الباحث القرآني
﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا والصّابِينَ والنَّصارى والمَجُوسَ والَّذِينَ أشْرَكُوا إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهم يَوْمَ القِيامَةِ إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٍ﴾
فَذْلَكَةٌ لِما تَقَدَّمَ؛ لِأنَّهُ لَمّا اشْتَمَلَتِ الآياتُ السّابِقَةُ عَلى بَيانِ أحْوالِ المُتَرَدِّدِينَ في قَبُولِ الإسْلامِ كانَ ذَلِكَ مَثارًا لِأنْ يُتَساءَلَ عَنْ أحْوالِ الفِرَقِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ في مُخْتَلَفِ الأدْيانِ. وأنْ يُسْألَ عَنِ الدِّينِ الحَقِّ لِأنَّ كُلَّ أُمَّةٍ تَدَّعِي أنَّها عَلى الحَقِّ وغَيْرَها عَلى الباطِلِ وتُجادِلُ في ذَلِكَ. فَبَيَّنَتْ هَذِهِ الآيَةُ أنَّ الفَصْلَ بَيْنَ أهْلِ الأدْيانِ فِيما اخْتَصَمُوا فِيهِ يَكُونُ يَوْمَ القِيامَةِ. إذْ لَمْ تَقُدْهُمُ الحُجَجُ في الدُّنْيا.
وهَذا الكَلامُ بِما فِيهِ مِن إجْمالٍ هو جارٍ مَجْرى التَّفْوِيضِ. ومِثْلُهُ يَكُونُ كِنايَةً عَنْ تَصْوِيبِ المُتَكَلِّمِ طَرِيقَتَهُ وتَخْطِئَتِهِ طَرِيقَةَ خَصْمِهِ؛ لِأنَّ مِثْلَ ذَلِكَ التَّفْوِيضِ لِلَّهِ لا يَكُونُ إلّا مِنَ الواثِقِ بِأنَّهُ عَلى الحَقِّ وهو كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿لَنا أعْمالُنا ولَكم أعْمالُكم لا حُجَّةَ بَيْنَنا وبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وإلَيْهِ المَصِيرُ﴾ [الشورى: ١٥] وذَلِكَ مِن قَبِيلِ الكِنايَةِ التَّعْرِيضِيَّةِ. وذِكْرُ المُؤْمِنِينَ واليَهُودِ والنَّصارى والصّابِئِينَ تَقَدَّمَ في آيَةِ البَقَرَةِ وآيَةِ العُقُودِ. (p-٢٢٣)وزادَ في هَذِهِ الآيَةِ ذِكْرَ المَجُوسِ والمُشْرِكِينَ، لِأنَّ الآيَتَيْنِ المُتَقَدِّمَتَيْنِ كانَتا في مَساقِ بَيانِ فَضْلِ التَّوْحِيدِ والإيمانِ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ في كُلِّ زَمانٍ وفي كُلِّ أُمَّةٍ. وزِيدَ في هَذِهِ السُّورَةِ ذِكْرُ المَجُوسِ والمُشْرِكِينَ لِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَسُوقَةٌ لِبَيانِ التَّفْوِيضِ إلى اللَّهِ في الحُكْمِ بَيْنَ أهْلِ المِلَلِ، فالمَجُوسُ والمُشْرِكُونَ لَيْسُوا مِن أهْلِ الإيمانِ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ.
فَأمّا المَجُوسُ فَهم أهْلُ دِينٍ يُثْبِتُونَ إلَهَيْنِ: إلَهًا لِلْخَيْرِ، وإلَهًا لِلشَّرِّ، وهم أهْلُ فارِسَ. ثُمَّ هي تَتَشَعَّبُ شُعَبًا تَأْوِي إلى هَذَيْنِ الأصْلَيْنِ. وأقْدَمُ النِّحَلِ المَجُوسِيَّةِ أسَّسَها ”كِيُومَرْث“ الَّذِي هو أوَّلُ مَلِكٍ بِفارِسَ في أزْمِنَةٍ قَدِيمَةٍ يُظَنُّ أنَّها قَبْلَ زَمَنِ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -، ولِذَلِكَ يُلَقَّبُ أيْضًا بِلَقَبِ ”جَل شاهْ“ تَفْسِيرُهُ: مَلِكُ الأرْضِ. غَيْرَ أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مَضْبُوطًا بِوَجْهٍ عِلْمِيٍّ وكانَ عَصْرُ ”كِيُومَرْث“ يُلَقَّبُ ”زُرْوان“ أيِ الأزَلَ، فَكانَ أصْلُ المَجُوسِيَّةِ هم أهْلُ الدِّيانَةِ المُسَمّاةِ: الزُّرْوانِيَّةُ، وهي تُثْبِتُ إلَهَيْنِ هُما ”يَزْدان“ و”أهْرُمُن“ . قالُوا: كانَ يَزْدانُ مُنْفَرِدًا بِالوُجُودِ الأزَلِيِّ، وأنَّهُ كانَ نُورانِيًّا، وأنَّهُ بَقِيَ كَذَلِكَ تِسْعَةَ آلافٍ وتِسْعِينَ سَنَةً ثُمَّ حَدَثَ لَهُ خاطِرٌ في نَفْسِهِ: أنَّهُ لَوْ حَدَثَ لَهُ مُنازِعٌ كَيْفَ يَكُونُ الأمْرُ فَنَشَأ مِن هَذا الخاطِرِ مَوْجُودٌ جَدِيدٌ ظُلْمانِيٌّ سُمِّيَ ”أهْرُمُن“ وهو إلَهُ الظُّلْمَةِ مَطْبُوعًا عَلى الشَّرِّ والضُّرِّ. وإلى هَذا أشارَ أبُو العَلاءِ المَعَرِّيُّ بِقَوْلِهِ في لُزُومِيّاتِهِ:
؎قالَ أُناسٌ باطِلٌ زَعْمُهم فَراقِبُوا اللَّهَ ولا تَزْعُمُنْ
؎فَكَّرَ يَزْدانُ عَلى غِرَّةٍ ∗∗∗ فَصِيغَ مِن تَفْكِيرِهِ أهْرُمُنْ
فَحَدَثَ بَيْنَ ”أهْرُمُن“ وبَيْنَ ”يَزْدان“ خِلافٌ ومُحارَبَةٌ إلى الأبَدِ. ثُمَّ نَشَأتْ عَلى هَذا الدِّينِ نِحَلٌ خُصَّتْ بِألْقابٍ وهي مُتَقارِبَةُ التَّعالِيمِ (p-٢٢٤)أشْهَرُها نِحْلَةُ ”زَرادَشْت“ الَّذِي ظَهَرَ في القَرْنِ السّادِسِ قَبْلَ مِيلادِ المَسِيحِ، وبِهِ اشْتُهِرَتِ المَجُوسِيَّةُ. وقَدْ سَمّى إلَهَ الخَيْرِ ”أهُورا مُزْدا“ أوْ ”أرْمُزْد“ أوْ ”هُرْمُزَ“، وسَمّى إلَهَ الشَّرِّ ”أهْرُمُن“، وجَعَلَ إلَهَ الخَيْرِ نُورًا، وإلَهَ الشَّرِّ ظُلْمَةً. ثُمَّ دَعا النّاسَ إلى عِبادَةِ النّارِ عَلى أنَّها مَظْهَرُ إلَهِ الخَيْرِ وهو النُّورُ، ووَسَّعَ شَرِيعَةَ المَجُوسِيَّةِ، ووَضَعَ لَها كِتابًا سَمّاهُ ”زَنْدافِسْتا“ . ومِن أُصُولِ شَرِيعَتِهِ تَجَنُّبُ عِبادَةِ التَّماثِيلِ. ثُمَّ ظَهَرَتْ في المَجُوسِ نِحْلَةُ ”المانَوِيَّةِ“ . وهي المَنسُوبَةُ إلى ”مانِي“ الَّذِي ظَهَرَ في زَمَنِ ”سابُور بْنِ أرْدِشِير“ مَلِكِ الفُرْسِ بَيْنَ سَنَةِ ٢٣٨ وسَنَةِ ٢٧١ م. وظَهَرَتْ في المَجُوسِ نِحْلَةُ ”المَزْدَكِيَّةِ“، وهي مَنسُوبَةٌ إلى ”مَزْدَك“ الَّذِي ظَهَرَ في زَمَنِ ”قُباذ“ بَيْنَ سَنَةِ ٤٨٧ وسَنَةِ ٥٢٣ م. وهي نِحْلَةٌ قَرِيبَةٌ مِنَ ”المانَوِيَّةِ“، وهي آخِرُ نِحْلَةٍ ظَهَرَتْ في تَطَوُّرِ المَجُوسِيَّةِ قَبْلَ الفَتْحِ الإسْلامِيِّ لِبِلادِ الفُرْسِ. ولِلْمَجُوسِيَّةِ شِبْهٌ في الأصْلِ بِالإشْراكِ إلّا أنَّها تُخالِفُهُ بِمَنعِ عِبادَةِ الأحْجارِ، وبَأنَّ لَها كِتابًا، فَأشْبَهُوا بِذَلِكَ أهْلَ الكِتابِ. ولِذَلِكَ قالَ النَّبِيءُ ﷺ فِيهِمْ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أهْلِ الكِتابِ» أيْ في الِاكْتِفاءِ بِأخْذِ الجِزْيَةِ مِنهم دُونَ الإكْراهِ عَلى الإسْلامِ كَما يُكْرَهُ المُشْرِكُونَ عَلى الدُّخُولِ في الإسْلامِ. وقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِن هَذا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ [النحل: ٥١] في سُورَةِ النَّحْلِ. وأُعِيدَتْ (إنَّ) في صَدْرَ الجُمْلَةِ الواقِعَةِ خَبَرًا عَنِ اسْمِ (إنَّ) الأُولى تَوْكِيدًا لَفْظِيًّا لِلْخَبَرِ لِطُولِ الفَصْلِ بَيْنَ اسْمِ (إنَّ) وخَبَرِها. وكَوْنِ (p-٢٢٥)خَبَرِها جُمْلَةً وهو تَوْكِيدٌ حَسَنٌ بِسَبَبِ طُولِ الفَصْلِ. وتَقَدَّمَ مِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ إنّا لا نُضِيعُ أجْرَ مَن أحْسَنَ عَمَلًا﴾ [الكهف: ٣٠] في سُورَةِ الكَهْفِ. وإذا لَمْ يَطُلِ الفَصْلُ فالتَّوْكِيدُ بِإعادَةِ (إنَّ) أقَلُّ حُسْنًا كَقَوْلِ جَرِيرٍ:
؎إنَّ الخَلِيفَةَ إنَّ اللَّهَ سَرْبَلَهُ ∗∗∗ سِرْبالَ مَلَكٍ بِهِ تُزْجى الخَواتِيمُ
ولا يَحْسُنُ إذا كانَ مُبْتَدَأُ الجُمْلَةِ الواقِعَةِ خَبَرًا ضَمِيرَ اسْمِ (إنَّ) الأُولى كَما تَقُولُ إنَّ زَيْدًا إنَّهُ قائِمٌ. بَلْ لابُدَّ مِنَ الِاخْتِلافِ لِيَكُونَ المُؤَكَّدُ الثّانِي غَيْرَ الأوَّلِ فَتُقْبَلُ إعادَةُ المُؤَكَّدِ وإنْ كانَ المُؤَكَّدُ الأوَّلُ كافِيًا.
والفَصْلُ: الحُكْمُ، أيْ يَحْكُمُ بَيْنَهم فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ مِن تَصْحِيحِ الدِّيانَةِ.
وجُمْلَةُ ﴿إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا ابْتِدائِيًّا لِلْإعْلامِ بِإحاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِأحْوالِهِمْ واخْتِلافِهِمْ والصَّحِيحُ مِن أقْوالِهِمْ.
{"ayah":"إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَٱلَّذِینَ هَادُوا۟ وَٱلصَّـٰبِـِٔینَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ وَٱلۡمَجُوسَ وَٱلَّذِینَ أَشۡرَكُوۤا۟ إِنَّ ٱللَّهَ یَفۡصِلُ بَیۡنَهُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ شَهِیدٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق