الباحث القرآني

﴿لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُرُوا﴾ . قالَ أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجِيلِيُّ: (p-٥١٤)الإنْفاقُ في غَيْرِ طاعَةٍ إسْرافٌ، والإمْساكُ عَنْ طاعَةٍ إقْتارٌ. وقالَ مَعْناهُ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وابْنُ زَيْدٍ. وسَمِعَ رَجُلٌ رَجُلًا يَقُولُ: لا خَيْرَ في الإسْرافِ، فَقالَ: لا إسْرافَ في الخَيْرِ. وقالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ: الإسْرافُ أنْ تُنْفِقَ مالَ غَيْرِكَ. وقالَ النَّخَعِيُّ: هو الَّذِي لا يُجِيعُ ولا يُعَرِّي ولا يُنْفِقُ نَفَقَةً يَقُولُ النّاسُ: قَدْ أسْرَفَ. وقالَ يَزِيدُ بْنُ أبِي حَبِيبٍ: هُمُ الَّذِينَ لا يَلْبَسُونَ الثِّيابَ لِلْجَمالِ، ولا يَأْكُلُونَ طَعامًا لِلَّذَّةِ، وقالَ عَبْدُ المَلِكِ بْنُ مَرْوانَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ حِينَ زَوَّجَهُ ابْنَتَهُ فاطِمَةَ: ما نَفَقَتُكَ ؟ قالَ لَهُ عُمَرُ: الحَسَنَةُ بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ. ثُمَّ تَلا الآيَةَ. والإسْرافُ مُجاوَزَةُ الحَدِّ في النَّفَقَةِ، والقَتْرُ التَّضْيِيقُ الَّذِي هو نَقِيضُ الإسْرافِ. وعَنْ أنَسٍ في سُنَنِ ابْنِ ماجَهْ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنَّ مِنَ السَّرَفِ أنْ تَأْكُلَ ما اشْتَهَيْتَهُ» . وقالَ الشّاعِرُ: ؎ولا تَغْلُ في شَيْءٍ مِنَ الأمْرِ واقْتَصِدْ كِلا طَرَفَيْ قَصْدِ الأُمُورِ ذَمِيمُ وقالَ آخَرُ: ؎إذا المَرْءُ أعْطى نَفْسَهُ كُلَّما اشْتَهَتْ ∗∗∗ ولَمْ يَنْهَها تاقَتْ إلى كُلِّ باطِلِ ؎وساقَتْ إلَيْهِ الإثْمَ والعارَ بِالَّذِي ∗∗∗ دَعَتْهُ إلَيْهِ مِن حَلاوَةِ عاجِلِ وقالَ حاتِمٌ: ؎إذا أنْتَ قَدْ أعْطَيْتَ بَطْنَكَ سُؤْلَهُ وفَرْجَكَ نالا مُنْتَهى الذَّمِّ أجْمَعا وقَرَأ الحَسَنُ وطَلْحَةُ والأعْمَشُ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ وعاصِمٌ: (يَقْتُرُونَ) بِفَتْحِ الياءِ وضَمِّ التّاءِ، ومُجاهِدٌ وابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ الياءِ وكَسْرِ التّاءِ. ونافِعٌ وابْنُ عامِرٍ بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ التّاءِ مُشَدَّدَةً، وكُلُّها لُغاتٌ في التَّضْيِيقِ. وأنْكَرَ أبُو حاتِمٍ لُغَةَ أقْتَرَ رُباعِيًّا هُنا. وقالَ أقْتَرَ إذا افْتَقَرَ. ومِنهُ ﴿وعَلى المُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ [البقرة: ٢٣٦]، وغابَ عَنْهُ ما حَكاهُ الأصْمَعِيُّ وغَيْرُهُ: مِن أقْتَرَ بِمَعْنى ضَيَّقَ، والقَوامُ الِاعْتِدالُ بَيْنَ الحالَتَيْنِ. وقَرَأ حَسّانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (قِوامًا)، بِالكَسْرِ. فَقِيلَ: هُما لُغَتانِ بِمَعْنًى واحِدٍ. وقِيلَ: بِالكَسْرِ ما يُقامُ بِهِ الشَّيْءُ، يُقالُ: أنْتَ قِوامُنا بِمَعْنى ما تُقامُ بِهِ الحاجَةُ لا يَفْضُلُ عَنْها ولا يَنْقُصُ. وقِيلَ: (قِوامًا) بِالكَسْرِ، مَبْلَغًا وسَدادًا ومِلاكَ حالٍ، و﴿بَيْنَ ذَلِكَ﴾ و(قَوامًا) يَصِحُّ أنْ يَكُونا خَبَرَيْنِ عِنْدَ مَن يُجِيزُ تَعْدادَ خَبَرِ كانَ، وأنْ يَكُونَ (بَيْنَ) هو الخَبَرُ و(قَوامًا) حالٌ مُؤَكِّدَةٌ، وأنْ يَكُونَ (قَوامًا) خَبَرًا، و(بَيْنَ ذَلِكَ) إمّا مَعْمُولٌ لِكانَ عَلى مَذْهَبِ مَن يَرى أنَّ كانَ النّاقِصَةَ تَعْمَلُ في الظَّرْفِ، وأنْ يَكُونَ حالًا مِن (قَوامًا)؛ لِأنَّهُ لَوْ تَأخَّرَ لَكانَ صِفَةً، وأجازَ الفَرّاءُ أنْ يَكُونَ ﴿بَيْنَ ذَلِكَ﴾ اسْمَ (كانَ) وبُنِيَ لِإضافَتِهِ إلى مَبْنِيٍّ، كَقَوْلِهِ: ﴿ومِن خِزْيِ يَوْمَئِذٍ﴾ [هود: ٦٦] في قِراءَةِ مَن فَتَحَ المِيمَ و(قَوامًا) الخَبَرَ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهو مِن جِهَةِ الإعْرابِ لا بَأْسَ بِهِ، ولَكِنَّ المَعْنى لَيْسَ بِقَوِيٍّ؛ لِأنَّ ما بَيْنَ الإسْرافِ والتَّقْتِيرِ قَوامٌ لا مَحالَةَ، فَلَيْسَ في الخَبَرِ الَّذِي هو مُعْتَمَدُ الفائِدَةِ فائِدَةٌ، انْتَهى. وصَفَهم تَعالى بِالقَصْدِ الَّذِي هو بَيْنَ الغُلُوِّ والتَّقْصِيرِ، وبِمِثْلِهِ خُوطِبَ الرَّسُولُ ﷺ بِقَوْلِهِ: ﴿ولا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً﴾ [الإسراء: ٢٩] الآيَةَ. ﴿والَّذِينَ لا يَدْعُونَ﴾ الآيَةَ، «سَألَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ ؟ فَقالَ: ”أنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وهو خَلَقَكَ“ . قالَ: ثُمَّ أيُّ ؟ قالَ: ”أنْ تَقْتُلَ ولَدَكَ مَخافَةَ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ“ . قالَ: ثُمَّ أيُّ ؟ قالَ: ”أنْ تُزانِيَ حَلِيلَةَ جارِكَ“ . فَأنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَها ﴿والَّذِينَ لا يَدْعُونَ﴾ الآيَةَ» . وقِيلَ: أتى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مُشْرِكُونَ قَدْ قَتَلُوا فَأكْثَرُوا وزَنَوْا فَأكْثَرُوا، فَقالُوا: إنَّ الَّذِي تَقُولُ وتَدْعُو إلَيْهِ لَحَسَنٌ، أوَتُخْبِرُنا أنَّ لِما عَمِلْنا كَفّارَةً فَنَزَلَتْ إلى ﴿غَفُورًا رَحِيمًا﴾ . وقِيلَ: سَبَبُ نُزُولِها قِصَّةُ وحْشِيٍّ في إسْلامِهِ في حَدِيثٍ طَوِيلٍ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَفى هَذِهِ التَّقْبِيحاتِ العِظامَ عَنِ المَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الخِلالِ العَظِيمَةِ في الدِّينِ؛ لِلتَّعْرِيضِ بِما كانَ عَلَيْهِ أعْداءُ المُؤْمِنِينَ مِن قُرَيْشٍ وغَيْرِهِمْ، كَأنَّهُ قِيلَ: والَّذِينَ بَرَّأهُمُ اللَّهُ وطَهَّرَهم (p-٥١٥)مِمّا أنْتُمْ عَلَيْهِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إخْراجٌ لِعِبادِهِ المُؤْمِنِينَ مِن صِفاتِ الكَفَرَةِ في عِبادَتِهِمُ الأوْثانَ، وقَتْلِهِمُ النَّفْسَ بِوَأْدِ البَناتِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الظُّلْمِ والِاغْتِيالِ والغاراتِ، وبِالزِّنا الَّذِي كانَ عِنْدَهم مُباحًا، انْتَهى. وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ ﴿ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ﴾ [الأنعام: ١٥١] في سُورَةِ الأنْعامِ. وقُرِئَ (يُلَقَّ) بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ اللّامِ والقافِ مُشَدَّدَةً، وابْنُ مَسْعُودٍ وأبُو رَجاءٍ يَلْقى بِألِفٍ، كَأنْ نَوى حَذْفَ الضَّمَّةِ المُقَدَّرَةِ عَلى الألِفِ فَأقَرَّ الألِفَ. والأثامُ في اللُّغَةِ العِقابُ، وهو جَزاءُ الإثْمِ. قالَ الشّاعِرُ: ؎جَزى اللَّهُ ابْنَ عُرْوَةَ حَيْثُ أمْسى عَقُوقًا والعُقُوقُ لَهُ أثامُ أيْ: حَدٌّ وعُقُوبَةٌ، وبِهِ فَسَّرَهُ قَتادَةُ وابْنُ زَيْدٍ. وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ومُجاهِدٌ وعِكْرِمَةُ وابْنُ جُبَيْرٍ: أثامٌ وادٍ في جَهَنَّمَ هَذا اسْمُهُ، جَعَلَهُ اللَّهُ عِقابًا لِلْكَفَرَةِ. وقالَ أبُو مُسْلِمٍ: الأثامُ الإثْمُ، ومَعْناهُ (يَلْقَ) جَزاءَ أثامٍ، فَأطْلَقَ اسْمَ الشَّيْءِ عَلى جَزائِهِ. وقالَ الحَسَنُ: الأثامُ اسْمٌ مِن أسْماءِ جَهَنَّمَ. وقِيلَ: بِئْرٌ فِيها. وقِيلَ: جَبَلٌ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَلْقَ أيّامًا، جَمْعَ يَوْمٍ يَعْنِي شَدائِدَ. يُقالُ: يَوْمٌ ذُو أيّامٍ لِلْيَوْمِ العَصِيبِ. وذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ يَظْهَرُ أنَّهُ إشارَةٌ إلى المَجْمُوعِ مِن دُعاءِ إلَهٍ وقَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ والزِّنا، فَيَكُونُ التَّضْعِيفُ مُرَتَّبًا عَلى مَجْمُوعِ هَذِهِ المَعاصِي، ولا يَلْزَمُ ذَلِكَ التَّضْعِيفُ عَلى كُلِّ واحِدٍ مِنها. ولا شَكَّ أنَّ عَذابَ الكُفّارِ يَتَفاوَتُ بِحَسَبِ جَرائِمِهِمْ. وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ ﴿يُضاعَفْ لَهُ العَذابُ﴾ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وبِألِفٍ (ويَخْلُدْ) مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ. والحَسَنُ وأبُو جَعْفَرٍ وابْنُ كَثِيرٍ كَذَلِكَ، إلّا أنَّهم شَدَّدُوا العَيْنَ وطَرَحُوا الألِفَ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ أيْضًا وشَيْبَةُ وطَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمانَ (نُضَعِّفْ) بِالنُّونِ مَضْمُومَةً وكَسْرِ العَيْنِ مُشَدَّدَةً، (العَذابَ) نَصْبٌ. وطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ (يُضاعِفْ) بِالياءِ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، (العَذابَ) نَصْبٌ. وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمانَ (وتَخْلُدُ) بِتاءِ الخِطابِ عَلى الِالتِفاتِ مَرْفُوعًا، أيْ: وتَخْلُدُ أيُّها الكافِرُ. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ (ويُخَلَّدْ) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، مُشَدَّدَ اللّامِ مَجْزُومًا. ورُوِيَتْ عَنْ أبِي عَمْرٍو وعَنْهُ كَذَلِكَ مُخَفَّفًا. وقَرَأ أبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ (يُضاعَفُ) (ويَخْلُدُ) بِالرَّفْعِ عَنْهُما، وكَذا ابْنُ عامِرٍ والمُفَضَّلُ عَنْ عاصِمٍ ﴿يُضاعَفُ﴾ (ويَخْلُدُ) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مَرْفُوعًا مُخَفَّفًا. والأعْمَشُ بِضَمِّ الياءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مَرْفُوعًا مُخَفَّفًا. والأعْمَشُ بِضَمِّ الياءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ مُشَدَّدًا مَرْفُوعًا، فالرَّفْعُ عَلى الِاسْتِئْنافِ أوِ الحالِ، والجَزْمُ عَلى البَدَلِ مِن (يَلْقَ) . كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎مَتّى تَأْتِنا تُلْمِمْ بِنا في دِيارِنا تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا ونارًا تَأجَّجا والضَّمِيرُ في (فِيهِ) عائِدٌ عَلى العَذابِ، والظّاهِرُ أنَّ تَوْبَةَ المُسْلِمِ القاتِلِ النَّفْسَ بِغَيْرِ حَقٍّ مَقْبُولَةٌ، خِلافًا لِابْنِ عَبّاسٍ، وتَقَدَّمَ ذَلِكَ في النِّساءِ، وتَبْدِيلُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ هو جَعْلُ أعْمالِهِمْ بَدَلَ مَعاصِيهِمُ الأُوَلِ طاعَةً ويَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَ رَحْمَةِ اللَّهِ إيّاهم؛ قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ جُبَيْرٍ والحَسَنُ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ وابْنُ زَيْدٍ، ورَدُّوا عَلى مَن قالَ هو في يَوْمِ القِيامَةِ. وقالَ الزَّجّاجُ: السَّيِّئَةُ بِعَيْنِها لا تَصِيرُ حَسَنَةً، ولَكِنَّ السَّيِّئَةَ تُمْحى بِالتَّوْبَةِ وتُكْتَبُ الحَسَنَةُ مَعَ التَّوْبَةِ، والكافِرُ يُحْبَطُ عَمَلُهُ وتُثْبَتُ عَلَيْهِ السَّيِّئاتُ. وتَأوَّلَ ابْنُ مُسَيَّبٍ ومَكْحُولٌ أنَّ ذَلِكَ يَوْمَ القِيامَةِ وهو بِمَعْنى كَرَمِ العَفْوِ. وفي كِتابِ مُسْلِمٍ إنَّ اللَّهَ يُبَدِّلُ يَوْمَ القِيامَةِ لِمَن يُرِيدُ المَغْفِرَةَ لَهُ مِنَ المُوَحِّدِينَ بَدَلَ سَيِّئاتٍ حَسَناتٍ. وقالا: تُمْحى السَّيِّئَةُ ويُثْبَتُ بَدَلَها حَسَنَةٌ. وقالَ القَفّالُ والقاضِي: يُبَدَّلُ العِقابُ بِالثَّوابِ، فَذَكَرَهُما وأرادَ ما يَسْتَحِقُّ بِهِما. ﴿إلّا مَن تابَ﴾ اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ مِنَ الجِنْسِ، ولا يَظْهَرُ؛ لِأنَّ المُسْتَثْنى مِنهُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأنَّهُ ﴿يُضاعَفْ لَهُ العَذابُ﴾، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ ﴿إلّا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا﴾ فَلا يُضاعَفُ لَهُ العَذابُ. ولا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفاءِ التَّضْعِيفِ انْتِفاءُ العَذابِ غَيْرِ المُضَعَّفِ، فالأوْلى عِنْدِي أنْ يَكُونَ اسْتِثْناءً مُنْقَطِعًا، أيْ: لَكِنْ مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا ﴿فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ﴾ وإذا كانَ كَذَلِكَ فَلا يَلْقى عَذابًا ألْبَتَّةَ، و(سَيِّئاتِهِمْ) هو المَفْعُولُ الثّانِي، وهو أصْلُهُ أنْ (p-٥١٦)يَكُونَ مُقَيَّدًا بِحَرْفِ الجَرِّ، أيْ: بِسَيِّئاتِهِمْ. و(حَسَناتٍ) هو المَفْعُولُ الأوَّلُ، وهو المُصَرَّحُ كَما قالَ تَعالى ﴿وبَدَّلْناهم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ﴾ [سبإ: ١٦] . وقالَ الشّاعِرُ: ؎تَضْحَكُ مِنِّي أُخْتُ ذاتِ النِّحْيَيْنِ ؎أبْدَلَكِ اللَّهُ بِلَوْنٍ لَوْنَيْنِ ∗∗∗ سَوادَ وجْهٍ وبَياضَ عَيْنَيْنِ الظّاهِرُ أنَّ (ومَن تابَ) أيْ: أنْشَأ التَّوْبَةَ، فَإنَّهُ يَتُوبُ إلى اللَّهِ أيْ يَرْجِعُ إلى ثَوابِهِ وإحْسانِهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: (ومَن تابَ) فَإنَّهُ قَدْ تَمَسَّكَ بِأمْرٍ وثِيقٍ. كَما تَقُولُ لِمَن يُسْتَحْسَنُ قَوْلُهُ في أمْرٍ: لَقَدْ قُلْتَ يا فُلانُ قَوْلًا، فَكَذَلِكَ الآيَةُ مَعْناها مَدْحُ المَتابِ، كَأنَّهُ قالَ: فَإنَّهُ يَجِدُ الفَرَجَ والمَغْفِرَةَ عَظِيمًا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ومَن يَتْرُكِ المَعاصِيَ ويَنْدَمْ عَلَيْها ويَدْخُلْ في العَمَلِ الصّالِحِ، فَإنَّهُ بِذَلِكَ تائِبٌ إلى اللَّهِ الَّذِي يَعْرِفُ حَقَّ التّائِبِينَ، ويَفْعَلُ بِهِمْ ما يَسْتَوْجِبُونَ، واللَّهُ يُحِبُّ التَّوّابِينَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ. وقِيلَ: مَن عَزَمَ عَلى التَّوْبَةِ فَإنَّهُ يَتُوبُ إلى اللَّهِ فَلْيُبادِرْ إلَيْها ويَتَوَجَّهْ بِها إلى اللَّهِ. وقِيلَ: (مَن تابَ) مِن ذُنُوبِهِ، فَإنَّهُ يَتُوبُ إلى مَن يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ويَعْفُو عَنِ السَّيِّئاتِ. وقِيلَ: (ومَن تابَ) اسْتَقامَ عَلى التَّوْبَةِ فَإنَّهُ يَتُوبُ إلى اللَّهِ، أيْ: فَهو التّائِبُ حَقًّا عِنْدَ اللَّهِ. ﴿والَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ عادَ إلى ذِكْرِ أوْصافِ عِبادِ الرَّحْمَنِ، والظّاهِرُ أنَّ المَعْنى لا يَشْهَدُونَ بِالزُّورِ أوْ شَهادَةِ الزُّورِ؛ قالَهُ عَلِيٌّ والباقِرُ، فَهو مِنَ الشَّهادَةِ. وقِيلَ: المَعْنى لا يَحْضُرُونَ مِنَ المُشاهَدَةِ، والزُّورُ الشِّرْكُ والصَّنَمُ أوِ الكَذِبُ أوْ آلَةُ الغِناءِ أوْ أعْيادُ النَّصارى، أوْ لُعْبَةٌ كانَتْ في الجاهِلِيَّةِ أوِ النَّوْحُ أوْ مَجالِسُ يُعابُ فِيها الصّالِحُونَ، أقْوالٌ. فالشِّرْكُ قالَهُ الضَّحّاكُ وابْنُ زَيْدٍ، والغِناءُ قالَهُ مُجاهِدٌ، والكَذِبُ قالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. وفي الكَشّافِ عَنْ قَتادَةَ مَجالِسُ الباطِلِ. وعَن ابْنِ الحَنَفِيَّةِ: اللَّهْوُ والغِناءُ. وعَنْ مُجاهِدٍ: أعْيادُ المُشْرِكِينَ واللَّغْوُ كُلُّ ما يَنْبَغِي أنْ يُلْغى ويُطْرَحَ. والمَعْنى (وإذا مَرُّوا) بِأهْلِ اللَّغْوِ (مَرُّوا) مُعْرِضِينَ عَنْهم مُكَرِّمِينَ أنْفُسَهم عَنِ التَّوَقُّفِ عَلَيْهِمْ والخَوْضِ مَعَهم؛ لِقَوْلِهِ: ﴿وإذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ﴾ [القصص: ٥٥]، انْتَهى. ﴿بِآياتِ رَبِّهِمْ﴾ هي القُرْآنُ. ﴿لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وعُمْيانًا﴾ النَّفْيُ مُتَوَجِّهٌ إلى القَيْدِ الَّذِي هو صُمٌّ وعُمْيانٌ لا لِلْخُرُورِ الدّاخِلِ عَلَيْهِ، وهَذا الأكْثَرُ في لِسانِ العَرَبِ أنَّ النَّفْيَ يَتَسَلَّطُ عَلى القَيْدِ، والمَعْنى أنَّهم إذا ذُكِّرُوا بِها أكَبُّوا عَلَيْها حِرْصًا عَلى اسْتِماعِها، وأقْبَلُوا عَلى المُذَكِّرِ بِها بِآذانٍ واعِيَةٍ وأعْيُنٍ راعِيَةٍ، بِخِلافِ غَيْرِهِمْ مِنَ المُنافِقِينَ وأشْباهِهِمْ، فَإنَّهم إذا ذُكِّرُوا بِها كانُوا مُكِبِّينَ عَلَيْها مُقْبِلِينَ عَلى مَن يُذَكِّرُ بِها في ظاهِرِ الأمْرِ، وكانُوا ﴿صُمًّا وعُمْيانًا﴾ حَيْثُ لا يَعُونَها ولا يَتَبَصَّرُونَ ما فِيها. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بَلْ يَكُونُ خُرُورُهم سُجَّدًا وبُكِيًّا، كَما تَقُولُ: لَمْ يَخْرُجْ زَيْدٌ إلى الحَرْبِ جَزِعًا، أيْ: إنَّما خَرَجَ جَرِيئًا مُعْدِمًا، وكانَ المَسْمَعُ المُذَكَّرُ قائِمَ القَناةِ قَوِيمَ الأمْرِ، فَإذا أعْرَضَ كانَ ذَلِكَ خُرُورًا وهو السُّقُوطُ عَلى غَيْرِ نِظامٍ وتَرْتِيبٍ، وإنْ كانَ قَدْ أشْبَهَ الَّذِي يَخِرُّ ساجِدًا لَكِنَّ أصْلَهُ أنَّهُ عَلى غَيْرِ تَرْتِيبٍ، انْتَهى. وقالَ السُّدِّيُّ: ﴿لَمْ يَخِرُّوا﴾ ﴿صُمًّا وعُمْيانًا﴾ هي صِفَةٌ لِلْكُفّارِ، وهي عِبارَةٌ عَنْ إعْراضِهِمْ وجَهْدِهِمْ في ذَلِكَ. وقَرَنَ ذَلِكَ بِقَوْلِكَ: قَعَدَ فُلانٌ يَتَمَنّى، وقامَ فُلانٌ يَبْكِي، وأنْتَ لَمْ تَقْصِدِ الإخْبارَ بِقُعُودٍ ولا قِيامٍ، وإنَّما هي تَوْطِئاتٌ في الكَلامِ والعِبارَةِ. ﴿قُرَّةَ أعْيُنٍ﴾ كِنايَةٌ عَنِ السُّرُورِ والفَرَحِ، وهو مَأْخُوذٌ مِنَ القُرِّ وهو البَرْدُ. يُقالُ: دَمْعُ السُّرُورِ بارِدٌ، ودَمْعُ الحُزْنِ سُخْنٌ، ويُقالُ: أقَرَّ اللَّهُ عَيْنَكَ، وأسْخَنَ اللَّهُ عَيْنَ العَدُوِّ. وقالَ أبُو تَمّامٍ: ؎فَأمّا عُيُونُ العاشِقِينَ فَأُسْخِنَتْ وأمّا عُيُونُ الشّامِتِينَ فَقَرَّتِ وقِيلَ: هو مَأْخُوذٌ مِنَ القَرارِ، أيْ: يَقَرُّ النَّظَرُ بِهِ ولا يَنْظُرُ إلى غَيْرِهِ. وقالَ أبُو عَمْرٍو: وقُرَّةُ العَيْنِ النَّوْمُ، أيْ: آمِنّا؛ لِأنَّ الأمْنَ لا يَأْتِي مَعَ الخَوْفِ؛ حَكاهُ القَفّالُ، وقُرَّةُ العَيْنِ فِيمَن ذَكَرُوا رُؤْيَتَهم مُطِيعِينَ لِلَّهِ (p-٥١٧)قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ وحَضْرَمِيٌّ، كانُوا في أوَّلِ الإسْلامِ يَهْتَدِي الأبُ والِابْنُ كافِرٌ، والزَّوْجُ والزَّوْجَةُ كافِرَةٌ، وكانَتْ قُرَّةُ عُيُونِهِمْ في إيمانِ أحْبابِهِمْ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: قُرَّةُ عَيْنِ الوَلَدِ أنْ تَراهُ يَكْتُبُ الفِقْهَ والظّاهِرُ أنَّهم دَعَوْا بِذَلِكَ لِيُجابُوا في الدُّنْيا فَيُسَرُّوا بِهِمْ. وقِيلَ: سَألُوا أنْ يُلْحِقَ اللَّهُ بِهِمْ أُولَئِكَ في الجَنَّةِ لِيَتِمَّ لَهم سُرُورُهم، انْتَهى. ويَتَضَمَّنُ هَذا القَوْلَ الأوَّلَ الَّذِي هو في الدُّنْيا؛ لِأنَّ ذَلِكَ نَتِيجَةُ إيمانِهِمْ في الدُّنْيا. ومِنَ الظّاهِرِ أنَّها لِابْتِداءِ الغايَةِ، أيْ: ﴿هَبْ لَنا﴾ مِن جِهَتِهِمْ ما تُقِرُّ بِهِ عُيُونَنا مِن طاعَةٍ وصَلاحٍ، وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ لِلْبَيانِ؛ قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، قالَ: كَأنَّهُ قِيلَ: ﴿هَبْ لَنا﴾ ﴿قُرَّةَ أعْيُنٍ﴾، ثُمَّ بُيِّنَتِ القُرَّةُ، وفُسِّرَتْ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن أزْواجِنا وذُرِّيّاتِنا﴾، ومَعْناهُ أنْ يَجْعَلَهُمُ اللَّهُ لَهم قُرَّةَ أعْيُنٍ مِن قَوْلِكَ: رَأيْتُ مِنكَ أسَدًا، أيْ: أنْتَ أسَدٌ، انْتَهى. وتَقَدَّمَ لَنا أنَّ مِنِ الَّتِي لِبَيانِ الجِنْسِ لا بُدَّ أنْ تَتَقَدَّمَ المُبَيَّنَ. ثُمَّ يَأْتِيَ بِمِنَ البَيانِيَّةِ وهَذا عَلى مَذْهَبِ مَن أثْبَتَ أنَّها تَكُونُ لِبَيانِ الجِنْسِ. والصَّحِيحُ أنَّ هَذا المَعْنى لَيْسَ بِثابِتٍ لِمِن. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، والحَرَمِيّانِ، وحَفْصٌ ”وذُرِّيّاتِنا“ عَلى الجَمْعِ، وباقِي السَّبْعَةِ، وطَلْحَةُ عَلى الإفْرادِ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ، وأبُو الدَّرْداءِ، وأبُو هُرَيْرَةَ، (قُرّاتِ) عَلى الجَمْعِ، والجُمْهُورُ عَلى الإفْرادِ. ونُكِّرَتِ القُرَّةُ لِتَنْكِيرِ الأعْيُنِ، كَأنَّهُ قالَ هَبْ لَنا مِنهم سُرُورًا وفَرَحًا، وجاءَ أعْيُنٌ بِصِيغَةِ جَمْعِ القِلَّةِ دُونَ عُيُونٍ الَّذِي هو صِيغَةُ جَمْعِ الكَثْرَةِ؛ لِأنَّهُ أُرِيدَ أعْيُنُ المُتَّقِينَ، وهي قَلِيلَةٌ بِالإضافَةِ إلى عُيُونِ غَيْرِهِمْ؛ قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. ولَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ لِأنَّ (أعْيُنٍ) تَنْطَلِقُ عَلى العَشَرَةِ فَما دُونَهُ مِنَ الجَمْعِ، والمُتَّقُونَ لَيْسَتْ أعْيُنُهم عَشَرَةً بَلْ هي عُيُونٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وإنْ كانَتْ عُيُونُهم قَلِيلَةً بِالنِّسْبَةِ إلى عُيُونِ غَيْرِهِمْ، فَهي مِنَ الكَثْرَةِ بِحَيْثُ تَفُوتُ العَدَّ. وأفْرَدَ (إمامًا) إمّا اكْتِفاءً بِالواحِدِ عَنِ الجَمْعِ، وحَسَّنَهُ كَوْنُهُ فاصِلَةً ويَدُلُّ عَلى الجِنْسِ، ولا لَبْسَ، وإمّا لِأنَّ المَعْنى واجْعَلْ كُلَّ واحِدٍ (إمامًا)، وإمّا أنْ يَكُونَ جَمْعَ آمٍّ كَحالٍّ وحِلالٍ، وإمّا لِاتِّحادِهِمْ واتِّفاقِ كَلِمَتِهِمْ، قالُوا: واجْعَلْنا إمامًا واحِدًا، دَعَوُا اللَّهَ أنْ يَكُونُوا قُدْوَةً في الدِّينِ ولَمْ يَطْلُبُوا الرِّئاسَةَ؛ قالَهُ النَّخَعِيُّ. وقِيلَ: في الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ الرِّئاسَةَ في الدِّينِ يَجِبُ أنْ تُطْلَبَ. ونَزَلَتْ في العَشَرَةِ المُبَشَّرِينَ بِالجَنَّةِ. (أُولَئِكَ) إشارَةٌ إلى المَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفاتِ العَشَرَةِ. و(الغُرْفَةَ) اسْمٌ مُعَرَّفٌ بِألْ فَيَعُمُّ، أيِ: الغُرَفَ، كَما جاءَ ﴿وهم في الغُرُفاتِ آمِنُونَ﴾ [سبإ: ٣٧] وهي العَلالِيُّ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: وهي بُيُوتٌ مِن زَبَرْجَدٍ ودُرٍّ وياقُوتٍ. وقِيلَ الغُرْفَةُ مِن أسْماءِ الجَنَّةِ. وقِيلَ: السَّماءُ السّابِعَةُ غُرْفَةٌ. وقِيلَ: هي أعْلى مَنازِلِ الجَنَّةِ. وقِيلَ: المُرادُ العُلُوُّ في الدَّرَجاتِ، والباءُ في ﴿بِما صَبَرُوا﴾ لِلسَّبَبِ. وقِيلَ: لِلْبَدَلِ، أيْ: بَدَلَ صَبْرِهِمْ كَما قالَ: فَلَيْتَ لِي بِهِمُ قَوْمًا إذا رَكِبُوا، أيْ: فَلَيْتَ لِي بَدَلَهم قَوْمًا، ولَمْ يَذْكُرْ مُتَعَلِّقَ الصَّبْرِ مُخَصَّصًا لِيَعُمَّ جَمِيعَ مُتَعَلِّقاتِهِ. وقَرَأ الحَسَنُ، وشَيْبَةُ، وأبُو جَعْفَرٍ، والحَرَمِيّانِ، وأبُو عَمْرٍو، وأبُو بَكْرٍ: (ويُلَقَّوْنَ)، بِضَمِّ الياءِ، وفَتْحِ اللّامِ، والقافِ مُشَدَّدَةً. وقَرَأ طَلْحَةُ، ومُحَمَّدٌ اليَمانِيُّ، وباقِي السَّبْعَةِ، بِفَتْحِ الياءِ وسُكُونِ اللّامِ وتَخْفِيفِ القافِ، والتَّحِيَّةُ دُعاءٌ بِالتَّعْمِيرِ، والسَّلامُ دُعاءٌ بِالسَّلامَةِ، أيْ: تُحَيِّيهِمُ المَلائِكَةُ، أوْ يُحَيِّي بَعْضُهم بَعْضًا. وقِيلَ: يُحَيَّوْنَ بِالتُّحَفِ، جَمَعَ لَهم بَيْنَ المَنافِعِ والتَّعْظِيمِ. ﴿حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا ومُقامًا﴾ مُعادِلٌ لِقَوْلِهِ في جَهَنَّمَ: ﴿ساءَتْ مُسْتَقَرًّا ومُقامًا﴾ [الفرقان: ٦٦] . ولَمّا وصَفَ عِبادَهُ العُبّادَ وعَدَّدَ ما لَهم مِن صالِحِ الأعْمالِ أمَرَ رَسُولَهُ ﷺ أنْ يُصَرِّحَ لِلنّاسِ بِأنْ لا اكْتِراثَ لَهم عِنْدَ رَبِّهِمْ إنَّما هو العِبادَةُ والدُّعاءُ في قَوْلِهِ: ﴿لَوْلا دُعاؤُكُمْ﴾، هو العِبادَةُ، والظّاهِرُ أنَّ (ما) نَفْيٌ، أيْ: لَيْسَ ﴿يَعْبَأُ بِكم رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ﴾، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ اسْتِفْهامِيَّةً فِيها مَعْنى النَّفْيِ، أيْ: أيُّ عِبْءٍ يَعْبَأُ بِكم ؟ و(دُعاؤُكم) مَصْدَرٌ أُضِيفَ إلى الفاعِلِ، أيْ: لَوْلا عِبادَتُكم إيّاهُ، أيْ: لَوْلا دُعاؤُكم وتَضَرُّعُكم إلَيْهِ أوْ ما يَعْبَأُ بِتَعْذِيبِكم لَوْلا دُعاؤُكُمُ الأصْنامَ آلِهَةً. وقِيلَ: أُضِيفَ إلى المَفْعُولِ، أيْ: لَوْلا دُعاؤُهُ إيّاكم إلى طاعَتِهِ. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿قُلْ ما يَعْبَأُ بِكُمْ﴾ خِطابٌ لِكُفّارِ قُرَيْشٍ القائِلِينَ (p-٥١٨)نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا، أيْ: لا يَحْفِلُ بِكم رَبِّي لَوْلا تَضَرُّعُكم إلَيْهِ واسْتِغاثَتُكم إيّاهُ في الشَّدائِدِ. ﴿فَقَدْ كَذَّبْتُمْ﴾ بِما جاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ فَتَسْتَحِقُّونَ العِقابَ ﴿فَسَوْفَ يَكُونُ﴾ العِقابُ، وهو ما أنْتَجَهُ تَكْذِيبُكم، ونَفَّسَ لَهم في حُلُولِهِ بِلَفْظَةِ ﴿فَسَوْفَ يَكُونُ لِزامًا﴾ أيْ: لازِمًا لَهم لا يَنْفَكُّونَ مِنهُ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ، وابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ الزُّبَيْرِ: فَقَدْ كَذَّبَ الكافِرُونَ، وهو مَحْمُولٌ عَلى أنَّهُ تَفْسِيرٌ لا قُرْآنٌ، والأكْثَرُونَ عَلى أنَّ اللِّزامَ هُنا هو يَوْمُ بَدْرٍ، وهو قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وأُبَيٍّ. وقِيلَ: عَذابُ الآخِرَةِ. وقِيلَ: المَوْتُ، ولا يُحْمَلُ عَلى المَوْتِ المُعْتادِ بَلِ القَتْلِ بِبَدْرٍ. وقِيلَ: التَّقْدِيرُ ﴿فَسَوْفَ يَكُونُ﴾ هو، أيِ: العَذابُ، وقَدْ صَرَّحَ بِهِ مَن قَرَأ (فَسَوْفَ يَكُونُ العَذابُ لِزامًا)، والوَجْهُ أنْ يُتْرَكَ اسْمُ كانَ غَيْرَ مَنطُوقٍ بِهِ بَعْدَما عُلِمَ أنَّهُ مِمّا تُوُعِّدَ بِهِ لِأجْلِ الإبْهامِ، وتَناوُلِ ما لا يَكْتَنِهُهُ الوَصْفُ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿فَسَوْفَ يَكُونُ﴾ هو، أيِ: التَّكْذِيبُ، (لِزامًا)، أيْ: لازِمًا لَكم لا تُعْطَوْنَ تَوْبَةً، ذَكَرَهُ الزَّهْراوِيُّ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والخِطابُ إلى النّاسِ عَلى الإطْلاقِ، ومِنهم مُؤْمِنُونَ عابِدُونَ ومُكَذِّبُونَ عاصُونَ، فَخُوطِبُوا بِما وُجِدَ في جِنْسِهِمْ مِنَ العِبادَةِ والتَّكْذِيبِ، ﴿فَقَدْ كَذَّبْتُمْ﴾ يَقُولُ: إذا أعْلَمْتُكم أنَّ حُكْمِي أنِّي لا أعْتَدُّ إلّا بِعِبادَتِهِمْ، فَقَدْ خالَفْتُمْ بِتَكْذِيبِكم حُكْمِي فَسَوْفَ يَلْزَمُكم أثَرُ تَكْذِيبِكم حَتّى يَكُبَّكم في النّارِ. ونَظِيرُهُ في الكَلامِ أنْ يَقُولَ المَلِكُ لِمَن عَصى عَلَيْهِ: إنَّ مِن عادَتِي أنْ أُحْسِنَ إلى مَن يُطِيعُنِي ويَتَّبِعُ أمْرِي، فَقَدْ عَصَيْتَ فَسَوْفَ تَرى ما أُحِلُّ بِكَ بِسَبَبِ عِصْيانِكَ. وقَرَأ ابْنُ جُرَيْجٍ: ”فَسَوْفَ تَكُونُ“ بِتاءِ التَّأْنِيثِ، أيْ: فَسَوْفَ تَكُونُ العاقِبَةُ، وقَرَأ الجُمْهُورُ (لِزامًا) بِكَسْرِ اللّامِ. وقَرَأ المِنهالُ، وأبانُ بْنُ ثَعْلَبٍ، وأبُو السَّمّالِ، بِفَتْحِها مَصْدَرٌ، يَقُولُ: لَزِمَ لُزُومًا ولِزامًا، مِثْلُ ثَبَتَ ثُبُوتًا وثَباتًا. وأنْشَدَ أبُو عُبَيْدَةَ عَلى كَسْرِ اللّامِ لِصَخْرِ الغَيِّ: ؎فَإمّا يَنْجُوا مِن حَتْفِ أرْضٍ فَقَدْ لَقِيا حُتُوفَهُما لِزاما ونَقَلَ ابْنُ خالَوَيْهِ عَنْ أبِي السَّمّالِ أنَّهُ قَرَأ لَزامِ عَلى وزْنِ حَذامِ، جَعَلَهُ مَصْدَرًا مَعْدُولًا عَنِ اللَّزَمَةِ كَفُجّارٍ مَعْدُولٍ عَنِ الفَجَرَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب