الباحث القرآني
* (لطيفة)
قالَ في سُورَةِ الحَجِّ: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا والصّابِئِينَ والنَّصارى والمَجُوسَ والَّذِينَ أشْرَكُوا إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهم يَوْمَ القِيامَةِ إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ فَلَمْ يَقُلْ هاهُنا: مَن آمَنَ مِنهم بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ؛ لِأنَّهُ ذَكَرَ مَعَهُمُ (المَجُوسَ والَّذِينَ أشْرَكُوا) فَذَكَرَ سِتَّ أُمَمٍ، مِنهُمُ اثْنَتانِ شَقِيَّتانِ، وأرْبَعٌ مِنهم مُنْقَسِمَةٌ إلى شَقِيٍّ وسَعِيدٍ، وحَيْثُ وعَدَ أهْلَ الإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ مِنهم بِالأجْرِ ذَكَرَهم أرْبَعَ أُمَمٍ لَيْسَ إلّا.
فَفِي آيَةِ الفَصْلِ بَيْنَ الأُمَمِ أدْخَلَ مَعَهُمُ الأُمَّتَيْنِ، وفي آيَةِ الوَعْدِ بِالجَزاءِ لَمْ يُدْخِلْها مَعَهُمْ، فَعُلِمَ أنَّ الصّابِئِينَ فِيهِمُ المُؤْمِنُ والكافِرُ والشَّقِيُّ والسَّعِيدُ وهَذِهِ أُمَّةٌ قَدِيمَةٌ قَبْلَ اليَهُودِ والنَّصارى وهم أنْواعٌ: صابِئَةٌ حُنَفاءُ وصابِئَةٌ مُشْرِكُونَ.
* (فصل)
ذكر الأمتين اللتين لا كتاب لهم، ولا ينقسمون إلى شقي وسعيد، وهما: المجوس والمشركون - في آية الفصل، ولم يذكرهما في آية الوعد بالجنة.
وذكر الصابئين فيهما، فعلم أن فيهم الشقي والسعيد.
وهؤلاء كانوا قوم إبراهيم الخليل. وهم أهل دعوته. وكانوا بحران، فهي دار الصابئة.
وكانوا قسمين صابئة حنفاء، وصابئة مشركين، والمشركون منهم يعظمون الكواكب السبعة، والبروج الاثني عشر، ويصوّرونها في هياكلهم.
ولتلك الكواكب عندهم هياكل مخصوصة، وهي المتعبدات الكبار، كالكنائس للنصارى والبيع لليهود.
فلهم هيكل كبير للشمس، وهيكل للقمر، وهيكل للزهرة، وهيكل للمشترى، وهيكل للمريخ، وهيكل لعطادر، وهيكل لزحل وهيكل للعلة الأولى.
ولهذه الكواكب عندهم عبادات ودعوات مخصوصة. ويصورونها في تلك الهياكل. ويتخذون لها أصناما تخصها، ويقربون لها القرابين. ولها صلوات خمس في اليوم والليلة، نحو صلوات المسلمين.
وطوائف منهم يصومون شهر رمضان، ويستقبلون في صلواتهم الكعبة، ويعظمون مكة، ويرون الحج إليها، ويحرمون الميتة والدم ولحم الخنزير، ويحرمون من القرابات في النكاح ما يحرمه المسلمون.
وعلى هذا المذهب كان جماعة من أعيان الدولة ببغداد، منهم هلال بن المحسن الصابئ، صاحب الديوان الإنشائى، وصاحب الرسائل المشهورة. وكان يصوم مع المسلمين، ويعيد معهم، ويزكي ويحرم المحرمات.
وكان الناس يعجبون من موافقته للمسلمين، وليس على دينهم.
وأصل دين هؤلاء - فيما زعموا - أنهم يأخذون بمحاسن ديانات العالم ومذاهبهم، ويخرجون من قبيح ما هم عليه قولا وعملا، ولهذا سموا صابئة، أي خارجين. فقد خرجوا عن تقيدهم بجملة كل دين وتفصيله، إلا ما رأوه فيه من الحق.
وكانت كفار قريش تسمى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الصابئ، وأصحابه الصبأة، يقال: صبأ الرجل، بالهمز، إذا خرج من شيء إلى شيء. وصبا يصبو إذا مال، ومنه قوله:
﴿وَإلاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أصْبُ إلَيْهِنَّ﴾ [يوسف: ٣٣]. أي أمل.
والمهموز والمعتل يشتركان. فالمهوز: ميل عن الشيء. والمعتل: ميل إليه، واسم الفاعل من المهموز: صابئ، بوزن قارئ، ومن المعتل: صاب، بوزن قاض وجمع الأول: صابئون، كقارئون، وجمع الثاني: صابون كقاضون، وقد قرئ بهما.
والمقصود: أن هذه الأمة قد شاركت جميع الأمم وفارقتهم، فالحنفاء منهم شاركوا أهل الإسلام في الحنيفية. والمشركون منهم شاركوا عباد الأصنام، ورأوا أنهم على صواب.
وأكثر هذه الأمة فلاسفة. والفلاسفة يأخذون من كل دين - بزعمهم - محاسن ما دلت عليه العقول. وعقلاؤهم يوجبون اتباع الأنبياء وشرائعهم.
وبعضهم لا يوجب ذلك ولا يحرمه.
وسفهاؤهم وسفلتهم يمنعون ذلك. كما سيأتي ذكر تلاعب الشيطان بهم بعد هذا.
ولهذا لم يكن هؤلاء الفلاسفة ولا الصابئة من الأمم المستقلة التي لها كتاب ونبي، وإن كانوا من أهل دعوة الرسل.
فما من أمة إلا وقد أقام الله سبحانه عليها حجته وقطع عنها حجتها.
﴿لئَلاّ يكُونَ لِلنّاسِ عَلى الله حُجَّة بَعْدَ الرَّسُلِ﴾ [النساء: ١٦٥].
وتكون حجته عليهم.
والمقصود: أن الصابئة فرق. صابئة حنفاء، وصابئة مشركون، وصابئة فلاسفة، وصابئة يأخذون بمحاسن ما عليه أهل الملل والنحل من غير تقيد بملة ولا نحلة.
ثم منهم من يقر بالنبوات جملة ويتوقف في التفصيل، ومنهم من يقر بها جملة وتفضيلا ومنهم من ينكرها جملة وتفصيلا.
وهم يقرون أن للعالم صانعا فاطرا حكيما، مقدسا عن العيوب والنقائص.
ثم قال المشركون منهم: لا سبيل لنا إلى الوصول إلى جلاله إلا بالوسائط.
فالواجب علينا أن نتقرب إليه بتوسطات الروحانيات القريبة منه. وهم الروحانيون المقربون المقدسون عن المواد الجسمانية، وعن القوى الجسدانية، بل قد جبلوا على الطهارة، فنحن نتقرب إليهم، ونتقرب بهم إليه، فهم أربابنا وآلهتنا وشفعاؤنا عند رب الأرباب وإله الآلهة. فما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.
فالواجب علينا أن نطهر نفوسنا عن الشهوات الطبيعية، ونهذب أخلاقنا عن علائق القوى، الغضبية حتى تحصل المناسبة بيننا وبين الروحانيات، وتتصل أرواحنا بهم، فحينئذ نسأل حاجتنا منهم، ونعرض أحوالنا عليهم، ونصبوا في جميع أمورنا إليهم، فيشفعون لنا إلى إلهنا وإلههم.
وهذا التطهير والتهذيب لا يحصل إلا باستمداد من جهة الروحانيات. وذلك بالتضرع والابتهال بالدعوات: من الصلوات. والزكوات، وذبح القرابين، والبخورات، والعزائم، فحينئذ يحصل لنفوسنا استعداد واستمداد من غير واسطة الرسل، بل نأخذ من المعدن الذي أخذت منه الرسل. فيكون حكمنا وحكمهم واحدا: ونحن وإياهم بمنزلة واحدة.
قالوا: والأنبياء أمثالنا في النوع وشركاؤنا في المادة، وأشكالنا في الصورة، يأكلون مما نأكل ويشربون مما نشرب، وما هم إلا بشر مثلنا يريدون أن يتفضلوا علينا.
وزادت الاتحادية أتباع ابن عربي، وابن سبعين والعفيف التلمساني، وأضرابهم على هؤلاء بما قاله شيخ الطائفة محمد بن عربي: أن الولي أعلى درجة من الرسول، لأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي إلى الرسول فهو أعلى منه بدرجتين.
فجعل هؤلاء الملاحدة أنفسهم وشيوخهم أعلى في التلقى من الرسل بدرجتين، وإخوانهم من المشركين جعلوا أنفسهم في ذلك التلقى بمنزلة الأنبياء، ولم يدّعوا أنهم فوقهم.
والمقصود: أن هؤلاء كفروا بالأصلين اللذين جاءت بهما جميع الرسل والأنبياء، من أولهم إلى آخرهم.
أحدهما: عبادة الله وحده لا شريك له. والكفر بما يعبد من دونه من إله.
والثاني: الإيمان برسله، وما جاءوا به من عند الله، تصديقا وإقرارًا، وانقيادا، وامتثالا.
وليس هذا مختصا بمشركي الصابئة، كما غلط فيه كثير من أرباب المقالات، بل هذا مذهب المشركين من سائر الأمم. لكن شرك الصابئة كان من جهة الكواكب والعلويات ولذلك ناظرهم إمام الحنفاء صلوات الله، وسلامه عليه في بطلان إلهيتها بما حكاه الله سبحانه في سورة الأنعام [٧٤-٨٣] أحسن مناظرة وأبينها، ظهرت فيها حجته ودحضت حجتهم.
فقال بعد أن بين بطلان إلهية الكواكب، والقمر، والشمس بأفولها، وأن الإله لا يليق به أن يغيب ويأفل، بل لا يكون إلا شاهدا غير غائب، كما لا يكون إلا غالبا قاهرا، غير مغلوب ولا مقهور. نافعا لعبادة، يملك لعابده الضر والنفع، فيسمع كلامه، ويرى مكانه، ويهديه، ويرشده، ويدفع عنه كل ما يضره ويؤذيه. وذلك ليس إلا لله وحده. فكل معبود سواه باطل.
فلما رأى إمام الحنفاء أن الشمس والقمر والكواكب ليست بهذه المثابة صعد منها إلى فاطرها وخالقها ومبدعها فقال:
﴿إنِّي وجَّهْتُ وجْهِي لِلّذِي فَطَرَ السَّمواتِ والأرْضَ حَنِيفًا﴾ [الأنعام: ٧٩].
وفي ذلك إشارة إلى أنه سبحانه خالق أمكنتها ومحالها التي هي مفترة إليها، ولا قوام لها إلا بها، فهي محتاجة إلى محل تقوم به، وفاطر يخلقها ويدبرها ويربُّها. والمحتاج المخلوق المربوب المدَّبر لا يكون إلها. فحاجَّه قومه في الله، ومن حاجّ في عبادة الله فحجته داحضة.
فقال إبراهيم عليه السلام: ﴿أتُحاجُّونِي في اللهِ وقَدْ هَدانِ﴾ [الأنعام: ٨٠].
[مَسْألَةُ: قَوْلُ السّائِلِ: قَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَكم بِأنَّ أهْلَ الكِتابَيْنِ ما مَنَعَهم مِنَ الدُّخُولِ في الإسْلامِ إلّا الرِّئاسَةُ والمَأْكَلَةُ لا غَيْرَ، فَكَلامُ جاهِلٍ بِما عِنْدَ المُسْلِمِينَ وبِما عِنْدَ الكُفّارِ]
أمّا المُسْلِمُونَ فَلَمْ يَقُولُوا: إنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ أهْلَ الكِتابِ مِنَ الدُّخُولِ في الإسْلامِ إلّا الرِّئاسَةُ والمَأْكَلَةُ لا غَيْرَ، وإنْ قالَ هَذا بَعْضُ عَوامِّهِمْ فَلا يَلْزَمُ جَماعَتَهُمْ، والمُمْتَنِعُونَ مِنَ الدُّخُولِ في الإسْلامِ مِن أهْلِ الكِتابَيْنِ وغَيْرِهِمْ جُزْءٌ يَسِيرٌ جِدًّا بِالإضافَةِ إلى الدّاخِلِينَ فِيهِ مِنهُمْ، بَلْ أكْثَرُ الأُمَمِ دَخَلُوا في الإسْلامِ طَوْعًا ورَغْبَةً واخْتِيارًا لا كَرْهًا واضْطِرارًا.
وَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى بَعْثَ مُحَمَّدًا ﷺ رَسُولًا إلى أهْلِ الأرْضِ وهم خَمْسَةُ أصْنافٍ قَدْ طَبَقُوا الأرْضَ: يَهُودُ، ونَصارى، ومَجُوسٌ، وصابِئُونَ، ومُشْرِكُونَ.
وَهَذِهِ الأصْنافُ هي الَّتِي كانَتْ قَدِ اسْتَوْلَتْ عَلى الدُّنْيا مِن مَشارِقِها إلى مَغارِبِها.
فَأمّا اليَهُودُ فَأكْثَرُ ما كانُوا بِاليَمَنِ وخَيْبَرَ والمَدِينَةِ وما حَوْلَها، وكانُوا بِأطْرافِ الشّامِ مُسْتَذَلِّينَ مَعَ النَّصارى، وكانَ مِنهم بِأرْضِ فارِسَ مُسْتَذَلَّةٌ مَعَ المَجُوسِ، وكانَ مِنهم بِأرْضِ المَغْرِبِ فِرْقَةٌ، وأعَزُّ ما كانُوا بِالمَدِينَةِ وخَيْبَرَ وما حَوْلَها، وكانَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى قَدْ قَطَّعَهم في الأرْضِ أُمَمًا وسَلَبَهُمُ المُلْكَ والعِزَّ.
وَأمّا النَّصارى فَكانُوا طَبَقَ الأرْضِ: فَكانَتِ الشّامُ كُلُّها نَصارى، وأرْضُ المَغْرِبِ كانَ الغالِبُ عَلَيْهِمُ النَّصارى، وكَذَلِكَ أرْضُ مِصْرَ والحَبَشَةِ والنُّوبَةِ والجَزِيرَةِ والمَوْصِلِ وأرْضُ نَجْرانَ وغَيْرُها مِنَ البِلادِ.
وَأمّا المَجُوسُ فَهم أهْلُ مَمْلَكَةِ فارِسَ وما اتَّصَلَ بِها.
وَأمّا الصّابِئَةُ فَأهْلُ حَرّانَ وكَثِيرٌ مِن بِلادِ الرُّومِ.
وَأمّا المُشْرِكُونَ فَجَزِيرَةُ العَرَبِ جَمِيعُها وبِلادُ الهِنْدِ وبِلادُ التُّرْكِ وما جاوَرَها
وَأدْيانُ أهْلِ الأرْضِ لا تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الأدْيانِ الخَمْسَةِ، ودِينُ الحُنَفاءِ لا يُعْرَفُ فِيهِمْ ألْبَتَّةَ. وهَذِهِ الأدْيانُ الخَمْسَةُ كُلُّها لِلشَّيْطانِ كَما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما وغَيْرُهُ: الأدْيانُ سِتَّةٌ: واحِدٌ لِلرَّحْمَنِ وخَمْسَةٌ لِلشَّيْطانِ
وَهَذِهِ الأدْيانُ السِّتَّةُ مَذْكُورَةٌ في آيَةِ الفَصْلِ، في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا والصّابِئِينَ والنَّصارى والمَجُوسَ والَّذِينَ أشْرَكُوا إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهم يَوْمَ القِيامَةِ إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾.
فَلَمّا بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ اسْتَجابَ لَهُ ولِخُلَفائِهِ بَعْدَهُ أكْثَرُ أهْلِ الأدْيانِ طَوْعًا واخْتِيارًا، ولَمْ يُكْرِهْ أحَدًا قَطُّ عَلى الدِّينِ، وإنَّما كانَ يُقاتِلُ مَن يُحارِبُهُ ويُقاتِلُهُ، وأمّا مَن سالَمَهُ وهادَنَهُ فَلَمْ يُقاتِلْهُ ولَمْ يُكْرِهْهُ عَلى الدُّخُولِ في دِينِهِ امْتِثالًا لِأمْرِ رَبِّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى حَيْثُ يَقُولُ: ﴿لا إكْراهَ في الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ﴾
وَهَذا نَفْيٌ في مَعْنى النَّهْيِ، أيْ لا تُكْرِهُوا أحَدًا عَلى الدِّينِ، نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في رِجالٍ مِنَ الصَّحابَةِ كانَ لَهم أوْلادٌ، قَدْ تَهَوَّدُوا وتَنَصَّرُوا قَبْلَ الإسْلامِ، فَلَمّا جاءَ الإسْلامُ أسْلَمَ الآباءُ وأرادُوا إكْراهَ الأوْلادِ عَلى الدِّينِ، فَنَهاهُمُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عَنْ ذَلِكَ حَتّى يَكُونُوا هُمُ الَّذِينَ يَخْتارُونَ الدُّخُولَ في الإسْلامِ.
والصَّحِيحُ: الآيَةُ عَلى عُمُومِها في حَقِّ كُلِّ كافِرٍ، وهَذا ظاهِرٌ عَلى قَوْلِ مَن يُجَوِّزُ أخْذَ الجِزْيَةِ مِن جَمِيعِ الكُفّارِ، فَلا يُكْرَهُونَ عَلى الدُّخُولِ في الدِّينِ، بَلْ إمّا أنْ يَدْخُلُوا في الدِّينِ، وإمّا أنْ يُعْطُوا الجِزْيَةَ، كَما تَقُولُهُ أهْلُ العِراقِ، وأهْلُ المَدِينَةِ، وإنِ اسْتَثْنى هَؤُلاءِ بَعْضَ عَبْدَةِ الأوْثانِ.
وَمَن تَأمَّلَ سِيرَةَ النَّبِيِّ ﷺ تَبَيَّنَ لَهُ أنَّهُ لَمْ يُكْرِهْ أحَدًا عَلى دِينِهِ قَطُّ، وأنَّهُ إنَّما قاتَلَ مَن قاتَلَهُ، وأمّا مَن هادَنَهُ فَلَمْ يُقاتِلْهُ ما دامَ مُقِيمًا عَلى هُدْنَتِهِ، لَمْ يَنْقُضْ عَهْدَهُ، بَلْ أمَرَهُ اللَّهُ تَعالى أنْ يَفِيَ لَهم بِعَهْدِهِمْ ما اسْتَقامُوا لَهُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿فَما اسْتَقامُوا لَكم فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾.
فَلَمّا قَدِمَ المَدِينَةَ صالَحَ اليَهُودَ وأقَرَّهم عَلى دِينِهِمْ، فَلَمّا حارَبُوهُ ونَقَضُوا عَهْدَهُ وبَدَءُوهُ بِالقِتالِ قاتَلَهُمْ، فَمَنَّ عَلى بَعْضِهِمْ، وأجْلى بَعْضَهُمْ، وقاتَلَ بَعْضَهم.
وَكَذَلِكَ لَمّا هادَنَ قُرَيْشًا عَشْرَ سِنِينَ لَمْ يَبْدَأْهم بِقِتالٍ حَتّى بَدَءُوا هم بِقِتالِهِ ونَقْضِ عَهْدِهِ، فَحِينَئِذٍ غَزاهم في دِيارِهِمْ، وكانُوا هم يَغْزُونَهُ قَبْلَ ذَلِكَ كَما قَصَدُوهُ يَوْمَ الخَنْدَقِ، ويَوْمَ بَدْرٍ أيْضًا هم جاءُوا لِقِتالِهِ ولَوِ انْصَرَفُوا عَنْهُ لَمْ يُقاتِلْهم.
والمَقْصُودُ أنَّهُ ﷺ لَمْ يُكْرِهْ أحَدًا عَلى الدُّخُولِ في دِينِهِ ألْبَتَّةَ، وإنَّما دَخَلَ النّاسُ في دِينِهِ اخْتِيارًا وطَوْعًا، فَأكْثَرُ أهْلِ الأرْضِ دَخَلُوا في دَعْوَتِهِ لَمّا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدى، وأنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا فَهَؤُلاءِ أهْلُ اليَمَنِ كانُوا عَلى دِينِ اليَهُودِيَّةِ وأكْثَرُهُمْ، كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ لِمُعاذٍ لَمّا بَعَثَهُ إلى اليَمَنِ: إنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أهْلَ كِتابٍ فَلْيَكُنْ أوَّلَ ما تَدْعُوهم إلَيْهِ شَهادَةُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وذَكَرَ الحَدِيثَ، ثُمَّ دَخَلُوا في الإسْلامِ مِن غَيْرِ رَغْبَةٍ ولا رَهْبَةٍ، وكَذَلِكَ مَن أسْلَمَ مِن يَهُودِ المَدِينَةِ، وهم جَماعَةٌ كَثِيرُونَ غَيْرُ عَبْدِ اللَّهِ مَذْكُورُونَ في كُتُبِ السِّيَرِ والمَغازِي، لَمْ يُسْلِمُوا رَغْبَةً في الدُّنْيا ولا رَهْبَةً مِنَ السَّيْفِ، بَلْ أسْلَمُوا في حالِ حاجَةِ المُسْلِمِينَ وكَثْرَةِ أعْدائِهِمْ، ومُحارَبَةِ أهْلِ الأرْضِ لَهم مِن غَيْرِ سَوْطٍ ولا نَوْطٍ، بَلْ تَحَمَّلُوا مُعاداةَ أقْرِبائِهِمْ وحِرْمانَهم نَفْعَهم بِالمالِ والبَدَنِ مَعَ ضَعْفِ شَوْكَةِ المُسْلِمِينَ وقِلَّةِ ذاتِ أيْدِيهِمْ. فَكانَ أحَدُهم يُعادِي أباهُ وأُمَّهُ وأهْلَ بَيْتِهِ وعَشِيرَتِهِ، ويَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيا رَغْبَةً في الإسْلامِ، لا لِرِئاسَةٍ ولا مالٍ، بَلْ يَنْخَلِعُ مِنَ الرِّئاسَةِ والمالِ، ويَتَحَمَّلُ أذى الكُفّارِ مِن ضَرْبِهِمْ وشَتْمِهِمْ وصُنُوفِ أذاهم ولا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ.
فَإنْ كانَ كَثِيرٌ مِنَ الأحْبارِ والرُّهْبانِ والقِسِّيسِينَ ومَن ذَكَرَهُ هَذا السّائِلُ قَدِ اخْتارَ الكُفْرَ، فَقَدْ أسْلَمَ جُمْهُورُ أهْلِ الأرْضِ مِن فِرَقِ الكُفّارِ، ولَمْ يَبْقَ إلّا الأقَلُّ بِالنِّسْبَةِ إلى مَن أسْلَمَ، فَهَؤُلاءِ نَصارى الشّامِ كانُوا مِلْءَ الشّامِ، ثُمَّ صارُوا مُسْلِمِينَ إلّا النّادِرَ، فَصارُوا في المُسْلِمِينَ كالشَّعْرَةِ السَّوْداءِ في الثَّوْرِ الأبْيَضِ.
وَكَذَلِكَ المَجُوسُ كانَتْ أُمَّةً لا يُحْصِي عَدَدَهم إلّا اللَّهُ تَعالى فَأطْبَقُوا عَلى الإسْلامِ، لَمْ يَتَخَلَّفْ مِنهم إلّا النّادِرُ، وصارَتْ بِلادَ الإسْلامِ، وصارَ مَن لَمْ يُسْلِمْ مِنهم تَحْتَ الجِزْيَةِ والذِّلَّةِ، وكَذَلِكَ اليَهُودُ أسْلَمَ أكْثَرُهم ولَمْ يَبْقَ مِنهم إلّا شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ مُقَطَّعَةٌ في البِلادِ.
فَقَوْلُ هَذا الجاهِلِ: إنَّ هاتَيْنِ الأُمَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ لا يُحْصِي عَدَدَهم إلّا اللَّهُ تَعالى كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ كَذِبٌ ظاهِرٌ وبُهْتٌ مُبِينٌ، حَتّى لَوْ كانُوا كُلُّهم قَدْ أطْبَقُوا عَلى اخْتِيارِ الكُفْرِ لَكانُوا في ذَلِكَ أُسْوَةَ قَوْمِ نُوحٍ، وقَدْ أقامَ فِيهِمْ نُوحٌ ﷺ ألْفَ سَنَةٍ إلّا خَمْسِينَ عامًا يَدْعُوهم إلى اللَّهِ تَعالى، ويُرِيهِمْ مِنَ الآياتِ ما يُقِيمُ حُجَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وقَدْ أطْبَقُوا عَلى الكُفْرِ إلّا قَلِيلًا مِنهُمْ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَما آمَنَ مَعَهُ إلّا قَلِيلٌ﴾.
وَهم كانُوا أضْعافَ أضْعافِ هاتَيْنِ الأُمَّتَيْنِ الكافِرَتَيْنِ، أهْلِ الغَضَبِ وأهْلِ الضَّلالِ، وقَوْمُ عادٍ أطْبَقُوا عَلى الكُفْرِ، وهم أُمَّةٌ عَظِيمَةٌ عُقَلاءُ حَتّى اسْتُؤْصِلُوا بِالعَذابِ، وقَوْمُ ثَمُودَ أطْبَقُوا جَمِيعُهم عَلى الكُفْرِ بَعْدَ رُؤْيَةِ الآيَةِ العَظِيمَةِ الَّتِي يُؤْمِنُ عَلى مِثْلِها البَشَرُ، ومَعَ هَذا فاخْتارُوا الكُفْرَ عَلى الإيمانِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهم فاسْتَحَبُّوا العَمى عَلى الهُدى﴾ وقالَ تَعالى: ﴿وَعادًا وثَمُودَ وقَدْ تَبَيَّنَ لَكم مِن مَساكِنِهِمْ وزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أعْمالَهم فَصَدَّهم عَنِ السَّبِيلِ وكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾.
فَهاتانِ أُمَّتانِ عَظِيمَتانِ مِن أكْبَرِ الأُمَمِ قَدْ أطْبَقا عَلى الكُفْرِ مَعَ البَصِيرَةِ، فَأُمَّتا الغَضَبِ والضَّلالِ إذا أطْبَقَتا عَلى الكُفْرِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِبِدْعٍ، وهَؤُلاءِ قَوْمُ فِرْعَوْنَ مَعَ كَثْرَتِهِمْ قَدْ أطْبَقُوا عَلى جَحْدِ نُبُوَّةِ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مَعَ تَظاهُرِ الآياتِ الباهِرَةِ آيَةً بَعْدَ آيَةٍ، فَلَمْ يُؤْمِن مِنهم إلّا رَجُلٌ واحِدٌ كانَ يَكْتُمُ إيمانَهُ.
وَأيْضًا، فَيُقالُ لِلنَّصارى: هَؤُلاءِ اليَهُودُ مَعَ كَثْرَتِهِمْ في زَمَنِ المَسِيحِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حَتّى كانُوا قَدْ مَلَئُوا بِلادَ الشّامِ كَما قالَ تَعالى: {وَأوْرَثْنا القَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الأرْضِ ومَغارِبَها الَّتِي بارَكْنا فِيها وكانُوا قَدْ أطْبَقُوا عَلى تَكْذِيبِ المَسِيحِ وجَحْدِ نُبُوَّتِهِ، وفِيهِمُ الأحْبارُ والرُّهْبانُ، والعُبّادُ والعُلَماءُ، حَتّى آمَنَ بِهِ الحَوارِيُّونَ، فَإذا جازَ عَلى اليَهُودِ - وفِيهِمُ الأحْبارُ والعُبّادُ والزُّهّادُ وغَيْرُهم - الإطْباقُ عَلى جَحْدِ نُبُوَّةِ المَسِيحِ، والكُفْرِ بِهِ مَعَ ظُهُورِ آياتِ صِدْقِهِ كالشَّمْسِ، جازَ عَلَيْهِمْ إنْكارُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، ومَعْلُومٌ أنَّ جَوازَ ذَلِكَ عَلى أُمَّةِ الضَّلالِ الَّذِينَ هم أضَلُّ مِنَ الأنْعامِ، وهُمُ النَّصارى أوْلى وأحْرى.
فَهَذا السُّؤالُ الَّذِي أوْرَدَهُ هَذا السّائِلُ وارِدٌ بِعَيْنِهِ في حَقِّ كُلِّ نَبِيٍّ كَذَّبَتْهُ أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ، فَإنْ صَوَّبَ هَذا السّائِلُ رَأى تِلْكَ الأُمَمِ كُلِّها، فَقَدْ كَفَرَ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ. وإنْ قالَ: إنَّ الأنْبِياءَ كانُوا عَلى الحَقِّ، وكانَتْ تِلْكَ الأُمَمُ مَعَ كَثْرَتِها ووُفُورِ عُقُولِها عَلى الباطِلِ، فَلَأنْ يَكُونَ المُكَذِّبُونَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وهُمُ الأقَلُّونَ الأرْذَلُونَ، مِن هَذِهِ الطَّوائِفِ عَلى الباطِلِ أوْلى وأحْرى، وأيُّ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ اعْتَبَرْتَها، وجَدْتَ المُصَدِّقِينَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ جُمْهُورَها، وأقَلُّها وأرْذَلُها هُمُ الجاحِدُونَ لِنُبُوَّتِهِ، فَرُقْعَةُ الإسْلامِ اتَّسَعَتْ في مَشارِقِ الأرْضِ ومَغارِبِها غايَةَ الِاتِّساعِ بِدُخُولِ هَذِهِ الأُمَمِ في دِينِهِ، وتَصْدِيقِهِمْ بِرِسالَتِهِ، وبَقِيَ مَن لَمْ يَدْخُلْ مِنهم في دِينِهِ، وهم مِن كُلِّ أُمَّةٍ أقَلُّها.
وَأيْنَ يَقَعُ النَّصارى المُكَذِّبُونَ بِرِسالَتِهِ اليَوْمَ مِن أُمَّةِ النَّصْرانِيَّةِ الَّذِينَ كانُوا قَبْلَهُ؟!
وَكَذَلِكَ اليَهُودُ والمَجُوسُ والصّابِئُونَ لا نِسْبَةً لِلْمُكَذِّبِينَ بِرِسالَتِهِ بَعْدَ بَعْثِهِ إلى جُمْلَةِ تِلْكَ الأُمَّةِ قَبْلَ بَعْثِهِ.
وَقَدْ أخْبَرَ تَعالى عَنِ الأُمَمِ الَّتِي أطْبَقَتْ عَلى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ ودَمَّرَها اللَّهُ تَعالى، فَقالَ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿ثُمَّ أرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرى كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأتْبَعْنا بَعْضَهم بَعْضًا وجَعَلْناهم أحادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ﴾.
فَأخْبَرَ عَنْ هَؤُلاءِ الأُمَمِ أنَّهم تَطابَقُوا عَلى تَكْذِيبِ رُسُلِهِمْ وأنَّهُ عَمَّهم بِالإهْلاكِ، وقالَ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ ما أتى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِن رَسُولٍ إلّا قالُوا ساحِرٌ أوْ مَجْنُونٌ أتَواصَوْا بِهِ بَلْ هم قَوْمٌ طاغُونَ﴾.
وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يُهْلِكْ هَذِهِ الأُمَمَ الكَثِيرَةَ إلّا بَعْدَ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدى، فاخْتارُوا عَلَيْهِ الكُفْرَ، ولَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمُ الهُدى واخْتارُوا خِلافَهُ لَمْ يَهْلِكُوا، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَما كُنّا مُهْلِكِي القُرى إلّا وأهْلُها ظالِمُونَ، وقالَ تَعالى: {فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إيمانُها إلّا قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهم عَذابَ الخِزْيِ في الحَياةِ الدُّنْيا ومَتَّعْناهم إلى حِينٍ﴾
أيْ فَلَمْ يَكُنْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إيمانُها إلّا قَوْمَ يُونُسَ. ومَعْلُومٌ قَطْعًا أنَّهُ لَمْ يُصَدَّقْ نَبِيٌّ مِنَ الأنْبِياءِ مِن أوَّلِهِمْ إلى آخِرِهِمْ ولَمْ يَتَّبِعْهُ مِنَ الأُمَمِ ما صُدِّقَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ﷺ.
والَّذِينَ اتَّبَعُوهُ مِنَ الأُمَمِ أضْعافُ هاتَيْنِ الأُمَّتَيْنِ المُكَذِّبَتَيْنِ مِمّا لا يُحْصِيهِمْ إلّا اللَّهُ ولا يَسْتَرِيبُ مَن لَهُ مُسْكَةٌ مِن عَقَلٍ أنَّ الضَّلالَ والجَهْلَ والغَيَّ وفَسادَ العَقْلِ إلى مَن خالَفَهُ وجَحَدَ نُبُوَّتَهُ أقْرَبُ مِنهُ إلى أتْباعِهِ ومَن أقَرَّ بِنُبُوَّتِهِ.
وَحِينَئِذٍ فَيُقالُ: كَيْفَ جازَ عَلى هَؤُلاءِ الأُمَمِ الَّذِينَ لا يُحْصِيهِمْ إلّا اللَّهُ الَّذِينَ قَدْ بَلَغُوا مَشارِقَ الأرْضِ ومَغارِبَها عَلى اخْتِلافِ طَبائِعِهِمْ وأغْراضِهِمْ وتَبايُنِ مَقاصِدِهِمِ الإطْباقُ عَلى اتِّباعِ مَن يَكْذِبُ عَلى اللَّهِ وعَلى العَقْلِ، ويُحِلُّ ما حَرَّمَ اللَّهُ ورُسُلُهُ ويُحَرِّمُ ما أحَلَّ، ومَعْلُومٌ أنَّ الكَذّابَ عَلى اللَّهِ تَعالى في دَعْوى الرِّسالَةِ هو شَرُّ خَلْقِ اللَّهِ وأفْجَرُهم وأظْلَمُهم وأكْذَبُهم.
وَلا يَشُكُّ مَن لَهُ أدْنى عَقْلٍ أنَّ إطْباقَ أكْثَرِ الأُمَمِ عَلى مُتابَعَةِ هَذا النَّبِيِّ ﷺ وخُرُوجَهم عَنْ دِيارِهِمْ وأمْوالِهِمْ ومُعاداتِهِمْ آباءَهم وعَشائِرَهم في مُتابَعَتِهِ، وبَذْلِهِمْ نُفُوسَهم بَيْنَ يَدَيْهِ مِن أمْحَلِ المُحالِ.
فَتَجْوِيزُ اخْتِيارِ الكُفْرِ بَعْدَ تَبَيُّنِ الهُدى عَلى شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ حَقِيرَةٍ لَها أغْراضٌ عَدِيدَةٌ مِن هاتَيْنِ الأُمَّتَيْنِ أوْلى مِن تَجْوِيزِ ذَلِكَ عَلى المُسْلِمِينَ الَّذِينَ طَبَقُوا مَشارِقَ الأرْضِ ومَغارِبَها، وهم أعْقَلُ الأُمَمِ وأكْمَلُها في جَمِيعِ خِصالِ الفَضْلِ، وأيْنَ عُقُولُ عُبّادِ العِجْلِ وعُبّادِ الصَّلِيبِ الَّذِي أضْحَكُوا سائِرَ العُقَلاءِ عَلى عُقُولِهِمْ، ودَلُّوهِمْ عَلى مَبْلَغِها بِما قالُوهُ في مَعْبُودِهِمْ مِن عُقُولِ المُسْلِمِينَ؟
وَإذا جازَ اتِّفاقُ أُمَّةٍ - فِيها مَن قَدْ ذَكَرَهُ هَذا السّائِلُ - عَلى أنَّ رَبَّ العالَمِينَ وخالِقَ السَّماواتِ والأرَضِينَ، نَزَلَ عَنْ عَرْشِ عَظَمَتِهِ وكُرْسِيِّ رِفْعَتِهِ، ودَخَلَ في بَطْنِ امْرَأةٍ في مَحَلِّ الحَيْضِ والطَّمْثِ عِدَّةَ شُهُورٍ، ثُمَّ خَرَجَ مِن فَرْجِها طِفْلًا يَمُصُّ الثَّدْيَ، ويَبْكِي ويَكْبُرُ شَيْئًا فَشَيْئًا، ويَأْكُلُ ويَشْرَبُ، ويَبُولُ ويَصِحُّ ويَمْرَضُ، ويَفْرَحُ ويَحْزَنُ، ويَلِدُ ويَأْلَمُ، ثُمَّ دَبَّرَ حِيلَةً عَلى عَدُوِّهِ إبْلِيسَ بِأنْ مَكَّنَ أعْداءَهُ اليَهُودَ مِن نَفْسِهِ، فَأمْسَكُوهُ وساقُوهُ إلى خَشَبَتَيْنِ يَصْلُبُونَهُ عَلَيْهِما، وهم يَجُرُّونَهُ إلى الصَّلِيبِ، والأوْباشُ والأراذِلُ قُدّامَهُ وخَلْفَهُ وعَنْ يَمِينِهِ وعَنْ شِمالِهِ، وهو يَسْتَغِيثُ ويَبْكِي، فَقَرَّبُوهُ مِنَ الخَشَبَتَيْنِ، ثُمَّ تَوَّجُوهُ بِتاجٍ مِنَ الشَّوْكِ، وصَفَعُوهُ صَفْعًا، ثُمَّ حَمَلُوهُ عَلى الصَّلِيبِ، وسَمَّرُوا يَدَيْهِ ورِجْلَيْهِ وجَعَلُوهُ بَيْنَ لِصَّيْنِ، وهو الَّذِي اخْتارَ هَذا كُلَّهُ لِتَتِمَّ لَهُ الحِيلَةُ عَلى إبْلِيسَ، لِيُخَلِّصَ آدَمَ وسائِرَ الأنْبِياءِ مِن سِجْنِهِ، فَفَداهم بِنَفْسِهِ حَتّى خَلَصُوا مِن سِجْنِ إبْلِيسَ.
فَإذا جازَ اتِّفاقُ هَذِهِ الأُمَّةِ، وفِيهِمُ الأحْبارُ والرُّهْبانُ والقِسِّيسُونَ والزُّهّادُ والعُبّادُ والفُقَهاءُ ومَن ذَكَرْتُهُمْ، عَلى هَذا القَوْلِ في مَعْبُودِهِمْ وإلَهِهِمْ حَتّى قالَ قائِلٌ مِنهم وهو مِن أكابِرِهِمْ عِنْدَهُمْ: اليَدُ الَّتِي خَلَقَتْ آدَمَ هي الَّتِي باشَرَتِ المَسامِيرَ ونالَتِ الصَّلْبَ، فَكَيْفَ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الِاتِّفاقُ عَلى تَكْذِيبِ مَن جاءَ بِتَكْفِيرِهِمْ وتَضْلِيلِهِمْ، ونادى سِرًّا وجَهْرًا بِكَذِبِهِمْ عَلى اللَّهِ تَعالى، وشَتْمِهِمْ لَهُ أقْبَحَ شَتْمٍ، وكَذِبِهِمْ عَلى المَسِيحِ، وتَبْدِيلِهِمْ دِينَهُ، وعاداهم وقاتَلَهم وبَرَّأهم مِنَ المَسِيحِ، وبَرَّأهُ مِنهُمْ، وأخْبَرَ أنَّهم وقُودُ النّارِ وحَصَبُ جَهَنَّمَ؟ فَهَذا أحَدُ الأسْبابِ الَّتِي اخْتارُوا لِأجْلِها الكُفْرَ عَلى الإيمانِ وهو مِن أعْظَمِ الأسْبابِ.
فَقَوْلُكُمْ: إنَّ المُسْلِمِينَ يَقُولُونَ إنَّهم لَمْ يَمْنَعْهم مِنَ الدُّخُولِ في الإسْلامِ إلّا الرِّئاسَةُ والمَأْكَلَةُ لا غَيْرَ، كَذِبٌ عَلى المُسْلِمِينَ، بَلْ الرِّئاسَةُ والمَأْكَلَةُ مِن جُمْلَةِ الأسْبابِ المانِعَةِ لَهم مِنَ الدُّخُولِ في الدِّينِ، وقَدْ ناظَرْنا نَحْنُ وغَيْرُنا جَماعَةً مِنهُمْ، فَلَمّا تَبَيَّنَ لِبَعْضِهِمْ فَسادُ ما هم عَلَيْهِ، قالُوا: لَوْ دَخَلْنا في الإسْلامِ لَكُنّا مِن أقَلِّ المُسْلِمِينَ لا يُؤْبَهُ لَنا، ونَحْنُ مُتَحَكِّمُونَ في أهْلِ مِلَّتِنا في أمْوالِهِمْ ومَناصِبِهِمْ ولَنا بَيْنَهم أعْظَمُ الجاهِ!، وهَلْ مَنَعَ فِرْعَوْنَ وقَوْمَهُ مِنَ اتِّباعِ مُوسى إلّا ذَلِكَ؟!
والأسْبابُ المانِعَةُ مِن قَبُولِ الحَقِّ كَثِيرَةٌ جِدًّا
فَمِنها: الجَهْلُ بِهِ، وهَذا السَّبَبُ هو الغالِبُ عَلى أكْثَرِ النُّفُوسِ، فَإنَّ مَن جَهِلَ شَيْئًا عاداهُ وعادى أهْلَهُ، فَإنِ انْضافَ إلى هَذا السَّبَبِ بُغْضُ مَن أمَرَهُ بِالحَقِّ ومُعاداتُهُ لَهُ وحَسَدُهُ كانَ المانِعُ مِنَ القَبُولِ أقْوى، فَإنِ انْضافَ إلى ذَلِكَ إلْفُهُ وعادَتُهُ ومُرَبّاهُ عَلى ما كانَ عَلَيْهِ آباؤُهُ ومَن يُحِبُّهُ ويُعَظِّمُهُ قَوِيَ المانِعُ، فَإنِ انْضافَ إلى ذَلِكَ تَوَهُّمُهُ أنَّ الحَقَّ الَّذِي دُعِيَ إلَيْهِ يَحُولُ بَيْنَهُ وبَيْنَ جاهِهِ وعِزِّهِ وشَهَواتِهِ وأغْراضِهِ قَوِيَ المانِعُ مِنَ القَبُولِ جِدًّا.
فَإنِ انْضافَ إلى ذَلِكَ خَوْفُهُ مِن أصْحابِهِ وعَشِيرَتِهِ وقَوْمِهِ عَلى نَفْسِهِ ومالِهِ وجاهِهِ كَما وقَعَ لِهِرَقْلَ مَلِكِ النَّصارى بِالشّامِ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ازْدادَ المانِعُ مِن قَبُولِ الحَقِّ قُوَّةً، فَإنَّ هِرَقْلَ عَرَفَ الحَقَّ وهَمَّ بِالدُّخُولِ في الإسْلامِ فَلَمْ يُطاوِعْهُ قَوْمُهُ وخافَهم عَلى نَفْسِهِ فاخْتارَ الكُفْرَ عَلى الإسْلامِ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى، كَما سَيَأْتِي ذِكْرُ قِصَّتِهِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
وَمِن أعْظَمِ هَذِهِ الأسْبابِ: " الحَسَدُ " فَإنَّهُ داءٌ كامِنٌ في النَّفْسِ، ويَرى الحاسِدُ المَحْسُودَ قَدْ فُضِّلَ عَلَيْهِ، وأُوتِيَ ما لَمْ يُؤْتَ نَظِيرُهُ، فَلا يَدَعُهُ الحَسَدُ أنْ يَنْقادَ لَهُ ويَكُونَ مِن أتْباعِهِ. وهَلْ مَنَعَ إبْلِيسَ مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ إلّا الحَسَدُ؟! فَإنَّهُ لَمّا رَآهُ قَدْ فُضِّلَ عَلَيْهِ ورُفِعَ فَوْقَهُ، غُصَّ بِرِيقِهِ واخْتارَ الكُفْرَ عَلى الإيمانِ بَعْدَ أنْ كانَ بَيْنَ المَلائِكَةِ.
وَهَذا الدّاءُ هو الَّذِي مَنَعَ اليَهُودَ مِنَ الإيمانِ بِعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ، وقَدْ عَلِمُوا عِلْمًا لا شَكَّ فِيهِ أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ جاءَ بِالبَيِّناتِ، والهُدى فَحَمَلَهُمُ الحَسَدُ عَلى أنِ اخْتارُوا الكُفْرَ عَلى الإيمانِ، وأطْبَقُوا عَلَيْهِ، وهم أُمَّةٌ فِيهِمُ الأحْبارُ والعُلَماءُ والزُّهّادُ والقُضاةُ والمُلُوكُ والأُمَراءُ.
هَذا وقَدْ جاءَ المَسِيحُ بِحُكْمِ التَّوْراةِ ولَمْ يَأْتِ بِشَرِيعَةٍ تُخالِفُها ولَمْ يُقاتِلْهُمْ، وإنَّما أتى بِتَحْلِيلِ ما حُرِّمَ عَلَيْهِمْ تَخْفِيفًا ورَحْمَةً وإحْسانًا، وجاءَ مُكَمِّلًا لِشَرِيعَةِ التَّوْراةِ، ومَعَ هَذا فاخْتارُوا الكُفْرَ كُلُّهم عَلى الإيمانِ، فَكَيْفَ يَكُونُ حالُهم مَعَ نَبِيٍّ جاءَ بِشَرِيعَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ ناسِخَةٍ لِجَمِيعِ الشَّرائِعِ، مُبَكِّتًا لَهم بِقَبائِحِهِمْ، ومُنادِيًا عَلى فَضائِحِهِمْ، ومُخْرِجًا لَهم مِن دِيارِهِمْ، وقَدْ قاتَلُوهُ وحارَبُوهُ، وهو في ذَلِكَ كُلِّهِ يَنْصُرُ عَلَيْهِمْ، ويَظْفَرُ بِهِمْ، ويَعْلُو هو وأصْحابُهُ وهم مَعَهُ دائِمًا في سَفالٍ، فَكَيْفَ لا يَمْلِكُ الحَسَدُ والبَغْيُ قُلُوبَهُمْ؟ وأيْنَ يَقَعُ حالُهم مَعَهُ مِن حالِهِمْ مَعَ المَسِيحِ، وقَدْ أطْبَقُوا عَلى الكُفْرِ بِهِ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدى؟ وهَذا السَّبَبُ وحْدَهُ كافٍ في رَدِّ الحَقِّ، فَكَيْفَ إذا انْضافَ إلَيْهِ زَوالُ الرِّئاساتِ والمَأْكَلِ كَما تَقَدَّمَ؟
وَقَدْ قالَ المِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ - وهو ابْنُ أُخْتِ أبِي جَهْلٍ - يا خالُ، هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَ مُحَمَّدًا قَبْلَ أنْ يَقُولَ ما قالَ؟ فَقالَ: يا ابْنَ أُخْتِي! واللَّهِ لَقَدْ كانَ مُحَمَّدٌ فِينا صادِقًا وهو شابٌّ، يُدْعى الأمِينَ، فَما جَرَّبْنا عَلَيْهِ كَذِبًا قَطُّ، قالَ: يا خالُ! فَما لَكم لا تَتْبَعُونَهُ؟! قالَ: يا ابْنَ أُخْتِي تَنازَعْنا نَحْنُ وبَنُو هاشِمٍ الشَّرَفَ، فَأطْعَمُوا وأطْعَمْنا، وسَقَوْا وسَقَيْنا، وأجارُوا وأجَرْنا، حَتّى إذا تَجاثَيْنا عَلى الرُّكَبِ وكُنّا كَفَرَسَيْ رِهانٍ، قالُوا: مِنّا نَبِيٌّ فَمَتى نُدْرِكُ مِثْلَ هَذِهِ؟ وقالَ الأخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ يَوْمَ بَدْرٍ لِأبِي جَهْلٍ: يا أبا الحَكَمِ! أخْبِرْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ أصادِقٌ هو أمْ كاذِبٌ؟ فَإنَّهُ لَيْسَ هاهُنا مِن قُرَيْشٍ أحَدٌ غَيْرِي وغَيْرُكَ يَسْمَعُ كَلامَنا؟ فَقالَ أبُو جَهْلٍ: ويْحَكَ! واللَّهِ إنَّ مُحَمَّدًا لَصادِقٌ، وما كَذَبَ مُحَمَّدٌ قَطُّ، ولَكِنْ إذا ذَهَبَتْ بَنُو قُصَيٍّ بِاللِّواءِ والحِجابَةِ والسِّقايَةِ والنُّبُوَّةِ فَماذا يَكُونُ لِسائِرِ قُرَيْشٍ؟
وَأمّا اليَهُودُ فَقَدْ كانَ عُلَماؤُهم يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهُمْ، قالَ ابْنُ إسْحاقَ: حَدَّثَنِي عاصِمُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ قَتادَةَ، عَنْ شَيْخٍ مِن بَنِي قُرَيْظَةَ، قالَ: هَلْ تَدْرِي ما كانَ إسْلامُ أسَدٍ وثَعْلَبَةَ ابْنَيْ سُعْيَةَ وأسَدُ بْنُ عُبَيْدٍ، لَمْ يَكُونُوا مِن بَنِي قُرَيْظَةَ ولا النَّضِيرِ كانُوا فَوْقَ ذَلِكَ،
فَقُلْتُ: لا، قالَ: فَإنَّهُ قَدِمَ عَلَيْنا رَجُلٌ مِنَ الشّامِ مِن يَهُودَ، يُقالُ لَهُ: ابْنُ الهَيْبانِ فَأقامَ عِنْدَنا، واللَّهِ ما رَأيْنا رَجُلًا قَطُّ لا يُصَلِّي الخَمْسَ خَيْرًا مِنهُ، فَقَدِمَ عَلَيْنا قَبْلَ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِسَنَتَيْنِ، فَكُنّا إذا قَحَطْنا وقَلَّ عَنّا المَطَرُ نَقُولُ: يا ابْنَ الهَيْبانِ، اخْرُجْ فاسْتَقِ لَنا، فَيَقُولُ: لا واللَّهِ حَتّى تُقَدِّمُوا أمامَ مَخْرَجِكم صَدَقَةً، فَنَقُولُ: كَمْ؟ فَيَقُولُ صاعًا مِن تَمْرٍ، أوْ مُدَّيْنِ مِنَ الشَّعِيرِ، فَنُخْرِجُهُ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلى ظاهِرِ حَرَّتِنا ونَحْنُ مَعَهُ نَسْتَقِي، فَواللَّهِ ما يَقُومُ مِن مَجْلِسِهِ حَتّى نُمْطَرَ ونَمُرَّ بِالشِّعابِ، قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً ولا مَرَّتَيْنِ ولا ثَلاثَةً، فَحَضَرَتْهُ الوَفاةُ واجْتَمَعْنا إلَيْهِ، فَقالَ: يا مَعْشَرَ يَهُودَ! أتَرَوْنَ ما أخْرَجَنِي مِن أرْضِ الخَمْرِ والخَمِيرِ إلى أرْضِ البُؤْسِ والجُوعِ؟ قالُوا: أنْتَ أعْلَمُ، قالَ: فَإنِّي إنَّما خَرَجْتُ أتَوَقَّعُ خُرُوجَ نَبِيٍّ قَدْ أظَلَّ زَمانُهُ، هَذِهِ البِلادُ مُهاجَرُهُ، فاتَّبِعُوهُ ولا تُسْبَقُنَّ إلَيْهِ إذا خَرَجَ، يا مَعْشَرَ يَهُودَ، فَإنَّهُ يُبْعَثُ بِسَفْكِ الدِّماءِ وسَبْيِ الذَّرارِيِّ والنِّساءِ مِمَّنْ يُخالِفُهُ، فَلا يَمْنَعْكم ذَلِكَ مِنهُ، ثُمَّ ماتَ، فَلَمّا كانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي فُتِحَتْ فِيها قُرَيْظَةُ، قالَ أُولَئِكَ الثَّلاثَةُ الفِتْيَةُ وكانُوا شُبّانًا أحْداثًا: يا مَعْشَرَ يَهُودَ، إنَّهُ الَّذِي ذَكَرَ لَكُمُ ابْنُ الهَيْبانِ، فَقالُوا: ما هو بِهِ، قالُوا: بَلى واللَّهِ إنَّهُ لِصِفَتُهُ، ثُمَّ نَزَلُوا وأسْلَمُوا، وخَلَّوْا أمْوالَهم وأهْلِيهِمْ.
قالَ ابْنُ إسْحاقَ: وكانَتْ أمْوالُهم في الحِصْنِ مَعَ المُشْرِكِينَ فَلَمّا فُتِحَ رُدَّتْ عَلَيْهِمْ.
وَقالَ ابْنُ إسْحاقَ: حَدَّثَنِي صالِحُ بْنُ إبْراهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، قالَ: كانَ بَيْنَ أبْنائِنا يَهُودِيٌّ فَخَرَجَ عَلى نادِي قَوْمِهِ بَنِي عَبْدِ الأشْهَلِ ذاتَ غَداةٍ فَذَكَرَ البَعْثَ والقِيامَةَ والجَنَّةَ والنّارَ والحِسابَ والمِيزانَ، فَقالَ ذَلِكَ لِأصْحابِ وثَنٍ لا يَرَوْنَ أنَّ بَعْثًا كائِنًا بَعْدَ المَوْتِ، وذَلِكَ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ ﷺ، فَقالُوا: ويْحَكَ يا فُلانُ! وهَذا كائِنٌ، أنَّ النّاسَ يُبْعَثُونَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ إلى دارِكم فِيها جَنَّةٌ ونارٌ، ويُجْزَوْنَ مِن أعْمالِهِمْ؟! فَقالَ: نَعَمْ، والَّذِي يُحْلَفُ بِهِ، لَوَدِدْتُ أنَّ حَظِّي مِن تِلْكَ النّارِ أنْ تُوقِدُوا أعْظَمَ تَنُّورٍ في دارِكم تُحْمُونَهُ ثُمَّ تَقْذِفُونِي فِيهِ، وتُطْبِقُونَهُ عَلَيَّ، وإنِّي أنْجُو مِنَ النّارِ غَدًا، فَقِيلَ: يا فُلانُ، ما عَلامَةُ ذَلِكَ؟ قالَ: نَبِيٌّ يُبْعَثُ مِن ناحِيَةِ هَذِهِ البِلادِ وأشارَ بِيَدِهِ نَحْوَ مَكَّةَ واليَمَنِ، قالُوا: فَمَتى نَراهُ؟ فَرَمى بِطَرْفِهِ فَرَآنِي، وأنا مُضْطَجِعٌ بِفِناءِ بابِ أهْلِي، وأنا أحْدَثُ القَوْمِ، فَقالَ: إنْ يَسْتَنْفِذْ هَذا الغُلامُ عُمُرَهُ يُدْرِكْهُ، فَما ذَهَبَ اللَّيْلُ والنَّهارُ حَتّى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ وأنَّهُ لَحَيٌّ بَيْنَ أظْهُرِنا، فَآمَنّا بِهِ وصَدَّقْناهُ وكَفَرَ بِهِ بَغْيًا وحَسَدًا، فَقُلْنا: يا فُلانُ، ألَسْتَ قُلْتَ ما قُلْتَ، وأخْبَرْتَنا بِهِ؟! قالَ: لَيْسَ بِهِ ....
قالَ ابْنُ إسْحاقَ: وحَدَّثَنِي عاصِمُ بْنُ عُمَرَ، ... عَنْ قَتادَةَ، قالَ: حَدَّثَنِي أشْياخٌ مِنّا قالُوا: لَمْ يَكُنْ أحَدٌ مِنَ العَرَبِ أعْلَمَ بِشَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنّا، كانَ مَعَنا يَهُودُ وكانُوا أهْلَ كِتابٍ وكُنّا أصْحابَ وثَنٍ، وكُنّا بَلَغَنا مِنهم ما يَكْرَهُونَ، قالُوا إنَّ نَبِيًّا مَبْعُوثًا الآنَ قَدْ أظَلَّ زَمانُهُ نَتْبَعُهُ فَنَقْتُلُكم قَتْلَ عادٍ وإرَمَ، فَلَمّا بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ رَسُولَهُ ﷺ اتَّبَعْناهُ وكَفَرُوا بِهِ فَفِينا وفِيهِمْ أنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ وكانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهم ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلى الكافِرِينَ.
؎وَذَكَرَ الحاكِمُ وغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ أبِي نَجِيحٍ، ∗∗∗ عَنْ عَلِيٍّ الأزْدِيِّ، قالَ كانَتِ اليَهُودُ تَقُولُ:
اللَّهُمَّ ابْعَثْ لَنا هَذا النَّبِيَّ يَحْكُمُ بَيْنَنا وبَيْنَ النّاسِ ...
وَقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، ... عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: كانَتْ يَهُودُ خَيْبَرَ تُقاتِلُ غَطَفانَ، فَلَمّا التَقَوْا هُزِمَتْ يَهُودُ خَيْبَرَ، فَعاذَتِ اليَهُودُ بِهَذا الدُّعاءِ: اللَّهُمَّ إنّا نَسْألُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي وعَدْتَنا أنْ تُخْرِجَهُ لَنا في آخِرِ الزَّمانِ إلّا نَصَرْتَنا عَلَيْهِمْ، قالَ: فَكانُوا إذا التَقَوْا دَعَوْا بِهَذا الدُّعاءِ فَهَزَمُوا غَطَفانَ، فَلَمّا بُعِثَ النَّبِيُّ ﷺ كَفَرُوا بِهِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَكانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلى الَّذِينَ كَفَرُوا يَعْنِي بِكَ يا مُحَمَّدُ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلى الكافِرِينَ﴾.
يَسْتَفْتِحُونَ: أيْ يَسْتَنْصِرُونَ.
وَذَكَرَ الحاكِمُ وغَيْرُهُ أنَّ بَنِي النَّضِيرِ لَمّا أُجْلُوا مِنَ المَدِينَةِ أقْبَلَ عَمْرُو بْنُ سُعْدى فَأطافَ بِمَنازِلِهِمْ فَرَأى خَرابَها، فَفَكَّرَ ثُمَّ رَجَعَ إلى بَنِي قُرَيْظَةَ فَوَجَدَهم في الكَنِيسَةِ، فَنَفَخَ في بُوقِهِمْ فاجْتَمَعُوا، فَقالَ الزُّبَيْرُ بْنُ باطا: يا أبا سَعِيدٍ، أيْنَ كُنْتَ مُنْذُ اليَوْمِ فَلَمْ نَرَكْ - وكانَ لا يُفارِقُ الكَنِيسَةَ وكانَ يَتَألَّهُ في اليَهُودِيَّةِ، قالَ: رَأيْتُ اليَوْمَ عِبَرًا اعْتَبَرْنا بِها، رَأيْتُ إخْوانَنا قَدْ جُلُوا بَعْدَ ذَلِكَ العِزِّ والخُلْدِ والشَّرَفِ الفاضِلِ والعَقْلِ البارِعِ، قَدْ تَرَكُوا أمْوالَهم ومَلَكَها غَيْرُهُمْ، وخَرَجُوا خُرُوجَ ذُلٍّ، فَلا والتَّوْراةِ ما سُلِّطَ هَذا عَلى قَوْمٍ
قَطُّ لِلَّهِ فِيهِمْ حاجَةٌ، وقَدْ أوْقَعَ قَبْلَ ذَلِكَ بِابْنِ الأشْرَفِ في عِزَّةِ بُنْيانِهِ في بَيْتِهِ آمِنًا، وأوْقَعَ بِابْنِ شَيْبَةَ سَيِّدِهِمْ، وأوْقَعَ بِبَنِي قَيْنُقاعَ فَأجْلاهم وهم حُبْرُ يَهُودَ وكانُوا أهْلَ عُدَّةٍ وسِلاحٍ ونَجْدَةٍ - فَحَصَرَهم فَلَمْ يُخْرِجْ إنْسانٌ مِنهم رَأْسَهُ حَتّى سَباهُمْ، فَكُلِّمَ فِيهِمْ فَتَرَكَهم عَلى أنْ أجْلاهم مِن يَثْرِبَ. يا قَوْمِ، قَدْ رَأيْتُمْ ما رَأيْتُمْ فَأطِيعُونِي وتَعالَوْا نَتَّبِعْ مُحَمَّدًا، فَواللَّهِ إنَّكم لَتَعْلَمُونَ أنَّهُ نَبِيٌّ وقَدْ بَشَّرَنا بِهِ وبِأمْرِهِ ابْنُ الهَيْبانِ أبُو عُمَيْرٍ، وابْنُ حَوّاسٍ، وهُما أعْلَمُ يَهُودَ جاءا مِن بَيْتِ المَقْدِسِ يَتَوَكَّفانِ قُدُومَهُ، وأمَرانا بِاتِّباعِهِ وأمَرانا أنْ نُقْرِئَهُ مِنهُما السَّلامَ، ثُمَّ ماتا عَلى دِينِهِما، ودَفَنّاهُما بِحَرَّتِنا، فَأُسْكِتَ القَوْمُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ مِنهم مُتَكَلِّمٌ، فَأعادَ هَذا الكَلامَ ونَحْوَهُ، وخَوَّفَهم بِالحَرْبِ والسِّباءِ والجَلاءِ، فَقالَ الزُّبَيْرُ بْنُ باطا: قَدْ - والتَّوْراةِ - قَرَأْتُ صِفَتَهُ في كِتابِ التَّوْراةِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلى مُوسى، لَيْسَ في المَثانِي الَّتِي أحْدَثْنا، فَقالَ لَهُ كَعْبُ بْنُ أُسَيْدٍ: ما يَمْنَعُكَ يا أبا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنِ اتِّباعِهِ؟
قالَ: أنْتَ، قالَ: ولِمَ؟ فَوالتَّوْراةِ ما حُلْتُ بَيْنَكَ وبَيْنَهُ قَطُّ؟
قالَ الزُّبَيْرُ: أنْتَ صاحِبُ عَهْدِنا وعَقْدِنا، فَإنِ اتَّبَعْتَهُ اتَّبَعْناهُ، وإنْ أبَيْتَ أبَيْناهُ، فَأقْبَلَ عَمْرُو بْنُ سَعْدٍ عَلَيَّ فَذَكَرَ ما تَقاوَلا بِهِ في ذَلِكَ إلى أنْ قالَ كَعْبٌ: ما عِنْدِي في ذَلِكَ إلّا ما قُلْتُ، ما تَطِيبُ نَفْسِي أنْ أصِيرَ تابِعًا.
وَهَذا المانِعُ هو الَّذِي مَنَعَ فِرْعَوْنَ مِنِ اتِّباعِ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَإنَّهُ لَمّا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى عَزَمَ اتِّباعَ مُوسى، فَقالَ لَهُ وزِيرُهُ هامانُ: بَيْنا أنْتَ إلَهٌ تُعْبَدُ تُصْبِحُ تَعْبُدُ رَبًّا، تَعْبُدُ غَيْرَكَ، قالَ: صَدَقْتَ.
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرٍ، قالَ: حُدِّثْتُ ... عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أخْطَبَ، أنَّها قالَتْ: كُنْتُ أحَبَّ ولَدِ أبِي إلَيْهِ وإلى عَمِّي أبِي ياسِرٍ، فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المَدِينَةَ غَدَوْا عَلَيْهِ، ثُمَّ جاءا مِنَ العَشِيِّ، فَسَمِعْتُ عَمِّي يَقُولُ لِأبِي: أهُوَ هُوَ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: أتَعْرِفُهُ وتُثْبِتُهُ؟، قالَ نَعَمْ، قالَ: فَما في نَفْسِكَ مِنهُ، قالَ: عَدَواتُهُ واللَّهِ ما بَقِيتُ .... فَهَذِهِ الأُمَّةُ الغَضَبِيَّةُ مَعْرُوفَةٌ بِعَداوَةِ الأنْبِياءِ قَدِيمًا، وأسْلافُهم وأحْبارُهم قَدْ أخْبَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عَنْ أذاهم لِمُوسى، ونَهانا عَنِ التَّشَبُّهِ بِهِمْ في ذَلِكَ، فَقالَ: ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأهُ اللَّهُ مِمّا قالُوا وكانَ عِنْدَ اللَّهِ وجِيهًا.
وَأمّا خَلَفُهم فَهم قَتَلَةُ الأنْبِياءِ اليَهُودُ: قَتَلُوا زَكَرِيّا وابْنَهُ يَحْيى، وخَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الأنْبِياءِ، حَتّى قَتَلُوا في يَوْمٍ سَبْعِينَ نَبِيًّا، وأقامُوا السُّوقَ في آخِرِ النَّهارِ كَأنَّهم لَمْ يَصْنَعُوا شَيْئًا. واجْتَمَعُوا عَلى قَتْلِ المَسِيحِ وصَلْبِهِ فَصانَهُ اللَّهُ تَعالى وأكْرَمَهُ أنْ يُهِينَهُ عَلى أيْدِيهِمْ، وألْقى شَبَهَهُ عَلى غَيْرِهِ فَقَتَلُوهُ وصَلَبُوهُ. ورامُوا قَتْلَ خاتَمِ النَّبِيِّينَ مِرارًا عَدِيدَةً، واللَّهُ يَعْصِمُهُ مِنهم.
وَمَن كانَ هَذا شَأْنَهم لا يَكْثُرُ عَلَيْهِمُ اخْتِيارُ الكُفْرِ عَلى الإيمانِ لِسَبَبٍ مِنَ الأسْبابِ الَّتِي ذَكَرْنا بَعْضَها، أوْ سَبَبَيْنِ أوْ أكْثَرَ.
وَقَدْ ذَكَرْنا اتِّفاقَ أُمَّةِ الضَّلالِ وعُبّادِ الصَّلِيبِ عَلى مَسَبَّةِ رَبِّ العالَمِينَ أقْبَحَ مَسَبَّةٍ، وعَلى ما يُعْلَمُ بُطْلانُهُ مِن أوَّلِ وهْلَةٍ، لَمْ يَكْثُرْ عَلى تِلْكَ العُقُولِ السَّخِيفَةِ أنْ تَسُبَّ بَشَرًا أرْسَلَهُ اللَّهُ تَعالى، وتَجْحَدَ نُبُوَّتَهُ، وتُكابِرَ ما دَلَّ عَلَيْهِ صَرِيحُ العَقْلِ مِن صِدْقِهِ وصِحَّةِ رِسالَتِهِ، فَلَوْ قالُوا فِيهِ ما قالُوا لَمْ يَبْلُغْ بَعْضَ قَوْلِهِمْ في رَبِّ الأرْضِ والسَّماواتِ الَّذِي صارُوا فِيهِ ضِحْكَةً بَيْنَ جَمِيعِ بَنِي آدَمَ.
فَأُمَّةٌ أطْبَقَتْ عَلى أنَّ الإلَهَ الحَقَّ - سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يَقُولُونَ - صُلِبَ وصُفِعَ وسُمِّرَ ووُضِعَ الشَّوْكُ عَلى رَأْسِهِ، ودُفِنَ في التُّرابِ، ثُمَّ قامَ في اليَوْمِ الثّالِثِ وصَعِدَ وجَلَسَ عَلى كُرْسِيِّهِ يُدَبِّرُ أمْرَ السَّماواتِ والأرْضِ، لا يَكْثُرُ عَلَيْها أنْ تُطْبِقَ عَلى جَحْدِ نُبُوَّةِ مَن جاءَ بِسَبِّها ولَعْنِها ومُحارَبَتِها وإبْداءِ مَعايِبِها والنِّداءِ عَلى كُفْرِها بِاللَّهِ ورَسُولِهِ، والشَّهادَةِ عَلى بَراءَةِ المَسِيحِ مِنها، ومُعاداتِهِ لَها، ثُمَّ قاتَلَها وأذَلَّها وأخْرَجَها مِن دِيارِها وضَرَبَ عَلَيْها الجِزْيَةَ، وأخْبَرَ أنَّها مِن أهْلِ الجَحِيمِ خالِدَةً مُخَلَّدَةً لا يَغْفِرُ اللَّهُ لَها، وأنَّها شَرٌّ مِنَ الحَمِيرِ، بَلْ هي شَرُّ الدَّوابِّ عِنْدَ اللَّهِ.
وَكَيْفَ يُنْكَرُ عَلى أُمَّةٍ أطْبَقَتْ عَلى صَلْبِ مَعْبُودِها وإلَهِها، ثُمَّ عَمَدَتْ إلى الصَّلِيبِ فَعَبَدَتْهُ وعَظَّمَتْهُ، وكانَ يَنْبَغِي لَها أنْ تَحْرِقَ كُلَّ صَلِيبٍ تَقْدِرُ عَلى إحْراقِهِ، وأنْ تُهِينَهُ غايَةَ الإهانَةِ إذْ صَلَبَتْ عَلَيْهِ إلَهَها الَّذِي يَقُولُونَ تارَةً: إنَّهُ اللَّهُ، وتارَةً يَقُولُونَ إنَّهُ ابْنُهُ، وتارَةً يَقُولُونَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ؟ فَجَحَدَتْ حَقَّ خالِقِها وكَفَرَتْ بِهِ أعْظَمَ كُفْرٍ وسَبَّتْهُ أقْبَحَ مَسَبَّةٍ، أنْ تَجْحَدَ حَقَّ عَبْدِهِ ورَسُولِهِ وتَكْفُرَ بِهِ.
وَكَيْفَ يَكْثُرُ عَلى أُمَّةٍ قالَتْ في رَبِّ الأرْضِ والسَّماواتِ، إنَّهُ نَزَلَ مِنَ السَّماءِ لِيُكَلِّمَ الخَلْقَ بِذاتِهِ لِئَلّا يَكُونَ لَهم حُجَّةٌ عَلَيْهِ، فَأرادَ أنْ يَقْطَعَ حُجَّتَهم بِتَكَلُّمِهِ لَهم بِذاتِهِ؛ لِتَرْتَفِعَ المَعاذِيرُ عَمَّنْ ضَيَّعَ عَهْدَهُ بَعْدَ ما كَلَّمَهُ بِذاتِهِ؟ فَهَبَطَ بِذاتِهِ مِنَ السَّماءِ، والتَحَمَ في بَطْنِ مَرْيَمَ، فَأخَذَ مِنها حِجابًا، وهو مَخْلُوقٌ مِن طَرِيقِ الجِسْمِ، وخالِقٌ مِن طَرِيقِ النَّفْسِ، وهو الَّذِي خَلَقَ جِسْمَهُ وخَلَقَ أُمَّهُ، وأُمُّهُ كانَتْ قَبْلَهُ بِالنّاسُوتِ، وهو كانَ مِن قَبْلِها بِاللّاهُوتِ، وهو الإلَهُ التّامُّ، والإنْسانُ التّامُّ، ومِن تَمامِ رَحْمَتِهِ تَبارَكَ وتَعالى عَلى عِبادِهِ أنَّهُ رَضِيَ بِإراقَةِ دَمِهِ عَنْهم عَلى خَشَبَةِ الصَّلِيبِ، فَمَكَّنَ أعْداءَهُ اليَهُودَ مِن نَفْسِهِ؛ لِيَتِمَّ سُخْطُهُ عَلَيْهِمْ، فَأخَذُوهُ وصَلَبُوهُ وصَفَعُوهُ وبَصَقُوا في وجْهِهِ، وتَوَّجُوهُ بِتاجٍ مِنَ الشَّوْكِ عَلى رَأْسِهِ، وغارَ دَمُهُ في إصْبَعِهِ لِأنَّهُ لَوْ وقَعَ مِنهُ شَيْءٌ إلى الأرْضِ لَيَبِسَ كُلُّ ما في وجْهِها، فَثَبَتَ في مَوْضِعِ صَلْبِهِ النَّوّارُ.
وَلَمّا لَمْ يَكُنْ في الحِكْمَةِ الإلَهِيَّةِ أنْ يَنْتَقِمَ اللَّهُ مِن عَبْدِهِ العاصِي الَّذِي ظَلَمَهُ، واسْتَهانَ بِقَدْرِهِ، لِاعْتِلاءِ مَنزِلَةِ الرَّبِّ، وسُقُوطِ مَنزِلَةِ العَبْدِ، أرادَ سُبْحانَهُ أنْ يَنْتَصِفَ مِنَ الإنْسانِ الَّذِي هو إلَهٌ مِثْلُهُ، فانْتَصَفَ مِن خَطِيئَةِ آدَمَ بِصَلْبِ عِيسى المَسِيحِ، الَّذِي هو إلَهٌ مُساوٍ لَهُ في الإلَهِيَّةِ، فَصُلِبَ ابْنُ اللَّهِ الَّذِي هو اللَّهُ في السّاعَةِ التّاسِعَةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ. هَذِهِ ألْفاظُهم في كُتُبِهِمْ.
فَأُمَّةٌ أطْبَقَتْ عَلى هَذا في مَعْبُودِها، كَيْفَ يَكْثُرُ عَلَيْها أنْ تَقُولَ في عَبْدِهِ ورَسُولِهِ أنَّهُ ساحِرٌ وكاذِبٌ ومَلِكٌ مُسَلَّطٌ ونَحْوُ هَذا؟
وَلِهَذا قالَ بَعْضُ مُلُوكِ الهِنْدِ: أمّا النَّصارى فَإنْ كانَ أعْداؤُهم مِن أهْلِ المِلَلِ يُجاهِدُونَهم بِالشَّرْعِ فَأنا أرى جِهادَهم بِالعَقْلِ، وإنْ كُنّا لا نَرى قِتالَ أحَدٍ، لَكِنِّي أسْتَثْنِي هَؤُلاءِ القَوْمَ مِن جَمِيعِ العالَمِ، لِأنَّهم قَصَدُوا مُضادَّةَ العَقْلِ وناصَبُوهُ العَداوَةَ وشَذُّوا عَنْ جَمِيعِ مَصالِحِ العالَمِ الشَّرْعِيَّةِ والعَقْلِيَّةِ الواضِحَةِ، واعْتَقَدُوا كُلَّ مُسْتَحِيلٍ مُمْكِنًا، وبَنَوْا مِن ذَلِكَ شَرْعًا لا يُؤَدِّي إلى صَلاحِ نَوْعٍ مِن أنْواعِ العالَمِ، ولَكِنَّهُ يُصَيِّرُ العاقِلَ إذا شَرَعَ بِهِ أخْرَقَ، والرَّشِيدَ سَفِيهًا، والحَسَنَ قَبِيحًا، والقَبِيحَ حَسَنًا، لِأنَّ مَن كانَ في أصْلِ عَقِيدَتِهِ الَّتِي جَرى نَشْؤُهُ عَلَيْها الإساءَةُ إلى الخَلّاقِ، والنَّيْلُ مِنهُ، وسَبُّهُ أقْبَحَ مَسَبَّةٍ، ووَصْفُهُ بِما يُغَيِّرُ صِفاتِهِ الحُسْنى، وأخْلَقُ بِهِ أنْ يَسْتَهِلَّ الإساءَةَ إلى مَخْلُوقٍ، وأنْ يَصِفَهُ بِما يُغَيِّرُ صِفاتِهِ الجَمِيلَةَ.
وَلَوْ لَمْ تَجِبْ مُجاهَدَةُ هَؤُلاءِ القَوْمِ إلّا لِعُمُومِ أضْرارِهِمُ الَّتِي لا تُحْصى وُجُوهُهُ، كَما يَجِبُ قَتْلُ الحَيَوانِ المُؤْذِي بِطَبْعِهِ، لَكانُوا أهْلًا لِذَلِكَ.
والمَقْصُودُ أنَّ الَّذِي اخْتارُوا هَذِهِ المَقالَةَ في رَبِّ العالَمِينَ، عَلى تَعْظِيمِهِ وتَنْزِيهِهِ وإجْلالِهِ ووَصْفِهِ بِما يَلِيقُ بِهِ، الَّذِينَ اخْتارُوا الكُفْرَ بِعَبْدِهِ ورَسُولِهِ وجَحَدُوا نُبُوَّتَهُ، والَّذِينَ اخْتارُوا عِبادَةَ صُوَرٍ خَطُّوها بِأيْدِيهِمْ في الحِيطانِ، مُزَوَّقَةٍ بِالأحْمَرِ والأصْفَرِ والأزْرَقِ، لَوْ دَنَتْ مِنها الكِلابُ لَبالَتْ عَلَيْها، فَأعْطَوْها غايَةَ الخُضُوعِ والذُّلِّ والخُشُوعِ والبُكاءِ، وسَألُوها المَغْفِرَةَ والرَّحْمَةَ والرِّزْقَ والنَّصْرَ، هُمُ الَّذِينَ اخْتارُوا التَّكْذِيبَ بِخاتَمِ الرُّسُلِ عَلى الإيمانِ بِهِ وتَصْدِيقِهِ واتِّباعِهِ.
والَّذِينَ نَزَّهُوا مَطارِنَتَهم وبَتارِكَتَهم عَنِ الصّاحِبَةِ والوَلَدِ، ونَحَوْهُما لِلْفَرْدِ الصَّمَدِ، هُمُ الَّذِينَ أنْكَرُوا نُبُوَّةَ عَبْدِهِ وخاتَمِ رُسُلِهِ. والَّذِينَ اخْتارُوا صَلاةً يَقُومُ أعْبَدُهم وأزْهَدُهم إلَيْها، والبَوْلُ عَلى ساقِهِ وأفْخاذِهِ فَيَسْتَقْبِلُ الشَّرْقَ ثُمَّ يُصَلِّبُ عَلى وجْهِهِ، ويَعْبُدُ الإلَهَ المَصْلُوبَ، ويَسْتَفْتِحُ الصَّلاةَ بِقَوْلِهِ: يا أبانا أنْتَ الَّذِي في السَّماواتِ تَقَدَّسَ اسْمُكَ ولْيَأْتِ مُلْكُكَ ولْتَكُنْ إرادَتُكَ في السَّماءِ مِثْلَها في الأرْضِ أعْطِنا خُبْزَنا المُلائِمَ لَنا.
ثُمَّ يُحَدِّثُ إلى مَن هو إلى جانِبِهِ، ورُبَّما سَألَهُ عَنْ سِعْرِ الخَمْرِ والخِنْزِيرِ، وعَمّا كَسَبَ في القِمارِ، وعَمّا طَبَخَ في بَيْتِهِ، ورُبَّما أحْدَثَ وهو في صَلاتِهِ، ولَوْ أرادَ لَبالَ في مَوْضِعِهِ إنْ أمْكَنَهُ، ثُمَّ يَدْعُو تِلْكَ الصُّورَةَ الَّتِي هي صَنْعَةُ يَدِ الإنْسانِ.
فالَّذِينَ اخْتارُوا هَذِهِ الصَّلاةَ عَلى صَلاةِ مَن إذا قامَ إلى صَلاتِهِ طَهَّرَ أطْرافَهُ وثِيابَهُ وبَدَنَهُ مِنَ النَّجاسَةِ، واسْتَقْبَلَ بَيْتَهُ الحَرامَ، وكَبَّرَ اللَّهَ وحَمِدَهُ وسَبَّحَهُ، وأثْنى عَلَيْهِ بِما هو أهْلُهُ، ثُمَّ ناجاهُ بِكَلامِهِ المُتَضَمِّنِ لِأفْضَلِ الثَّناءِ عَلَيْهِ وتَحْمِيدِهِ وتَمْجِيدِهِ وتَوْحِيدِهِ، وإفْرادِهِ بِالعِبادَةِ والِاسْتِعانَةِ، وسُؤالِهِ أجَلَّ مَسْئُولٍ، وهو الهِدايَةُ إلى طَرِيقِ رِضاهُ، الَّتِي خَصَّ بِها مَن أنْعَمَ عَلَيْهِ دُونَ طَرِيقِ الأُمَّتَيْنِ: المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وهُمُ اليَهُودُ، والضّالِّينَ وهُمُ النَّصارى، ثُمَّ أعْطى كُلَّ جارِحَةٍ مِنَ الجَوارِحِ حَظَّها مِنَ الخُشُوعِ والخُضُوعِ والعُبُودِيَّةِ مَعَ غايَةِ التَّحْمِيدِ والثَّناءِ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ، لا يَلْتَفِتُ عَنْ مَعْبُودِهِ بِوَجْهِهِ، ولا قَلْبِهِ، ولا يُكَلِّمُ أحَدًا كَلِمَةً، بَلْ قَدْ فَرَّغَ قَلْبَهُ لِمَعْبُودِهِ، وأقْبَلَ عَلَيْهِ بِقَلْبِهِ ووَجْهِهِ، لا يُحْدِثُ في صَلاتِهِ، ولا يَجْعَلُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ صُورَةً مَصْنُوعَةً يَدْعُوها ويَتَضَرَّعُ إلَيْها. فالَّذِينَ اخْتارُوا تِلْكَ الصُّورَةَ الَّتِي هي في الحَقِيقَةِ اسْتِهْزاءٌ بِالمَعْبُودِ، لا يَرْضاها المَخْلُوقُ لِنَفْسِهِ، فَضْلًا أنْ يَرْضى بِها الخالِقُ عَلى هَذِهِ الصَّلاةِ، الَّتِي لَوْ عُرِضَتْ عَلى مَن لَهُ أدْنى مُسْكَةٍ مِن عَقْلٍ لَظَهَرَ لَهُ التَّفاوُتُ بَيْنَهُما. وهُمُ الَّذِينَ اخْتارُوا التَّكْذِيبَ بِخاتَمِ الرُّسُلِ مُحَمَّدٍ رَسُولِهِ وعَبْدِهِ عَلى الإيمانِ بِهِ وتَصْدِيقِهِ واتِّباعِهِ.
والعاقِلُ إذا وازَنَ بَيْنَ ما اخْتارُوا ورَغِبُوا فِيهِ، وبَيْنَ ما رَغِبُوا عَنْهُ، تَبَيَّنَ لَهُ أنَّ القَوْمَ اخْتارُوا الضَّلالَةَ عَلى الهُدى والغَيَّ عَلى الرَّشادِ، والقَبِيحَ عَلى الحَسَنِ، والباطِلَ عَلى الحَقِّ، وأنَّهُمُ اخْتارُوا مِنَ العَقائِدِ أبْطَلَها، ومِنَ الأعْمالِ أقْبَحَها وأطْبَقَ عَلى ذَلِكَ أساقِفَتُهم وبَتارِكَتُهم ورُهْبانُهم فَضْلًا عَنْ عَوامِّهِمْ.
* (فَصْلٌ)
وَلَمْ يَقُلْ أحَدٌ مِنَ المُسْلِمِينَ إنَّ مَن ذَكَرْتُمْ مِن صَغِيرٍ وكَبِيرٍ وذَكَرٍ وأُنْثى وحُرٍّ وعَبْدٍ وراهِبٍ وقِسِّيسٍ، كُلِّهِمْ تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى، بَلْ أكْثَرُهم جُهّالٌ بِمَنزِلَةِ الدَّوابِّ السّائِمَةِ، مُعْرِضُونَ عَنْ طَلَبِ الهُدى فَضْلًا عَنْ تَبْيِينِهِ لَهُمْ، وهم مُقَلِّدُونَ لِرُؤَسائِهِمْ وكُبَرائِهِمْ وعُلَمائِهِمْ - وهم أقَلُّ القَلِيلِ وهُمُ الَّذِينَ اخْتارُوا الكُفْرَ عَلى الإيمانِ بَعْدَ تَبَيُّنِ الهُدى.
وَأيُّ إشْكالٍ يَقَعُ لِلْعَقْلِ في ذَلِكَ؟ فَلَمْ يَزَلْ في النّاسِ مَن يَخْتارُهُ حَسَدًا مَعَ عِلْمِهِ بِبُطْلانِهِ كِبْرًا، والباطِلُ مِنهم يَخْتارُهُ جَهْلًا وتَقْلِيدًا لِمَن يُحْسِنُ الظَّنَّ بِهِ، ومِنهم مَن يَخْتارُهُ حَسَدًا وبَغْيًا، ومِنهم مَن يَخْتارُهُ طَمَعًا ورَغْبَةً في مَأْكَلٍ أوْ جاهٍ ورِئاسَةٍ، ومِنهم مَن يَخْتارُهُ مَحَبَّةً في صُورَةٍ وعِشْقًا، ومِنهم مَن يَخْتارُهُ خَشْيَةً، ومِنهم مَن يَخْتارُهُ عُلُوًّا، ومِنهم مَن يَخْتارُهُ راحَةً ودَعَةً، فَلَمْ تُحْصَرْ أسْبابُ اخْتِيارِ الكُفْرِ في حُبِّ الرِّئاسَةِ والمَأْكَلَةِ.
{"ayah":"إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَٱلَّذِینَ هَادُوا۟ وَٱلصَّـٰبِـِٔینَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ وَٱلۡمَجُوسَ وَٱلَّذِینَ أَشۡرَكُوۤا۟ إِنَّ ٱللَّهَ یَفۡصِلُ بَیۡنَهُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ شَهِیدٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق