الباحث القرآني

﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أيْ بِما ذُكِرَ مِنَ المُنَزَّلِ بِهِدايَةِ اللَّهِ تَعالى أوْ بِكُلِّ ما يَجِبُ أنْ يُؤْمَنَ بِهِ ويُدْخَلَ فِيهِ ما ذُكِرَ دُخُولًا أوَّلِيًّا ﴿والَّذِينَ هادُوا والصّابِئِينَ﴾ هم عَلى ما أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وغَيْرُهُ عَنْ قَتادَةَ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ المَلائِكَةَ ويُصَلُّونَ إلى القِبْلَةِ ويَقْرَؤُونَ الزَّبُورَ، وفي القامُوسِ هم قَوْمٌ يَزْعُمُونَ أنَّهم عَلى دِينِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ وقِبْلَتُهم مِن مَهَبِّ الشَّمالِ عِنْدَ مُنْتَصَفِ النَّهارِ، وفي كِتابِ المِلَلِ والنِّحَلِ لِلشِّهْرِسْتانِيِّ أنَّ الصّابِئَةَ كانُوا عَلى عَهْدِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ويُقالُ لِمُقابَلِيهِمُ الحُنَفاءُ وكانُوا يَقُولُونَ: إنّا نَحْتاجُ في مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى ومَعْرِفَةِ طاعَتِهِ وأمْرِهِ وأحْكامِهِ جَلَّ شَأْنُهُ إلى مُتَوَسِّطٍ رُوحانِيٍّ لا جُسْمانِيٍّ. ومَدارُ مَذاهِبِهِمْ عَلى التَّعَصُّبِ لِلرُّوحانِيّاتِ وكانُوا يُعَظِّمُونَها غايَةَ التَّعْظِيمِ ويَتَقَرَّبُونَ إلَيْها ولَمّا لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُمُ التَّقَرُّبُ إلى أعْيانِها والتَّلَقِّي مِنها بِذَواتِها فَزِعَتْ جَماعَةٌ إلى هَياكِلِها وهي السَّبْعُ السَّيّاراتُ وبَعْضُ الثَّوابِتِ، فَصابِئَةُ الرُّومِ مَفْزَعُها السَّيّاراتُ وصائِبَةُ الهِنْدِ مَفْزَعُها الثَّوابِتُ، ورُبَّما نَزَلُوا عَنِ الهَياكِلِ إلى الأشْخاصِ الَّتِي لا تَسْمَعُ ولا تُبْصِرُ ولا تُغْنِي شَيْئًا، والفِرْقَةُ الأُولى هم عَبَدَةُ الكَواكِبِ، والثّانِيَةُ هم عَبَدَةُ الأصْنامِ. وقَدْ أفْحَمَ (p-129)إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ كِلْتا الفِرْقَتَيْنِ وألْزَمَهُمُ الحُجَّةَ. وذُكِرَ في مَوْضِعٍ آخَرَ أنَّ ظُهُورَهم كانَ في أوَّلِ سَنَةٍ مِن مُلْكِ طَهْمُورَثَ مِن مُلُوكِ الفُرْسِ، ولَفْظُ الصّابِئَةِ عَرَبِيٌّ مِن صَبا كَمَنَعَ وكَرُمَ صَبًّا وصُبُوءًا خَرَجَ مِن دِينٍ إلى آخَرَ ﴿والنَّصارى والمَجُوسَ﴾ هم عَلى ما رُوِيَ عَنْ قَتادَةَ أيْضًا قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ والقَمَرَ والنِّيرانَ، واقْتَصَرَ بَعْضُهم عَلى وصْفِهِمْ بِعِبادَةِ الشَّمْسِ والقَمَرِ، وآخَرُونَ عَلى وصْفِهِمْ بِعِبادَةِ النِّيرانِ. وقِيلَ: هم قَوْمٌ اعْتَزَلُوا النَّصارى ولَبِسُوا المُسُوحَ. وقِيلَ: قَوْمٌ أخَذُوا مِن دِينِ النَّصارى شَيْئًا ومِن دِينِ اليَهُودِ شَيْئًا وهم قائِلُونَ بِأنَّ لِلْعالَمِ أصْلَيْنِ نُورًا وظُلْمَةً. وفي كِتابِ المِلَلِ والنِّحَلِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهم طَوائِفُ وأنَّهم كانُوا قَبْلَ اليَهُودِ والنَّصارى وأنَّهم يَقُولُونَ بِالشَّرائِعِ عَلى خِلافِ الصّابِئَةِ وأنَّ لَهم شُبْهَةَ كِتابٍ وأنَّهم يُعَظِّمُونَ النّارَ، وفِيهِ أنَّ بُيُوتَ النِّيرانِ لِلْمَجُوسِ كَثِيرَةٌ فَأوَّلُ بَيْتٍ بَناهُ أفْرِيدُونَ بَيْتُ نارٍ بِطُوسَ، وآخَرُ بِمَدِينَةِ بُخارى هو بَرْدَسُونَ، واتَّخَذَ بَهْمَنُ بَيْتًا بِسِجِسْتانَ يُدْعى كَرْكُو، ولَهم بَيْتُ نارٍ بِبُخارى أيْضًا يُدْعى قَبادانَ وبَيْتُ نارٍ يُسَمّى كُونَشَهْ بَيْنَ فارِسَ وأصْفَهانَ بَناهُ كِيخَسْرَدَ. وآخَرُ بِقُومَشَ يُسَمّى جَرِيرٌ. وبَيْتُ نارِ كَيْكَدَرَ بَناهُ في مَشْرِقِ الصِّينِ، وآخَرُ بِأرْجانَ مِن فارِسَ اتَّخَذَهُ أرْجانُ جَدُّ كَشْتاسِفَ، وكُلُّ هَذِهِ البُيُوتِ كانَتْ قَبْلَ زَرادُشْتَ. ثُمَّ جَدَّدَ زَرادُشْتُ بَيْتَ نارِ بَنِيسا بَعْدَ كَشْتاسِفَ أنْ تَطْلُبَ النّارُ الَّتِي كانَ يُعَظِّمُها جَمٌّ فَوَجَدُوها بِمَدِينَةِ خَوارِزْمَ فَنَقَلَها إلى دارابَجَرْدَ والمَجُوسُ يُعَظِّمُونَها أكْثَرَ مِن غَيْرِها وكَيْخَسَرْدَ، ولَمّا غَزا إفْراسِيابُ عَظَّمَها وسَجَدَ لَها. ويُقالُ: إنَّ أنُوشُرْوانَ هو الَّذِي نَقَلَها إلى كارَشانَ فَتَرَكُوا بَعْضَها هُناكَ وحَمَلُوا بَعْضَها إلى نَسا. وفي بِلادِ الرُّومِ عَلى بابِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ بَيْتُ نارٍ اتَّخَذَهُ شابُورُ بْنُ أزْدَشِيرَ فَلَمْ تَزَلْ كَذَلِكَ إلى أيّامِ المَهْدِيِّ. وبَيْتُ نارِ باسَفِيتا عَلى قُرْبِ مَدِينَةِ السَّلامِ لِبُورانَ بِنْتِ كِسْرى. وفي الهِنْدِ والصِّينِ بُيُوتُ نِيرانٍ أيْضًا والمَجُوسُ إنَّما يُعَظِّمُونَ النّارَ لَمَعانٍ. مِنها أنَّها جَوْهَرٌ شَرِيفٌ عُلْوِيٌّ يَظُنُّونَ أنَّ ذَلِكَ يُنْجِيهِمْ مِن عَذابِ نارِ يَوْمِ القِيامَةِ ولَمْ يَدْرُوا أنَّ ذَلِكَ السَّبَبُ الأعْظَمُ لِعَذابِهِمُ اهَـ. وفِيهِ ما لا يَخْفى عَلى مَن راجَعَ التَّوارِيخَ. وفي القامُوسِ مَجُوسٌ كَصَبُورٍ رَجُلٌ صَغِيرُ الأُذُنَيْنِ وضَعَ دِينًا ودَعا إلَيْهِ مُعَرَّبُ مِيخَ وكُوشَ. وفي الصِّحاحِ المَجُوسِيَّةُ نِحْلَةٌ والمَجُوسِيُّ نِسْبَةٌ إلَيْها والجَمْعُ المَجُوسُ. قالَ أبُو عَلِيٍّ النَّحْوِيُّ: المَجُوسُ واليَهُودُ إنَّما عُرِّفا عَلى حَدِّ يَهُودِيٍّ ويَهُودٍ ومَجُوسِيٍّ ومَجُوسٍ فَجُمِعَ عَلى قِياسِ شَعِيرَةٍ وشَعِيرٍ ثُمَّ عُرِّفَ الجَمْعُ بِالألِفِ واللّامِ ولَوْلا ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ دُخُولُ الألِفِ واللّامِ عَلَيْهِما لِأنَّهُما مَعْرِفَتانِ مُؤَنَّثانِ فَجَرَيا في كَلامِهِمْ مَجْرى القِبْلَتَيْنِ ولَمْ يُجْعَلا كالحَيَّيْنِ في بابِ الصَّرْفِ. وأنْشَدَ: ؎أحارِ أُرِيكَ بَرْقًا هَبَّ وهْنًا كَنارِ مَجُوسَ تَسْتَعِرُ اسْتِعارا انْتَهى. وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّ مَجُوسَ مُعَرَّبُ مُوكُوشَ وأُطْلِقَ عَلى أُولَئِكَ القَوْمِ لِأنَّهم كانُوا يُرْسِلُونَ شُعُورَ رُؤُوسِهِمْ إلى آذانِهِمْ. ونُقِلَ في البَحْرِ أنَّ المِيمَ بَدَلٌ مِنَ النُّونِ، وأُطْلِقَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لِاسْتِعْمالِهِمُ النَّجاساتِ وهو قَوْلٌ لا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ﴿والَّذِينَ أشْرَكُوا﴾ المَشْهُورُ أنَّهم عَبَدَةُ الأوْثانِ، وقِيلَ ما يَعُمُّهم وسائِرَ مَن عَبَدَ مَعَ اللَّهِ تَعالى إلَهًا آخَرَ مِن مَلَكٍ وكَوْكَبٍ وغَيْرِهِما مِمَّنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بِاسْمٍ خاصٍّ كالصّابِئَةِ والمَجُوسِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهم يَوْمَ القِيامَةِ﴾ في حَيِّزِ الرَّفْعِ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ لِأنَّ السّابِقَةَ وأُدْخِلَتْ إنَّ عَلى كُلِّ واحِدٍ مِن (p-130)جُزْأيِ الجُمْلَةِ لِزِيادَةِ التَّأْكِيدِ كَما في قَوْلِ جَرِيرٍ: ؎إنَّ الخَلِيفَةَ إنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ ∗∗∗ سِرْبالَ مُلْكٍ بِهِ تُزْجى الخَواتِيمُ وقِيلَ: خَبَرُ إنَّ الأُولى مَحْذُوفٌ أيْ مُفْتَرِقُونَ يَوْمَ القِيامَةِ أوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمّا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ﴾ إلَخْ فَإنَّ قَوْلَكَ: إنَّ زَيْدًا إنَّ عَمْرًا يَضْرِبُهُ رَدِيءٌ، والبَيْتُ لا يَتَعَيَّنُ فِيهِ جَعْلُ الجُمْلَةِ المُقْتَرِنَةِ بِإنَّ خَبَرًا بَلْ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً والخَبَرُ جُمْلَةُ بِهِ تُزْجى الخَواتِيمُ، ولا يَخْفى عَلَيْكَ بَعْدَ تَسْلِيمِ الرَّداءَةِ أنَّ الآيَةَ لَيْسَتْ كالمِثالِ المَذْكُورِ لِطُولِ الفاصِلِ فِيها، قالَ في البَحْرِ: وحُسْنُ دُخُولِ إنَّ في الجُمْلَةِ الواقِعَةِ خَبَرًا في الآيَةِ طُولُ الفَصْلِ بِالمَعاطِيفِ، وقالَ الزَّجّاجُ: زَعَمَ قَوْمٌ أنَّ قَوْلَكَ: إنَّ زَيْدًا إنَّهُ قائِمٌ رَدِيءٌ وأنَّ هَذِهِ الآيَةُ إنَّما صَلُحَتْ بِتَقَدُّمِ المَوْصُولِ ولا فَرْقَ بَيْنَ المَوْصُولِ وغَيْرِهِ في بابِ إنَّ ولَيْسَ بَيْنَ البَصْرِيِّينَ خِلافٌ في أنَّ إنَّ تَدْخُلُ عَلى كُلِّ مُبْتَدَأٍ وخَبَرٍ فَعَلى هَذا لا يَنْبَغِي العُدُولُ عَنِ الوَجْهِ المُتَبادَرِ، والمُرادُ بِالفَصْلِ القَضاءُ أيْ إنَّهُ تَعالى يَقْضِي بَيْنَ المُؤْمِنِينَ والفِرَقِ الخَمْسِ المُتَّفِقَةِ عَلى الكُفْرِ بِإظْهارِ المُحِقِّ مِنَ المُبْطِلِ وتَوْفِيَةِ كُلٍّ مِنهُما حَقَّهُ مِنَ الجَزاءِ بِإثابَةِ المُؤْمِنِينَ وعِقابِ الفِرَقِ الآخَرِينَ بِحَسَبِ اسْتِحْقاقِ أفْرادِ كُلٍّ مِنهُما، وقِيلَ: المُرادُ أنَّهُ تَعالى يَفْصِلُ بَيْنَ الفِرَقِ السِّتِّ في الأحْوالِ والأماكِنِ جَمِيعًا فَلا يُجازِيهِمْ جَزاءً واحِدًا بِلا تَفاوُتٍ بَلْ يَجْزِي المُؤْمِنِينَ بِما يَلِيقُ واليَهُودَ بِما يَلِيقُ بِهِمْ وهَكَذا ولا يَجْمَعُهم في مَوْطِنٍ واحِدٍ بَلْ يَجْعَلُ المُؤْمِنِينَ في الجَنَّةِ وكُلًّا مِنَ الفِرَقِ الكافِرَةِ في طَبَقَةٍ مِن طَبَقاتِ النّارِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ تَعْلِيلٌ لِما قَبْلَهُ مِنَ الفَصْلِ أيْ إنَّهُ تَعالى عالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ ومُراقِبٌ لِأحْوالِهِ ومِن قَضَيِّتِهِ الإحاطَةُ بِتَفاصِيلِ ما صَدَرَ عَنْ كُلِّ فَرْدٍ مِن أفْرادِ الفِرَقِ المَذْكُورَةِ وإجْراءُ جَزائِهِ اللّائِقِ بِهِ عَلَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب