير واقعة باختياره بهذا المعنى وإن كانت واقعة بمشيئته.
* (فصل)
اعْلَمْ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى هو المُنْفَرِدُ بِالخَلْقِ والِاخْتِيارِ مِنَ المَخْلُوقاتِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ﴾.
وَلَيْسَ المُرادُ هاهُنا بِالِاخْتِيارِ الإرادَةَ الَّتِي يُشِيرُ إلَيْها المُتَكَلِّمُونَ بِأنَّهُ الفاعِلُ المُخْتارُ - وهو سُبْحانَهُ - كَذَلِكَ، ولَكِنْ لَيْسَ المُرادُ بِالِاخْتِيارِ هاهُنا هَذا المَعْنى، وهَذا الِاخْتِيارُ داخِلٌ في قَوْلِهِ: ﴿يَخْلُقُ ما يَشاءُ﴾
فَإنَّهُ لا يَخْلُقُ إلّا بِاخْتِيارِهِ، وداخِلٌ في قَوْلِهِ تَعالى: (ما يَشاءُ) فَإنَّ المَشِيئَةَ هي الِاخْتِيارُ، وإنَّما المُرادُ بِالِاخْتِيارِ هاهُنا: الِاجْتِباءُ والِاصْطِفاءُ، فَهو اخْتِيارٌ بَعْدَ الخَلْقِ، والِاخْتِيارُ العامُّ اخْتِيارٌ قَبْلَ الخَلْقِ، فَهو أعَمُّ وأسْبَقُ، وهَذا أخَصُّ، وهو مُتَأخِّرٌ، فَهو اخْتِيارٌ مِنَ الخَلْقِ، والأوَّلُ اخْتِيارٌ لِلْخَلْقِ. وأصَحُّ القَوْلَيْنِ أنَّ الوَقْفَ التّامَّ عَلى قَوْلِهِ: (وَيَخْتارُ).
وَيَكُونُ ﴿ما كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ﴾ نَفْيًا، أيْ: لَيْسَ هَذا الِاخْتِيارُ إلَيْهِمْ، بَلْ هو إلى الخالِقِ وحْدَهُ، فَكَما أنَّهُ المُنْفَرِدُ بِالخَلْقِ فَهو المُنْفَرِدُ بِالِاخْتِيارِ مِنهُ، فَلَيْسَ لِأحَدٍ أنْ يَخْلُقَ ولا أنْ يَخْتارَ سِواهُ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ أعْلَمُ بِمَواقِعِ اخْتِيارِهِ، ومَحالِّ رِضاهُ، وما يَصْلُحُ لِلِاخْتِيارِ مِمّا لا يَصْلُحُ لَهُ، وغَيْرُهُ لا يُشارِكُهُ في ذَلِكَ بِوَجْهٍ.
وَذَهَبَ بَعْضُ مَن لا تَحْقِيقَ عِنْدَهُ ولا تَحْصِيلَ إلى أنَّ " ما " في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ﴾ مَوْصُولَةٌ، وهي مَفْعُولٌ " ويَخْتارُ " أيْ: ويَخْتارُ الَّذِي لَهُمُ الخِيَرَةُ، وهَذا باطِلٌ مِن وُجُوهٍ.
أحَدُها: أنَّ الصِّلَةَ حِينَئِذٍ تَخْلُو مِنَ العائِدِ؛ لِأنَّ " الخِيرَةَ " مَرْفُوعٌ بِأنَّهُ اسْمُ " كانَ " والخَبَرُ " لَهم "، فَيَصِيرُ المَعْنى: ويَخْتارُ الأمْرَ الَّذِي كانَ الخِيَرَةَ لَهُمْ، وهَذا التَّرْكِيبُ مُحالٌ مِنَ القَوْلِ.
فَإنْ قِيلَ: يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِأنْ يَكُونَ العائِدُ مَحْذُوفًا، ويَكُونَ التَّقْدِيرُ: ويَخْتارُ الَّذِي كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ فِيهِ، أيْ ويَخْتارُ الأمْرَ الَّذِي كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ في اخْتِيارِهِ.
قِيلَ: هَذا يَفْسُدُ مِن وجْهٍ آخَرَ، وهو أنَّ هَذا لَيْسَ مِنَ المَواضِعِ الَّتِي يَجُوزُ فِيها حَذْفُ العائِدِ، فَإنَّهُ إنَّما يُحْذَفُ مَجْرُورًا إذا جُرَّ بِحَرْفٍ جُرَّ المَوْصُولُ بِمِثْلِهِ مَعَ اتِّحادِ المَعْنى، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَأْكُلُ مِمّا تَأْكُلُونَ مِنهُ ويَشْرَبُ مِمّا تَشْرَبُونَ﴾ [المؤمنون: ٣٣]
وَنَظائِرِهِ، ولا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: جاءَنِي الَّذِي مَرَرْتُ، ورَأيْتُ الَّذِي رَغِبْتُ، ونَحْوُهُ.
الثّانِي: أنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذا المَعْنى لَنَصَبَ " الخِيَرَةَ " وشُغِلَ فِعْلُ الصِّلَةِ بِضَمِيرٍ يَعُودُ عَلى المَوْصُولِ، فَكَأنَّهُ يَقُولُ: ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الخِيَرَةَ، أيِ: الَّذِي كانَ هو عَيْنَ الخِيَرَةِ لَهُمْ، وهَذا لَمْ يَقْرَأْ بِهِ أحَدٌ ألْبَتَّةَ، مَعَ أنَّهُ كانَ وجْهُ الكَلامِ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ.
الثّالِثُ: أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ يَحْكِي عَنِ الكُفّارِ اقْتِراحَهم في الِاخْتِيارِ، وإرادَتَهم أنْ تَكُونَ الخِيَرَةُ لَهُمْ، ثُمَّ يَنْفِي هَذا سُبْحانَهُ عَنْهُمْ، ويُبَيِّنُ تَفَرُّدَهُ هو بِالِاخْتِيارِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ - أهم يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهم مَعِيشَتَهم في الحَياةِ الدُّنْيا ورَفَعْنا بَعْضَهم فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهم بَعْضًا سُخْرِيًّا ورَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: ٣١-٣٢]
فَأنْكَرَ عَلَيْهِمْ سُبْحانَهُ تَخَيُّرَهم عَلَيْهِ، وأخْبَرَ أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إلَيْهِمْ، بَلْ إلى الَّذِي قَسَمَ بَيْنَهم مَعايِشَهُمُ المُتَضَمِّنَةَ لِأرْزاقِهِمْ ومُدَدِ آجالِهِمْ، وكَذَلِكَ هو الَّذِي يَقْسِمُ فَضْلَهُ بَيْنَ أهْلِ الفَضْلِ عَلى حَسَبِ عِلْمِهِ بِمَواقِعِ الِاخْتِيارِ، ومَن يَصْلُحُ لَهُ مِمَّنْ لا يَصْلُحُ، وهو الَّذِي رَفَعَ بَعْضَهم فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ، وقَسَمَ بَيْنَهم مَعايِشَهم ودَرَجاتِ التَّفْضِيلِ، فَهو القاسِمُ ذَلِكَ وحْدَهُ لا غَيْرُهُ، وهَكَذا هَذِهِ الآيَةُ بَيَّنَ فِيها انْفِرادَهُ بِالخَلْقِ والِاخْتِيارِ، وأنَّهُ سُبْحانَهُ أعْلَمُ بِمَواقِعِ اخْتِيارِهِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَإذا جاءَتْهم آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤]
أيِ: اللَّهُ أعْلَمُ بِالمَحَلِّ الَّذِي يَصْلُحُ لِاصْطِفائِهِ وكَرامَتِهِ وتَخْصِيصِهِ بِالرِّسالَةِ والنُّبُوَّةِ دُونَ غَيْرِهِ.
الرّابِعُ: أنَّهُ نَزَّهَ نَفْسَهُ سُبْحانَهُ عَمّا اقْتَضاهُ شِرْكُهم مِنَ اقْتِراحِهِمْ واخْتِيارِهِمْ فَقالَ: ﴿ما كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾
وَلَمْ يَكُنْ شِرْكُهم مُقْتَضِيًا لِإثْباتِ خالِقٍ سِواهُ حَتّى نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ، فَتَأمَّلْهُ فَإنَّهُ في غايَةِ اللُّطْفِ.
الخامِسُ: أنَّ هَذا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعالى في [الحج: ٧٣-٧٦]: ﴿إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا ولَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وإنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنهُ ضَعُفَ الطّالِبُ والمَطْلُوبُ - ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾
ثُمَّ قالَ: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلًا ومِنَ النّاسِ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ - يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهم وإلى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾
وَهَذا نَظِيرُ قَوْلِهِ في [القصص: ٦٩] ﴿وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهم وما يُعْلِنُونَ﴾
وَنَظِيرُ قَوْلِهِ في [الأنعام: ١٢٤] ﴿اللَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ﴾ فَأخْبَرَ في ذَلِكَ كُلِّهِ عَنْ عِلْمِهِ المُتَضَمِّنِ لِتَخْصِيصِهِ مَحالَّ اخْتِيارِهِ بِما خَصَّصَها بِهِ، لِعِلْمِهِ بِأنَّها تَصْلُحُ لَهُ دُونَ غَيْرِها، فَتَدَبَّرِ السِّياقَ في هَذِهِ الآياتِ تَجِدْهُ مُتَضَمِّنًا لِهَذا المَعْنى، زائِدًا عَلَيْهِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
السّادِسُ: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَذْكُورَةٌ عُقَيْبَ قَوْلِهِ: ﴿وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ - فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهم لا يَتَساءَلُونَ - فَأمّا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا فَعَسى أنْ يَكُونَ مِنَ المُفْلِحِينَ - ورَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ﴾
فَكَما خَلَقَهم وحْدَهُ سُبْحانَهُ، اخْتارَ مِنهم مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا، فَكانُوا صَفْوَتَهُ مِن عِبادِهِ، وخِيرَتَهُ مِن خَلْقِهِ، وكانَ هَذا الِاخْتِيارُ راجِعًا إلى حِكْمَتِهِ وعِلْمِهِ سُبْحانَهُ لِمَن هو أهْلٌ لَهُ، لا إلى اخْتِيارِ هَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ واقْتِراحِهِمْ، فَسُبْحانَ اللَّهِ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ.
* [فَصْلٌ: في ذكر ما اختار الله من مخلوقاته]
[الِاخْتِيارُ دالٌّ عَلى رُبُوبِيَّتِهِ سُبْحانَهُ]
وَإذا تَأمَّلْتَ أحْوالَ هَذا الخَلْقِ، رَأيْتَ هَذا الِاخْتِيارَ والتَّخْصِيصَ فِيهِ دالًّا عَلى رُبُوبِيَّتِهِ تَعالى ووَحْدانِيَّتِهِ وكَمالِ حِكْمَتِهِ وعِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ، وأنَّهُ اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هو فَلا شَرِيكَ لَهُ يَخْلُقُ كَخَلْقِهِ، ويَخْتارُ كاخْتِيارِهِ، ويُدَبِّرُ كَتَدْبِيرِهِ، فَهَذا الِاخْتِيارُ والتَّدْبِيرُ والتَّخْصِيصُ المَشْهُودُ أثَرُهُ في هَذا العالَمِ مِن أعْظَمِ آياتِ رُبُوبِيَّتِهِ، وأكْبَرِ شَواهِدِ وحْدانِيَّتِهِ، وصِفاتِ كَمالِهِ، وصِدْقِ رُسُلِهِ، فَنُشِيرُ مِنهُ إلى يَسِيرٍ يَكُونُ مُنَبِّهًا عَلى ما وراءَهُ دالًّا عَلى ما سِواهُ.
فَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ سَبْعًا فاخْتارَ العُلْيا مِنها فَجَعَلَها مُسْتَقَرَّ المُقَرَّبِينَ مِن مَلائِكَتِهِ، واخْتَصَّها بِالقُرْبِ مِن كُرْسِيِّهِ ومِن عَرْشِهِ، وأسْكَنَها مَن شاءَ مِن خَلْقِهِ، فَلَها مَزِيَّةٌ وفَضْلٌ عَلى سائِرِ السَّماواتِ، ولَوْ لَمْ يَكُنْ إلّا قُرْبُها مِنهُ تَبارَكَ وتَعالى.
وَهَذا التَّفْضِيلُ والتَّخْصِيصُ مَعَ تَساوِي مادَّةِ السَّماواتِ مِن أبْيَنِ الأدِلَّةِ عَلى كَمالِ قُدْرَتِهِ وحِكْمَتِهِ، وأنَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ.
وَمِن هَذا تَفْضِيلُهُ سُبْحانَهُ جَنَّةَ الفِرْدَوْسِ عَلى سائِرِ الجِنانِ، وتَخْصِيصُها بِأنْ جَعَلَ عَرْشَهُ سَقْفَها، وفي بَعْضِ الآثارِ: " إنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ غَرَسَها بِيَدِهِ واخْتارَها لِخِيرَتِهِ مِن خَلْقِهِ ".
وَمِن هَذا اخْتِيارُهُ مِنَ المَلائِكَةِ المُصْطَفَيْنَ مِنهم عَلى سائِرِهِمْ، كَجِبْرِيلَ، ومِيكائِيلَ، وإسْرافِيلَ، وكانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ ومِيكائِيلَ وإسْرافِيلَ، فاطِرَ السَّماواتِ والأرْضِ، عالِمَ الغَيْبِ والشَّهادَةِ، أنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِما اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإذْنِكَ، إنَّكَ تَهْدِي مَن تَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ».
فَذَكَرَ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةَ مِنَ المَلائِكَةِ لِكَمالِ اخْتِصاصِهِمْ، واصْطِفائِهِمْ، وقُرْبِهِمْ مِنَ اللَّهِ، وكَمْ مِن مَلَكٍ غَيْرِهِمْ في السَّماواتِ، فَلَمْ يُسَمِّ إلّا هَؤُلاءِ الثَّلاثَةَ. فَجِبْرِيلُ: صاحِبُ الوَحْيِ الَّذِي بِهِ حَياةُ القُلُوبِ والأرْواحِ، ومِيكائِيلُ: صاحِبُ القَطْرِ الَّذِي بِهِ حَياةُ الأرْضِ والحَيَوانِ والنَّباتِ، وإسْرافِيلُ: صاحِبُ الصُّورِ الَّذِي إذا نَفَخَ فِيهِ أحْيَتْ نَفْخَتُهُ بِإذْنِ اللَّهِ الأمْواتَ، وأخْرَجَتْهم مِن قُبُورِهِمْ.
وَكَذَلِكَ اخْتِيارُهُ سُبْحانَهُ لِلْأنْبِياءِ مِن ولَدِ آدَمَ عَلَيْهِ وعَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهم مِائَةُ ألْفٍ وأرْبَعَةٌ وعِشْرُونَ ألْفًا، واخْتِيارُهُ الرُّسُلَ مِنهُمْ، وهم ثَلاثُمِائَةٍ وثَلاثَةَ عَشَرَ، عَلى ما في حَدِيثِ أبي ذر الَّذِي رَواهُ أحمد، وابْنُ حِبّانَ في " صَحِيحِهِ "، واخْتِيارُهُ أُولِي العَزْمِ مِنهُمْ، وهم خَمْسَةٌ المَذْكُورُونَ في سُورَةِ (الأحْزابِ) و(الشُّورى) في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذْ أخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهم ومِنكَ ومِن نُوحٍ وإبْراهِيمَ ومُوسى وعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ [الأحزاب: ٧]، وقالَ تَعالى: ﴿شَرَعَ لَكم مِنَ الدِّينِ ما وصّى بِهِ نُوحًا والَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ وما وصَّيْنا بِهِ إبْراهِيمَ ومُوسى وعِيسى أنْ أقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: ١٣]،
واخْتارَ مِنهُمُ الخَلِيلَيْنِ إبْراهِيمَ ومُحَمَّدًا صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِما وآلِهِما وسَلَّمَ.
وَمِن هَذا اخْتِيارُهُ سُبْحانَهُ ولَدَ إسْماعِيلَ مِن أجْناسِ بَنِي آدَمَ، ثُمَّ اخْتارَ مِنهم بَنِي كِنانَةَ مِن خُزَيْمَةَ، ثُمَّ اخْتارَ مِن ولَدِ كِنانَةَ قُرَيْشًا، ثُمَّ اخْتارَ مِن قُرَيْشٍ بَنِي هاشِمٍ، ثُمَّ اخْتارَ مِن بَنِي هاشِمٍ سَيِّدَ ولَدِ آدَمَ مُحَمَّدًا ﷺ.
وَكَذَلِكَ اخْتارَ أصْحابَهُ مِن جُمْلَةِ العالَمِينَ، واخْتارَ مِنهُمُ السّابِقِينَ الأوَّلِينَ، واخْتارَ مِنهم أهْلَ بَدْرٍ، وأهْلَ بَيْعَةِ الرِّضْوانِ، واخْتارَ لَهم مِنَ الدِّينِ أكْمَلَهُ، ومِنَ الشَّرائِعِ أفْضَلَها، ومِنَ الأخْلاقِ أزْكاها وأطْيَبَها وأطْهَرَها.
واخْتارَ أُمَّتَهُ ﷺ عَلى سائِرِ الأُمَمِ، كَما في " مُسْنَدِ الإمامِ أحمد " وغَيْرِهِ مِن حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ مُعاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«أنْتُمْ مُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أنْتُمْ خَيْرُها وأكْرَمُها عَلى اللَّهِ».
قالَ عَلِيُّ بْنُ المَدِينِيِّ وأحمد: حَدِيثُ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ صَحِيحٌ.
وَظَهَرَ أثَرُ هَذا الِاخْتِيارِ في أعْمالِهِمْ، وأخْلاقِهِمْ، وتَوْحِيدِهِمْ، ومَنازِلِهِمْ في الجَنَّةِ، ومَقاماتِهِمْ في المَوْقِفِ، فَإنَّهم أعْلى مِنَ النّاسِ عَلى تَلٍّ فَوْقَهم يُشْرِفُونَ عَلَيْهِمْ، وفي الترمذي مِن حَدِيثِ بُرَيْدَةَ بْنِ الحُصَيْبِ الأسْلَمِيِّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أهْلُ الجَنَّةِ عِشْرُونَ ومِائَةُ صَفٍّ، ثَمانُونَ مِنها مِن هَذِهِ الأُمَّةِ، وأرْبَعُونَ مِن سائِرِ الأُمَمِ»
قالَ الترمذي: هَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ. والَّذِي في " الصَّحِيحِ " مِن حَدِيثِ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في حَدِيثِ بَعْثِ النّارِ
«والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأطْمَعُ أنْ تَكُونُوا شَطْرَ أهْلِ الجَنَّةِ»
وَلَمْ يَزِدْ عَلى ذَلِكَ.
فَإمّا أنْ يُقالَ: هَذا أصَحُّ، وإمّا أنْ يُقالَ: إنَّ النَّبِيَّ ﷺ طَمِعَ أنْ تَكُونَ أُمَّتُهُ شَطْرَ أهْلِ الجَنَّةِ، فَأعْلَمَهُ رَبُّهُ فَقالَ: «إنَّهم ثَمانُونَ صَفًّا مِن مِائَةٍ وعِشْرِينَ صَفًّا»، فَلا تَنافِيَ بَيْنَ الحَدِيثَيْنِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
وَمِن تَفْضِيلِ اللَّهِ لِأُمَّتِهِ واخْتِيارِهِ لَها أنَّهُ وهَبَها مِنَ العِلْمِ والحِلْمِ ما لَمْ يَهَبْهُ لِأُمَّةٍ سِواها، وفي " مُسْنَدِ البزار " وغَيْرِهِ مِن حَدِيثِ أبِي الدَّرْداءِ قالَ: سَمِعْتُ أبا القاسِمِ ﷺ يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ لِعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ: إنِّي باعِثٌ مِن بَعْدِكَ أُمَّةً إنْ أصابَهم ما يُحِبُّونَ حَمِدُوا وشَكَرُوا، وإنْ أصابَهم ما يَكْرَهُونَ احْتَسَبُوا وصَبَرُوا، ولا حِلْمَ ولا عِلْمَ، قالَ: يا رَبِّ، كَيْفَ هَذا ولا حِلْمَ ولا عِلْمَ؟ قالَ: أُعْطِيهِمْ مِن حِلْمِي وعِلْمِي».
[اخْتِيارُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى مِنَ الأماكِنِ والبِلادِ خَيْرَها وأشْرَفَها]
وَمِن هَذا اخْتِيارُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى مِنَ الأماكِنِ والبِلادِ خَيْرَها وأشْرَفَها، وهي البَلَدُ الحَرامُ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى اخْتارَهُ لِنَبِيِّهِ ﷺ، وجَعَلَهُ مَناسِكَ لِعِبادِهِ، وأوْجَبَ عَلَيْهِمُ الإتْيانَ إلَيْهِ مِنَ القُرْبِ والبُعْدِ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، فَلا يَدْخُلُونَهُ إلّا مُتَواضِعِينَ مُتَخَشِّعِينَ مُتَذَلِّلِينَ كاشِفِي رُءُوسِهِمْ مُتَجَرِّدِينَ عَنْ لِباسِ أهْلِ الدُّنْيا، وجَعَلَهُ حَرَمًا آمِنًا لا يُسْفَكُ فِيهِ دَمٌ، ولا تُعْضَدُ بِهِ شَجَرَةٌ،
وَلا يُنَفَّرُ لَهُ صَيْدٌ، ولا يُخْتَلى خَلاهُ، ولا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ لِلتَّمْلِيكِ بَلْ لِلتَّعْرِيفِ لَيْسَ إلّا، وجَعَلَ قَصْدَهُ مُكَفِّرًا لِما سَلَفَ مِنَ الذُّنُوبِ، ماحِيًا لِلْأوْزارِ، حاطًّا لِلْخَطايا، كَما في " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَن أتى هَذا البَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ ولَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ»، ولَمْ يَرْضَ لِقاصِدِهِ مِنَ الثَّوابِ دُونَ الجَنَّةِ، فَفي " السُّنَنِ " مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «تابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ، فَإنَّهُما يَنْفِيانِ الفَقْرَ والذُّنُوبَ كَما يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ والذَّهَبِ والفِضَّةِ، ولَيْسَ لِلْحَجَّةِ المَبْرُورَةِ ثَوابٌ دُونَ الجَنَّةِ». وفي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «العُمْرَةُ إلى العُمْرَةِ كَفّارَةٌ لِما بَيْنَهُما، والحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزاءٌ إلّا الجَنَّةَ»، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ البَلَدُ الأمِينُ خَيْرَ بِلادِهِ، وأحَبَّها إلَيْهِ، ومُخْتارَهُ مِنَ البِلادِ؛ لَما جَعَلَ عَرَصاتِها مَناسِكَ لِعِبادِهِ فَرَضَ عَلَيْهِمْ قَصْدَها، وجَعَلَ ذَلِكَ مِن آكَدِ فُرُوضِ الإسْلامِ، وأقْسَمَ بِهِ في كِتابِهِ العَزِيزِ في مَوْضِعَيْنِ مِنهُ فَقالَ تَعالى: ﴿وَهَذا البَلَدِ الأمِينِ﴾ [التين: ٣]، وقالَ تَعالى: ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذا البَلَدِ﴾ ولَيْسَ عَلى وجْهِ الأرْضِ بُقْعَةٌ يَجِبُ عَلى كُلِّ قادِرٍ السَّعْيُ إلَيْها والطَّوافُ بِالبَيْتِ الَّذِي فِيها غَيْرَها، ولَيْسَ عَلى وجْهِ الأرْضِ مَوْضِعٌ يُشْرَعُ تَقْبِيلُهُ واسْتِلامُهُ، وتُحَطُّ الخَطايا والأوْزارُ فِيهِ غَيْرَ الحَجَرِ الأسْوَدِ، والرُّكْنِ اليَمانِيِّ.
وَثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّ الصَّلاةَ في المَسْجِدِ الحَرامِ بِمِائَةِ ألْفِ صَلاةٍ، فَفي " سُنَنِ النَّسائِيِّ " و" المُسْنَدِ " بِإسْنادٍ صَحِيحٍ عَنْ عبد الله بن الزبير، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ:
«صَلاةٌ في مَسْجِدِي هَذا أفْضَلُ مِن ألْفِ صَلاةٍ فِيما سِواهُ إلّا المَسْجِدَ الحَرامَ، وصَلاةٌ في المَسْجِدِ الحَرامِ أفْضَلُ مِن صَلاةٍ في مَسْجِدِي هَذا بِمِائَةِ صَلاةٍ»
وَرَواهُ ابْنُ حِبّانَ في " صَحِيحِهِ "
وَهَذا صَرِيحٌ في أنَّ المَسْجِدَ الحَرامَ أفْضَلُ بِقاعِ الأرْضِ عَلى الإطْلاقِ، ولِذَلِكَ كانَ شَدُّ الرِّحالِ إلَيْهِ فَرْضًا، ولِغَيْرِهِ مِمّا يُسْتَحَبُّ ولا يَجِبُ، وفي " المُسْنَدِ " والتِّرْمِذِيِّ والنَّسائِيِّ عَنْ عبد الله بن عدي بن الحمراء، أنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وهو واقِفٌ عَلى راحِلَتِهِ بِالحَزْوَرَةِ مِن مَكَّةَ يَقُولُ:
«واللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أرْضِ اللَّهِ وأحَبُّ أرْضِ اللَّهِ إلى اللَّهِ، ولَوْلا أنِّي أُخْرِجْتُ مِنكِ ما خَرَجْتُ»
قالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
بَلْ ومِن خَصائِصِها كَوْنُها قِبْلَةً لِأهْلِ الأرْضِ كُلِّهِمْ، فَلَيْسَ عَلى وجْهِ الأرْضِ قِبْلَةٌ غَيْرُها.
وَمِن خَواصِّها أيْضًا أنَّهُ يَحْرُمُ اسْتِقْبالُها واسْتِدْبارُها عِنْدَ قَضاءِ الحاجَةِ دُونَ سائِرِ بِقاعِ الأرْضِ.
وَأصَحُّ المَذاهِبِ في هَذِهِ المَسْألَةِ: أنَّهُ لا فَرْقَ في ذَلِكَ بَيْنَ الفَضاءِ والبُنْيانِ لِبِضْعَةَ عَشَرَ دَلِيلًا قَدْ ذُكِرَتْ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ، ولَيْسَ مَعَ المُفَرِّقِ ما يُقاوِمُها ألْبَتَّةَ مَعَ تَناقُضِهِمْ في مِقْدارِ الفَضاءِ والبُنْيانِ، ولَيْسَ هَذا مَوْضِعَ اسْتِيفاءِ الحِجاجِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ.
وَمِن خَواصِّها أيْضًا أنَّ المَسْجِدَ الحَرامَ أوَّلُ مَسْجِدٍ وُضِعَ في الأرْضِ، كَما في " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أبي ذر قالَ:
«سَألْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ أوَّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ في الأرْضِ؟ فَقالَ: المَسْجِدُ الحَرامُ، قُلْتُ: ثُمَّ أيُّ؟ قالَ المَسْجِدُ الأقْصى، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُما؟ قالَ أرْبَعُونَ عامًا»
وَقَدْ أشْكَلَ هَذا الحَدِيثُ عَلى مَن لَمْ يَعْرِفِ المُرادَ بِهِ فَقالَ: مَعْلُومٌ أنَّ سُلَيْمانَ بْنَ داوُدَ هو الَّذِي بَنى المَسْجِدَ الأقْصى، وبَيْنَهُ وبَيْنَ إبْراهِيمَ أكْثَرُ مِن ألْفِ عامٍ، وهَذا مِن جَهْلِ هَذا القائِلِ، فَإنَّ سُلَيْمانَ إنَّما كانَ لَهُ مِنَ المَسْجِدِ الأقْصى تَجْدِيدُهُ لا تَأْسِيسُهُ، والَّذِي أسَّسَهُ هو يَعْقُوبُ بْنُ إسْحاقَ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِما وآلِهِما وسَلَّمَ بَعْدَ بِناءِ إبْراهِيمَ الكَعْبَةَ بِهَذا المِقْدارِ.
وَمِمّا يَدُلُّ عَلى تَفْضِيلِها أنَّ اللَّهَ تَعالى أخْبَرَ أنَّها أُمُّ القُرى، فالقُرى كُلُّها تَبَعٌ لَها وفَرْعٌ عَلَيْها، وهي أصْلُ القُرى، فَيَجِبُ ألّا يَكُونَ لَها في القُرى عَدِيلٌ، فَهي كَما أخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ (الفاتِحَةِ) أنَّها أُمُّ القُرْآنِ، ولِهَذا لَمْ يَكُنْ لَها في الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ عَدِيلٌ.
وَمِن خَصائِصِها أنَّها لا يَجُوزُ دُخُولُها لِغَيْرِ أصْحابِ الحَوائِجِ المُتَكَرِّرَةِ إلّا بِإحْرامٍ، وهَذِهِ خاصِّيَّةٌ لا يُشارِكُها فِيها شَيْءٌ مِنَ البِلادِ، وهَذِهِ المَسْألَةُ تَلَقّاها النّاسُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ بِإسْنادٍ لا يُحْتَجُّ بِهِ مَرْفُوعًا «لا يَدْخُلُ أحَدٌ مَكَّةَ إلّا بِإحْرامٍ، مِن أهْلِها ومِن غَيْرِ أهْلِها» ذَكَرَهُ أبُو أحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ، ولَكِنَّ الحَجّاجَ بْنَ أرْطاةَ في الطَّرِيقِ، وآخَرَ قَبْلَهُ مِنَ الضُّعَفاءِ.
وَلِلْفُقَهاءِ في المَسْألَةِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: النَّفْيُ، والإثْباتُ، والفَرْقُ بَيْنَ مَن هو داخِلُ المَواقِيتِ ومَن هو قَبْلَها، فَمَن قَبْلَها لا يُجاوِزُها إلّا بِإحْرامٍ، ومَن هو داخِلُها فَحُكْمُهُ حُكْمُ أهْلِ مَكَّةَ، وهو قَوْلُ أبي حنيفة، والقَوْلانِ الأوَّلانِ لِلشّافِعِيِّ وأحمد.
وَمِن خَواصِّهِ أنَّهُ يُعاقَبُ فِيهِ عَلى الهَمِّ بِالسَّيِّئاتِ وإنْ لَمْ يَفْعَلْها، قالَ تَعالى: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِن عَذابٍ ألِيمٍ﴾ [الحج: ٢٥] فَتَأمَّلْ كَيْفَ عَدّى فِعْلَ الإرادَةِ هاهُنا بِالباءِ، ولا يُقالُ: أرَدْتُ بِكَذا إلّا لِما ضُمِّنَ مَعْنى فِعْلِ " هَمَّ " فَإنَّهُ يُقالُ: هَمَمْتُ بِكَذا، فَتَوَعَّدَ مَن هَمَّ بِأنْ يَظْلِمَ فِيهِ بِأنْ يُذِيقَهُ العَذابَ الألِيمَ.
وَمِن هَذا تَضاعُفُ مَقادِيرِ السَّيِّئاتِ فِيهِ لا كَمِّيّاتِها، فَإنَّ السَّيِّئَةَ جَزاؤُها سَيِّئَةٌ، لَكِنْ سَيِّئَةٌ كَبِيرَةٌ جَزاؤُها مِثْلُها، وصَغِيرَةٌ جَزاؤُها مِثْلُها، فالسَّيِّئَةُ في حَرَمِ اللَّهِ وبَلَدِهِ وعَلى بِساطِهِ آكَدُ وأعْظَمُ مِنها في طَرَفٍ مِن أطْرافِ الأرْضِ، ولِهَذا لَيْسَ مَن عَصى المَلِكَ عَلى بِساطِ مُلْكِهِ كَمَن عَصاهُ في المَوْضِعِ البَعِيدِ مِن دارِهِ وبِساطِهِ، فَهَذا فَصْلُ النِّزاعِ في تَضْعِيفِ السَّيِّئاتِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
وَقَدْ ظَهَرَ سِرُّ هَذا التَّفْضِيلِ والِاخْتِصاصِ في انْجِذابِ الأفْئِدَةِ وهَوى القُلُوبِ وانْعِطافِها ومَحَبَّتِها لِهَذا البَلَدِ الأمِينِ، فَجَذْبُهُ لِلْقُلُوبِ أعْظَمُ مِن جَذْبِ المِغْناطِيسِ لِلْحَدِيدِ، فَهو الأوْلى بِقَوْلِ القائِلِ:
؎محاسِنُهُ هَيُولى كُلِّ حُسْنٍ ∗∗∗ ومِغْناطِيسُ أفْئِدَةِ الرِّجالِ
وَلِهَذا أخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّهُ مَثابَةٌ لِلنّاسِ، أيْ: يَثُوبُونَ إلَيْهِ عَلى تَعاقُبِ الأعْوامِ مِن جَمِيعِ الأقْطارِ، ولا يَقْضُونَ مِنهُ وطَرًا، بَلْ كُلَّما ازْدادُوا لَهُ زِيارَةً ازْدادُوا لَهُ اشْتِياقًا.
؎لا يَرْجِعُ الطَّرْفُ عَنْها حِينَ يَنْظُرُها ∗∗∗ حَتّى يَعُودَ إلَيْها الطَّرْفُ مُشْتاقًا
فَلَلَّهِ كَمْ لَها مِن قَتِيلٍ وسَلِيبٍ وجَرِيحٍ، وكَمْ أُنْفِقَ في حُبِّها مِنَ الأمْوالِ والأرْواحِ، ورَضِيَ المُحِبُّ بِمُفارَقَةِ فِلَذِ الأكْبادِ، والأهْلِ والأحْبابِ والأوْطانِ، مُقَدِّمًا بَيْنَ يَدَيْهِ أنْواعَ المَخاوِفِ والمَتالِفِ والمَعاطِفِ والمَشاقِّ، وهو يَسْتَلِذُّ ذَلِكَ كُلَّهُ ويَسْتَطِيبُهُ ويَراهُ - لَوْ ظَهَرَ سُلْطانُ المَحَبَّةِ في قَلْبِهِ- أطْيَبَ مِن نِعَمِ المُتَحَلِّيَةِ وتَرَفِهِمْ ولَذّاتِهِمْ.
؎وَلَيْسَ مُحِبًّا مَن يَعُدُّ شَقاءَهُ ∗∗∗ عَذابًا إذا ما كانَ يَرْضى حَبِيبُهُ
وَهَذا كُلُّهُ سِرُّ إضافَتِهِ إلَيْهِ سُبْحانَهُ وتَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ﴾ [الحج: ٢٦]
فاقْتَضَتْ هَذِهِ الإضافَةُ الخاصَّةُ مِن هَذا الإجْلالِ والتَّعْظِيمِ والمَحَبَّةِ ما اقْتَضَتْهُ، كَما اقْتَضَتْ إضافَتُهُ لِعَبْدِهِ ورَسُولِهِ إلى نَفْسِهِ ما اقْتَضَتْهُ مِن ذَلِكَ، وكَذَلِكَ إضافَتُهُ عِبادَهُ المُؤْمِنِينَ إلَيْهِ كَسَتْهم مِنَ الجَلالِ والمَحَبَّةِ والوَقارِ ما كَسَتْهُمْ، فَكُلُّ ما أضافَهُ الرَّبُّ تَعالى إلى نَفْسِهِ فَلَهُ مِنَ المَزِيَّةِ والِاخْتِصاصِ عَلى غَيْرِهِ ما أوْجَبَ لَهُ الِاصْطِفاءَ والِاجْتِباءَ، ثُمَّ يَكْسُوهُ بِهَذِهِ الإضافَةِ تَفْضِيلًا آخَرَ، وتَخْصِيصًا وجَلالَةً زائِدًا عَلى ما كانَ لَهُ قَبْلَ الإضافَةِ، ولَمْ يُوَفَّقْ لِفَهْمِ هَذا المَعْنى مَن سَوّى بَيْنَ الأعْيانِ والأفْعالِ والأزْمانِ والأماكِنِ، وزَعَمَ أنَّهُ لا مَزِيَّةَ لِشَيْءٍ مِنها عَلى شَيْءٍ، وإنَّما هو مُجَرَّدُ التَّرْجِيحِ بِلا مُرَجِّحٍ، وهَذا القَوْلُ باطِلٌ بِأكْثَرَ مِن أرْبَعِينَ وجْهًا قَدْ ذُكِرَتْ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ، ويَكْفِي تَصَوُّرُ هَذا المَذْهَبِ الباطِلِ في فَسادِهِ، فَإنَّ مَذْهَبَنا يَقْتَضِي أنْ تَكُونَ ذَواتُ الرُّسُلِ كَذَواتِ أعْدائِهِمْ في الحَقِيقَةِ، وإنَّما التَّفْضِيلُ بِأمْرٍ لا يَرْجِعُ إلى اخْتِصاصِ الذَّواتِ بِصِفاتٍ ومَزايا لا تَكُونُ لِغَيْرِها، وكَذَلِكَ نَفْسُ البِقاعِ واحِدَةٌ بِالذّاتِ لَيْسَ لِبُقْعَةٍ عَلى بُقْعَةٍ مَزِيَّةٌ ألْبَتَّةَ، وإنَّما هو لِما يَقَعُ فِيها مِنَ الأعْمالِ الصّالِحَةِ، فَلا مَزِيَّةَ لِبُقْعَةِ البَيْتِ، والمَسْجِدِ الحَرامِ، ومِنًى، وعَرَفَةَ، والمَشاعِرِ عَلى أيِّ بُقْعَةٍ سَمَّيْتُها مِنَ الأرْضِ، وإنَّما التَّفْضِيلُ بِاعْتِبارِ أمْرٍ خارِجٍ عَنِ البُقْعَةِ لا يَعُودُ إلَيْها ولا إلى وصْفٍ قائِمٍ بِها، واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى قَدْ رَدَّ هَذا القَوْلَ الباطِلَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذا جاءَتْهم آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ﴾ [الأنعام: ١٢٤]، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿اللَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ﴾
أيْ: لَيْسَ كُلُّ أحَدٍ أهْلًا ولا صالِحًا لِتَحَمُّلِ رِسالَتِهِ، بَلْ لَها مَحالُّ مَخْصُوصَةٌ لا تَلِيقُ إلّا بِها، ولا تَصْلُحُ إلّا لَها، واللَّهُ أعْلَمُ بِهَذِهِ المَحالِّ مِنكم. ولَوْ كانَتِ الذَّواتُ مُتَساوِيَةً كَما قالَ هَؤُلاءِ لَمْ يَكُنْ في ذَلِكَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهم بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِن بَيْنِنا ألَيْسَ اللَّهُ بِأعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: ٥٣]
أيْ: هو سُبْحانَهُ أعْلَمُ بِمَن يَشْكُرُهُ عَلى نِعْمَتِهِ، فَيَخْتَصُّهُ بِفَضْلِهِ ويَمُنُّ عَلَيْهِ مِمَّنْ لا يَشْكُرُهُ، فَلَيْسَ كُلُّ مَحَلٍّ يَصْلُحُ لِشُكْرِهِ، واحْتِمالِ مِنَّتِهِ، والتَّخْصِيصِ بِكَرامَتِهِ.
فَذَواتُ ما اخْتارَهُ واصْطَفاهُ مِنَ الأعْيانِ والأماكِنِ والأشْخاصِ وغَيْرِها مُشْتَمِلَةٌ عَلى صِفاتٍ وأُمُورٍ قائِمَةٍ بِها لَيْسَتْ لِغَيْرِها، ولِأجْلِها اصْطَفاها اللَّهُ، وهو سُبْحانَهُ الَّذِي فَضَّلَها بِتِلْكَ الصِّفاتِ، وخَصَّها بِالِاخْتِيارِ، فَهَذا خَلْقُهُ، وهَذا اخْتِيارُهُ ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ﴾
وَما أبْيَنَ بُطْلانِ رَأْيٍ يَقْضِي بِأنَّ مَكانَ البَيْتِ الحَرامِ مُساوٍ لِسائِرِ الأمْكِنَةِ، وذاتَ الحَجَرِ الأسْوَدِ مُساوِيَةٌ لِسائِرِ حِجارَةِ الأرْضِ، وذاتَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مُساوِيَةٌ لِذاتِ غَيْرِهِ، وإنَّما التَّفْضِيلُ في ذَلِكَ بِأُمُورٍ خارِجَةٍ عَنِ الذّاتِ والصِّفاتِ القائِمَةِ بِها، وهَذِهِ الأقاوِيلُ وأمْثالُها مِنَ الجِناياتِ الَّتِي جَناها المُتَكَلِّمُونَ عَلى الشَّرِيعَةِ ونَسَبُوها إلَيْها وهي بَرِيئَةٌ مِنها، ولَيْسَ مَعَهم أكْثَرُ مِنَ اشْتِراكِ الذَّواتِ في أمْرٍ عامٍّ، وذَلِكَ لا يُوجِبُ تَساوِيها في الحَقِيقَةِ؛ لِأنَّ المُخْتَلِفاتِ قَدْ تَشْتَرِكُ في أمْرٍ عامٍّ مَعَ اخْتِلافِها في صِفاتِها النَّفْسِيَّةِ، وما سَوّى اللَّهُ تَعالى بَيْنَ ذاتِ المِسْكِ وذاتِ البَوْلِ أبَدًا، ولا بَيْنَ ذاتِ الماءِ وذاتِ النّارِ أبَدًا، والتَّفاوُتُ البَيِّنُ بَيْنَ الأمْكِنَةِ الشَّرِيفَةِ وأضْدادِها والذَّواتِ الفاضِلَةِ وأضْدادِها أعْظَمُ مِن هَذا التَّفاوُتِ بِكَثِيرٍ، فَبَيْنَ ذاتِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وذاتِ فرعون مِنَ التَّفاوُتِ أعْظَمُ مِمّا بَيْنَ المِسْكِ والرَّجِيعِ، وكَذَلِكَ التَّفاوُتُ بَيْنَ نَفْسِ الكَعْبَةِ وبَيْنَ بَيْتِ السُّلْطانِ أعْظَمُ مِن هَذا التَّفاوُتِ أيْضًا بِكَثِيرٍ، فَكَيْفَ تُجْعَلُ البُقْعَتانِ سَواءً في الحَقِيقَةِ والتَّفْضِيلُ بِاعْتِبارِ ما يَقَعُ هُناكَ مِنَ العِباداتِ والأذْكارِ والدَّعَواتِ؟!.
وَلَمْ نَقْصِدِ اسْتِيفاءَ الرَّدِّ عَلى هَذا المَذْهَبِ المَرْدُودِ المَرْذُولِ، وإنَّما قَصَدْنا تَصْوِيرَهُ، وإلى اللَّبِيبِ العادِلِ العاقِلِ التَّحاكُمُ ولا يَعْبَأُ اللَّهُ وعِبادُهُ بِغَيْرِهِ شَيْئًا، واللَّهُ سُبْحانَهُ لا يُخَصِّصُ شَيْئًا، ولا يُفَضِّلُهُ ويُرَجِّحُهُ إلّا لِمَعْنًى يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ وتَفْضِيلَهُ، نَعَمْ هو مُعْطِي ذَلِكَ المُرَجِّحَ وواهِبُهُ، فَهو الَّذِي خَلَقَهُ، ثُمَّ اخْتارَهُ بَعْدَ خَلْقِهِ، ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ﴾.
* [فَصْلٌ: فيما اختاره الله من الأعمال وغيرها]
والمَقْصُودُ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى اخْتارَ مِن كُلِّ جِنْسٍ مِن أجْناسِ المَخْلُوقاتِ أطْيَبَهُ، واخْتَصَّهُ لِنَفْسِهِ وارْتَضاهُ دُونَ غَيْرِهِ، فَإنَّهُ تَعالى طَيِّبٌ لا يُحِبُّ إلّا الطَّيِّبَ، ولا يَقْبَلُ مِنَ العَمَلِ والكَلامِ والصَّدَقَةِ إلّا الطَّيِّبَ، فالطَّيِّبُ مِن كُلِّ شَيْءٍ هو مُخْتارُهُ تَعالى.
وَأمّا خَلْقُهُ تَعالى فَعامٌّ لِلنَّوْعَيْنِ، وبِهَذا يُعْلَمُ عُنْوانُ سَعادَةِ العَبْدِ وشَقاوَتِهِ، فَإنَّ الطَّيِّبَ لا يُناسِبُهُ إلّا الطَّيِّبُ ولا يَرْضى إلّا بِهِ، ولا يَسْكُنُ إلّا إلَيْهِ، ولا يَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ إلّا بِهِ، فَلَهُ مِنَ الكَلامِ الكَلِمُ الطَّيِّبُ الَّذِي لا يَصْعَدُ إلى اللَّهِ تَعالى إلّا هُوَ، وهو أشَدُّ شَيْءٍ نُفْرَةً عَنِ الفُحْشِ في المَقالِ، والتَّفَحُّشِ في اللِّسانِ والبَذاءِ والكَذِبِ والغِيبَةِ والنَّمِيمَةِ والبُهْتِ وقَوْلِ الزُّورِ وكُلِّ كَلامٍ خَبِيثٍ.
وَكَذَلِكَ لا يَأْلَفُ مِنَ الأعْمالِ إلّا أطْيَبَها، وهي الأعْمالُ الَّتِي اجْتَمَعَتْ عَلى حُسْنِها الفِطَرُ السَّلِيمَةُ مَعَ الشَّرائِعِ النَّبَوِيَّةِ، وزَكَّتْها العُقُولُ الصَّحِيحَةُ، فاتَّفَقَ عَلى حُسْنِها الشَّرْعُ والعَقْلُ والفِطْرَةُ، مِثْلَ أنْ يَعْبُدَ اللَّهَ وحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، ويُؤْثِرَ مَرْضاتَهُ عَلى هَواهُ، ويَتَحَبَّبَ إلَيْهِ جَهْدَهُ وطاقَتَهُ، ويُحْسِنَ إلى خَلْقِهِ ما اسْتَطاعَ، فَيَفْعَلَ بِهِمْ ما يُحِبُّ أنْ يَفْعَلُوا بِهِ، ويُعامِلُوهُ بِهِ، ويَدَعَهم مِمّا يُحِبُّ أنْ يَدَعُوهُ مِنهُ، ويَنْصَحَهم بِما يَنْصَحُ بِهِ نَفْسَهُ، ويَحْكُمَ لَهم بِما يُحِبُّ أنْ يُحْكَمَ لَهُ بِهِ، ويَحْمِلَ أذاهم ولا يُحَمِّلَهم أذاهُ، ويَكُفَّ عَنْ أعْراضِهِمْ ولا يُقابِلَهم بِما نالُوا مِن عِرْضِهِ، وإذا رَأى لَهم حَسَنًا أذاعَهُ، وإذا رَأى لَهم سَيِّئًا كَتَمَهُ، ويُقِيمَ أعْذارَهم ما اسْتَطاعَ فِيما لا يُبْطِلُ شَرِيعَةً، ولا يُناقِضُ لِلَّهِ أمْرًا ولا نَهْيًا.
وَلَهُ أيْضًا مِنَ الأخْلاقِ أطْيَبُها وأزْكاها، كالحِلْمِ والوَقارِ والسَّكِينَةِ والرَّحْمَةِ والصَّبْرِ والوَفاءِ، وسُهُولَةِ الجانِبِ ولِينِ العَرِيكَةِ والصِّدْقِ، وسَلامَةِ الصَّدْرِ مِنَ الغِلِّ والغِشِّ والحِقْدِ والحَسَدِ، والتَّواضُعِ وخَفْضِ الجَناحِ لِأهْلِ الإيمانِ، والعِزَّةِ والغِلْظَةِ عَلى أعْداءِ اللَّهِ، وصِيانَةِ الوَجْهِ عَنْ بَذْلِهِ وتَذَلُّلِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، والعِفَّةِ والشَّجاعَةِ والسَّخاءِ والمُرُوءَةِ، وكُلِّ خُلُقٍ اتَّفَقَتْ عَلى حُسْنِهِ الشَّرائِعُ والفِطَرُ والعُقُولُ.
وَكَذَلِكَ لا يَخْتارُ مِنَ المَطاعِمِ إلّا أطْيَبَها، وهو الحَلالُ الهَنِيءُ المَرِيءُ الَّذِي يُغَذِّي البَدَنَ والرُّوحَ أحْسَنَ تَغْذِيَةٍ، مَعَ سَلامَةِ العَبْدِ مِن تَبِعَتِهِ.
وَكَذَلِكَ لا يَخْتارُ مِنَ المَناكِحِ إلّا أطْيَبَها وأزْكاها، ومِنَ الرّائِحَةِ إلّا أطْيَبَها وأزْكاها، ومِنَ الأصْحابِ والعُشَراءِ إلّا الطَّيِّبِينَ مِنهُمْ، فَرُوحُهُ طَيِّبٌ، وبَدَنُهُ طَيِّبٌ، وخُلُقُهُ طَيِّبٌ وعَمَلُهُ طَيِّبٌ، وكَلامُهُ طَيِّبٌ، ومَطْعَمُهُ طَيِّبٌ، ومَشْرَبُهُ طَيِّبٌ، ومَلْبَسُهُ طَيِّبٌ، ومَنكَحُهُ طَيِّبٌ، ومَدْخَلُهُ طَيِّبٌ، ومَخْرَجُهُ طَيِّبٌ، ومُنْقَلَبُهُ طَيِّبٌ، ومَثْواهُ كُلُّهُ طَيِّبٌ. فَهَذا مِمَّنْ قالَ اللَّهُ تَعالى فِيهِ: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٣٢]
وَمِنَ الَّذِينَ يَقُولُ لَهم خَزَنَةُ الجَنَّةِ: ﴿سَلامٌ عَلَيْكم طِبْتُمْ فادْخُلُوها خالِدِينَ﴾ [الزمر: ٧٢] وهَذِهِ الفاءُ تَقْتَضِي السَّبَبِيَّةَ، أيْ: بِسَبَبِ طِيبِكُمُ ادْخُلُوها. وقالَ تَعالى: ﴿الخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ والخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ والطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ والطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ﴾ [النور: ٢٦]
وَقَدْ فُسِّرَتِ الآيَةُ بِأنَّ الكَلِماتِ الخَبِيثاتِ لِلْخَبِيثِينَ والكَلِماتِ الطَّيِّباتِ لَلطَّيِّبِينَ، وفُسِّرَتْ بِأنَّ النِّساءَ الطَّيِّباتِ لِلرِّجالِ الطَّيِّبِينَ، والنِّساءَ الخَبِيثاتِ لِلرِّجالِ الخَبِيثِينَ، وهي تَعُمُّ ذَلِكَ وغَيْرَهُ، فالكَلِماتُ والأعْمالُ والنِّساءُ الطَّيِّباتُ لِمُناسِبِها مِنَ الطَّيِّبِينَ، والكَلِماتُ والأعْمالُ والنِّساءُ الخَبِيثَةُ لِمُناسِبِها مِنَ الخَبِيثِينَ، فاللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى جَعَلَ الطَّيِّبَ بِحَذافِيرِهِ في الجَنَّةِ، وجَعَلَ الخَبِيثَ بِحَذافِيرِهِ في النّارِ، فَجَعَلَ الدُّورَ ثَلاثَةً: دارًا أُخْلِصَتْ لَلطَّيِّبِينَ، وهي حَرامٌ عَلى غَيْرِ الطَّيِّبِينَ، وقَدْ جَمَعَتْ كُلَّ طَيِّبٍ وهي الجَنَّةُ.
وَدارًا أُخْلِصَتْ لِلْخَبِيثِ والخَبائِثِ ولا يَدْخُلُها إلّا الخَبِيثُونَ وهي النّارُ.
وَدارًا امْتَزَجَ فِيها الطَّيِّبُ والخَبِيثُ وخُلِطَ بَيْنَهُما وهي هَذِهِ الدّارُ؛ ولِهَذا وقَعَ الِابْتِلاءُ والمِحْنَةُ بِسَبَبِ هَذا الِامْتِزاجِ والِاخْتِلاطِ، وذَلِكَ بِمُوجَبِ الحِكْمَةِ الإلَهِيَّةِ، فَإذا كانَ يَوْمُ مَعادِ الخَلِيقَةِ مَيَّزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، فَجَعَلَ الطَّيِّبَ وأهْلَهُ في دارٍ عَلى حِدَةٍ لا يُخالِطُهم غَيْرُهُمْ، وجَعَلَ الخَبِيثَ وأهْلَهُ في دارٍ عَلى حِدَةٍ لا يُخالِطُهم غَيْرُهُمْ، فَعادَ الأمْرُ إلى دارَيْنِ فَقَطْ: الجَنَّةِ وهي دارُ الطَّيِّبِينَ، والنّارِ وهي دارُ الخَبِيثِينَ، وأنْشَأ اللَّهُ تَعالى مِن أعْمالِ الفَرِيقَيْنِ ثَوابَهم وعِقابَهُمْ، فَجَعَلَ طَيِّباتِ أقْوالِ هَؤُلاءِ وأعْمالِهِمْ وأخْلاقِهِمْ هي عَيْنَ نَعِيمِهِمْ ولَذّاتِهِمْ، أنْشَأ لَهم مِنها أكْمَلَ أسْبابِ النَّعِيمِ والسُّرُورِ، وجَعَلَ خَبِيثاتِ أقْوالِ الآخَرِينَ وأعْمالِهِمْ وأخْلاقِهِمْ هي عَيْنَ عَذابِهِمْ وآلامِهِمْ، فَأنْشَأ لَهم مِنها أعْظَمَ أسْبابِ العِقابِ والآلامِ حِكْمَةً بالِغَةً وعِزَّةً باهِرَةً قاهِرَةً لِيُرِيَ عِبادَهُ كَمالَ رُبُوبِيَّتِهِ وكَمالَ حِكْمَتِهِ وعِلْمِهِ وعَدْلِهِ ورَحْمَتِهِ، ولِيَعْلَمَ أعْداؤُهُ أنَّهم كانُوا هُمُ المُفْتَرِينَ الكَذّابِينَ لا رُسُلُهُ البَرَرَةُ الصّادِقُونَ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَأقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلى وعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ - لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ولِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّهم كانُوا كاذِبِينَ﴾ [النحل: ٣٨-٣٩].
والمَقْصُودُ أنَّ اللَّهَ - سُبْحانَهُ وتَعالى - جَعَلَ لِلسَّعادَةِ والشَّقاوَةِ عُنْوانًا يُعْرَفانِ بِهِ، فالسَّعِيدُ الطَّيِّبُ لا يَلِيقُ بِهِ إلّا طَيِّبٌ، ولا يَأْتِي إلّا طَيِّبًا، ولا يَصْدُرُ مِنهُ إلّا طَيِّبٌ، ولا يُلابِسُ إلّا طَيِّبًا، والشَّقِيُّ الخَبِيثُ لا يَلِيقُ بِهِ إلّا الخَبِيثُ، ولا يَأْتِي إلّا خَبِيثًا، ولا يَصْدُرُ مِنهُ إلّا الخَبِيثُ، فالخَبِيثُ يَتَفَجَّرُ مِن قَلْبِهِ الخُبْثُ عَلى لِسانِهِ وجَوارِحِهِ، والطَّيِّبُ يَتَفَجَّرُ مِن قَلْبِهِ الطِّيبُ عَلى لِسانِهِ وجَوارِحِهِ. وقَدْ يَكُونُ في الشَّخْصِ مادَّتانِ فَأيُّهُما غَلَبَ عَلَيْهِ كانَ مِن أهْلِها، فَإنْ أرادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا طَهَّرَهُ مِنَ المادَّةِ الخَبِيثَةِ قَبْلَ المُوافاةِ، فَيُوافِيهِ يَوْمَ القِيامَةِ مُطَهَّرًا فَلا يَحْتاجُ إلى تَطْهِيرِهِ بِالنّارِ فَيُطَهِّرُهُ مِنها بِما يُوَفِّقُهُ لَهُ مِنَ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ، والحَسَناتِ الماحِيَةِ، والمَصائِبِ المُكَفِّرَةِ، حَتّى يَلْقى اللَّهَ وما عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ، ويُمْسِكُ عَنِ الآخَرِ مَوادَّ التَّطْهِيرِ، فَيَلْقاهُ يَوْمَ القِيامَةِ بِمادَّةٍ خَبِيثَةٍ ومادَّةٍ طَيِّبَةٍ، وحِكْمَتُهُ تَعالى تَأْبى أنْ يُجاوِرَهُ أحَدٌ في دارِهِ بِخَبائِثِهِ فَيُدْخِلَهُ النّارَ طُهْرَةً لَهُ وتَصْفِيَةً وسَبْكًا، فَإذا خَلُصَتْ سَبِيكَةُ إيمانِهِ مِنَ الخَبَثِ صَلُحَ حِينَئِذٍ لِجِوارِهِ ومُساكَنَةِ الطَّيِّبِينَ مِن عِبادِهِ. وإقامَةُ هَذا النَّوْعِ مِنَ النّاسِ في النّارِ عَلى حَسَبِ سُرْعَةِ زَوالِ تِلْكَ الخَبائِثِ مِنهم وبُطْئِها، فَأسْرَعُهم زَوالًا وتَطْهِيرًا أسْرَعُهم خُرُوجًا، وأبْطَؤُهم أبْطَؤُهم خُرُوجًا، ﴿جَزاءً وِفاقًا﴾ [النبأ: ٢٦] ﴿وَما رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦].
وَلَمّا كانَ المُشْرِكُ خَبِيثَ العُنْصُرِ خَبِيثَ الذّاتِ لَمْ تُطَهِّرِ النّارُ خُبْثَهُ، بَلْ لَوْ خَرَجَ مِنها لَعادَ خَبِيثًا كَما كانَ، كالكَلْبِ إذا دَخَلَ البَحْرَ ثُمَّ خَرَجَ مِنهُ، فَلِذَلِكَ حَرَّمَ اللَّهُ تَعالى عَلى المُشْرِكِ الجَنَّةَ.
وَلَمّا كانَ المُؤْمِنُ الطَّيِّبُ المُطَيِّبُ مُبَرَّءًا مِنَ الخَبائِثِ كانَتِ النّارُ حَرامًا عَلَيْهِ، إذْ لَيْسَ فِيهِ ما يَقْتَضِي تَطْهِيرَهُ بِها، فَسُبْحانَ مَن بَهَرَتْ حِكْمَتُهُ العُقُولَ والألْبابَ، وشَهِدَتْ فِطَرُ عِبادِهِ وعُقُولُهم بِأنَّهُ أحْكَمُ الحاكِمِينَ ورَبُّ العالَمِينَ لا إلَهَ إلّا هو.
* (فصل)
من ترك الِاخْتِيار والتَّدْبِير في رَجاء زِيادَة، أو خوف نُقْصان أو طلب صِحَة أو فرار من سقم.
واعلم أن الله على كل شَيْء قدير وأنه المتفرد بِالِاخْتِيارِ والتَّدْبِير وأن تَدْبيره لعَبْدِهِ خير من تَدْبِير العَبْد لنَفسِهِ، وأنه أعلم بمصلحته من العَبْد وأقدر على جلبها وتحصيلها مِنهُ وأنصح للْعَبد مِنهُ لنَفسِهِ وأرحم مِنهُ بِنَفسِهِ وأبر بِهِ مِنهُ بِنَفسِهِ وعلم مَعَ ذَلِك أنه لا يَسْتَطِيع أن يتَقَدَّم بَين يَدي تَدْبيره خطْوَة واحِدَة ولا يتَأخَّر عَن تَدْبيره لَهُ خطْوَة واحِدَة فَلا مُتَقَدم لَهُ بَين يَدي قَضائِهِ وقدره ولا يتَأخَّر فَألْقى نَفسه بَين يَدَيْهِ وسلم الأمر كُله إلَيْهِ وانطرح بَين يَدَيْهِ انطراح عبد مَمْلُوك ضعف بَين يَدي ملك عَزِيز قاهر لَهُ التَّصَرُّف في عَبده بِكُل ما يَشاء ولَيْسَ للْعَبد التَّصَرُّف فِيهِ بِوَجْه من الوُجُوه فاستراح حِينَئِذٍ من الهموم والغموم والأنكاد والحسرات وحمل كُله حَوائِجه ومصالحه من لا يُبالِي بحملها ولا يثقله ولا يكترث بها فتولاها دونه وأراهُ لطفه وبره ورَحمته وإحسانه فِيها من غير تَعب من العَبْد ولا نصب ولا اهتمام مِنهُ لِأنَّهُ قد صرف اهتمامه كُله إلَيْهِ وجعله وحده همه فصرف عَنهُ اهتمامه بحوائجه ومصالح دُنْياهُ وفرغ قلبه مِنها فَما أطيب عيشه وما أنعم قلبه وأعظم سروره وفرحه وإن أبى إلّا تَدْبيره لنَفسِهِ واختياره لَها واهتمامه بحظه دون حق ربه خلاه وما اخْتارَهُ وولاه ما تولى فحضره الهم والغَم والحزن والنكد الخَوْف والتعب وكسف البال وسُوء الحال فَلا قلب يصفو ولا عمل يزكو ولا أمل يحصل ولا راحَة يفوز بها ولا لَذَّة بَينها بها بل بل قد حيل بَينه وبَين مسرته وفرحه وقرة عينه فَهو يكدح في الدُّنْيا كدح الوَحْش ولا يظفر مِنهُ بأمل ولا يتزود مِنها لِمَعاد والله سُبْحانَهُ أمر العَبْد بِأمْر وضمن لَهُ ضمانا فَإن قامَ بأمْره بالنصح والصدق والإخْلاص والِاجْتِهاد قامَ الله سُبْحانَهُ لَهُ بِما ضمنه لَهُ من الرزق والكفاية والنصر وقَضاء الحَوائِج، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ ضمن الرزق لمن عَبده، والنصر لمن توكل عَلَيْهِ واستنصر بِهِ والكفاية لمن كانَ هو همه ومراده والمَغْفِرَة لمن استغفره وقَضاء الحَوائِج لمن صَدَقَه في طلبَها ووثق بِهِ وقَوي رجاؤه وطمعه في فَضله وجوده فالفطن الكيّس إنَّما يهتم بأمْره وإقامته وتوفيته لا بضمانه فَإنَّهُ الوفي الصّادِق ومَن أوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فَمن عَلامات السَّعادَة صرف اهتمامه إلى أمر الله دون ضَمانه ومن عَلامات الحرمان فراغ قلبه من الاهتمام بأمْره وحبه وخشيته والاهتمام بضمانه والله المُسْتَعان.
قالَ بشر بن الحارِث أهل الآخِرَة ثَلاثَة عابِد وزاهد وصِدِّيق.
فالعابد يعبد الله مَعَ العلائق، والزاهد يعبده على ترك العلائق، والصديق يعبده على الرِّضا والموافقة.
إن أراهُ أخذ الدُّنْيا أخذها، وإن أراهُ تَركها تَركها،
إذا كانَ الله ورَسُوله في جانب فاحذر أن تكون في الجانِب الآخر، فَإن ذَلِك يُفْضِي إلى المشاقة والمحادّة، وهَذا أصْلها ومِنه اشتقاقها فَإن المشاقة أن يكون في شقّ ومن يُخالِفهُ في شقّ، والمحادة أن يكون حد وهو في حد، ولا تستسهل هَذا فَإن مبادئه تجر إلى غايَته، وقليله يَدْعُو إلى كَثِيره وكن في الجانِب الَّذِي يكون فِيهِ الله ورَسُوله، وإن كانَ النّاس كلهم في الجانِب الآخر، فَإن لذَلِك عواقب هي أحْمد العواقب وأفضلها، ولَيْسَ للْعَبد أنْفَع من ذَلِك في دُنْياهُ قبل آخرته، وأكْثر الخلق إنَّما يكونُونَ من الجانِب الآخر ولاسيما إذا قويت الرَّغْبَة والرهبة فهناك لا تكاد تَجِد أحدا في الجانِب الَّذِي فِيهِ الله ورَسُوله، بل يعدّه النّاس ناقص العقل سيء الِاخْتِيار لنَفسِهِ، ورُبما نسبوه إلى الجُنُون، وذَلِكَ من مَوارِيث أعداء الرُّسُل فَإنَّهُم نسبوهم غلى الجُنُون لما كانُوا في شقّ وجانب، والنّاس في شقّ وجانب آخر، ولَكِن من وطّن نَفسه على ذَلِك فَإنَّهُ يحْتاج إلى علم راسخ بِما جاءَ بِهِ الرَّسُول يكون يَقِينا لَهُ لا ريب عِنْده فِيهِ وإلى صَبر تامّ على معاداة من عاداهُ ولومة من لامه، ولا يتم لَهُ ذَلِك إلّا برغبة قَوِيَّة في الله والدّار والآخِرَة بِحَيْثُ تكون الآخِرَة أحب إلَيْهِ من الدُّنْيا وآثر عِنْده مِنها، ويكون الله ورَسُوله أحب إلَيْهِ مِمّا سواهُما، ولَيْسَ شَيْء أصعب على الإنْسان من ذَلِك في مبادئ الأمر، فَإن نَفسه وهواه وطبعه وشيطانه وإخوانه ومعاشيره من ذَلِك الجانِب يدعنه إلى العاجل فَإذا خالفوهم تصدوا الحربة، فَإن صَبر وثَبت جاءَهُ العون من الله، وصارَ ذَلِك الصعب سهلا، وذَلِكَ الألَم لَذَّة، فَإن الرب شكور فَلا بُد أن يذيقه لَذَّة تحيزه إلى الله وإلى رَسُوله، ويريه كَرامَة ذَلِك فيشتد بِهِ سروره وغبطته، ويبتهج بِهِ قلبه، ويظفر بقوته وفرحه وسروره، ويبقى من كانَ مُحاربًا لَهُ على ذَلِك بَين هائب لَهُ مسالم لَهُ ومساعد وتارك، ويقوى جنده، ويضعف جند العَدو ولا تستصعب مُخالفَة النّاس والتحيز إلى الله ورَسُوله ولَو كنت وحدك، فَإن الله مَعَك وأنت بِعَيْنِه وكلاءته وحفظه لَك، وإنَّما امتحن يقينك وصبرك أعظم الأعوان لَك على بعد عون الله هَذا بعون الله التجرد من الطمع والفزع فَمَتى تجردت مِنهُما هان عَلَيْك التحيز إلى الله ورَسُوله، وكنت دائِما في الجانِب الَّذِي فِيهِ الله ورَسُوله، ومَتى قامَ بك الطمع فَلا تطمع في هَذا الأمر ولا تحدث نَفسك بِهِ.
فَإن قلت فَبِأي شَيْء أستعين على التجرد من الطمع ومن الفَزع؟
قلت بِالتَّوْحِيدِ والتوكل والثقة بِالله وعلمك بِأنَّهُ لا يَأْتِي بِالحَسَناتِ إلا هو، ولا يذهب بالسيآت إلّا هو وأن الأمر كُله لله لَيْسَ لأحد مَعَ الله شَيْء.
{"ayah":"وَرَبُّكَ یَخۡلُقُ مَا یَشَاۤءُ وَیَخۡتَارُۗ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلۡخِیَرَةُۚ سُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یُشۡرِكُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق