الباحث القرآني

الصِّفَةُ السّادِسَةُ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ ولا يَزْنُونَ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثامًا﴾ ﴿يُضاعَفْ لَهُ العَذابُ يَوْمَ القِيامَةِ ويَخْلُدْ فِيهِ مُهانًا﴾ ﴿إلّا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ ﴿ومَن تابَ وعَمِلَ صالِحًا فَإنَّهُ يَتُوبُ إلى اللَّهِ مَتابًا﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى ذَكَرَ أنَّ مِن صِفَةِ عِبادِ الرَّحْمَنِ الِاحْتِرازَ عَنِ الشِّرْكِ والقَتْلِ والزِّنا، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ حُكْمَ مَن يَفْعَلُ هَذِهِ الأشْياءَ مِنَ العِقابِ، ثُمَّ اسْتَثْنى مِن جُمْلَتِهِمُ التّائِبَ، وهَهُنا سُؤالاتٌ: السُّؤالُ الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى قَبْلَ ذِكْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ نَزَّهَ عِبادَ الرَّحْمَنِ عَنِ الأُمُورِ الخَفِيفَةِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بَعْدَ ذَلِكَ أنْ يُطَهِّرَهم عَنِ الأُمُورِ العَظِيمَةِ مِثْلَ الشِّرْكِ والقَتْلِ والزِّنا، ألَيْسَ أنَّهُ لَوْ كانَ التَّرْتِيبُ بِالعَكْسِ مِنهُ كانَ أوْلى ؟ الجَوابُ: أنَّ المَوْصُوفَ بِتِلْكَ الصِّفاتِ السّالِفَةِ قَدْ يَكُونُ مُتَمَسِّكًا بِالشِّرْكِ تَدَيُّنًا، ومُقْدِمًا عَلى قَتْلِ المَوْءُودَةِ تَدَيُّنًا، وعَلى الزِّنا تَدَيُّنًا، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّ المَرْءَ لا يَصِيرُ بِتِلْكَ الخِصالِ وحْدَها مِن عِبادِ الرَّحْمَنِ، حَتّى يُضافَ إلى ذَلِكَ كَوْنُهُ مُجانِبًا لِهَذِهِ الكَبائِرِ، وأجابَ الحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِن وجْهٍ آخَرَ فَقالَ: المَقْصُودُ مِن ذَلِكَ التَّنْبِيهُ عَلى الفَرْقِ بَيْنَ سِيرَةِ المُسْلِمِينَ وسِيرَةِ الكُفّارِ، كَأنَّهُ قالَ: وعِبادُ الرَّحْمَنِ هُمُ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وأنْتُمْ تَدَعُونَ، ﴿ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ﴾ وأنْتُمْ تَقْتُلُونَ المَوْءُودَةَ، ﴿ولا يَزْنُونَ﴾ وأنْتُمْ تَزْنُونَ. السُّؤالُ الثّانِي: ما مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ﴾، ومَعْلُومٌ أنَّهُ مَن يَحِلُّ قَتْلُهُ لا يَدْخُلُ في النَّفْسِ المُحَرَّمَةِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذا الِاسْتِثْناءُ ؟ الجَوابُ: المُقْتَضِي لِحُرْمَةِ القَتْلِ قائِمٌ أبَدًا، وجَوازُ القَتْلِ إنَّما ثَبَتَ بِالمُعارِضِ، فَقَوْلُهُ: ﴿حَرَّمَ اللَّهُ﴾ إشارَةٌ إلى المُقْتَضِي، وقَوْلُهُ: ﴿إلّا بِالحَقِّ﴾ إشارَةٌ إلى المُعارِضِ. السُّؤالُ الثّالِثُ: بِأيِّ سَبَبٍ يَحِلُّ القَتْلُ ؟ الجَوابُ: بِالرِّدَّةِ وبِالزِّنا بَعْدَ الإحْصانِ، وبِالقَتْلِ قَوَدًا عَلى ما في الحَدِيثِ، وقِيلَ: وبِالمُحارَبَةِ وبِالبَيِّنَةِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لِما شَهِدْتَ بِهِ حَقِيقَةٌ. (p-٩٧)السُّؤالُ الرّابِعُ: مِنهم مَن فَسَّرَ قَوْلَهُ: ﴿ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ﴾ بِالرِّدَّةِ، فَهَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ ؟ الجَوابُ: لَفْظُ القَتْلِ عامٌّ، فَيَتَناوَلُ الكُلَّ. وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «”قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ ؟ قالَ: أنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وهو خَلَقَكَ. قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ ؟ قالَ: أنْ تَقْتُلَ ولَدَكَ خَشْيَةَ أنْ يَأْكُلَ مَعَكَ. قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ ؟ قالَ: أنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جارِكَ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهُ» . السُّؤالُ الخامِسُ: ما الأثامُ ؟ الجَوابُ: فِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّ الأثامَ جَزاءُ الإثْمِ، بِوَزْنِ الوَبالِ والنَّكالِ. وثانِيها: وهو قَوْلُ أبِي مُسْلِمٍ: أنَّ الأثامَ والإثْمَ واحِدٌ، والمُرادُ هَهُنا جَزاءُ الأثامِ، فَأطْلَقَ اسْمَ الشَّيْءِ عَلى جَزائِهِ. وثالِثُها: قالَ الحَسَنُ: الأثامُ اسْمٌ مِن أسْماءِ جَهَنَّمَ. وقالَ مُجاهِدٌ: ﴿أثامًا﴾ وادٍ في جَهَنَّمَ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ:“ أثامًا ”أيْ شَدِيدًا، يُقالُ: يَوْمٌ ذُو أثامٍ، لِلْيَوْمِ العَصِيبِ. * * * أمّا قَوْلُهُ: ﴿يُضاعَفْ لَهُ العَذابُ يَوْمَ القِيامَةِ ويَخْلُدْ فِيهِ مُهانًا﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: ﴿يُضاعَفْ﴾ بَدَلٌ مِن ﴿يَلْقَ﴾ لِأنَّهُما في مَعْنًى واحِدٍ، وقُرِئَ:“يُضْعَفْ”و“نُضْعِفْ لَهُ العَذابَ”بِالنُّونِ ونَصْبِ العَذابِ، وقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلى الِاسْتِئْنافِ أوْ عَلى الحالِ، وكَذَلِكَ (يَخْلُدْ)، وقُرِئَ:“ويُخْلَدْ”عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ مُخَفَّفًا ومُثَقَّلًا مِنَ الإخْلادِ والتَّخْلِيدِ، وقُرِئَ:“ وتَخْلُدْ " بِالتّاءِ عَلى الِالتِفاتِ. المسألة الثّانِيَةُ: سَبَبُ تَضْعِيفِ العَذابِ أنَّ المُشْرِكَ إذا ارْتَكَبَ المَعاصِيَ مَعَ الشِّرْكِ عُذِّبَ عَلى الشِّرْكِ وعَلى المَعاصِي جَمِيعًا، فَتُضاعَفُ العُقُوبَةُ لِمُضاعَفَةِ المُعاقَبِ عَلَيْهِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الكُفّارَ مُخاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرائِعِ. المسألة الثّالِثَةُ: قالَ القاضِي: بَيَّنَ اللَّهُ تَعالى أنَّ المُضاعَفَةَ والزِّيادَةَ يَكُونُ حالُهُما في الدَّوامِ كَحالِ الأصْلِ، فَقَوْلُهُ: ﴿ويَخْلُدْ فِيهِ﴾ أيْ: ويَخْلُدْ في ذَلِكَ التَّضْعِيفِ، ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ التَّضْعِيفَ إنَّما حَصَلَ بِسَبَبِ العِقابِ عَلى المَعاصِي، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ عِقابُ هَذِهِ المَعاصِي في حَقِّ الكافِرِ دائِمًا، وإذا كانَ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ يَكُونَ في حَقِّ المُؤْمِنِ كَذَلِكَ؛ لِأنَّ حالَهُ فِيما يَسْتَحِقُّ بِهِ لا يَتَغَيَّرُ سَواءً فَعَلَ مَعَ غَيْرِهِ أوْ مُنْفَرِدًا، والجَوابُ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِلْإتْيانِ بِالشَّيْءِ مَعَ غَيْرِهِ أثَرٌ في مَزِيدِ القُبْحِ، ألا تَرى أنَّ الشَّيْئَيْنِ قَدْ يَكُونُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما في نَفْسِهِ حَسَنًا، وإنْ كانَ الجَمْعُ بَيْنَهُما قَبِيحًا، وقَدْ يَكُونُ كُلٌّ واحِدٍ مِنهُما قَبِيحًا، ويَكُونُ الجَمْعُ بَيْنَهُما أقْبَحَ، فَكَذا هَهُنا. المسألة الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿ويَخْلُدْ فِيهِ مُهانًا﴾ إشارَةٌ إلى ما ثَبَتَ أنَّ العِقابَ هو المَضَرَّةُ الخالِصَةُ المَقْرُونَةُ بِالإذْلالِ والإهانَةِ، كَما أنَّ الثَّوابَ هو المَنفَعَةُ الخالِصَةُ المَقْرُونَةُ بِالتَّعْظِيمِ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلّا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ التَّوْبَةَ مَقْبُولَةٌ، والِاسْتِثْناءُ لا يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ أثْبَتَ أنَّهُ يُضاعِفُ لَهُ العَذابَ ضِعْفَيْنِ، فَيَكْفِي لِصِحَّةِ هَذا الِاسْتِثْناءِ أنْ لا يُضاعِفَ لِلتّائِبِ العَذابَ ضِعْفَيْنِ، وإنَّما الدّالُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ﴾ . المسألة الثّانِيَةُ: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: تَوْبَةُ القاتِلِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وزَعَمَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ (p-٩٨)تَعالى: ﴿ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ [النِّساءِ: ٩٣] وقالُوا: نَزَلَتِ الغَلِيظَةُ بَعْدَ اللَّيِّنَةِ بِمُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، وعَنِ الضَّحّاكِ ومُقاتِلٍ بِثَمانِ سِنِينَ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ في ذَلِكَ في سُورَةِ النِّساءِ. المسألة الثّالِثَةُ: فَإنْ قِيلَ: العَمَلُ الصّالِحُ يَدْخُلُ فِيهِ التَّوْبَةُ والإيمانُ، فَكانَ ذِكْرُهُما قَبْلَ ذِكْرِ العَمَلِ الصّالِحِ حَشْوًا، قُلْنا: أفْرَدَهُما بِالذِّكْرِ لِعُلُوِّ شَأْنِهِما، ولَمّا كانَ لا بُدَّ مَعَهُما مِن سائِرِ الأعْمالِ لا جَرَمَ ذَكَرَ عَقِيبَهُما العَمَلَ الصّالِحَ. المسألة الرّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا في المُرادِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ﴾ عَلى وُجُوهٍ: أحَدُها: قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ ومُجاهِدٍ وقَتادَةَ: إنَّ التَّبْدِيلَ إنَّما يَكُونُ في الدُّنْيا، فَيُبَدِّلُ اللَّهُ تَعالى قَبائِحَ أعْمالِهِمْ في الشِّرْكِ بِمَحاسِنِ الأعْمالِ في الإسْلامِ، فَيُبَدِّلُهم بِالشِّرْكِ إيمانًا، وبِقَتْلِ المُؤْمِنِينَ قَتْلَ المُشْرِكِينَ، وبِالزِّنا عِفَّةً وإحْصانًا، فَكَأنَّهُ تَعالى يُبَشِّرُهم بِأنَّهُ يُوَفِّقُهم لِهَذِهِ الأعْمالِ الصّالِحَةِ فَيَسْتَوْجِبُوا بِها الثَّوابَ. وثانِيها: قالَ الزَّجّاجُ: السَّيِّئَةُ بِعَيْنِها لا تَصِيرُ حَسَنَةً، ولَكِنَّ التَّأْوِيلَ أنَّ السَّيِّئَةَ تُمْحى بِالتَّوْبَةِ وتُكْتَبُ الحَسَنَةُ مَعَ التَّوْبَةِ، والكافِرُ يُحْبِطُ اللَّهُ عَمَلَهُ ويُثْبِتُ عَلَيْهِ السَّيِّئاتِ. وثالِثُها: قالَ قَوْمٌ: إنَّ اللَّهَ تَعالى يَمْحُو السَّيِّئَةَ عَنِ العَبْدِ ويُثْبِتُ لَهُ بَدَلَها الحَسَنَةَ بِحُكْمِ هَذِهِ الآيَةِ، وهَذا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ ومَكْحُولٍ، ويَحْتَجُّونَ بِما رَوى أبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، أنَّهُ قالَ: «لَيَتَمَنَّيَنَّ أقْوامٌ أنَّهم أكْثَرُوا مِنَ السَّيِّئاتِ، قِيلَ: مَن هم يا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قالَ: الَّذِينَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» وعَلى هَذا التَّبْدِيلُ في الآخِرَةِ. ورابِعُها: قالَ القَفّالُ والقاضِي: أنَّهُ تَعالى يُبَدِّلُ العِقابَ بِالثَّوابِ، فَذَكَرَهُما وأرادَ ما يَسْتَحِقُّ بِهِما، وإذا حُمِلَ عَلى ذَلِكَ كانَتِ الإضافَةُ إلى اللَّهِ حَقِيقَةً؛ لِأنَّ الإثابَةَ لا تَكُونُ إلّا مِنَ اللَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب