الباحث القرآني
وَفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ سُئِلَ: «أيُّ الذَّنْبِ أكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قالَ: أنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وهو خَلَقَكَ، قِيلَ: ثُمَّ أيُّ؟ قالَ: أنْ تَقْتُلَ ولَدَكَ مَخافَةَ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قِيلَ: ثُمَّ أيُّ؟ قالَ: أنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جارِكَ» فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى تَصْدِيقَها:
﴿والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ ولا يَزْنُونَ﴾ [الفرقان: ٦٨].
وَلَمّا كانَتْ مَفْسَدَةُ الزِّنى مِن أعْظَمِ المَفاسِدِ وهي مُنافِيَةٌ لِمَصْلَحَةِ نِظامِ العالَمِ في حِفْظِ الأنْسابِ، وحِمايَةِ الفُرُوجِ، وصِيانَةِ الحُرُماتِ، وتَوَقِّي ما يُوقِعُ أعْظَمَ العَداوَةِ والبَغْضاءِ بَيْنَ النّاسِ، مِن إفْسادِ كُلٍّ مِنهُمُ امْرَأةَ صاحِبِهِ وبِنْتِهِ وأُخْتِهِ وأُمِّهِ، وفي ذَلِكَ خَرابُ العالَمِ، كانَتْ تَلِي مَفْسَدَةَ القَتْلِ في الكِبَرِ، ولِهَذا قَرَنَها اللَّهُ سُبْحانَهُ بِها في كِتابِهِ، ورَسُولُهُ ﷺ في سُنَّتِهِ كَما تَقَدَّمَ.
قالَ الإمامُ أحْمَدُ: ولا أعْلَمُ بَعْدَ قَتْلِ النَّفْسِ شَيْئًا أعْظَمَ مِنَ الزِّنى.
وَقَدْ أكَّدَ سُبْحانَهُ حُرْمَتَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ ولا يَزْنُونَ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثامًا - يُضاعَفْ لَهُ العَذابُ يَوْمَ القِيامَةِ ويَخْلُدْ فِيهِ مُهانًا - إلّا مَن تابَ﴾ [الفرقان: ٦٨-٧٠].
فَقَرَنَ الزِّنى بِالشِّرْكِ وقَتْلِ النَّفْسِ، وجَعَلَ جَزاءَ ذَلِكَ الخُلُودَ في العَذابِ المُضاعَفِ، ما لَمْ يَرْفَعِ العَبْدُ مُوجِبَ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ والإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ.
[إتْلافُ النَّفْسِ عُقُوبَةُ أفْظَعِ أنْواعِ الجَرائِمِ]
وَتَأمَّلْ كَيْفَ جاءَ إتْلافُ النُّفُوسِ في مُقابَلَةِ أكْبَرِ الكَبائِرِ وأعْظَمِها ضَرَرًا وأشَدِّها فَسادًا لِلْعالَمِ، وهي الكُفْرُ الأصْلِيُّ والطّارِئُ، والقَتْلُ وزِنا المُحْصَنِ، وإذا تَأمَّلَ العاقِلُ فَسادَ الوُجُودِ رَآهُ مِن هَذِهِ الجِهاتِ الثَّلاثِ، وهَذِهِ هي الثَّلاثُ الَّتِي «أجابَ النَّبِيُّ ﷺ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ بِها حَيْثُ قالَ لَهُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ؟ قالَ: أنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وهو خَلَقَك، قالَ: قُلْت: ثُمَّ أيُّ؟ قالَ: أنْ تَقْتُلَ ولَدَك خَشْيَةَ أنْ يَطْعَمَ مَعَك، قالَ: قُلْت: ثُمَّ أيُّ؟ قالَ: أنْ تُزانِيَ بِحَلِيلَةِ جارِك» فَأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: ﴿والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالحَقِّ ولا يَزْنُونَ﴾ [الفرقان: ٦٨] الآيَةَ.
* (فصل: أصُول المعاصِي كلها كِبارها وصغارها ثَلاثَة)
تعلق القلب بِغَيْر الله، وطاعَة القُوَّة الغضبية، والقُوَّة الشهوانية، وهِي الشّرك والظُّلم والفَواحِش.
فغاية التَّعَلُّق بِغَيْر الله شرك وأن يدعى مَعَه إلَه آخر وغايَة طاعَة القُوَّة الغضبية القَتْل وغايَة القُوَّة الشهوانية الزِّنا ولِهَذا جمع الله سُبْحانَهُ بَين الثَّلاثَة في قَوْله ﴿والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ الله إلَهًا آخر ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ ولا يَزْنُونَ﴾
وَهَذِه الثَّلاثَة يَدْعُو بَعْضها إلى بعض فالشرك يَدْعُو إلى الظُّلم والفَواحِش كَما أن الإخْلاص والتوحيد يصرفهما عَن صاحبه قالَ تَعالى ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والفَحْشاءَ إنَّهُ مِن عِبادِنا المُخْلَصِينَ﴾
فالسوء العِشْق والفحشاء الزِّنا وكَذَلِكَ الظُّلم يَدْعُو إلى الشّرك والفاحشة، فَإن الشّرك أظلم الظلم كَما أن أعدل العدْل التَّوْحِيد.
فالعدل قرين التَّوْحِيد، والظُّلم قرين الشّرك، ولِهَذا يجمع سُبْحانَهُ بَينهما.
أما الأول فَفي قَوْله ﴿شهد الله أنه لا إلَه إلّا هو والمَلائِكَةُ وأُولُو العِلْمِ قائِمًا بِالقِسْطِ﴾
وَأما الثّانِي فكقوله تَعالى ﴿إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾
والفاحشة تَدْعُو إلى الشّرك والظُّلم ولا سِيما إذا قويت إرادتها ولم تحصل إلّا بِنَوْع من الظُّلم بالظلم، والاستعانة بِالسحرِ والشيطان.
وَقد جمع سُبْحانَهُ بَين الزِّنا والشرك في قَوْله ﴿الزّانِي لا يَنْكِحُ إلّا زانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً والزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إلّا زانٍ أوْ مُشْرِكٌ وحُرِّمَ ذَلِكَ عَلى المُؤْمِنِينَ﴾
فَهَذِهِ الثَّلاثَة يجر بَعْضها إلى بعض ويَأْمُر بَعْضها بِبَعْض ولِهَذا كلما كانَ القلب أضْعَف توحيدا وأعظم شركا كانَ أكثر فاحِشَة وأعظم تعلقا بالصور وعشقا لَها.
[مِن حِكْمَةِ اللَّهِ شَرْعُ الحُدُودِ]
فَكانَ مِن بَعْضِ حِكْمَتِهِ سُبْحانَهُ ورَحْمَتِهِ أنْ شَرَعَ العُقُوباتِ في الجِناياتِ الواقِعَةِ بَيْنَ النّاسِ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ، في الرُّءُوسِ والأبْدانِ والأعْراضِ والأمْوالِ، كالقَتْلِ والجِراحِ والقَذْفِ والسَّرِقَةِ؛ فَأحْكَمَ سُبْحانَهُ وُجُوهَ الزَّجْرِ الرّادِعَةَ عَنْ هَذِهِ الجِناياتِ غايَةَ الإحْكامِ، وشَرَعَها عَلى أكْمَلِ الوُجُوهِ المُتَضَمِّنَةِ لِمَصْلَحَةِ الرَّدْعِ والزَّجْرِ، مَعَ عَدَمِ المُجاوَزَةِ لِما يَسْتَحِقُّهُ الجانِي مِن الرَّدْعِ؛ فَلَمْ يَشْرَعْ في الكَذِبِ قَطْعَ اللِّسانِ ولا القَتْلَ، ولا في الزِّنا الخِصاءَ، ولا في السَّرِقَةِ إعْدامَ النَّفْسِ.
وَإنَّما شَرَعَ لَهم في ذَلِكَ ما هو مُوجِبُ أسْمائِهِ وصِفاتِهِ مِن حِكْمَتِهِ ورَحْمَتِهِ ولُطْفِهِ وإحْسانِهِ وعَدْلِهِ لِتَزُولَ النَّوائِبُ، وتَنْقَطِعَ الأطْماعُ عَنْ التَّظالُمِ والعُدْوانِ، ويَقْتَنِعَ كُلُّ إنْسانٍ بِما آتاهُ مالِكُهُ وخالِقُهُ؛ فَلا يَطْمَعُ في اسْتِلابِ غَيْرِهِ حَقَّهُ.
[تَفاوَتَتْ الجِناياتُ فَتَفاوَتَتْ العُقُوباتُ]
وَمَعْلُومٌ أنَّ لِهَذِهِ الجِناياتِ الأرْبَعِ مَراتِبَ مُتَبايِنَةً في القِلَّةِ والكَثْرَةِ، ودَرَجاتٍ مُتَفاوِتَةٍ في شِدَّةِ الضَّرَرِ وخِفَّتِهِ، كَتَفاوُتِ سائِرِ المَعاصِي في الكِبَرِ والصِّغَرِ وما بَيْنَ ذَلِكَ.
وَمِن المَعْلُومِ أنَّ النَّظْرَةَ المُحَرَّمَةَ لا يَصْلُحُ إلْحاقُها في العُقُوبَةِ بِعُقُوبَةِ مُرْتَكِبِ الفاحِشَةِ، ولا الخَدْشَةِ بِالعُودِ بِالضَّرْبَةِ بِالسَّيْفِ، ولا الشَّتْمِ الخَفِيفِ بِالقَذْفِ بِالزِّنا والقَدَحِ في الأنْسابِ؛ ولا سَرِقَةِ اللُّقْمَةِ والفَلْسِ بِسَرِقَةِ المالِ الخَطِيرِ العَظِيمِ، فَلَمّا تَفاوَتَتْ مَراتِبُ الجِناياتِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِن تَفاوُتِ مَراتِبِ العُقُوباتِ، وكانَ مِن المَعْلُومِ أنَّ النّاسَ لَوْ وُكِّلُوا إلى عُقُولِهِمْ في مَعْرِفَةِ ذَلِكَ وتَرْتِيبِ كُلِّ عُقُوبَةٍ عَلى ما يُناسِبُها مِن الجِنايَةِ جِنْسًا ووَصْفًا وقَدْرًا لَذَهَبَتْ بِهِمْ الآراءُ كُلَّ مَذْهَبٍ، وتَشَعَّبَتْ بِهِمْ الطُّرُقُ كُلَّ مُشَعَّبٍ، ولَعَظُمَ الِاخْتِلافُ واشْتَدَّ الخَطْبُ، فَكَفاهم أرْحَمُ الرّاحِمِينَ وأحْكُمُ الحاكِمِينَ مُؤْنَةَ ذَلِكَ، وأزالَ عَنْهم كُلْفَتَهُ، وتَوَلّى بِحِكْمَتِهِ وعِلْمِهِ ورَحْمَتِهِ تَقْدِيرَهُ نَوْعًا وقَدْرًا، ورَتَّبَ عَلى كُلِّ جِنايَةٍ ما يُناسِبُها مِن العُقُوبَةِ ويَلِيقُ بِها مِن النَّكالِ، ثُمَّ بَلَغَ مِن سَعَةِ رَحْمَتِهِ وجُودِهِ أنْ جَعَلَ تِلْكَ العُقُوباتِ كَفّاراتٍ لِأهْلِها، وطُهْرَةً تُزِيلُ عَنْهم المُؤاخَذَةَ بِالجِناياتِ إذا قَدِمُوا عَلَيْهِ، ولا سِيَّما إذا كانَ مِنهم بَعْدَها التَّوْبَةُ النَّصُوحُ والإنابَةُ؛ فَرَحِمَهم بِهَذِهِ العُقُوباتِ أنْواعًا مِن الرَّحْمَةِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وجَعَلَ هَذِهِ العُقُوباتِ دائِرَةً عَلى سِتَّةِ أُصُولٍ: قَتْلٍ، وقَطْعٍ، وجَلْدٍ، ونَفْيٍ، وتَغْرِيمِ مالٍ، وتَعْزِيرٍ.
[القَتْلُ ومُوجِبُهُ]
فَأمّا القَتْلُ فَجَعَلَهُ عُقُوبَةَ أعْظَمِ الجِناياتِ، كالجِنايَةِ عَلى الأنْفُسِ؛ فَكانَتْ عُقُوبَتُهُ مِن جِنْسِهِ، وكالجِنايَةِ عَلى الدِّينِ بِالطَّعْنِ فِيهِ والِارْتِدادِ عَنْهُ، وهَذِهِ الجِنايَةُ أوْلى بِالقَتْلِ وكَفِّ عُدْوانِ الجانِي عَلَيْهِ مِن كُلِّ عُقُوبَةٍ؛ إذْ بَقاؤُهُ بَيْنَ أظْهُرِ عِبادِهِ مَفْسَدَةٌ لَهُمْ، ولا خَيْرَ يُرْجى في بَقائِهِ ولا مَصْلَحَةَ؛ فَإذا حَبَسَ شَرَّهُ وأمْسَكَ لِسانَهُ وكَفَّ أذاهُ والتَزَمَ الذُّلَّ والصَّغارَ وجَرَيانَ أحْكامِ اللَّهِ ورَسُولِهِ عَلَيْهِ وأداءَ الجِزْيَةِ لَمْ يَكُنْ في بَقائِهِ بَيْنَ أظْهُرِ المُسْلِمِينَ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ، والدُّنْيا بَلاغٌ ومَتاعٌ إلى حِينٍ، وجَعَلَهُ أيْضًا عُقُوبَةَ الجِنايَةِ عَلى الفُرُوجِ المُحَرَّمَةِ؛ لِما فِيها مِن المَفاسِدِ العَظِيمَةِ واخْتِلاطِ الأنْسابِ والفَسادِ العامِّ.
* (فصل)
اعلمْ أن الله سبحانه خلق عباده المؤمنين وخلق كل شيء لأجلهم، كما قال تعالى: ﴿ألَمْ تَرَوْا أنَّ اللهَ سخَّرَ لَكم ما فِى السَّمَواتِ وما فِى الأرْضِ وأسْبَغَ عَلَيْكم نِعمَهُ ظاهِرَةً وباطِنَةً﴾ [لقمان:٠٢].
وكرمهم وفضلهم على كثير ممن خلق فقال: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَم وحملناهم فِى البِرِّ والبَحْرِ ورزَقْناهم مِنَ الطَّيِّباتِ وفَضَّلْناهم عَلى كثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: ٧٠]، وقال لصالحيهم وصفوتهم: ﴿إنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ ونُوحًا وآل إبْراهِيمَ وآلَ عِمْرانَ عَلى العالَمِين﴾ [آل عمران: ٣٣].
وقال تعالى لموسى: ﴿واصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ [طه: ٤١]، واتخذ منهم الخليلين، والخلة أعلى درجات المحبة.
وقد جاء في بعض الآثار: يقول تعالى: "ابن آدم خلقتك لنفسي، وخلقت كل شيء لك فبحقى عليك لا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك له".
وفى أثر آخر يقول تعالى: "ابن آدم، خلقتك لنفسي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، ابن آدم اطلبنى تجدنى فإن وجدتنى وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء".
فالله سبحانه خلق عباده له، ولهذا اشترى منهم أنفسهم، وهذا عقد لم يعقده مع خلق غيرهم فيما أخبر به على لسان رسوله ﷺ، ليسلموا إليه النفوس التي خلقها له.
وهذا الشراء دليل على أنها محبوبة له مصطفاة عنده، مرضية لديه.
وقدر السلعة يعرف بجلالة قدر مشتريها وبمقدار ثمنها، هذا إذا جهل قدرها في نفسها، فإذا عرف قدر السلعة وعرف مشتريها، وعرف الثمن المبذول فيها علم شأْنها ومرتبتها في الوجود. فالسلعة أنت، والله المشترى والثمن جنته والنظر إلى وجهه وسماع كلامه في دار الأمن والسلام.
والله سبحانه لا يصطفي لنفسه إلا أعز الأشياء وأشْرَفَها وأعظمها قيمة. وإذا كان قد اختار العبد لنفسه، وارتضاه لمعرفته ومحبته، وبنى له دارًا في جواره وقربه، وجعل ملائكته خدَمه يسعون في مصالحه في يقظته ومنامه وحياته وموته، ثم إنّ العبد أبق عن سيده ومالكه، معرضًا عن رضاه، ثم لم يكفه ذلك حتى خامر عليه وصالح عدوه ووالاه من دونه وصار من جنده مؤثرًا لمرضاته على مرضاة وليه ومالكه، فقد باع نفسه - التي اشتراها منه إلهه ومالكه وجعل ثمنها جنته والنظر إلى وجهه - من عدوه وأبغض خلقه إليه، واستبدل غضبه برضاه ولعنته برحمته ومحبته.
فأي مقت خلى هذا المخدوع عن نفسه لم يتعرض له من ربه؟
قال تعالى: ﴿وَإذْ قُلْنا لِلْملائِكَةِ اسْجُدُوا لآدم فَسَجَدُوا إلا إبْلِيسَ كانَ مِن الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ أفَتَتّخِذُونَهُ وذُرِّيَّتَهُ أوْلِياءَ مِن دُونِي وهم لَكم عَدُو، بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدلًا﴾ [الكهف: ٥٠].
فتأمل ما تحت هذه المعاتبة وما في طي هذا الخطاب من سوءِ هذا العبد وما تعرض له من المقت والخزى والهوان ومن استعطاف ربه واستعتابه ودعائه إياه إلى العود إلى وليه ومولاه الحق الذي هو أولى به، فإذا عاد إليه وتاب إليه فهو بمثابة من أسر له العدو محبوبًا له، واستولوا عليه وحالوا بينه وبينه، فهرب منهم ذلك المحبوب وجاءَ إلى محبه اختيارًا وطوعًا حتى توسد عتبة بابه فخرج المحب من بيته فوجد محبوبه متوسدًا عتبة بابه واضعًا خده وذقنه عليها، فكيف يكون فرحه ربه؟ ولله المثل الأعلى.
ويكفي في هذا المثل الذي ضربه رسول الله ﷺ لمن فتح الله عين قلبه فأبصر ما في طيه وما في ضمنه، وعلم أنه ليس كلام مجاز ولا مبالغة ولا تخييل، بل كلام معصوم في منطقة وعلمه وقصده وعمله، كل كلمة منه في موضعها ومنزلتها ومقرها لا يتعدى بها عنه ولا يقصر بها.
والذي يزيد هذا المعنى تقريرًا أن محبة الرب لعبده سبقت محبة العبد له سبحانه، فإن لولا محبة الله له لما جعل محبته في قلبه، فلما أحبه ألهمه حبه وآثره به فلما أحبه العبد جازاه على تلك المحبة محبة أعظم منها فإنه من تقرب إليه شبرًا تقرب إليه ذراعًا، ومن تقرب إليه ذراعًا تقرب إليه باعًا، ومن أتاه مشيًا أتاه هرولة.
وهذا دليل على أن محبة الله لعبده الذي يحبه فوق محبة العبد له.
فإذا تعرض هذا المحبوب لمساخط حبيبه فهو بمنزلة المحبوب الذي فر من محبه وآثر غيره عليه، فإذا عاوده وأقبل إليه وتخلى عن غيره، فكيف لا يفرح به محبه أعظم فرح وأكمله، والشاهد أقوى شاهد تؤيده الفطرة والعقل، فلو لم يخبر الصادق المصدوق بما أخبر به من هذا الأمر العظيم لكان في الفطرة والعقل ما يشهد به، فإذا انضافت للشريعة المنزلة إلى الفطرة المكملة إلى العقل الصحيح المنور، فذلك الذي لا غاية له بعده، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل العظيم.
* (فصل)
ومتى أراد العبد شاهِدَ هذا من نفسه فلينظر إلى الفرحة التي يجدها بعد التوبة النصوح، والسرور واللذة التي تحصل له، والجزاءُ من جنس العمل.
فلما تاب إلى الله ففرح الله بتوبته أعقبه فرحًا عظيمًا. وهاهنا دقيقة قل من يتفطن لها إلا فقيه في هذا الشأْن. وهي أن كل تائب لا بد له في أول توبته من عصرة وضغطة في قلبه من هم أو غم أو ضيق أو حزن، ولو لم يكن إلا تألمه بفراق محبوبه فينضغط لذلك وينعصر قلبه ويضيق صدره، فأكثر الخلق رجعوا من التوبة ونكسوا على رؤوسهم لأجل هذه المحنة.
والعارف الموفق يعلم أن الفرحة والسرور واللذة الحاصلة عقيب التوبة تكون على قدر هذه العصرة، فكلما كانت أقوى وأشد كانت الفرحة واللذة أكمل وأتم، ولذلك أسباب عديدة: منها أن هذه العصرة والقبض دليل على حياة قلبه، وقوة استعداده، ولو كان قلبه ميتًا واستعداده ضعيفًا لم يحصل له ذلك ..
وأيضًا فإن الشيطان لص الإيمان، واللص إنما يقصد المكان المعمور، وأما المكان الخراب الذي لا يرجو أن يظفر منه بشيء فلا يقصده فإذا قويت المعارضات الشيطانية والعصرة دل على أن في قلبه من الخير ما يشتد حرص الشيطان على نزعه منه.
وأيْضًا فإن قوة المعارض والمضاد تدل على قوة معارضة وضده، ومثل هذا إما أن يكون رأسًا في الخير أو رأسًا في الشر، فإن النفوس الأبية القوية إن كانت خيرة رأست في الخير، وإن كانت شريرة رأست في الشر.
وأيضًا فإن بحسب موافقته لهذا العارض وصبره عليه يثمر له ذلك من اليقين والثبات والعزم ما يوجب زيادة انشراحه وطمأنينته. وأيضًا فإنه كلما عظم المطلوب كثرت العوارض والموانع دونه، هذه سنة الله في الخلق.
فانظر إلى الجنة وعظمها وإلى الموانع والقواطع التي حالت دونها حتى أوجبت أن ذهب من كل ألف رجل واحد إليها، وانظر إلى محبة الله والانقطاع إليه والإنابة إليه والتبتل إليه وحده والأُنس به واتخاذه وليًا ووكيلًا وكافيًا وحسيبًا هل يكتسب العبد شيئًا أشرف منه؟
وانظر إلى القواطع والموانع الحائلة دونه، حتى قد تعلق كل قوم بما تعلقوا به دونه، والطالبون له منهم الواقف مع عمله والواقف مع علمه، والواقف مع حاله، والواقف مع ذوقه وجمعيته وحظه من ربه، والمطلوب منهم وراءَ ذلك كله.
والمقصود أن هذا الأمر الحاصل بالتوبة لما كان من أجل الأُمور وأعظمها نصبت عليه المعارضات والمحن، ليتميز الصادق من الكاذب وتقع الفتنة ويحصل الابتلاءُ ويتميز من يصلح ممن لا يصلح، قال تعالى: ﴿آلم أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا وهم لا يُفْتَنُونَ ولَقَدْ فَتَنّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: ١-٣] وقال: ﴿لِيَبْلُوكم أيُّكم أحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: ٢]، ولكن إذا صبر على هذه العصرة قليلًا أفضت به إلى رياض الأُنس وجنات الانشراح، وإن لم يصبر لها انقلب على وجهه. والله الموفق لا إله غيره ولا رب سواه.
والمقصود أن هذا الفرح من الله بتوبة عبده - مع أنه لم يأْت نظيره في غيرها من الطاعات - دليل على عظم قدر التوبة وفضلها عند الله، وأن التعبد له بها من أشرف التعبدات، وهذا يدل على أن صاحبها يعود أكمل مما كان قبلها، فهذا بعض ما احتج به لهذا القول.
وأما الطائفة التي قالت: لا يعود إلى مثل ما كان، بل لا بد أن ينقص حاله، فاحتجوا بأن الجناية توجب الوحشة وزوال المحبة ونقص العبودية بلا ريب.
فليس العبد الموفر أوقاته على طاعة سيده كالعبد المفرط في حقوقه، وهذا مما لا يمكن جحده ومكابرته، فإذا تاب إلى ربه ورجع إليه أثرت توبته برك مؤاخذته بالذنب والعفو عنه، وأما مقام القرب والمحبة فهيهات أن يعود.
قالوا: ولأن هذا في زمن اشتغاله بالمعصية قد فاته فيه السير إلى الله، فلو كان واقفًا في موضعه لفاته التقدم فكيف وهو في زمن المعصية كان سيره إلى وراءَ وراء؟
فإذا تاب واستقبل سيره، فإنه يحتاج إلى سير جديد وقطع مسافة حتى يصل إلى الوضع الذي تأخر منه.
قالوا: ونحن لا ننكر أنه قد يأْتي بطاعات وأعمال تبلغه إلى منزلته وإنما أنكرنا أن يكون بمجرد التوبة النصوح يعود إلى منزلته وحالته، وهذا مما لا يكون فإنه بالتوبة قد وجه وجهه إلى الطريق، فلا يصل إلى مكانه الذي رجع منه إلا بسير مستأْنف يوصله إليه، ونحن لا ننكر أن العبد بعد التوبة يعمل أعمالًا عظيمة لم يكن ليعملها قبل الذنب توجب له التقدم.
قالوا: وأيضًا، فلو رجع إلى حاله التي كان عليها أو إلى أرفع منها لكان بمنزلة المداوم على الطاعة أو أحسن حالًا منه، فكيف يكون هذا، وأين مسير صاحب الطاعة في زمن اشتغال هذا بالمعصية؟ وكيف يلتقى رجلان أحدهما سائر نحو المشرق والآخر نحو المغرب، فإذا رجع أحدهما إلى طريق الآخر والآخر مجدٌ على سيره، فإنه لا يزال سابقه ما لم يعرض له فتور أو توان؟ هذا مما لا يمكن جحده ودفعه.
قالوا: وأيضًا فمرض القلب بالذنوب على مثل مرض الجسم بالأسقام، والتوبة بمنزلة شرب الدواءِ، والمريض إذا شرب الدواءَ وصح فإنه لا تعود إليه قوته قبل المرض، وإنْ عادت فبعد حين.
قالوا: وأيضًا فهذا في زمن معالجة التوبة ملبوك في نفسه، مشغول بمداوتها ومعالجتها، وفي زمن الذنب مشغول بشهواتها، والسالم من ذلك مشغول بربه قد قرب منه في سيره فكيف يلحقه هذا؟ فهذا ونحوه مما احتجت به هذه الطائفة لقولها.
وجرت هذه المسألة بحضرة شيخ الإسلام ابن تيمية، فسمعته يحكي هذه الأقوال الثلاثة حكاية مجردة، فإما سألته وإما سئل عن الصواب منها، فقال: الصواب أن من التائبين من يعود إلى مثل حاله، ومنهم من يعود إلى أكمل منها، مما كانت، ومنهم من يعود إلى أنقص مما كان. فإن كان بعد التوبة خيرًا مما كان قبل الخطيئة وأشد حذرًا وأعظم تشميرًا وأعظم ذلًا وخشية وإنابة عاد إلى أرفع مما كان، وإن كان قبل الخطيئة أكمل في هذه الأُمور ولم يعد بعد التوبة إليها عاد إلى أنقص مما كان عليه، وإن كان بعد التوبة مثل ما كان قبل الخطيئة رجع إلى مثل منزلته. هذا معنى كلامه رضي الله عنه.
قلت: وهاهنا مسألة هذا الموضع أخص المواضع ببيانها، وهي أن التائب إذا تاب إلى الله توبة نصوحًا، فهل تمحى تلك السيئات ويذهب لا له ولا عليه، أو إذا محيت أثبت له مكان كل سيئة حسنة؟ هذا مما اختلف الناس فيه من المفسرين وغيرهم قديمًا وحديثًا، فقال الزجاج: ليس يجعل مكان السيئة الحسنة، لكن يجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة.
قال ابن عطية: يجعل أعمالهم بدل معاصيهم الأُولى طاعة، فيكون ذلك سببًا لرحمة الله إياهم، قاله ابن عباس وابن جبير وابن زيد والحسن، ورد على من قال هو في يوم القيامة، قال: وقد ورد حديث في كتاب مسلم من طريق أبي ذر يقتضي أن الله سبحانه يوم القيامة يجعل لمن يريد المغفرة له من الموحدين بدل سيئاته حسنات، وذكره الترمذي والطبري، وهذا تأْويل سعيد بن المسيب في هذه الآية.
قال ابن عطية: وهو معنى كرم العفو، هذا آخر كلامه.
قلت: سيأتى إن شاء الله ذكر الحديث بلفظه والكلام عليه. قال المهدوى: وروى معنى هذا القول عن سلمان الفارسى وسعيد بن جبير وغيرهما.
وقال الثعلبي: قال ابن عباس وابن جريج والضحاك وابن زيد: ﴿يبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ﴾ [الفرقان: ٧٠] يبدلهم الله بقبيح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام، فيبدلهم بالشرك إيمانًا وبقتل المؤمنين قتل المشركين، وبالزنا عفة وإحصانًا. وقال آخرون: يعني يبدل الله سيئاتهم التي عملوها في حال إسلامهم حسنات يوم القيامة.
وأصل القولين أن هذا التبديل هل هو في الدنيا أو يوم القيامة؟ فمن قال: إنه في الدنيا قال: هو تبديل الأعمال القبيحة والإرادات الفاسدة بأضدادها، وهي حسنات، وهذا تبديل حقيقة. والذين نصروا هذا القول احتجوا بأن السيئة لا تنقلب حسنة، بل غايتها أن تمحى وتكفِّر ويذهب أثرها فأما أن تنقلب حسنة فلا، فإنها لم تكن طاعة، وإنما كانت بغيضة مكروهة للرب فكيف تنقلب محبوبة مرضية.
قالوا: وأيضًا فالذي دل عليه القرآن إنما هو تكفير السيئات ومغفرة الذنوب، كقوله تعالى: ﴿رَبَّنا فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وكَفِّرْ عَنّا سَيِّئاتِنا﴾ [آل عمران: ١٩٣]، وقوله تعالى: ﴿وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئاتِ﴾ [المائدة: ١٥] وقوله تعالى: ﴿إنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر: ٥٣]، والقرآن مملوءٌ من ذلك.
وفى الصحيح من حديث قتادة عن صفوان بن محرز قال: قال رجل لابن عمر: كيف سمعت رسول الله ﷺ يقول في النجوى؟ قال: سمعته يقول: "يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، فيقول: هل تعرف؟ فيقول: رب أعرف، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطي صحيفة حسناته، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على الله عز وجل"، فهذا الحديث المتفق عليه الذي تضمن العناية بهذا العبد إنما فيه ستر ذنوبه عليه في الدنيا ومغفرتها له يوم القيامة، ولم يقل له: وأعطيتك بكل سيئة منها حسنة.
فدل على أن غاية السيئات مغفرتها وتجاوز الله عنها، وقد قال الله في حق الصادقين: ﴿لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهم أسْوَأ الَّذِى عَمِلُوا ويَجْزِيَهم أجْرَهم بِأحْسَنِ الَّذِى كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الزمر: ٣٥]، فهؤلاء خيار الخلق، وقد أخبر أنه يكفر عنهم سيئات أعمالهم، ويجزيهم بأحسن ما يعملون، وأحسن ما عملوا إنما هو الحسنات لا السيئات فدل على أن الجزاء بالحسنى إنما يكون على الحسنات وحدها، وأما السيئات فإن فحسبها أن تلغى ويبطل أثرها، قالوا: وأيضًا فلو انقلبت السيئات أنفسها حسنات في حق التائب لكان أحسن حالًا من الذي لم يرتكب منها شيئًا وأكثر حسنات منه، لأنه إذا أساءَ شاركه في حسناته التي فعلها وامتاز عنه بتلك السيئات ثم انقلبت له حسنات ترجح عليه، وكيف يكون صاحب السيئات أرجح ممن لا سيئته له؟
قالوا: وأيضًا فكما أن العبد إذا فعل حسنات، ثم أتى بما يحبطها فإنها لا تنقلب سيئات يعاقب عليها، بل يبطل أثرها ويكون لا له ولا عليه وتكون عقوبته عدم ترتب ثوابه عليها، فهكذا من فعل سيئات ثم تاب منها، فإنها لا تنقلب حسنات.
فإن قلتم: وهكذا التائب يكون ثوابه عدم ترتب العقوبة على سيئاته، لم ننازعكم في هذا، وليس هذا معنى الحسنة فإن الحسنة تقتضى ثوابًا وجوديًا.
واحتجت الطائفة الأخرى التي قالت: هو تبديل السيئة بالحسنة حقيقة يوم القيامة بأن قالت: حقيقة التبديل إثبات الحسنة مكان السيئة.
وهذا إنما يكون في السيئة المحققة وهي التي قد فعلت ووقعت، فإذا بدلت حسنة كان معناه أنها محيت وأُثبت مكانها حسنة قالوا: ولهذا قال تعالى: ﴿سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ﴾ [الفرقان: ٧٠]، فأضاف السيئات إليهم لكونهم باشروها واكتسبوها، ونكر الحسنات ولم يضفها إليهم لأنها من غير صنعهم وكسبهم، بل هي مجرد فضل الله وكرمه.
قالوا: وأيضًا فالتبديل في الآية إنما هو فعل الله لا فعلهم، فإنه أخبر أنه هو يبدل سيئاتهم حسنات، ولو كان المراد ما ذكرتم لأضاف التبديل إليهم فإنهم هم الذين يبدلون سيئاتهم حسنات، والأعمال إنما تضاف إلى فاعلها وكاسبها كما قال الله تعالى: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ﴾ [البقرة: ٥٩] وأما ما كان من غير الفاعل فإنه يجعله من تبديله هو كما قال الله تعالى: ﴿وَبَدَّلْناهم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ﴾ [سبأ: ١٦]، فلما أخبر سبحانه أنه هو الذي يبدل سيئاتهم حسنات دل على أنه شيء فعله هو سبحانه بسيئاتهم، لا أنهم فعلوه من تلقاءَ أنفسهم، وإن كان سببه منهم، وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح.
قالوا: ويدل عليه ما رواه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن المعرور ابن سُويد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "إني لأعلم آخر أهل الجَنَّة دخولًا الجنة، وآخر أهل النار خروجًا منها: رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أْن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول: رب قد عملت أشياءَ لا أراها هاهنا "، فلقد رأيت رسول الله ﷺ ضحك حتى بدت نواجذه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، قال: فتعرض عليه، ويخبأ عنه كبارها، فيقال: عملت يوم كذا وكذا وكذا؟ وهو مقر لا ينكر وهو مشفق من الكبار، فيقال: اعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة، قال: فيقول: إن لى ذنوبًا ما أراها"، فلقد رأيت رسول الله ﷺ ضحك حتى بدت نواجذه.
قالوا: وأيضًا فروى أبو حفص المستملى عن محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، حدثنا الفضل بن موسى القطيعى عن أبي العنبس عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات"، قيل: من هم؟ قال: "الذين بدل سيئاتهم حسنات".
قالوا: وهؤلاء هم الأبدال في الحقيقة، فإنهم إنما سموا أبدالًا لأنهم بدلوا أعمالهم السيئة بالأعمال الحسنة، فبدل الله سيئاتهم التي عملوها حسنات، قالوا: وأيضًا فالجزاءُ من جنس العمل، فكما بدلوهم أعمالهم السيئة بالحسنة بدلها الله من صحف الحفظة حسنات جزاءً وفاقًا.
قالت الطائفة الأُولى: كيف يمكنكم الاحتجاج بحديث أبي ذر على صحة قولكم وهو صريح في أن هذا الذي قد بدلت سيئاته حسنات قد عذب عليها في النار حتى كان آخر أهلها خروجًا منها؟ فهذا قد عوقب على سيئاته فزال أثرها بالعقوبة، فبدل مكان كل سيئة منها حسنة، وهذا حكم غير ما نحن فيه، فإن الكلام في التائب من السيئات، لا فيمن مات مصرًا عليها غير تائب، فأين أحدهما من الآخر؟
وأما حديث الإمام أحمد فهو الحديث بعينه إسنادًا ومتنًا، إلا أنه مختصر.
وأما حديث أبي هريرة فلا يثبت مثله، ومَن أبو العنبس، ومن أبوه حتى يقبل منهما تفردهما بمثل هذا الأمر الجليل؟ وكيف يصح مثل هذا الحديث عن رسول الله ﷺ مع شدة حرصه على التنفير من السيئات وتقبيح أهلها وذمهم وعيبهم والإخبار بأنها تنقص الحسنات وتضادها؟ فكيف يصح عنه ﷺ أنه يقول: "ليتمنين أقوام أنهم أكثروا منها"؟، ثم كيف يتمنى المرءُ إكثاره منها، مع سوءِ عاقبتها، وسوءِ مغبتها؟ وإنما يتمنى الإكثار من الطاعات؟ وفي الترمذي مرفوعًا: "ليتمنينَّ أقوام يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض، لما يرون من ثواب أهل البلاءِ".
فهذا فيه تمنى البلاءِ يوم القيامة لأجل مزيد ثواب أهله، وهو تمنى الحسنات، وأما تمنى الحسنات فهذا لا ريب فيه، وأما تمنى السيئات فكيف يتمنى العبد أنه أكثر من السيئات؟ هذا مال لا يكون أبدًا، وإنما يتمنى المسيء أن لو لم يكن أساءَ، وأما تمنيه أنه ازداد من إساءته فكلا.
قالوا: وأما ما ذكرتم من أن التبديل هو إثبات الحسنة مكان السيئة فحق. وكذلك نقول: إن الحسنة المفعولة صارت في مكان السيئة التي لولا الحسنة لحلت محلها. قالوا: وأما احتجاجكم بإضافة السيئات إليهم وذلك يقتضي أن تكون هي السيئات الواقعة.
وتنكير الحسنات وهو يقتضي أن تكون حسنات من فضل الله، فهو حق بلا ريب ولكن من أين يبقى أن يكون فضل الله بها مقارنًا لكسبهم إياها بفضله؟ قالوا: وأما قولكم: إن التبديل مضاف إلى الله لا إليهم وذلك يقتضي أنه هو الذي بدلها سبحانه من الصحف لا أنهم هم الذين بدلوا الأعمال بأضدادها، فهذا لا دليل لكم فيه، فإن الله خالق أفعال العباد، فهو المبدل للسيئات حسنات خلقًا وتكوينًا، وهم المبدلون لها فعلًا وكسبًا.
قالوا: وأما احتجاجكم بأن الجزاءَ من جنس العمل، فكما بدلوا سيئات أعمالهم بحسناتهم بدلها الله كذلك في صحف الأعمال، فهذا حق وبه نقول، وأنه بدلت السيئات التي كانت مهيأة ومعدة أن تحل في الصحف بحسنات حلت موضعها.
فهذا منتهى أقدام الطائفتين، ومحط نظر الفريقين. وإليك أيها المنصف الحكم بينهما، فقد أدلى كل منهما بحجته، فأقام بينته، والحق لا يعدوهما ولا يتجاوزهما، فأرشد الله من أعان على هدى فنال به درجة الداعين إلى الله القائمين ببيان حججه ودينه، أو عذر طالبًا منفردًا في طريق مطلبه قد انقطع رجاؤه من رفيق في الطريق، فغاية أُمنيته أن يخلي بينه وبين سيره وأن لا يقطع عليه طريقه.
فمن رفع له مثل هذا العلم ولم يشمر إليه فقد رضى بالدون، وحصل على صفقة المغبون، ومن شمر إليه ورام أن لا يعارضه معارض، ولا يتصدى له ممانع فقد منى نفسه المحال، وإن صبر على لأْوائها وشدتها فهو والله الفوز المبين والحظ الجزيل .. وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أُنيب.
فالصواب إن شاءَ الله في هذه المسألة أن يقال: لا ريب أن الذنب نفسه لا ينقلب حسنة، والحسنة إنما هي أمر وجودي يقتضي ثوابًا، ولهذا كان تارك المنهيات إنما يثاب على كف نفسه وحبسها عن مواقعة المنهي، وذلك الكف والحبس أمر وجودي وهو متعلق الثواب.
وأما من لم يخطر بباله الذنب أصلًا ولم يحدث به نفسه، فهذا كيف يثاب على تركه، ولو أُثيب مثل هذا على ترك هذا الذنب لكان مثابًا على ترك ذنوب العالم التي لا تخطر بباله، وذلك أضعاف حسناته بما لا يحصى، فإن التَرك مستصحب معه، والمتروك لا ينحصر ولا ينضبط، فهل يثاب على ذلك كله؟ هذا مما لا يتوهم.
وإذا كانت الحسنة لا بد أن تكون أمرًا وجوديًا فالتائب من الذنوب التي عملها قد قارن كلَّ ذنب منها ندمًا عليه، وكف نفسه عنه، وعزم على ترك معاودته. وهذه حسنات بلا ريب، وقد محت التوبة أثر الذنب وخلفه هذا الندم والعزم، وهو حسنة قد بدلت تلك السيئة حسنة.
وهذا معنى قول بعض المفسرين: يجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة.
فإذا كانت كل سيئة من سيئاته قد تاب منها فتوبته منها حسنة حلت مكانها، فهذا معنى التبديل، لا أن السيئة نفسها تنقلب حسنة.
وقال بعض المفسرين في هذه الآية: يعطيهم بالندم على كل سيئة أساؤوها حسنة، وعلى هذا فقد زال بحمد الله الإشكال، واتضح الصواب، وظهر أن كل واحدة من الطائفتين ما خرجت عن موجب العلم والحجة.
وأما حديث أبي ذر - وإن كان التبديل فيه في حق المصرّ الذي عذب على سيئاته - فهو يدل بطريق الأولى على حصول التبديل للتائب المقلع النادم على سيئاته، فإن الذنوب التي عذب عليها المصر لما زال أثرها بالعقوبة بقيت كأن لم تكن، فأعطاه الله مكان كل سيئة منها حسنة، لأن ما حصل له يوم القيامة من الندم المفرط عليها مع العقوبة لاقتضى زوال أثرها وتبديلها حسنات، فإن الندم لم يكن في وقت ينفعه، فلما عوقب عليها وزال أثرها بدلها الله له حسنات.
فزوال أثرها بالتوبة النصوح أعظم من زوال أثرها بالعقوبة، فإذا بدلت بعد زوالها بالعقوبة حسنات فلأن تبدل بعد زوالها بالتوبة حسنات أولى وأحرى. وتأثير التوبة في هذا المحو والتبديل أقوى من تأْثير العقوبة لأن التوبة فعل اختياري أتى به العبد طوعًا ومحبة لله وفرقًا منه.
وأما العقوبة فالتكفير بها من جنس التكفير بالمصائب التي تصيبه بغير اختياره بل بفعل الله، ولا ريب أن تأْثير الأفعال الاختيارية التي يحبها الله ويرضاها في محو الذنوب أعظم من تأْثير المصائب التي تناله بغير اختياره.
{"ayahs_start":68,"ayahs":["وَٱلَّذِینَ لَا یَدۡعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَ وَلَا یَقۡتُلُونَ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِی حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَلَا یَزۡنُونَۚ وَمَن یَفۡعَلۡ ذَ ٰلِكَ یَلۡقَ أَثَامࣰا","یُضَـٰعَفۡ لَهُ ٱلۡعَذَابُ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ وَیَخۡلُدۡ فِیهِۦ مُهَانًا","إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلࣰا صَـٰلِحࣰا فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ یُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَیِّـَٔاتِهِمۡ حَسَنَـٰتࣲۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا"],"ayah":"یُضَـٰعَفۡ لَهُ ٱلۡعَذَابُ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ وَیَخۡلُدۡ فِیهِۦ مُهَانًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق