الباحث القرآني
وإعراضه عن ذكره يتناول إعراضه عن الذكر الذي أنزله، وهو أن يذكر الذي أنزله في كتابه وهو المراد بتناول إعراضه عن أن يذكر ربه بكتابه وأسمائه وصفاته وأوامره وآلائه ونعمه، فإن هذه كلها توابع إعراضه عن كتاب ربه تعالى، فإن الذكر في الآية إما مصدر مضاف إلى الفاعل أو مضاف إضافة الأسماء المحضة، أعرض عن كتابي ولم يتله ولم يتدبره ولم يعمل به ولا فهمه، فإن حياته ومعيشته لا تكون إلا مضيقة عليه منكدة معذبًا فيها.
والضنك الضيق والشدة والبلاء.
ووصف المعيشة نفسها بالضنك مبالغة، وفسرت هذه المعيشة بعذاب البرزخ، والصحيح أنها تتناول معيشته في الدنيا وحاله في البرزخ، فإنه يكون في ضنك في الدارين، وهو شدة وجهد وضيق.
وقال في المدارج:
وَفُسِّرَتِ المَعِيشَةُ الضَّنْكُ بِعَذابِ القَبْرِ، والصَّحِيحُ أنَّها في الدُّنْيا وفي البَرْزَخِ، فَإنَّ مَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ الَّذِي أنْزَلَهُ، فَلَهُ مِن ضِيقِ الصَّدْرِ، ونَكَدِ العَيْشِ، وكَثْرَةِ الخَوْفِ، وشِدَّةِ الحِرْصِ والتَّعَبِ عَلى الدُّنْيا، والتَّحَسُّرِ عَلى فَواتِها قَبْلَ حُصُولِها وبَعْدَ حُصُولِها، والآلامِ الَّتِي في خِلالِ ذَلِكَ ما لا يَشْعُرُ بِهِ القَلْبُ، لِسَكْرَتِهِ، وانْغِماسِهِ في السُّكْرِ، فَهو لا يَصْحُو ساعَةً إلّا أحَسَّ وشَعَرَ بِهَذا الألَمِ، فَبادَرَ إلى إزالَتِهِ بِسُكْرٍ ثانٍ، فَهو هَكَذا مُدَّةَ حَيّاتِهِ، وأيُّ عِيشَةٍ أضْيَقُ مِن هَذِهِ لَوْ كانَ لِلْقَلْبِ شُعُورٌ؟
فَقُلُوبُ أهْلِ البِدَعِ، والمُعْرِضِينَ عَنِ القُرْآنِ، وأهْلِ الغَفْلَةِ عَنِ اللَّهِ، وأهْلِ المَعاصِي في جَحِيمٍ قَبْلَ الجَحِيمِ الأكْبَرِ، وقُلُوبُ الأبْرارِ في نَعِيمٍ قَبْلَ النَّعِيمِ الأكْبَرِ ﴿إنَّ الأبْرارَ لَفي نَعِيمٍ وإنَّ الفُجّارَ لَفي جَحِيمٍ﴾ [الانفطار: ١٣] هَذا في دُورِهِمُ الثَّلاثِ، لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالدّارِ الآخِرَةِ، وإنْ كانَ تَمامُهُ وكَمالُهُ وظُهُورُهُ: إنَّما هو في الدّارِ الآخِرَةِ، وفي البَرْزَخِ دُونَ ذَلِكَ، كَما قالَ تَعالى ﴿وَإنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذابًا دُونَ ذَلِكَ﴾ [الطور: ٤٧] وقالَ تَعالى ﴿وَيَقُولُونَ مَتى هَذا الوَعْدُ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ عَسى أنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ﴾ [النمل: ٧١]
وَفِي هَذِهِ الدّارِ دُونَ ما في البَرْزَخِ، ولَكِنْ يَمْنَعُ مِنَ الإحْساسِ بِهِ الِاسْتِغْراقُ في سَكْرَةِ الشَّهَواتِ، وطَرْحُ ذَلِكَ عَنِ القَلْبِ، وعَدَمُ التَّفَكُّرِ فِيهِ.
والعَبْدُ قَدْ يُصِيبُهُ ألَمٌ حِسِّيٌّ فَيَطْرَحُهُ عَنْ قَلْبِهِ، ويَقْطَعُ التِفاتَهُ عَنْهُ، ويَجْعَلُ إقْبالَهُ عَلى غَيْرِهِ، لِئَلّا يَشْعُرَ بِهِ جُمْلَةً، فَلَوْ زالَ عَنْهُ ذَلِكَ الِالتِفاتُ، لَصاحَ مِن شِدَّةِ الألَمِ، فَما الظَّنُّ بِعَذابِ القُلُوبِ وآلامِها؟!.
* (فائدة)
قال ابن عباس تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ هذه الآية.
وقوله: ﴿وَمَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾ يتناول الذكر الذي أنزله وهو الهدى الذي جاءت به الرسل ويدل عليه سياق الكلام وهو قوله ﴿كَذَلِكَ أتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها﴾
فهذا هو الإعراض عن ذكره فإذا كان هذا حال المعرض عنه فكيف حال المعارض له بعقله أو عقل من قلده وأحسن الظن به فكما أنه لا يكون مؤمنا إلا من قبله وانقاد له فمن أعرض عنه وعارضه من أبعد الناس عن الإيمان به.
* (لطيفة)
قوله تعالى: ﴿وَمَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى﴾
وصفه بالعمى الذي هو ضد الهدى وبالمعيشة الضنك التي هي ضد السعادة، فكتاب الله أوله هداية وآخره سعادة، وكلام المعارضين له بمعقولهم أوله ضلال، وآخره شقاوة.
* (فصل)
لما أخبر سبحانه عن حال من اتبع هداه وماله من الرغد وطيب الحياة في معاشه ومعاده أخبر عن حال من أعرض عن الهدى ولم يتبعه، فقال: ﴿وَمَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ أي عن الذكر الذي أنزلته، فالذكر هنا مصدر مضاف إلى الفاعل، كقيامي وقراءتي، لا إلى المفعول، وليس المعنى: ومن أعرض عن أن يذكرني، بل هذا لازم المعنى ومقتضاه من وجه آخر سنذكره.
وأحسن من هذا الوجه: أن يقال: الذكر هاهنا مضاف إضافة الأسماء، لا إضافة المصادر إلى معمولاتها.
والمعنى: ومن أعرض عن كتابي ولم يتبعه، فإن القرآن يسمى ذكرا، قال تعالى: ﴿وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أنْزَلْناهُ﴾
وقال تعالى: ﴿ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآياتِ والذِّكْرِ الحَكِيمِ﴾ وقال تعالى: ﴿وَما هو إلّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ﴾ وقال تعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمّا جاءَهم وإنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ﴾
وقال تعالى: ﴿إنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالغَيْبِ﴾ وأمثالها كثير.
فإضافته كإضافة الأسماء الجوامد التي يقصد بها إضافة العامل إلى معموله.
ونظيره في إضافة اسم الفاعل قوله: ﴿غافِرِ الذَّنْبِ وقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقابِ﴾ فإن هذه الإضافات لا يقصد بها قصد الفعل المتجدد، وإنما قصد بها قصد الوصف الثابت اللازم، ولذلك أرت أوصافا على أعرف المعارف، وهو اسم الله تعالى في قوله: ﴿تَنْزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ العَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إلهَ إلّا هو إلَيْهِ المَصِيرُ﴾.
* (فصل)
وَفُسِّرَتِ المَعِيشَةُ الضَّنْكُ بِعَذابِ القَبْرِ، ولا رَيْبَ أنَّهُ مِنَ المَعِيشَةِ الضَّنْكِ، والآيَةُ تَتَناوَلُ ما هو أعَمُّ مِنهُ، وإنْ كانَتْ نَكِرَةً في سِياقِ الإثْباتِ، فَإنَّ عُمُومَها مِن حَيْثُ المَعْنى، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ رَتَّبَ المَعِيشَةَ الضَّنْكَ عَلى الإعْراضِ عَنْ ذِكْرِهِ، فالمُعْرِضُ عَنْهُ لَهُ مِن ضَنْكِ المَعِيشَةِ بِحَسَبِ إعْراضِهِ، وإنْ تَنَعَّمَ في الدُّنْيا بِأصْنافِ النِّعَمِ، فَفي قَلْبِهِ مِنَ الوَحْشَةِ والذُّلِّ والحَسَراتِ الَّتِي تَقْطَعُ القُلُوبَ، والأمانِي الباطِلَةِ والعَذابِ الحاضِرِ ما فِيهِ، وإنَّما يُوارِيهِ عَنْهُ سَكَراتُ الشَّهَواتِ والعِشْقِ وحُبِّ الدُّنْيا والرِّياسَةِ، وإنْ لَمْ يَنْضَمَّ إلى ذَلِكَ سُكْرُ الخَمْرِ، فَسُكْرُ هَذِهِ الأُمُورِ أعْظَمُ مِن سُكْرِ الخَمْرِ، فَإنَّهُ يَفِيقُ صاحِبُهُ ويَصْحُو، وسُكْرُ الهَوى وحُبِّ الدُّنْيا لا يَصْحُو صاحِبُهُ إلّا إذا كانَ صاحِبُهُ في عَسْكَرِ الأمْواتِ، فالمَعِيشَةُ الضَّنْكُ لازِمَةٌ لِمَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ الَّذِي أنْزَلَهُ عَلى رَسُولِهِ ﷺ في دُنْياهُ وفي البَرْزَخِ ويَوْمَ مَعادِهِ، ولا تَقَرُّ العَيْنُ، ولا يَهْدَأُ القَلْبُ، ولا تَطْمَئِنُّ النَّفْسُ إلّا بِإلَهِها ومَعْبُودِها الَّذِي هو حَقٌّ، وكُلُّ مَعْبُودٍ سِواهُ باطِلٌ، فَمَن قَرَّتْ عَيْنُهُ بِاللَّهِ قَرَّتْ بِهِ كُلُّ عَيْنٍ، ومَن لَمْ تَقَرَّ عَيْنُهُ بِاللَّهِ تَقَطَّعَتْ نَفْسُهُ عَلى الدُّنْيا حَسَراتٍ، واللَّهُ تَعالى إنَّما جَعَلَ الحَياةَ الطَّيِّبَةَ لِمَن آمَنَ بِهِ وعَمِلَ صالِحًا، كَما قالَ تَعالى: ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهو مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ولَنَجْزِيَنَّهم أجْرَهم بِأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧].
فَضَمِنَ لِأهْلِ الإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ الجَزاءَ في الدُّنْيا بِالحَياةِ الطَّيِّبَةِ، والحُسْنى يَوْمَ القِيامَةِ، فَلَهم أطْيَبُ الحَياتَيْنِ، فَهم أحْياءٌ في الدّارَيْنِ.
* (فصل آخر)
قوله تعالى: ﴿فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ فسره غير واحد من السلف بعذاب القبر، وجعلوا هذه الآية أحد الأدلة الدالة على عذاب القبر، ولهذا قال: ﴿نَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمى وقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قالَ: كَذلِكَ أتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وكَذلِكَ اليَوْمَ تُنْسى﴾
أي تترك في العذاب، كما تركت العمل بآياتنا. فذكر عذاب البرزخ وعذاب دار البوار.
ونظيره قوله تعالى في حق آل فرعون ﴿النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وعَشِيًّا فهذا في البرزخ {وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أشَدَّ العَذابِ﴾ فهذا في القيامة الكبرى.
ونظيره قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرى إذِ الظّالِمُونَ في غَمَراتِ المَوْتِ والمَلائِكَةُ باسِطُوا أيْدِيهِمْ أخْرِجُوا أنْفُسَكُمُ، اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلى اللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ وكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ فقول الملائكة «اليوم تجزون عذاب الهون» المراد به: عذاب البرزخ الذي أوله يوم القبض والموت.
ونظيره قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرى إذْ يَتَوَفّى الَّذِينَ كَفَرُوا المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهم وأدْبارَهم وذُوقُوا عَذابَ الحَرِيقِ﴾
فهذه الإذاقة هي في البرزخ. وأولها حين الوفاة فإنه معطوف على قوله: ﴿يَضْرِبُونَ وُجُوهَهم وأدْبارَهُمْ﴾ وهو من القول المحذوف مقوله لدلالة الكلام عليه. كنظائره.
وكلاهما واقع وقت الوفاة وفي الصحيح عن البراء بن عازب رضي الله عنه «١» في قوله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثّابِتِ في الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ﴾
قال «نزلت في عذاب القبر» والأحاديث في عذاب القبر تكاد تبلغ حد التواتر.
والمقصود: أن الله سبحانه أخبر أن من أعرض عن ذكره - وهو الهدى الذي من اتبعه لا يضل ولا يشقى - فإن له معيشة ضنكا. وتكفل لمن حفظ عهده أن يحييه حياة طيبة، ويجزيه أجره في الآخرة. فقال تعالى: ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهو مُؤْمِنٌ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً. ولَنَجْزِيَنَّهم أجْرَهم بِأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
فأخبر سبحانه عن فلاح من تمسك بعهده علما وعملا في العاجلة بالحياة الطيبة وفي الآخرة بأحسن الجزاء. وهذا بعكس من له المعيشة الضنك في الدنيا والبرزخ ونسيانه في العذاب بالآخرة.
وقال سبحانه: ﴿وَمَن يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطانًا فَهو لَهُ قَرِينٌ وإنَّهم لَيَصُدُّونَهم عَنِ السَّبِيلِ ويَحْسَبُونَ أنَّهم مُهْتَدُونَ﴾
فأخبر سبحانه أن من ابتلاه بقرينه من الشياطين وضلاله به إنما كان بسبب إعراضه وعشوه عن ذكره الذي أنزله على رسوله. فكان عقوبة هذا الأعراض أن قيض له شيطانا يقارنه، فيصده عن سبيل ربه، وطريق فلاحه.
وهو يحسب أنه مهتد، حتى إذا وافى ربه يوم القيامة مع قرينة، وعاين هلاكه وإفلاسه. قال: ﴿يا لَيْتَ بَيْنِي وبَيْنَكَ بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ القَرِينُ﴾.
وكل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله فلا بد أن يقول هذا يوم القيامة.
فإن قيل: فهل لهذا عذر في ضلاله؟ إذ كان يحسب أنه على هدى، كما قال تعالى: ﴿وَيَحْسَبُونَ أنَّهم مُهْتَدُونَ﴾.
قيل: لا عذر لهذا لا لأمثاله من الضلال الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به رسول الله ﷺ. ولو ظن أنه مهتد. فإنه مفرط بإعراضه عن اتباع داعي الهدى. فإذا ضل فإنما أتى من تفريطه وإعراضه.
وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة، وعجزه عن الوصول إليها.
فذاك له حكم آخر. والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول.
وأما الثاني: فإن الله لا يعذب أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه، كما قال تعالى: ﴿وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾
وقال تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾
وقال تعالى في أهل النار: ﴿وَما ظَلَمْناهم ولكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمِينَ﴾
وقال تعالى: ﴿أنْ تَقُولَ نَفْسٌ: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ في جَنْبِ اللَّهِ وإنْ كُنْتُ لَمِنَ السّاخِرِينَ أوْ تَقُولَ لَوْ أنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ المُتَّقِينَ. أوْ تَقُولَ حِينَ تَرى العَذابَ: لَوْ أنَّ لِي كَرَّةً فَأكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ. بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها واسْتَكْبَرْتَ وكُنْتَ مِنَ الكافِرِينَ﴾
وهذا كثير في القرآن.
* (فصل: خلق بدن ابْن آدم من الأرْض وروحه من ملكوت السَّماء وقرن بَينهما)
فَإذا أجاع بدنه وأسهره وأقامه في الخدمَة وجدت روحه خفَّة وراحة فتاقت إلى الموضع الَّذِي خلقت مِنهُ واشتاقت إلى عالمها العلوِي وإذا أشبعه ونعّمه ونومه واشتغل بخدمته وراحته أخلد البدن إلى الموضع الَّذِي خلق مِنهُ فانجذبت الرّوح مَعَه فَصارَت في السجْن فلولا أنَّها ألفت السجْن لاستغاثت من ألم وفارقتها وانقطاعها عَن عالمها الَّذِي خلقت مِنهُ كَما يستغيث المعذّب
وَبِالجُمْلَةِ فَكلما خف البدن لطفت الرّوح وخفت وطلبت عالمها العلوِي وكلما ثقل وأخلد إلى الشَّهَوات والراحة ثقلت الرّوح وهبطت من عالمها وصارَت أرضية سفليّة فترى الرجل روحه في الرفيق الأعْلى وبدنه عنْدك فَيكون نائِما على فراشه وروحه عند سِدْرَة المُنْتَهى تجول حول العَرْش، وآخر واقِف في الخدمَة بِبدنِهِ وروحه في السّفل تجول حول السفليات فَإذا فارَقت الرّوح البدن التحقت برفيقها الأعْلى أو الأدْنى فَعِنْدَ الرفيق الأعْلى كل قرّة عين وكل نعيم وسرور وبهجة ولَذَّة وحياة طيبَة وعند الرفيق الأسْفَل كل هم وغم وضيق وحزن وحياة نكدة ومعيشة ضنك قالَ تَعالى ﴿وَمَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ معيشة ضنكا﴾
فذِكْره كَلامه الَّذِي أنزلهُ على رَسُوله والإعراض عَنهُ ترك تدبره والعَمَل بِهِ والمعيشة الضنك فَأكْثر ما جاءَ في التَّفْسِير أنَّها عَذاب القَبْر قالَه ابْن مَسْعُود وأبُو هُرَيْرَة وأبُو سعيد الخُدْرِيّ وابْن عَبّاس وفِيه حَدِيث مَرْفُوع وأصل الضنك في اللُّغَة الضّيق والشدة وكل ما ضاقَ فَهو ضنك يُقال منزل ضنك وعيش الضنك فَهَذِهِ المَعيشَة الضنك في مُقابلَة التوسيع على النَّفس والبدن بالشهوات واللَّذّات والراحة فَإن النَّفس كلما وسعت عَلَيْها ضيّقت على القلب حَتّى تصير معيشة ضنكا وكلما ضيّقت عَلَيْها وسعت على القلب حَتّى ينشرح وينفسخ فضنك المَعيشَة في الدُّنْيا بِمُوجب التَّقْوى سعتها في البرزخ والآخِرَة وسعة المَعيشَة في الدُّنْيا بِحكم الهوى ضنكها في البرزخ والآخِرَة فآثر أحسن المعيشتين وأطيبهما وأدومهما وأشق البدن بنعيم الرّوح ولا تشق الرّوح بنعيم البدن فَإن نعيم الرّوح وشقاءها أعظم وأدوم ونعيم البدن وشقاؤه أقصر وأهون. والله المُسْتَعان.
* [فَصْلٌ: مِن آثارِ المَعاصِي]
وَلِلْمَعاصِي مِنَ الآثارِ القَبِيحَةِ المَذْمُومَةِ، المُضِرَّةِ بِالقَلْبِ والبَدَنِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ ما لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ.
فَمِنها: حِرْمانُ العِلْمِ، فَإنَّ العِلْمَ نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ في القَلْبِ، والمَعْصِيَةُ تُطْفِئُ ذَلِكَ النُّورَ.
وَلَمّا جَلَسَ الإمامُ الشّافِعِيُّ بَيْنَ يَدَيْ مالِكٍ وقَرَأ عَلَيْهِ أعْجَبَهُ ما رَأى مِن وُفُورِ فِطْنَتِهِ، وتَوَقُّدِ ذَكائِهِ، وكَمالِ فَهْمِهِ، فَقالَ: إنِّي أرى اللَّهَ قَدْ ألْقى عَلى قَلْبِكَ نُورًا، فَلا تُطْفِئْهُ بِظُلْمَةِ المَعْصِيَةِ.
وَقالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
؎شَكَوْتُ إلى وكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي ∗∗∗ فَأرْشَدَنِي إلى تَرْكِ المَعاصِي
؎وَقالَ اعْلَمْ بِأنَّ العِلْمَ فَضْلٌ ∗∗∗ وفَضْلُ اللَّهِ لا يُؤْتاهُ عاصِي
وَمِنها: حِرْمانُ الرِّزْقِ، وفي المُسْنَدِ: «إنَّ العَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» وقَدْ تَقَدَّمَ، وكَما أنَّ تَقْوى اللَّهِ مَجْلَبَةٌ لِلرِّزْقِ فَتَرْكُ التَّقْوى مَجْلَبَةٌ لِلْفَقْرِ، فَما اسْتُجْلِبَ رِزْقُ اللَّهِ بِمِثْلِ تَرْكِ المَعاصِي.
وَمِنها: وحْشَةٌ يَجِدُها العاصِي في قَلْبِهِ بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ لا تُوازِنُها ولا تُقارِنُها لَذَّةٌ أصْلًا، ولَوِ اجْتَمَعَتْ لَهُ لَذّاتُ الدُّنْيا بِأسْرِها لَمْ تَفِ بِتِلْكَ الوَحْشَةِ، وهَذا أمْرٌ لا يَحِسُّ بِهِ إلّا مَن في قَلْبِهِ حَياةٌ، وما لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إيلامٌ، فَلَوْ لَمْ تُتْرَكِ الذُّنُوبُ إلّا حَذَرًا مِن وُقُوعِ تِلْكَ الوَحْشَةِ، لَكانَ العاقِلُ حَرِيًّا بِتَرْكِها.
وَشَكا رَجُلٌ إلى بَعْضِ العارِفِينَ وحْشَةً يَجِدُها في نَفْسِهِ فَقالَ لَهُ:
؎إذا كُنْتَ قَدْ أوْحَشَتْكَ الذُّنُوبُ ∗∗∗ فَدَعْها إذا شِئْتَ واسْتَأْنِسِ
وَلَيْسَ عَلى القَلْبِ أمَرُّ مِن وحْشَةِ الذَّنْبِ عَلى الذَّنْبِ، فاللَّهُ المُسْتَعانُ.
وَمِنها: الوَحْشَةُ الَّتِي تَحْصُلُ لَهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ النّاسِ، ولاسِيَّما أهْلُ الخَيْرِ مِنهُمْ، فَإنَّهُ يَجِدُ وحْشَةً بَيْنَهُ وبَيْنَهُمْ، وكُلَّما قَوِيَتْ تِلْكَ الوَحْشَةُ بَعُدَ مِنهم ومِن مُجالَسَتِهِمْ، وحُرِمَ بَرَكَةَ الِانْتِفاعِ بِهِمْ، وقَرُبَ مِن حِزْبِ الشَّيْطانِ، بِقَدْرِ ما بَعُدَ مِن حِزْبِ الرَّحْمَنِ، وتَقْوى هَذِهِ الوَحْشَةُ حَتّى تَسْتَحْكِمَ، فَتَقَعَ بَيْنَهُ وبَيْنَ امْرَأتِهِ ووَلَدِهِ وأقارِبِهِ، وبَيْنَهُ وبَيْنَ نَفْسِهِ، فَتَراهُ مُسْتَوْحِشًا مِن نَفْسِهِ.
وَذَكَرَ أيْضًا عَنْ وكِيعٍ حَدَّثَنا زَكَرِيّا عَنْ عامِرٍ قالَ: كَتَبَتْ عائِشَةُ إلى مُعاوِيَةَ: أمّا بَعْدُ: فَإنَّ العَبْدَ إذا عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ عَدَّ حامِدَهُ مِنَ النّاسِ ذامًّا.
ذَكَرَ أبُو نُعَيْمٍ عَنْ سالِمِ بْنِ أبِي الجَعْدِ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ قالَ: لِيَحْذَرِ امْرُؤٌ أنْ تَلْعَنَهُ قُلُوبُ المُؤْمِنِينَ مِن حَيْثُ لا يَشْعُرُ، ثُمَّ قالَ: أتَدْرِي مِمَّ هَذا؟ قُلْتُ: لا، قالَ: إنَّ العَبْدَ يَخْلُو بِمَعاصِي اللَّهِ فَيُلْقِي اللَّهُ بُغْضَهُ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ مِن حَيْثُ لا يَشْعُرُ.
وَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ في كِتابِ الزُّهْدِ لِأبِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أنَّهُ لَمّا رَكِبَهُ الدَّيْنُ اغْتَمَّ لِذَلِكَ، فَقالَ: إنِّي لَأعْرِفُ هَذا الغَمَّ بِذَنْبٍ أصَبْتُهُ مُنْذُ أرْبَعِينَ سَنَةً.
قَدْ لا يُؤَثِّرُ الذَّنْبُ في الحالِ
وَهاهُنا نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ يَغْلَطُ فِيها النّاسُ في أمْرِ الذَّنْبِ، وهي أنَّهم لا يَرَوْنَ تَأْثِيرَهُ في الحالِ، وقَدْ يَتَأخَّرُ تَأْثِيرُهُ فَيُنْسى، ويَظُنُّ العَبْدُ أنَّهُ لا يُغَبِّرُ بَعْدَ ذَلِكَ، وأنَّ الأمْرَ كَما قالَ القائِلُ:
؎إذا لَمْ يُغَبِّرْ حائِطٌ في وُقُوعِهِ ∗∗∗ فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ الوُقُوعِ غُبارُ
وَسُبْحانَ اللَّهِ! ماذا أهْلَكَتْ هَذِهِ النُّكْتَةُ مِنَ الخَلْقِ؟ وكَمْ أزالَتْ غُبارَ نِعْمَةٍ؟ وكَمْ جَلَبَتْ مِن نِقْمَةٍ؟ وما أكْثَرَ المُغْتَرِّينَ بِها العُلَماءِ والفُضَلاءِ، فَضْلًا عَنِ الجُهّالِ، ولَمْ يَعْلَمِ المُغْتَرُّ أنَّ الذَّنْبَ يَنْقَضُّ ولَوْ بَعْدَ حِينٍ، كَما يَنْقَضُّ السُّمُّ، وكَما يَنْقَضُّ الجُرْحُ المُنْدَمِلُ عَلى الغِشِّ والدَّغَلِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الإمامُ أحْمَدُ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ: اعْبُدُوا اللَّهَ كَأنَّكم تَرَوْنَهُ، وعُدُّوا أنْفُسَكم مِنَ المَوْتى، واعْلَمُوا أنَّ قَلِيلًا يُغْنِيكُمْ، خَيْرٌ مِن كَثِيرٍ يُلْهِيكُمْ، واعْلَمُوا أنَّ البِرَّ لا يَبْلى، وأنَّ الإثْمَ لا يُنْسى.
وَنَظَرَ بَعْضُ العُبّادِ إلى صَبِيٍّ، فَتَأمَّلَ مَحاسِنَهُ، فَأُتِيَ في مَنامِهِ وقِيلَ لَهُ: لَتَجِدَنَّ غِبَّها بَعْدَ أرْبَعِينَ سَنَةً.
هَذا مَعَ أنَّ لِلذَّنْبِ نَقْدًا مُعَجَّلًا لا يَتَأخَّرُ عَنْهُ، قالَ سُلَيْمانُ التَّيْمِيُّ: إنَّ الرَّجُلَ لَيُصِيبُ الذَّنْبَ في السِّرِّ فَيُصْبِحُ وعَلَيْهِ مَذَلَّتُهُ.
وَقالَ يَحْيى بْنُ مُعاذٍ الرّازِيُّ عَجِبْتُ مِن ذِي عَقْلٍ يَقُولُ في دُعائِهِ: اللَّهُمَّ لا تُشْمِتْ بِيَ الأعْداءَ، ثُمَّ هو يُشْمِتُ بِنَفْسِهِ كُلَّ عَدُوٍّ لَهُ، قِيلَ: وكَيْفَ ذَلِكَ؟ قالَ يَعْصِي اللَّهَ ويَشْمَتُ بِهِ في القِيامَةِ كُلُّ عَدُوٍّ.
وَقالَ ذُو النُّونِ: مَن خانَ اللَّهَ في السِّرِّ هَتَكَ اللَّهُ سِتْرَهُ في العَلانِيَةِ.
وَقالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إنِّي لَأعْصِي اللَّهَ فَأرى ذَلِكَ في خُلُقِ دابَّتِي، وامْرَأتِي.
وَمِنها: تَعْسِيرُ أُمُورِهِ عَلَيْهِ، فَلا يَتَوَجَّهُ لِأمْرٍ إلّا يَجِدُهُ مُغْلَقًا دُونَهُ أوْ مُتَعَسِّرًا عَلَيْهِ، وهَذا كَما أنَّ مَن تَلَقّى اللَّهَ جَعَلَ لَهُ مِن أمْرِهِ يُسْرًا، فَمَن عَطَّلَ التَّقْوى جَعَلَ لَهُ مِن أمْرِهِ عُسْرًا، ويا لَلَّهِ العَجَبُ! كَيْفَ يَجِدُ العَبْدُ أبْوابَ الخَيْرِ والمَصالِحِ مَسْدُودَةً عَنْهُ وطُرُقَها مُعَسَّرَةً عَلَيْهِ، وهو لا يَعْلَمُ مِن أيْنَ أُتِيَ؟
وَمِنها: ظُلْمَةٌ يَجِدُها في قَلْبِهِ حَقِيقَةً يَحِسُّ بِها كَما يَحِسُّ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ البَهِيمِ إذا ادْلَهَمَّ، فَتَصِيرُ ظُلْمَةُ المَعْصِيَةِ لِقَلْبِهِ كالظُّلْمَةِ الحِسِّيَّةِ لِبَصَرِهِ، فَإنَّ الطّاعَةَ نُورٌ، والمَعْصِيَةَ ظُلْمَةٌ، وكُلَّما قَوِيَتِ الظُّلْمَةُ ازْدادَتْ حَيْرَتُهُ، حَتّى يَقَعَ في البِدَعِ والضَّلالاتِ والأُمُورِ المُهْلِكَةِ وهو لا يَشْعُرُ، كَأعْمى أُخْرِجَ في ظُلْمَةِ اللَّيْلِ يَمْشِي وحْدَهُ، وتَقْوى هَذِهِ الظُّلْمَةُ حَتّى تَظْهَرَ في العَيْنِ، ثُمَّ تَقْوى حَتّى تَعْلُوَ الوَجْهَ، وتَصِيرُ سَوادًا في الوَجْهِ حَتّى يَراهُ كُلُّ أحَدٍ.
قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبّاسٍ: إنَّ لِلْحَسَنَةِ ضِياءً في الوَجْهِ، ونُورًا في القَلْبِ، وسَعَةً في الرِّزْقِ، وقُوَّةً في البَدَنِ، ومَحَبَّةً في قُلُوبِ الخَلْقِ، وإنَّ لِلسَّيِّئَةِ سَوادًا في الوَجْهِ، وظُلْمَةً في القَبْرِ والقَلْبِ، ووَهْنًا في البَدَنِ، ونَقْصًا في الرِّزْقِ، وبُغْضَةً في قُلُوبِ الخَلْقِ.
وَمِنها أنَّ المَعاصِيَ تُوهِنُ القَلْبَ والبَدَنَ، أمّا وهْنُها لِلْقَلْبِ فَأمْرٌ ظاهِرٌ، بَلْ لا تَزالُ تُوهِنُهُ حَتّى تُزِيلَ حَياتَهُ بِالكُلِّيَّةِ.
وَأمّا وهْنُها لِلْبَدَنِ فَإنَّ المُؤْمِنَ قُوَّتُهُ مِن قَلْبِهِ، وكُلَّما قَوِيَ قَلْبُهُ قَوِيَ بَدَنُهُ، وأمّا الفاجِرُ فَإنَّهُ - وإنْ كانَ قَوِيَّ البَدَنِ - فَهو أضْعَفُ شَيْءٍ عِنْدَ الحاجَةِ، فَتَخُونُهُ قُوَّتُهُ عِنْدَ أحْوَجِ ما يَكُونُ إلى نَفْسِهِ فَتَأمَّلْ قُوَّةَ أبْدانِ فارِسَ والرُّومِ، كَيْفَ خانَتْهُمْ، أحْوَجَ ما كانُوا إلَيْها، وقَهَرَهم أهْلُ الإيمانِ بِقُوَّةِ أبْدانِهِمْ وقُلُوبِهِمْ؟
وَمِنها: حِرْمانُ الطّاعَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلذَّنْبِ عُقُوبَةٌ إلّا أنْ يَصُدَّ عَنْ طاعَةٍ تَكُونُ بَدَلَهُ، ويَقْطَعَ طَرِيقَ طاعَةٍ أُخْرى، فَيَنْقَطِعَ عَلَيْهِ بِالذَّنْبِ طَرِيقٌ ثالِثَةٌ، ثُمَّ رابِعَةٌ، وهَلُمَّ جَرًّا، فَيَنْقَطِعُ عَلَيْهِ بِالذَّنْبِ طاعاتٌ كَثِيرَةٌ، كُلُّ واحِدَةٍ مِنها خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيا وما عَلَيْها، وهَذا كَرَجُلٍ أكَلَ أكْلَةً أوْجَبَتْ لَهُ مِرْضَةً طَوِيلَةً مَنَعَتْهُ مِن عِدَّةِ أكَلاتِ أطْيَبَ مِنها، واللَّهُ المُسْتَعانُ.
وَمِنها: أنَّ المَعاصِيَ تُقَصِّرُ العُمُرَ وتَمْحَقُ بَرَكَتَهُ ولا بُدَّ، فَإنَّ البِرَّ كَما يَزِيدُ في العُمُرِ، فالفُجُورُ يُقَصِّرُ العُمُرَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النّاسُ في هَذا المَوْضِعِ.
فَقالَتْ طائِفَةٌ: نُقْصانُ عُمُرِ العاصِي هو ذَهابُ بَرَكَةِ عُمُرِهِ ومَحْقُها عَلَيْهِ، وهَذا حَقٌّ، وهو بَعْضُ تَأْثِيرِ المَعاصِي.
وَقالَتْ طائِفَةٌ: بَلْ تُنْقِصُهُ حَقِيقَةً، كَما تُنْقِصُ الرِّزْقَ، فَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ لِلْبَرَكَةِ في الرِّزْقِ أسْبابًا كَثِيرَةً تُكَثِّرُهُ وتَزِيدُهُ، ولِلْبَرَكَةِ في العُمُرِ أسْبابًا تُكَثِّرُهُ وتَزِيدُهُ.
قالُوا ولا تُمْنَعُ زِيادَةُ العُمُرِ بِأسْبابٍ كَما يُنْقَصُ بِأسْبابٍ، فالأرْزاقُ والآجالُ، والسَّعادَةُ والشَّقاوَةُ، والصِّحَّةُ والمَرَضُ، والغِنى والفَقْرُ، وإنْ كانَتْ بِقَضاءِ الرَّبِّ عَزَّ وجَلَّ، فَهو يَقْضِي ما يَشاءُ بِأسْبابٍ جَعَلَها مُوجِبَةً لِمُسَبَّباتِها مُقْتَضِيَةً لَها.
وَقالَتْ طائِفَةٌ أُخْرى: تَأْثِيرُ المَعاصِي في مَحْقِ العُمُرِ إنَّما هو بِأنَّ حَقِيقَةَ الحَياةِ هي حَياةُ القَلْبِ، ولِهَذا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ الكافِرَ مَيِّتًا غَيْرَ حَيٍّ، كَما قالَ تَعالى، ﴿أمْواتٌ غَيْرُ أحْياءٍ﴾ [النحل: ٢١].
فالحَياةُ في الحَقِيقَةِ حَياةُ القَلْبِ، وعُمُرُ الإنْسانِ مُدَّةُ حَيّاتِهِ فَلَيْسَ عُمُرُهُ إلّا أوْقاتَ حَياتِهِ بِاللَّهِ، فَتِلْكَ ساعاتُ عُمُرِهِ، فالبِرُّ والتَّقْوى والطّاعَةُ تَزِيدُ في هَذِهِ الأوْقاتِ الَّتِي هي حَقِيقَةُ عُمُرِهِ، ولا عُمُرَ لَهُ سِواها.
وَبِالجُمْلَةِ، فالعَبْدُ إذا أعْرَضَ عَنِ اللَّهِ واشْتَغَلَ بِالمَعاصِي ضاعَتْ عَلَيْهِ أيّامُ حَياتِهِ الحَقِيقِيَّةُ الَّتِي يَجِدُ غِبَّ إضاعَتِها يَوْمَ يَقُولُ: ﴿يالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي﴾ [الفجر: ٢٤].
فَلا يَخْلُو إمّا أنْ يَكُونَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ تَطَلُّعٌ إلى مَصالِحِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ والأُخْرَوِيَّةِ أوْ لا، فَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَطَلُّعٌ إلى ذَلِكَ فَقَدْ ضاعَ عَلَيْهِ عُمُرُهُ كُلُّهُ، وذَهَبَتْ حَياتُهُ باطِلًا، وإنْ كانَ لَهُ تَطَلُّعٌ إلى ذَلِكَ طالَتْ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ بِسَبَبِ العَوائِقِ، وتَعَسَّرَتْ عَلَيْهِ أسْبابُ الخَيْرِ بِحَسْبِ اشْتِغالِهِ بِأضْدادِها، وذَلِكَ نُقْصانٌ حَقِيقِيٌّ مِن عُمُرِهِ.
وَسِرُّ المَسْألَةِ أنَّ عُمُرَ الإنْسانِ مُدَّةُ حَيّاتِهِ ولا حَياةَ لَهُ إلّا بِإقْبالِهِ عَلى رَبِّهِ، والتَّنَعُّمِ بِحُبِّهِ وذِكْرِهِ، وإيثارِ مَرْضاتِهِ.
* (فصل)
وقوله تعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى. قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمى وقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا﴾
اختلف فيه: هل هو من عمى البصيرة، أو من عمى البصر؟
والذين قالوا: هو من عمى البصيرة إنما حملهم على ذلك قوله: ﴿أسْمِعْ بِهِمْ وأبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا﴾ وقوله: ﴿لَقَدْ كُنْتَ في غَفْلَةٍ مِن هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ﴾
وقوله: ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ المَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ﴾ وقوله: ﴿لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ. ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ اليَقِينِ﴾
ونظائر هذا مما أثبت لهم الرؤية في الآخرة. كقوله تعالى: ﴿وَتَراهم يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وقوله: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا. هذِهِ النّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أفَسِحْرٌ هذا أمْ أنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ﴾
وقوله: ﴿وَرَأى المُجْرِمُونَ النّارَ فَظَنُّوا أنَّهم مُواقِعُوها﴾.
والذين رجحوا أنه من عمى البصر قالوا: السياق لا يدل إلا عليه.
لقوله: ﴿قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمى وقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا﴾ وهو لم يكن بصيرا في كفره قط، بل قد تبين له حينئذ أنه كان في الدنيا في عمى عن الحق، فكيف يقول: وقد كنت بصيرا؟ وكيف يجاب بقوله: ﴿كَذلِكَ أتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وكَذلِكَ اليَوْمَ تُنْسى﴾
بل هذا الجواب فيه تنبيه على أنه من عمى البصر، وأنه جوزي من جنس عمله. فإنه لما أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله وعميت عنه بصيرته: أعمى الله بصره يوم القيامة. وتركه في العذاب، كما ترك هو الذكر في الدنيا، فجازاه على عمى بصيرته عمى بصره في الآخرة. وعلى تركه ذكره تركه في العذاب.
وقال تعالى: ﴿وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهو المُهْتَدِ ومَن يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهم أوْلِياءَ مِن دُونِهِ ونَحْشُرُهم يَوْمَ القِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا﴾.
وقد قيل في هذه الآية أيضا: إنهم عمى وبكم وصم عن الهدى، كما قيل في قوله «ونحشره يوم القيامة أعمى، قالوا: لأنهم يتكلمون يومئذ ويسمعون ويبصرون».
ومن نصر أنه العمى والبكم والصم المضاد للبصر والسمع والنطق قال بعضهم: هو عمى وصمم وبكم مقيد لا مطلق. فهم عمى عن رؤية ما يسرهم وسماعه. ولهذا قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال «لا يرون شيئا يسرهم».
وقال آخرون: هذا الحشر حين تتوفاهم الملائكة يخرجون من الدنيا كذلك فإذا قاموا من قبورهم إلى الموقف قاموا كذلك. ثم إنهم يسمعون ويبصرون فيما بعد. وهذا مروي عن الحسن.
وقال آخرون: هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها سلبوا الأسماع والأبصار والنطق، حين يقول لهم الرب تبارك وتعالى: ﴿اخْسَؤُا فِيها ولا تُكَلِّمُونِ﴾ فحينئذ ينقطع الرجاء وتبكم عقولهم، فيصيرون بأجمعهم عميا بكما صما لا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون، ولا يسمع منهم إلا الزفير والشهيق. وهذا منقول عن مقاتل.
والذين قالوا: المراد به العمى عن الحجة إنما مرادهم: أنهم لا حجة لهم، ولم يريدوا أن لهم لهم حجة هم عمى عنها، بل هم عمى عن الهدى، كما كانوا في الدنيا. فإن العبد يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه.
وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الآخر، وأنه عمى البصر. فإن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عيانا، ويقر بما كان يجحده في الدنيا. فليس هو أعمى عن الحق يومئذ.
وفصل الخطاب: أن الحشر هو الضم والجمع، ويراد به تارة: الحشر إلى موقف القيامة.
كقول النبي ﷺ «انكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا»
وكقوله تعالى: ﴿وَإذا الوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ وكقوله تعالى: ﴿وَحَشَرْناهم فَلَمْ نُغادِرْ مِنهم أحَدًا﴾
ويراد به الضم والجمع إلى دار المستقر. فحشر المتقين: جمعهم وضمهم إلى الجنة. وحشر الكافرين:
جمعهم وضمهم إلى النار، قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ المُتَّقِينَ إلى الرَّحْمنِ وفْدًا﴾
وقال تعالى: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وأزْواجَهم وما كانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فاهْدُوهم إلى صِراطِ الجَحِيمِ﴾
فهذا الحشر هو بعد حشرهم إلى الموقف، وهو حشرهم وضمهم إلى النار. لأنه قد أخبر عنهم أنهم قالوا: ٣٧: ٢١ يا ويْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ. هذا يَوْمُ الفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ثم قال تعالى: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وأزْواجَهُمْ﴾ وهذا الحشر الثاني.
وعلى هذا فهم ما بين الحشر الأول من القبور إلى الموقف، والحشر الثاني من الموقف إلى النار، فعند الحشر الأول: يسمعون ويبصرون، ويجادلون، ويتكلمون وعند الحشر الثاني: يحشرون على وجوههم عميا وبكما وصما. فلكل موقف حال يليق به، ويقتضيه عدل الرب تعالى، وحكمته. فالقرآن يصدق بعضه بعضا ﴿وَلَوْ كانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾.
{"ayah":"وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِی فَإِنَّ لَهُۥ مَعِیشَةࣰ ضَنكࣰا وَنَحۡشُرُهُۥ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ أَعۡمَىٰ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق