الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وهَدى﴾ ﴿قالَ اهْبِطا مِنها جَمِيعًا بَعْضُكم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإمّا يَأْتِيَنَّكم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقى﴾ ﴿وَمَن أعْرَضَ عن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ (p-١٤١)مَعِيشَةً ضَنْكًا ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى﴾ ﴿قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمى وقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا﴾ ﴿قالَ كَذَلِكَ أتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسى﴾ "اجْتَباهُ" مَعْناهُ: تَخَيَّرَهُ واصْطَفاهُ، و"تابَ عَلَيْهِ" مَعْناهُ: رَجَعَ بِهِ مِن حالِ المَعْصِيَةِ إلى حالِ النَدَمِ وهَداهُ لِصَلاحِ الأقْوالِ والأعْمالِ، وأمْضى عُقُوبَتَهُ عَزَّ وجَلَّ في إهْباطِهِ مِنَ الجَنَّةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: "اهْبِطا" مُخاطَبَةَ آدَمَ وحَوّاءَ، ثُمْ أخْبَرَهُما بِقَوْلِهِ: "جَمِيعًا" أنَّ إبْلِيسَ والحَيَّةَ يَهْبِطانِ مَعَهُما، وأنَّ العَداوَةَ بَيْنَهم وبَيْنَ أنْسالِهِمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، و"عَدُوٌّ" يُوصَفُ بِهِ الواحِدُ والِاثْنانِ والجَمْعُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإمّا يَأْتِيَنَّكُمْ﴾ شَرْطٌ، وجَوابُهُ في قَوْلِهِ: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ﴾ وما بَعْدَهُ إلى آخِرِ القِسْمِ الثانِي، والهُدى مَعْناهُ دَعْوَةُ شَرْعِي. ثُمْ أعْلَمَهم أنَّ مَنِ اتَّبَعَ هَدّاهُ وآمَنَ بِهِ فَإنَّهُ لا يَضِلُّ في الدُنْيا ولا يَشْقى في الآخِرَةِ، وأنَّ مَن أعْرَضَ عن ذِكْرِ اللهِ وكَفَرَ بِهِ فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا، و"الضَنْكُ": النَكَدُ الشاقُّ مِنَ العَيْشِ في المَنازِلِ أو في مُواطِنِ الحَرْبِ ونَحْوِها، ومِنهُ قَوْلُ عنتَرَةَ: ؎ ........................... وإنْ نَزَلُوا يَوْمًا بِضَنْكٍ أنْزِلُ يُوصَفُ بِهِ الواحِدُ والجَمْعُ والمُؤَنَّثُ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "ضَنْكى"، أُتْبِعَتْ بِالصِفَةِ لَفْظَةُ "المَعِيشَةِ". واخْتَلَفَ الناسُ في المَعِيشَةِ الضَنْكِ، مَتى هو الوَقْتُ الَّذِي هي فِيهِ، فَقالَتْ فِرْقَةٌ: هي الدُنْيا، ومَعْنى ذَلِكَ عِنْدَهم أنَّ الكافِرَ وإنْ كانَ مُتَّسِعَ الحالِ والمالِ (p-١٤٢)فَمَعَهُ مِنَ الحِرْصِ والأمَلِ والتَعْذِيبِ بِأُمُورِ الدُنْيا والرَغْبَةِ واتِّساعِ صَفاءِ العَيْشِ بِذَلِكَ ما يَصِيرُ مَعِيشَتَهُ ضَنْكًا، وقالَتْ فِرْقَةٌ: هي ضَنْكٌ بِأكْلِ الحَرامِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: بَلِ العِيشَةُ الضَنْكُ هي في البَرْزَخِ، وهو أنْ يَرى مَقْعَدَهُ مِنَ النارِ غُدُوًّا ورَواحًا، وبِالجُمْلَةِ عَذابُ القَبْرِ عَلى ما رُوِيَ فِيهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وحَمْلُ هَذِهِ الفِرْقَةِ عَلى هَذا التَأْوِيلِ أنَّ لَفْظَ الآيَةِ يَقْتَضِي أنَّ المَعِيشَةَ الضَنْكَ قَبْلَ يَوْمِ القِيامَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى﴾، وبِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَعَذابُ الآخِرَةِ أشَدُّ وأبْقى﴾ [طه: ١٢٧]. وقالَتْ فِرْقَةٌ: بَلِ المَعِيشَةُ الضَنْكُ في الآخِرَةِ، وهي عَذابُهم في جَهَنَّمَ وأكْلُهُمُ الزَقُّومَ وغَيْرِهِ، وذَكَرَ اللهُ تَعالى ذَلِكَ مِن وعِيدٍ لَهُمْ، ثُمْ أخْبَرَ عن حالَةٍ أُخْرى هي أيْضًا في يَوْمِ القِيامَةِ وهي حَشْرُهم عُمْيًا، ثُمْ يَجِيءُ قَوْلُهُ: ﴿وَلَعَذابُ الآخِرَةِ أشَدُّ وأبْقى﴾ [طه: ١٢٧] مَعْنى هَذا الَّذِي ذَكَرْناهُ مِنَ المَعِيشَةِ الضَنْكِ والعَمى ونَحْوِهِ هو عَذابُهُ في الآخِرَةِ، وهو أشَدُّ وأبْقى مِن كُلِّ ما يَقَعُ عَلَيْهِ الظَنُّ والتَخَيُّلُ، فَكَأنَّهُ ذَكَرَ نَوْعًا مِن عَذابِ الآخِرَةِ ثُمْ ذَكَرَ أنَّ عَذابَ الآخِرَةِ أشَدُّ وأبْقى. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "وَنَحْشُرُهُ" بِالنُونِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "وَيَحْشُرُهُ"، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "وَنَحْشُرُهُ" بِسُكُونِ الراءِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "أعْمى" بِفَتْحِ الألِفِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "أعْمى" بِالإمالَةِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: العَمى هُنا هو عَمى البَصِيرَةِ عَنِ الحُجَّةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ولَوْ كانَ هَذا لَمْ يُحِسَّ الكافِرُ بِذَلِكَ، لِأنَّهُ ماتَ أعْمى البَصِيرَةِ ويُحْشَرُ كَذَلِكَ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: العَمى عَمى البَصَرِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا هو الأوجَهُ، مَعَ أنَّ عَمى البَصِيرَةِ حاصِلٌ في الوَجْهَيْنِ، وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَنَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ [طه: ١٠٢] فَمَن رَآهُ "فِي العَيْنِ" فَلا بُدَّ أنْ يَتَأوَّلَها مَعَ هَذا إمّا أنَّها في طائِفَتَيْنِ وإمّا في مَوْطِنَيْنِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ أتَتْكَ آياتُنا﴾، "ذَلِكَ" إشارَةٌ إلى العَمى الَّذِي حَلَّ بِهِ، أيْ مِثْلِ هَذا في الدُنْيا أنْ أتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها، و"النِسْيانُ" في هَذِهِ الآيَةِ بِمَعْنى التَرْكِ، ولا مَدْخَلَ (p-١٤٣)لِلذُّهُولِ في هَذا المَوْضِعِ، و"تُنْسى" بِمَعْنى: تَتْرُكُ في العَذابِ، ورُوِيَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في القُرَشِيِّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب