الباحث القرآني

ورَجَحَ عَلى العُمُومِ بِقِيامِ القَرِينَةِ عَلَيْهِ وهو قَوْلُهُ تَعالى ﴿ومَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾ بِناءً عَلى تَفْسِيرِ الذِّكْرِ بِالقُرْآنِ، وكَذا قَوْلُهُ تَعالى بَعْدُ ﴿كَذَلِكَ أتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها﴾ والمُخْتارُ العُمُومُ أنْ يَقُولَ: الذِّكْرُ يَقَعُ عَلى القُرْآنِ وعَلى سائِرِ الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ، وكَذا الآياتُ تَكُونُ بِمَعْنى الأدِلَّةِ مُطْلَقًا، وقَدْ فُسِّرَ الذِّكْرُ أيْضًا هُنا بِالهُدى لِأنَّهُ سَبَبُ ذِكْرِهِ تَعالى وعِبادَتِهِ سُبْحانَهُ، فَأُطْلِقُ المُسَبَّبُ وأُرِيدَ سَبَبُهُ لِوُقُوعِهِ في المُقابَلَةِ، وما في الخَبَرِ مِن بابِ التَّنْصِيصِ عَلى حُكْمِ أشْرَفِ الأفْرادِ المَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالعُمُومِ اعْتِناءً بِشَأْنِهِ. ثُمَّ إنَّ تَقْيِيدَ ﴿لا يَضِلُّ﴾ بِقَوْلِنا في الدُّنْيا ﴿ولا يَشْقى﴾ بِقَوْلِنا في الآخِرَةِ هو الَّذِي يَقْتَضِيهِ الخَبَرُ. وجَوَّزَ بَعْضُهُمُ العَكْسَ أيْ فَلا يَضِلُّ طَرِيقَ الجَنَّةِ في الآخِرَةِ ولا يَتْعَبُ في أمْرِ المَعِيشَةِ في الدُّنْيا، وجَعَلَ الأوَّلَ في مُقابَلَةِ ﴿ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى﴾ والثّانِيَ في مُقابَلَةِ ﴿فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ ثُمَّ قالَ: وتَقْدِيمُ حالِ الآخِرَةِ عَلى حالِ الدُّنْيا في المُهْتَدِينَ لِأنَّ مَطْمَحَ نَظَرِهِمْ أمْرُ آخِرَتِهِمْ بِخِلافِ خِلافِهِمْ فَإنَّ نَظَرَهم مَقْصُورٌ عَلى دُنْياهم، ولا يَخْفى أنَّ الَّذِي نَطَقَتْ بِهِ الآثارُ هو الأوَّلُ، وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّهُ المُتَبادَرُ، نَعَمْ ما ذُكِرَ لا يَخْلُو عَنْ حُسْنٍ وإنْ قِيلَ: فِيهِ تَكَلُّفٌ، وجَوَّزَ الإمامُ كَوْنَ الأمْرَيْنِ في الآخِرَةِ وكَوْنَهُما في الدُّنْيا، وذُكِرَ أنَّ المُرادَ عَلى الأخِيرِ لا يَضِلُّ في الدِّينِ ولا يَشْقى بِسَبَبِ الدَّيْنِ لا مُطْلَقًا فَإنْ لَحِقَ المُنْعِمُ بِالهُدى شَقاءً في الدُّنْيا فَبِسَبَبٍ آخَرَ وذَلِكَ لا يَضُرُّ ا هـ، والمُعَوَّلُ عَلَيْهِ ما سَمِعْتَ، والمُرادُ مِنَ الإعْراضِ عَنِ الذِّكْرِ عَدَمُ الِاتِّباعِ فَكَأنَّهُ قِيلَ: ومَن لَمْ يَتَّبِعْ ﴿فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ أيْ: ضَيِّقَةً شَدِيدَةً وهو مَصْدَرُ ضَنَكَ وكَذا ضَناكَةٍ ولِذا يُوصَفُ بِهِ المُذَكَّرُ والمُؤَنَّثُ والمُفْرَدُ والمُثَنّى والمَجْمُوعُ، وقَدْ وُصِفَ بِهِ هُنا المُؤَنَّثُ بِاعْتِبارِ الأصْلِ. وقَرَأ الحَسَنُ ( ضَنْكى ) بِألِفِ التَّأْنِيثِ كَسَكْرى وبِالإمالَةِ. وهَذا التَّأْنِيثُ بِاعْتِبارِ تَأْوِيلِهِ بِالوَصْفِ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ تَفْسِيرُهُ بِالشَّدِيدِ مِن كُلِّ وجْهٍ، وأنْشَدَ قَوْلَ الشّاعِرِ:(p-277) ؎والخَيْلُ قَدْ لَحِقَتْ بِنا في مَأْزِقٍ ضَنْكٍ نَواحِيهِ شَدِيدِ المَقْدَمِ والمُتَبادَرُ أنَّ تِلْكَ المَعِيشَةَ لَهُ في الدُّنْيا. ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطاءٍ وابْنِ جُبَيْرٍ، ووَجْهُ ضِيقِ مَعِيشَةِ الكافِرِ المُعَرَّضِ في الدُّنْيا أنَّهُ شَدِيدُ الحِرْصِ عَلى الدُّنْيا مُتَهالِكٌ عَلى ازْدِيادِها خائِفٌ مِنِ انْتِقاصِها غالِبٌ عَلَيْهِ الشُّحُّ بِها حَيْثُ لا غَرَضَ لَهُ سِواها بِخِلافِ المُؤْمِنِ الطّالِبِ لِلْآخِرَةِ، وقِيلَ: الضَّنْكُ مَجازٌ عَمّا لا خَيْرَ فِيهِ، ووَصْفُ مَعِيشَةِ الكافِرِ بِذَلِكَ لِأنَّها وبالٌ عَلَيْهِ وزِيادَةٌ في عَذابِهِ يَوْمَ القِيامَةِ كَما دَلَّتْ عَلَيْهِ الآياتُ، وهو مَأْخُوذٌ مِمّا أخْرَجَهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ في الآيَةِ: يَقُولُ كُلُّ مالِ أعْطَيْتُهُ عَبْدًا مِن عِبادِي قَلَّ أوْ كَثُرَ لا يَتَّقِينِي فِيهِ فَلا خَيْرَ فِيهِ وهو الضَّنْكُ في المَعِيشَةِ، وقِيلَ: المُرادُ مِن كَوْنِها ضَنْكًا أنَّها سَبَبٌ لِلضَّنْكِ يَوْمَ القِيامَةِ، فَيَكُونُ وصْفُها بِالضَّنْكِ لِلْمُبالَغَةِ كَأنَّها نَفْسُ الضَّنْكِ كَما يُقالُ في السُّلْطانِ: المَوْتُ بَيْنَ شَفَتَيْهِ يُرِيدُونَ بِالمَوْتِ ما يَكُونُ سَبَبًا لِلْمَوْتِ كالأمْرِ بِالقَتْلِ ونَحْوِهِ، وعَنْ عِكْرِمَةَ ومالِكِ بْنِ دِينارٍ ما يُشْعِرُ بِذَلِكَ، وقالَ بَعْضُهم: إنَّ تِلْكَ المَعِيشَةَ لَهُ في القَبْرِ بِأنْ يُعَذَّبَ فِيهِ. وقَدْ رَوى ذَلِكَ جَماعَةٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وأبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ وأبِي صالِحٍ والرَّبِيعِ والسُّدِّيِّ ومُجاهِدٍ وفي البَحْرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في الأُسُودِ بْنِ عَبْدِ الأسَدِ المَخْزُومِيِّ، والمُرادُ ضَغْطَةُ القَبْرِ حَتّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أضْلاعُهُ. ورُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا أيْضًا. فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا في ذِكْرِ المَوْتِ. والحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وأبُو يَعْلى وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ حِبّانَ وابْنُ مَرْدُوَيْهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: ( قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «المُؤْمِنُ في قَبْرِهِ في رَوْضَةٍ خَضْراءَ ويُرَحَّبُ لَهُ قَبْرُهُ سَبْعِينَ ذِراعًا، ويُضِيءُ حَتّى يَكُونَ كالقَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ هَلْ تَدْرُونَ فِيمَ أُنْزِلَتْ ﴿فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ قالُوا: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ قالَ: عَذابُ الكافِرِ في قَبْرِهِ، يُسَلَّطُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وتِسْعُونَ تِنِّينًا، هَلْ تَدْرُونَ ما التِّنِّينُ؟ تِسْعَةٌ وتِسْعُونَ حَيَّةً، لِكُلِّ حَيَّةٍ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ يَخْدِشُونَهُ ويَلْسَعُونَهُ ويَنْفُخُونَ في جِسْمِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» ) . وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ ومُسَدَّدٌ في مُسْنَدِهِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ والبَيْهَقِيُّ في كِتابِ عَذابِ القَبْرِ وجَماعَةٌ عَنْ أبِي سَعِيدٍ قالَ: ( «قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ عَذابُ القَبْرِ» ) ولَفْظُ عَبْدِ الرَّزّاقِ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتّى تَخْتَلِفَ أضْلاعُهُ، ولَفْظُ ابْنِ أبِي حاتِمٍ: ضَمَّةُ القَبْرِ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ ومَن قالَ: الدُّنْيا ما قَبْلَ القِيامَةِ الكُبْرى قالَ: ما يَكُونُ بَعْدَ المَوْتِ واقِعٌ في الدُّنْيا كالَّذِي يَكُونُ قَبْلَ المَوْتِ. وقالَ بَعْضُهم: إنَّها تَكُونُ يَوْمَ القِيامَةِ في جَهَنَّمَ، وأخْرَجَ ذَلِكَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ الحَسَنِ، وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قالَ: المَعِيشَةُ الضَّنْكُ في النّارِ شَوْكٌ وزَقُّومٌ وغِسْلِينٌ وضَرِيعٌ ولَيْسَ في القَبْرِ ولا في الدُّنْيا مَعِيشَةٌ وما المَعِيشَةُ والحَياةُ إلّا في الآخِرَةِ، ولَعَلَّ الأخْبارَ السّابِقَةَ لَمْ تَبْلُغْ هَذا القائِلَ أوْ لَمْ تَصِحَّ عِنْدَهُ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّها إذا صَحَّتْ فَلا مَساغَ لِلْعُدُولِ عَمّا دَلَّتْ عَلَيْهِ وإنْ لَمْ تَصِحَّ كانَ الأوْلى القَوْلَ بِأنَّها في الدُّنْيا لا في الآخِرَةِ لِظاهِرِ ذَكَرِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ونَحْشُرُهُ﴾ إلَخْ بَعْدَ الإخْبارِ بِأنَّ ﴿لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ وقَرَأتْ فِرْقَةٌ مِنهم أبانُ بْنُ تَغْلِبَ ( ونَحْشُرْهُ ) بِإسْكانِ الرّاءِ وخَرَجَ عَلى أنَّهُ تَخْفِيفٌ أوْ جَزْمٌ بِالعَطْفِ عَلى مَحَلِّ ﴿فَإنَّ لَهُ﴾ إلَخْ لِأنَّهُ جَوابُ الشَّرْطِ كَأنَّهُ قِيلَ: ومَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي تَكُنْ لَهُ مَعِيشَةٌ ضَنْكٌ ونَحْشُرُهُ إلَخْ. ونَقَلَ ابْنُ خالَوَيْهِ عَنْ أبانَ أنَّهُ قَرَأ ( ونَحْشُرُهْ ) بِسُكُونِ الهاءِ عَلى إجْراءِ الوَصْلِ مَجْرى الوَقْفِ. وفي البَحْرِ: الأحْسَنُ تَخْرِيجُ ذَلِكَ عَلى لُغَةِ بَنِي كِلابٍ وعَقِيلٍ فَإنَّهم يُسَكِّنُونَ مِثْلَ هَذِهِ الهاءِ، وقَدْ قُرِئَ (لِرَبِّهْ لَكَنُودٌ) بِإسْكانِ الهاءِ وقَرَأتْ (p-278)فِرْقَةٌ ( ويَحْشُرُهُ ) بِالياءِ ﴿يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى﴾ الظّاهِرُ أنَّ المُرادَ فاقِدُ البَصَرِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ونَحْشُرُهم يَوْمَ القِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا﴾
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب