الباحث القرآني

فإن قيل أي الصبرين أحب إلى الله؟ صبر من يصبر على أوامره أم صبر من يصبر عن محارمه؟ قيل هذا موضع تنازع فيه الناس فقالت طائفة الصبر عن المخالفات أفضل، لأنه أشق وأصعب فإن أعمال البر يفعلها البر والفاجر ولا يصبر عن المخالفات إلا الصديقون. قالوا: ولأن الصبر عن المحرمات صبر على مخالفة هوى النفس، وهو أشق شيء وأفضله. قالوا ولأن ترك المحبوب الذي تحبه النفوس دليل على أن من ترك لأجله أحب إليه من نفسه وهواه، بخلاف فعل ما يحبه المحبوب فإنه لا يستلزم ذلك. قالوا وأيضا فالمروءة والفتوة كلها في هذا الصبر. قال الإمام أحمد: "الفتوة ترك ما تهوى لما تخشى" فمروءة العبد وفتوته بحسب هذا الصبر قالوا وليس العجب ممن يصبر على الأوامر فإن أكثرها محبوبات للنفوس السليمة لما فيها من العدل والإحسان والإخلاص والبر وهذه محاب للنفوس الفاضلة الزكية، بل العجب ممن يصبر عن المناهي التي أكثرها محاب للنفوس فيترك المحبوب العاجل في هذه الدار للمحبوب الآجل في دار أخرى والنفس موكلة بحب العاجل فصبرها عنه مخالف لطبعها. قالوا: ولأن المناهي لها أربعة دواع تدعو إليها: نفس الإنسان، وشيطانه، وهواه، ودنياه. فلا يتركها حتى يجاهد هذه الأربعة، وذلك أشق شيء على النفوس وأمره قالوا فالمناهي من باب حمية النفوس عن مشتهياتها ولذاتها والحمية مع قيام داعي التناول وقوته من أصعب شيء وأشقه. قالو أو لذلك كان باب قربان النهي مسدودا كله وباب الأمر إنما يفعل منه المستطاع كما قال النبي ﷺ: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه " فدل على أن باب المنهيات أضيق من باب المأمورات، وأنه لم يرخص في ارتكاب شيء منه كما رخص في ترك بعض المأمورات للعجز والعذر. قالوا ولهذا كانت عامة العقوبات من الحدود وغيرها على ارتكاب المنهيات بخلاف ترك المأمور فإن الله سبحانه لم يرتب عليه حدا معينا فأعظم المأمورات الصلاة وقد اختلف العلماء هل على تاركها حد أم لا؟ فهذا بعض ما احتجت به الطائفة. * (فصل) وقالت طائفة أخرى بل الصبر على فعل المأمور أفضل وأجل من الصبر على ترك المحظور، لأن فعل المأمور أحب إلى الله من ترك المحظور والصبر على أحب الأمرين أفضل وأعلى وبيان ذلك من وجوه أحدها: أن فعل المأمور مقصود لذاته فهو مشروع شرع المقاصد، فإن معرفة الله وتوحيده وعبوديته وحده والإنابة إليه والتوكل عليه وإخلاص العمل له ومحبته والرضا به والقيام في خدمته هو الغاية التي خلق لها الخلق وثبت بها الأمر وذلك أمر مقصود لنفسه والمنهيات إنما نهى عنها لأنها صادة عن ذلك أو شاغلة عنه أو مفوتة لكماله ولذلك كانت درجاتها في النهي بحسب صدها عن المأمور وتعويقها عنه وتفويتها لكماله فهي مقصودة لغيرها والمأمور مقصود لنفسه فلو لم يصد الخمر والميسر عن ذكر الله وعن الصلاة وعن التواد والتحاب الذي وضعه الله بين عباده لما حرمه وكذلك لو لم يحل بين العبد وبين عقله الذي به يعرف الله ويعبده ويحمده ويمجده ويصلى له ويسجد لما حرمه وكذلك سائر ما حرمه إنما حرمه لأنه يصد عما يحبه ويرضاه ويحول بين العبد وبين إكماله. الثاني أن المأمورات متعلقة بمعرفة الله وتوحيده وعبادته وذكره وشكره ومحبته والتوكل عليه والإنابة إليه فمتعلقها ذات الرب تعالى وأسماؤه وصفاته ومتعلق المنهيات ذوات الأشياء المنهي عنها والفرق من أعظم ما يكون. الثالث: أن ضرورة العبد وحاجته إلى فعل المأمور أعظم من ضرورته إلى ترك المحظور فإنه ليس إلى شيء أحوج واشد فاقة منه إلى معرفة ربه وتوحيده وإخلاص العمل له وافراده بالعبودية والمحبة والطاعة وضرورته إلى ذلك أعظم من ضرورته إلى نفسه ونفسه وحياته أعظم من ضرورته إلى غذائه الذي به قوام بدنه بل هذا لقلبه وروحه كالحياه والغذاء لبدنه وهو إنما هو إنسان بروحه وقلبه لا ببدنه وقالبه كما قيل: ؎يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته ∗∗∗ فأنت بالقلب لا بالجسم إنسان وترك المنهي إنما شرع له تحصيلا لهذا الأمر الذي هو ضرورى له وما أحوجه وأفقره إليه. الرابع: أن ترك المنهي من باب الحمية وفعل المأمور من باب حفظ القوة والغذاء الذي لاتقوم البنية بدونه ولا تحصل الحياة إلا به فقد يعيش الإنسان مع تركه الحميه وإن كان بدنه عليلا أشد ما يكون علة ولا يعيش بدون القوة والغذاء الذي يحفظها فهذا مثل المأمورات والمنهيات. الخامس: أن الذنوب كلها ترجع إلى هذين الأصلين ترك المأمور وفعل المحظور، ولو فعل العبد المحظور كله من أوله إلى آخره حتى أتى من مأمور الإيمان بأدنى أدنى مثقال ذرة منه نجا بذلك من الخلود في النار. ولو ترك كل محظور ولم يأت بمأمور الإيمان لكان مخلدا في السعير فأين شيء مثاقيل الذر منه تخرج من النار إلى شيء وزن الجبال منه أضعافا مضاعفة لا تقتضي الخلود في النار مع وجود ذلك المأمور أو أدنى شيء منه. السادس: أن جميع المحظورات من أولها إلى آخرها تسقط بمأمور التوبة ولا تسقط المأمورات كلها معصية المخالفة إلا بالشرك أو الوفاة عليه ولا خلاف بين الأمة أن كل محظور يسقط بالتوبة منه واختلفوا هل تسقط الطاعة بالمعصية وفي المسألة نزاع وتفاصيل ليس هذا موضعه. السابع: أن ذنب الأب كان يفعل المحظور فكان عاقبته أن اجتباه ربه فتاب عليه وهدى وذنب إبليس كان بترك المأمور فكان عاقبته ما ذكر الله سبحانه وجعل هذا عبرة للذرية إلى يوم القيامة. الثامن أن المأمور محبوب إلى الرب والمنهي مكروه له، وهو سبحانه إنما قدره وقضاه لأنه ذريعة إلى حصول محبوبه من عبده ومن نفسه تعالى. أما مَن عبده فالتوبة والاستغفار والخضوع والذل والانكسار وغير ذلك. وأما من نفسه فبالمغفرة والتوبة على العبد والعفو عنه والصفح والحلم والتجاوز عن حقه، وغير ذلك مما هو أحب إليه تعالى من فواته بعدم تقدير ما يكرهه، وإذا كان إنما قدر ما يكرهه لأنه يكون وسيلة إلى ما يحبه علم أن محبوبه هو الغاية ففوات محبوبه أبغض إليه وأكره له من حصول مبغوضه بل إذا ترتب على حصول مبغوضه ما يحبه من وجه آخر كان المبغوض مرادا له إرادة الوسائل كما كان النهي عنه وكراهته لذلك. وأما المحبوب فمراده إرادة المقاصد كما تقدم فهو سبحانه إنما خلق الخلق لأجل محبوبه ومأموره وهو عبادته وحده كما قال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾ وقدر مكروهه ومبغوضه تكميلا لهذه الغاية التي خلق خلقه لأجلها فانه ترتب عليه من المأمورات ما لم يكن يحصل بدون تقديره كالجهاد الذي هو أحب العمل إليه والموالاة فيه والمعاداة فيه ولولا محبته لهذه المأمورات لما قدر من المكروه له ما ما يكون سببا لحصولها. التاسع: أن ترك المحظور لا يكون قربة ما لم يقارنه فعل المأمور فلو ترك العبد كل محظور لم يثبه الله عليه حتى يقارنه مأمور الإيمان وكذلك المؤمن لا يكون تركه المحظور قربة حتى يقارنه مأمور النية بحيث يكون تركه لله فافتقر ترك المنهيات بكونه قربة يثاب عليها إلى فعل المأمور ولا يفتقر فعل المأمور في كونه قربة وطاعة إلى ترك المحظور ولو افتقر إليه لم يقبل الله طاعة من عصاه أبدا وهذا من أبطل الباطل. العاشر: أن المنهي عنه مطلوب إعدامه والمأمور مطلوب إيجاده والمراد إيجاد هذا وإعدام ذاك فإذا قدر عدم الأمرين أو وجودهما كان وجودهما خير من عدمهما فإنه إذا عدم المأمور لم ينفع عدم المحظور وإذا وجد المأمور فقد يستعان به على دفع المحظور أو دفع أثره فوجود القوة والمرض خير من عدم الحياة والمرض. الحادى عشر: أن باب المأمور الحسنة فيه بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وباب المحظور السيئة فيه بمثلها وهي بصدد الزوال بالتوبة والاستغفار والحسنة الماحية والمصيبة المكفرة واستغفار الملائكة للمؤمنين واستغفار بعضهم لبعض وغير ذلك وهذا يدل على أنه أحب إلى الله من عدم المنهي. الثاني عشر: أن باب المنهيات يمحوه الله سبحانه ويبطل أثره بأمور عديدة من فعل العبد وغيره فإنه يبطله بالتوبة النصوح وبالاستغفار وبالحسنات الماحية وبالمصائب المكفرة وباستغفار الملائكة وبدعاء المؤمنين فهذه ستة في حال حياته وبتشديد الموت وكربه وسياقه عليه فهذا عند مفارقته الدنيا وبهول المطلع وروعة الملكين في القبر وضغطته وعصرته له وشدة الموقف وعنائه وصعوبته وبشفاعة الشافعين فيه وبرحمة أرحم الراحمين له فإن عجزت عنه هذه الأمور فلا بد له من دخول النار ويكون لبثه فيها على قدر بقاء خبثه ودرنه فإن الله حرم الجنة إلا على كل طيب فما دام درنه ووسخه وخبثه فيه فهو في كير التطهير حتى يتصفى من ذلك الوسخ والخبث وأما باب المأمورات فلا يبطله إلا الشرك. الثالث عشر: أن جزاء المأمورات الثواب وهو من باب الإحسان والفضل والرحمة، وجزاء المنهيات العقوبة وهي من باب الغضب والعدل ورحمته سبحانه تغلب غضبه فما تعلق بالرحمة والفضل أحب إليه مما تعلق بالغضب والعدل وتعطيل ما تعلق بالرحمة أكره إليه من فعل ما تعلق بالغضب. الرابع عشر: أن باب المنهيات تسقط الآلاف المؤلفة منه الواحدة من المأمورات وباب المأمورات لا يسقط الواحدة منه الآلاف المؤلفة من المنهيات. الخامس عشر: أن متعلق المأمورات الفعل وهو صفة كمال بل كمال المخلوق من فعاله فإنه فعل فكمل ومتعلق النهي الترك والترك عدم ومن حيث هو كذلك لا يكون كمالا فإن العدم المحض ليس بكمال وإنما يكون كمالا لما يتضمنه أو يستلزمه من الفعل الوجودي الذي هو سبب الكمال. وأما أن يكون مجرد الترك الذي هو عدم محض كمالا أو سببا للكمال فلا. مثال ذلك لو ترك السجود للصنم لم يكن كماله في مجرد هذا الترك ما لم يكن يسجد لله وإلا فلو ترك السجود لله وللصنم لم يكن ذلك كمالا، وكذلك لو ترك تكذيب الرسول ومعاداته لم يكن بذلك مؤمنا ما لم يفعل ضد ذلك من التصديق والحب وموالاته وطاعته فعلم أن الكمال كله في المأمور وأن المنهي ما لم يتصل به فعل المأمور لم يفد شيئا ولم يكن كمالا، فإن الرجل لو قال للرسول لا أكذبك ولا أصدقك ولا أواليك ولا أعاديك ولا أحاربك ولا أحارب من يحاربك لكان كافرا ولم يكن مؤمنا بترك معاداته وتكذيبه ومحاربته ما لم يأت بالفعل الوجودي الذي أمر به. السادس عشر: أن العبد إذا أتى بالمأمور به على وجهه ترك المنهي عنه ولا بد، فالمقصود إنما هو فعل المأمور ومع فعله على وجهه يتعذر فعل المنهي فالمنهي عنه في الحقيقة هو تعريض المأمور للإضاعة فإن العبد إذا فعل ما أمر به من العدل والعفة وامتنع من صدور الظلم والفواحش منه فنفس العدل يتضمن ترك الظلم ونفس العفة تتضمن ترك الفواحش فدخل ترك المنهي عنه في المأمور به ضمنا وتبعا وليس كذلك في عكسه فإن ترك المحظور لا يتضمن فعل المأمور فإنه قد يتركهما معا كما تقدم فعلم أن المقصود هو إقامة الأمر على وجهه ومع ذلك لا يمكن ارتكاب النهي ألبتة وأما ترك المنهي عنه فإنه يستلزم إقامة الأمر السابع عشر: أن الرب تعالى إذا أمر عبده بأمر ونهاه عن أمر ففعلهما جميعا كان قد حصل محبوب الرب وبغيضه فقد تقدم له من محبوبه ما يدفع عنه شر بغيضه ومقاومته ولا سيما إذا كان فعل ذلك المحبوب أحب إليه من ترك ذلك البغيض فيهب له من جنايته ما فعل من هذا بطاعته ويتجاوز له عما فعل من الآخر. ونظير هذا في الشاهد أن يقتل الرجل عدوا للملك هو حريص على قتله وشرب مسكرا نهاه عن شربه فإنه يتجاوز له عن هذه الزلة بل عن أمثالها في جنب ما أتى به من محبوبه وأما إذا ترك محبوبه وبغيضه فإنه لا يقوم ترك بغيضه بمصلحة فعل محبوبه أبدا كما إذا أمر الملك عبده بقتل عدوه ونهاه عن شرب مسكر فعصاه في قتل عدوه مع قدرته عليه وترك شرب المسكر فإن الملك لا يهب له جرمه بترك أمره في جنب ترك ما نهاه عنه وقد فطر الله عباده على هذا فهكذا السادات مع عبيدهم والآباء مع أولادهم والملوك مع جندهم والزوجات مع أزواجهم ليس التارك منهم محبوب الأمر ومكروهه بمنزلة الفاعل منهم محبوب أمره ومكروهه. يوضحه الوجه الثامن عشر: أن فاعل محبوب الرب يستحيل أن يفعل جميع مكروهه بل يترك من مكروهه بقدر ما أتى به من محبوبه فيستحيل الإتيان بجميع مكروهه وهو يفعل ما أحبه وأبغضه فغايته أنه اجتمع الأمران فيحبه الرب تعالى من وجه ويبغضه من وجه أما إذا ترك المأمور به جملة فإنه لم يقم به ما يحبه الرب عليه فإن مجرد ترك المنهي لا يكون طاعة إلا باقترانه بالمأمور كما تقدم فلا يحبه على مجرد الترك وهو سبحانه يكرهه ويبغضه على مخالفة الأمر فصار مبغوضا للرب تعالى من كل وجه إذ ليس فيه ما يحبه الرب عليه فتأمله. يوضحه الوجه التاسع عشر: وهو أن الله سبحانه لم يعلق محبته إلا بأمر وجودي أمر به إيجابا أو استحبابا ولم يعلقها بالترك من حيث هو ترك ولا في موضع واحد فإنه يحب التوابين ويحب المحسنين ويحب الشاكرين ويحب الصابرين ويحب المتطهرين ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص، ويحب المتقين ويحب الذاكرين، ويحب المتصدقين، فهو سبحانه إنما علق محبته بأوامره إذ هي المقصود من الخلق والأمر كما قال تعالى ﴿وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ فما خلق الخلق إلا لقيام أوامره وما نهاهم إلا عما يصدهم عن قيام أوامره ويعوقهم عنها. يوضحه الوجه العشرون: أن المنهيات لو لم تصد عن المأمورات وتمنع وقوعها على الوجه الذي أمر الله بها لم يكن للنهي عنها معنى وإنما نهى عنها لمضادتها لأوامره وتعويقها لها وصدها عنها فالنهي عنها من باب التكميل والتتمة للمأمور فهو بمنزلة تنظيف طرق الماء ليجري في مجاريه غير معوق فالأمر بمنزلة الماء الذي أرسل في نهر لحياة البلاد والعباد والنهي بمنزلة تنظيف طرقه ومجراه وتنقيتها مما يعوق الماء والأمر بمنزلة القوة والحياة والنهي بمنزلة الحمية الحافظة للقوة والداء والخادم لها قالوا وإذا تبين أن فعل المأمور أفضل فالصبر عليه أفضل أنواع الصبر وبه يسهل عليه الصبر عن المحظور، والصبر على المقدور فإن الصبر إلا على يتضمن الصبر الأدنى دون العكس وقد ظهر لك من هذا أن الأنواع الثلاثة متلازمة وكل نوع منها يعين على النوعين الآخرين وإن كان من الناس من قوة صبره على المقدور فإذا جاء الأمر والنهي فقوة صبره هناك ضعيفة ومنهم من هو بالعكس من ذلك، ومنهم من قوة صبره في جانب الأمر أقوى، ومنهم من هو بالعكس والله أعلم. * [فَصْلٌ أنْواعُ الصَّبْرِ] [الصَّبْرُ بِاللَّهِ ولِلَّهِ ومَعَ اللَّهِ] وَهُوَ عَلى ثَلاثَةِ أنْواعٍ: صَبْرٌ بِاللَّهِ. وصَبْرٌ لِلَّهِ. وصَبْرٌ مَعَ اللَّهِ. فالأوَّلُ: صَبْرُ الِاسْتِعانَةِ بِهِ، ورُؤْيَتُهُ أنَّهُ هو المُصَبِّرُ، وأنَّ صَبْرَ العَبْدِ بِرَبِّهِ لا بِنَفْسِهِ. كَما قالَ تَعالى: ﴿واصْبِرْ وما صَبْرُكَ إلّا بِاللَّهِ﴾ [النحل: ١٢٧] يَعْنِي إنْ لَمْ يُصَبِّرْكَ هو لَمْ تَصْبِرْ. والثّانِي: الصَّبْرُ لِلَّهِ. وهو أنْ يَكُونَ الباعِثُ لَهُ عَلى الصَّبْرِ مَحَبَّةَ اللَّهِ، وإرادَةَ وجْهِهِ. والتَّقَرُّبَ إلَيْهِ. لا لِإظْهارِهِ قُوَّةَ النَّفْسِ، والِاسْتِحْمادَ إلى الخَلْقِ، وغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الأعْراضِ. والثّالِثُ: الصَّبْرُ مَعَ اللَّهِ. وهو دَوَرانُ العَبْدِ مَعَ مُرادِ اللَّهِ الدِّينِيِّ مِنهُ. ومَعَ أحْكامِهِ الدِّينِيَّةِ. صابِرًا نَفْسَهُ مَعَها، سائِرًا بِسَيْرِها. مُقِيمًا بِإقامَتِها. يَتَوَجَّهُ مَعَها أيْنَ تَوَجَّهَتْ رَكائِبُها. ويَنْزِلُ مَعَها أيْنَ اسْتَقَلَّتْ مَضارِبُها. فَهَذا مَعْنى كَوْنِهِ صابِرًا مَعَ اللَّهِ؛ أيْ قَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ وقْفًا عَلى أوامِرِهِ ومَحابِّهِ. وهو أشَدُّ أنْواعِ الصَّبْرِ وأصْعَبِها. وهو صَبْرُ الصِّدِّيقِينَ. قالَ الجُنَيْدُ: المَسِيرُ مِنَ الدُّنْيا إلى الآخِرَةِ سَهْلٌ هَيِّنٌ عَلى المُؤْمِنِ. وهِجْرانُ الخَلْقِ في جَنْبِ اللَّهِ شَدِيدٌ، والمَسِيرُ مِنَ النَّفْسِ إلى اللَّهِ صَعْبٌ شَدِيدٌ. والصَّبْرُ مَعَ اللَّهِ أشَدُّ. وَسُئِلَ عَنِ الصَّبْرِ؟ فَقالَ: تَجَرُّعُ المَرارَةِ مِن غَيْرِ تَعَبُّسٍ. قالَ ذُو النُّونِ المِصْرِيُّ: الصَّبْرُ: التَّباعُدُ مِنَ المُخالَفاتِ. والسُّكُونُ عِنْدَ تَجَرُّعِ غُصَصِ البَلِيَّةِ. وإظْهارُ الغِنى مَعَ حُلُولِ الفَقْرِ بِساحاتِ المَعِيشَةِ. وَقِيلَ: الصَّبْرُ: الوُقُوفُ مَعَ البَلاءِ بِحُسْنِ الأدَبِ. وَقِيلَ: هو الفَناءُ في البَلْوى، بِلا ظُهُورٍ ولا شَكْوى. وَقِيلَ: تَعْوِيدُ النَّفْسِ الهُجُومَ عَلى المَكارِهِ. وَقِيلَ: المُقامُ مَعَ البَلاءِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ، كالمُقامِ مَعَ العافِيَةِ. وَقالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمانَ: هو الثَّباتُ مَعَ اللَّهِ، وتَلَقِّي بَلائِهِ بِالرَّحْبِ والدَّعَةِ. وَقالَ الخَوّاصُ: هو الثَّباتُ عَلى أحْكامِ الكِتابِ والسُّنَّةِ. وَقالَ يَحْيى بْنُ مُعاذٍ: صَبْرُ المُحِبِّينَ أشَدُّ مِن صَبْرِ الزّاهِدِينَ. واعَجَبًا! كَيْفَ يَصْبِرُونَ؟ وأنْشَدَ: ؎والصَّبْرُ يَجْمُلُ في المَواطِنِ كُلِّها ∗∗∗ إلّا عَلَيْكَ فَإنَّهُ لا يَجْمُلُ وَقِيلَ: الصَّبْرُ هو الِاسْتِعانَةُ بِاللَّهِ. وَقِيلَ: هو تَرْكُ الشَّكْوى. وَقِيلَ: ؎الصَّبْرُ مِثْلُ اسْمِهِ، مُرٌّ مَذاقَتُهُ، ∗∗∗ لَكِنَّ عَواقِبَهُ أحْلى مِنَ العَسَلِ وَقِيلَ: الصَّبْرُ أنْ تَرْضى بِتَلَفِ نَفْسِكَ في رِضا مَن تُحِبُّهُ. كَما قِيلَ: ؎سَأصْبِرُ كَيْ تَرْضى وأتْلَفَ حَسْرَةً ∗∗∗ وحَسَبِي أنْ تَرْضى ويُتْلِفَنِي صَبْرِي وَقِيلَ: مَراتِبُ الصّابِرِينَ خَمْسَةٌ: صابِرٌ، ومُصْطَبِرٌ، ومُتَصَبِّرٌ، وصَبُورٌ، وصَبّارٌ، فالصّابِرُ: أعَمُّها، والمُصْطَبِرُ: المُكْتَسِبُ الصَّبْرَ المَلِيءُ بِهِ. والمُتَصَبِّرُ: المُتَكَلِّفُ حامِلٌ نَفْسَهُ عَلَيْهِ. والصَّبُورُ: العَظِيمُ الصَّبْرِ الَّذِي صَبْرُهُ أشَدُّ مِن صَبْرِ غَيْرِهِ. والصَّبّارُ: الكَثِيرُ الصَّبْرِ. فَهَذا في القَدْرِ والكَمِّ. والَّذِي قَبْلَهُ في الوَصْفِ والكَيْفِ. وَقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الصَّبْرُ مَطِيَّةٌ لا تَكْبُو. وَقَفَ رَجُلٌ عَلى الشِّبْلِيِّ. فَقالَ: أيُّ صَبْرٍ أشَدُّ عَلى الصّابِرِينَ؟ فَقالَ: الصَّبْرُ في اللَّهِ. قالَ السّائِلُ: لا. فَقالَ: الصَّبْرُ لِلَّهِ. فَقالَ: لا. فَقالَ: الصَّبْرُ مَعَ اللَّهِ. فَقالَ: لا. قالَ الشِّبْلِيُّ: فَإيشْ هُوَ؟ قالَ: الصَّبْرُ عَنِ اللَّهِ. فَصَرَخَ الشِّبْلِيُّ صَرْخَةً كادَتْ رُوحُهُ تَتْلَفَ. وَقالَ الجَرِيرِيُّ: الصَّبْرُ أنْ لا يُفَرَّقُ بَيْنَ حالِ النِّعْمَةِ وحالِ المَحَبَّةِ، مَعَ سُكُونِ الخاطِرِ فِيهِما. والتَّصَبُّرُ: هو السُّكُونُ مَعَ البَلاءِ، مَعَ وِجْدانِ أثْقالِ المِحْنَةِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ الدَّقّاقُ: فازَ الصّابِرُونَ بِعِزِّ الدّارَيْنِ؛ لِأنَّهم نالُوا مِنَ اللَّهِ مَعِيَّتَهُ. فَإنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرِينَ. وَقِيلَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿اصْبِرُوا وصابِرُوا ورابِطُوا﴾ [آل عمران: ٢٠٠]. إنَّهُ انْتِقالٌ مِنَ الأدْنى إلى الأعْلى. فالصَّبْرُ دُونَ المُصابَرَةِ. والمُصابَرَةُ دُونَ المُرابَطَةِ والمُرابَطَةُ مُفاعَلَةٌ مِنَ الرَّبْطِ وهو الشَّدُّ. وسُمِّي المُرابِطُ مُرابِطًا لِأنَّ المُرابِطِينَ يَرْبِطُونَ خُيُولَهم يَنْتَظِرُونَ الفَزَعَ. ثُمَّ قِيلَ لِكُلِّ مُنْتَظِرٍ قَدْ رَبَطَ نَفْسَهُ لِطاعَةٍ يَنْتَظِرُها: مُرابِطٌ. ومِنهُ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «ألا أُخْبِرُكم بِما يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الخَطايا، ويَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجاتِ؟ إسْباغُ الوُضُوءِ عَلى المَكارِهِ، وكَثْرَةُ الخُطى إلى المَساجِدِ، وانْتِظارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ، فَذَلِكُمُ الرِّباطُ». وَقالَ: «رِباطُ يَوْمٍ في سَبِيلِ اللَّهِ: خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيا وما فِيها». وَقِيلَ: اصْبِرُوا بِنُفُوسِكم عَلى طاعَةِ اللَّهِ. وصابِرُوا بِقُلُوبِكم عَلى البَلْوى في اللَّهِ. ورابِطُوا بِأسْرارِكم عَلى الشَّوْقِ إلى اللَّهِ. وَقِيلَ: اصْبِرُوا في اللَّهِ. وصابِرُوا بِاللَّهِ. ورابِطُوا مَعَ اللَّهِ. وَقِيلَ: اصْبِرُوا عَلى النَّعْماءِ. وصابِرُوا عَلى البَأْساءِ والضَّرّاءِ. ورابِطُوا في دارِ الأعْداءِ. واتَّقَوْا إلَهَ الأرْضِ والسَّماءِ. لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ في دارِ البَقاءِ. فالصَّبْرُ مَعَ نَفْسِكَ، والمُصابَرَةُ بَيْنَكَ وبَيْنَ عَدُوِّكَ، والمُرابَطَةُ الثَّباتُ وإعْدادُ العُدَّةِ. وكَما أنَّ الرِّباطَ لُزُومُ الثَّغْرِ لِئَلّا يَهْجُمَ مِنهُ العَدُوُّ. فَكَذَلِكَ الرِّباطُ أيْضًا لُزُومُ ثَغْرِ القَلْبِ لِئَلّا يَهْجُمَ عَلَيْهِ الشَّيْطانُ، فَيَمْلِكَهُ ويُخَرِّبَهُ أوْ يُشَعِّثَهُ. وَقِيلَ: تَجَرَّعِ الصَّبْرَ، فَإنْ قَتَلَكَ قَتَلَكَ شَهِيدًا. وإنْ أحْياكَ أحْياكَ عَزِيزًا. وَقِيلَ: الصَّبْرُ لِلَّهِ غِناءٌ. وبِاللَّهِ تَعالى بَقاءٌ. وفي اللَّهِ بَلاءٌ. ومَعَ اللَّهِ وفاءٌ. وعَنِ اللَّهِ جَفاءٌ. والصَّبْرُ عَلى الطَّلَبِ عُنْوانُ الظَّفَرِ. وفي المِحَنِ عُنْوانُ الفَرَجِ. وَقِيلَ: حالُ العَبْدِ مَعَ اللَّهِ رِباطُهُ. وما دُونَ اللَّهِ أعْداؤُهُ. وَفِي كِتابِ الأدَبِ لِلْبُخارِيِّ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الإيمانِ؟ فَقالَ: الصَّبْرُ، والسَّماحَةُ». ذَكَرَهُ عَنْ مُوسى بْنِ إسْماعِيلَ. قالَ: حَدَّثَنا سُوَيْدٌ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فَذَكَرَهُ. وَهَذا مِن أجْمَعِ الكَلامِ وأعْظَمِهِ بُرْهانًا، وأوْعَبِهِ لِمَقاماتِ الإيمانِ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها. فَإنَّ النَّفْسَ يُرادُ مِنها شَيْئانِ: بَذْلُ ما أُمِرَتْ بِهِ، وإعْطاؤُهُ. فالحامِلُ عَلَيْهِ: السَّماحَةُ. وتَرْكُ ما نُهِيَتْ عَنْهُ، والبُعْدُ مِنهُ. فالحامِلُ عَلَيْهِ: الصَّبْرُ. وَقَدْ أمَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى في كِتابِهِ بِالصَّبْرِ الجَمِيلِ، والصَّفْحِ الجَمِيلِ، والهَجْرِ الجَمِيلِ. فَسَمِعْتُ شَيْخَ الإسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ - يَقُولُ: الصَّبْرُ الجَمِيلُ هو الَّذِي لا شَكْوى فِيهِ ولا مَعَهُ. والصَّفْحُ الجَمِيلُ هو الَّذِي لا عِتابَ مَعَهُ. والهَجْرُ الجَمِيلُ هو الَّذِي لا أذى مَعَهُ. وَفِي أثَرٍ إسْرائِيلِيٍّ: أوْحى اللَّهُ إلى نَبِيٍّ مِن أنْبِيائِهِ: أنْزَلْتُ بِعَبْدِي بَلائِي، فَدَعانِي. فَماطَلْتُهُ بِالإجابَةِ، فَشَكانِي. فَقُلْتُ: عَبْدِي، كَيْفَ أرْحَمُكَ مِن شَيْءٍ بِهِ أرْحَمُكَ؟ وَقالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَجَعَلْنا مِنهم أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا لَمّا صَبَرُوا﴾ [السجدة: ٢٤] قالَ: أخَذُوا بِرَأْسِ الأمْرِ فَجَعَلَهم رُؤَساءَ. وَقِيلَ: صَبْرُ العابِدِينَ أحْسَنُهُ: أنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا، وصَبْرُ المُحِبِّينَ أحْسَنُهُ: أنْ يَكُونَ مَرْفُوضًا. كَما قِيلَ: ؎تَبَيَّنَ يَوْمَ البَيْنِ أنَّ اعْتِزامَهُ ∗∗∗ عَلى الصَّبْرِ مِن إحْدى الظُّنُونِ الكَواذِبِ والشَّكْوى إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ لا تُنافِي الصَّبْرَ. فَإنَّ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وعَدَ بِالصَّبْرِ الجَمِيلِ. والنَّبِيُّ إذا وعَدَ لا يُخْلِفُ. ثُمَّ قالَ: ﴿إنَّما أشْكُو بَثِّي وحُزْنِي إلى اللَّهِ﴾ [يوسف: ٨٦] وكَذَلِكَ أيُّوبُ أخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ وجَدَهُ صابِرًا مَعَ قَوْلِهِ: ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ وأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٣]. وَإنَّما يُنافِي الصَّبْرَ شَكْوى اللَّهِ، لا الشَّكْوى إلى اللَّهِ. كَما رَأى بَعْضُهم رَجُلًا يَشْكُو إلى آخَرَ فاقَةً وضَرُورَةً. فَقالَ: يا هَذا، تَشْكُو مَن يَرْحَمُكَ إلى مَن لا يَرْحَمُكَ؟ ثُمَّ أنْشَدَ: ؎وَإذا عَرَتْكَ بَلِيَّةٌ فاصْبِرْ لَها ∗∗∗ صَبْرَ الكَرِيمِ فَإنَّهُ بِكَ أعْلَمُ ؎وَإذا شَكَوْتَ إلى ابْنِ آدَمَ إنَّما ∗∗∗ تَشْكُو الرَّحِيمَ إلى الَّذِي لا يَرْحَمُ. * [فصل: في انقسام الصبر إلى محمود ومذموم] فالمذموم: الصبر عن الله وإرادته ومحبته وسير القلب إليه فإن هذا الصبر يتضمن تعطيل كمال العبد بالكلية وتفويت ما خلق له وهذا كما أنه أقبح الصبر فهو أعظمه وأبلغه فإنه لا صبر أبلغ من صبر من يصبر عن محبوبه الذي لا حياة له بدونه ألبتة كما أنه لا زهد أبلغ من زهد الزاهد فيما أعد الله لأوليائه من كرامته مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فالزهد في هذا أعظم أنواع الزهد كما قال رجل لبعض الزاهدين وقد تعجب لزهده "ما رأيت أزهد منك! " فقال: "أنت أزهد مني أنا زهدت في الدنيا وهي لا بقاء لها ولا وفاء، وأنت زهدت في الآخرة فمن أزهد منا" قال يحيى بن معاذ الرازي "صبر المحبين أعجب من صبر الزاهدين واعجبا كيف يصبرون! " وفي هذا قيل ؎الصبر يحمد في المواطن كلها ∗∗∗ إلا عليك فإنه لا يحمد ووقف رجل على الشبلي فقال: أي صبر أشد على الصابرين؟ فقال الصبر في الله. قال لا. فقال الصبر لله. فقال لا. قال فالصبر مع الله. قال لا. قال فإيش هو؟ قال الصبر عن الله فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه تزهق. وقيل: الصبر مع الله وفاء والصبر عن الله جفاء وقد أجمع الناس على أن الصبر عن المحبوب غير محمود فكيف إذا كان كمال العبد وفلاحه في محبته ولم تزل الأحباب تعيب المحبين بالصبر عنهم كما قيل: ؎والصبر عنك فمذموم عواقبه ∗∗∗ والصبر في سائر الأشياء محمود وقال آخر في الصبر عن محبوبه ؎إذا لعب الرجال بكل شيء ∗∗∗ رأيت الحب يلعب بالرجال ؎وكيف الصبر عمن حل منى ∗∗∗ بمنزلة اليمين مع الشمال وشكا آخر إلى محبوبه ما يقاسي من حبه فقال: لو كنت صادقا لما صبرت عنى. ؎ولما شكوت الحب قالت كذبتنى ∗∗∗ ترى الصب عن محبوبه كيف يصبر * فصل: وأما الصبر المحمود فنوعان: صبر لله وصبر بالله قال الله تعالى ﴿واصْبِرْ وما صَبْرُكَ إلاَّ بِاللَّه﴾ وقال ﴿واصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإنَّكَ بِأعْيُنِنا﴾ وقد تنازع الناس أي الصبرين أكمل فقالت طائفة الصبر له أكمل فإن ما كان لله أكمل مما كان بالله فإن ما كان له فهو غاية وما كان به فهو وسيلة والغايات أشرف من الوسائل ولذلك وجب الوفاء بالنذر إذا كان تبرر أو تقربا إلى الله لأنه نذر له ولم يجب الوفاء به إذا خرج مخرج اليمين لأنه حلف به فما كان له سبحانه فهو متعلق بألوهيته وما كان به فهو متعلق بربوبيته وما تعلق بألوهيته أشرف مما تعلق بربوبيته ولذلك كان توحيد الألوهية هو المنجى من الشرك دون توحيد الربوبية بمجرده فإن عباد الأصنام كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء وربه ومليكه ولكن لما لم يأتوا بتوحيد الألوهية وهو عبادته وحده لا شريك له لم ينفعهم توحيد ربوبيته. وقالت طائفة: الصبر بالله أكمل بل لا يمكن الصبر له إلا بالصبر به كما قال تعالى ﴿واصْبِرْ﴾ فأمره بالصبر والمأمور به هو الذي يفعل لأجله ثم قال ﴿وَما صَبْرُكَ إلاَّ بِاللَّهِ﴾ فهذه جملة خبرية غير الجملة الطلبية التي تقدمتها أخبر فيها إنه لا يمكنه الصبر إلا به وذلك يتضمن أمرين الاستعانة به والمعية الخاصة التي تدل عليها باء المصاحبة كقوله فبي يسمع وبى يبصر وبى يبطش وبي يمشي وليس المراد بهذه الباء الاستعانة فإن هذا أمر مشترك بين المطيع والعاصى فإن ما لا يكون بالله لا يكون بل هي باء المصاحبة والمعية التي صرح بمضمونها في قوله ﴿إنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرِينَ﴾ وهي المعية الحاصلة لعبده الذي تقرب إليه بالنوافل حتى صار محبوبا له فبه يسمع وبه يبصر وكذلك به يصبر فلا يتحرك ولا يسكن ولا يدرك إلا والله معه ومن كان كذلك أمكنه الصبر له وتحمل الأثقال لأجله كما في الأثر الإلهي يعني "وما يتحمل المتحملون من أجلي" فدل قوله ﴿وَما صَبْرُكَ إلاَّ بِاللَّهِ﴾ على أنه من لم يكن الله معه لم يمكنه الصبر وكيف يصبر على الحكم الأمرى امتثالا وتنفيذا وتبليغا وعلى الحكم القدري احتمالا له واضطلاعا به من لم يكن الله معه فلا يطمع في درجة الصبر المحمود عواقبه من لم يكن صبره بالله كما لا يطمع في درجة التقرب المحبوب من لم يكن سمعه وبصره وبطشه ومشيه بالله. وهذا هو المراد من قوله: "كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها" ليس المراد إني كنت نفس هذه الأعضاء والقوى كما يظنه أعداء الله أهل الوحدة وأن ذات العبد هي ذات الرب تعالى الله عن قول اخوان النصارى علوا كبيرا ولو كان كما يظنون لم يكن فرق بين هذا العبد وغيره ولا بين حالتي تقربه إلى ربه بالنوافل وتمقته إليه بالمعاصي بل لم يكن هناك متقرب ومتقرب إليه ولا عبد ولا معبود ولا محب ولا محبوب فالحديث كله مكذب لدعواهم الباطلة من نحو ثلاثين وجها تعرف بالتأمل الظاهر. وقد فسر المراد من قوله: " كنت سمعه وبصره ويده ورجله" بقوله: "فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي " فعبر عن هذه المصاحبة التي حصلت بالتقرب إليه بمحابه بألطف عبارة وأحسنها تدل على تأكد المصاحبة ولزومها حتى صار له بمنزلة سمعه وبصره ويده ورجله. ونظير هذا قوله:"الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبَّله فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه". ومثل هذا سائغ في الاستعمال أن ينزل إلى منزلة ما يصاحبه ويقارنه حتى يقول المحب للمحبوب أنت روحى وسمعى وبصرى وفي ذلك معنيان أحدهما أنه صار منه بمنزلة روحه وقلبه وسمعه وبصره والثاني أن محبته وذكره لما استولي على قلبه وروحه صار معه وجليسه كما في الحديث "يقول الله تعالى: أنا جليس من ذكرني" وفي الحديث الآخر "أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه" وفي الحديث "فإذا أحببت عبدي كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا" ولا يعبر عن هذا المعنى بأتم من هذه العبارة ولا أحسن ولا ألطف منها وإيضاح هذه العبارة مما يزيدها جفاء وخفاء. والمقصود إنما هو ذكر الصبر بالله وأن العبد بحسب نصيبه من معية الله له يكون صبره وإذا كان الله معه أمكن أن يأتي من الصبر بما لا يأتي به غيره قال أبو على فاز الصابرون بعز الدارين لأنهم نالوا من الله معيته قال تعالى ﴿إنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرِينَ﴾. وها هنا سر بديع وهو أن من تعلق بصفة من صفات الرب تعالى أدخلته تلك الصفة عليه وأوصلته إليه والرب تعالى هو الصبور بل لا أحد أصبر على أذى سمعه منه وقد قيل إن الله سبحانه أوحى إلى داود "تخلق بأخلاق فإن من أخلاقى إني أنا الصبور" والرب تعالى يحب أسماءه وصفاته ويحب مقتضى صفاته وظهور آثارها في العبد فإنه جميل يحب الجمال عفو يحب أهل العفو كريم يحب أهل الكرم عليم يحب أهل العلم وتر يحب أهل الوتر قوى والمؤمن القوى أحب إليه من المؤمن الضعيف صبور يحب الصابرين شكور يحب الشاكرين وإذا كان سبحانه يحب المتصفين بآثار صفاته فهو معهم بحسب نصيبهم من هذا الاتصاف فهذه المعية الخاصة عبر عنها بقوله "كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا". * [فصل] وزاد بعضهم قسما ثالثا من أقسام الصبر وهو الصبر مع الله وجعلوه أعلى أنواع الصبر وقالوا هو الوفاء ولو سئل هذا عن حقيقة الصبر مع الله لما أمكنه أن يفسره بغير الأنواع الثلاثة التي ذكرت وهي الصبر على أقضيته والصبر على أوامره والصبر عن نواهيه فإن زعم أن الصبر مع الله هو الثبات معه على أحكامه يدور معها حيث دارت فيكون دائما مع الله لا مع نفسه فهو مع الله بالمحبة والموافقة فهذا المعنى حق ولكن مداره على الصبر على الأنواع المتقدمة وإن زعم أن الصبر مع الله هو الجامع لأنواع الصبر فهذا حق ولكن جعله قسما رابعا من أقسام الصبر غير مستقيم. واعلم أن حقيقة الصبر مع الله هو ثبات القلب بالاستقامة معه وهو أن لا يروغ عنه روغان الثعالب ها هنا وها هنا فحقيقة هذا هو الاستقامة إليه وعكوف القلب عليه وزاد بعضهم قسما آخر من اقسامه وسماه الصبر فيه وهذا أيضا غير خارج عن أقسام الصبر المذكورة ولا يعقل من الصبر فيه معنى غير الصبر له وهذا كما يقال فعلت هذا في الله وله كما قال خبيب: ؎وذلك في ذات الإله وإن يشأ ∗∗∗ يبارك على أوصال شلو ممزع وقد قال تعالى ﴿والَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهم سُبُلَنا﴾ وقال ﴿وَجاهِدُوا في اللَّهِ﴾ وفي حديث جابر: "إن الله تعالى لما أحيا أباه وقال له تمن قال يا رب أن ترجعني إلى الدنيا حتى أقتل فيك مرة ثانية" وقال " ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد" وهذا يفهم منه معنيان أحدهما أن ذلك في مرضاته وطاعته وسبيله وهذا فيما يفعله الإنسان باختياره كما في الحديث "تعلمت فيك العلم" والثاني إنه بسببه وبجهته حصل ذلك وهذا فيما يصيبه بغير اختياره وغالب ما يأتي قولهم "ذلك في الله" في هذا المعنى. فتأمل قوله "ولقد أوذيت في الله" وقول خبيب وذلك "في ذات الإله" وقول عبد الله بن حرام "حتى أقتل فيك" وكذلك قوله ﴿والَّذِينَ جاهَدُوا فِينا﴾ فإنه يترتب عليه الأذى فيه سبحانه. وليست (في) هاهنا للظرفية ولا لمجرد السببية وإن كانت السببية هي أصلها فانظر إلى قوله "في نفس المؤمن مائة من الإبل" وقوله "دخلت امرأة النار في هرة" كيف تجد فيه معنى زائدا على السببية وليست في للوعاء في جميع معانيها فقولك "فعلت هذا في مرضاتك" فيه معنى زيد على قولك "فعلته لمرضاتك" وأنت إذا قلت "أوذيت في الله" لا يقوم مقام هذا اللفظ كقولك "أوذيت لله" ولا "بسبب الله" وإذا فهم المعنى طوى حكم العبارة والمقصود أن الصبر في الله أن أريد به هذا المعنى فهو حق وأن أريد به معنى خارج عن الصبر على أقضيته وعلى أوامره وعن نواهيه وله وبه لم يحصل فالصابر في الله كالمجاهد في الله والجهاد فيه لا يخرج عن معنى الجهاد به وله والله الموفق. وأما قول بعضهم"الصبر لله غناء والصبر بالله بقاء والصبر في الله بلاء والصبر مع الله وفاء والصبر عن الله جفاء" فكلام لا يجب التسليم لقائله لأنه ذكر ما سنح له وتصوره وإنما يجب التسليم للنقل المصدق عن القائل المعصوم ونحن نشرح هذه الكلمات. أما قوله"الصبر لله غناء" فإن الصبر لله بترك حظوظ النفس ومرادها لمراد الله وهذا أشق شيء على النفس وأصعبه فإن قطع المفازة التي بين النفس وبين الله بحيث يسير منها إلى الله شديد جدا على النفس بخلاف السفر إلى الآخرة فإنه سهل كما قال الجنيد"السير من الدنيا إلى الآخرة سهل يعني على المؤمن وهجران الخلق في جنب الحق شديد والسير من النفس إلى الله صعب شديد والصبر مع الله أشد" وأما قوله:"والصبر بالله بقاء" فلأن العبد إذا كان بالله هان عليه كل شيء ويتحمل الأثقال ولم يجد لها ثقلا فإنه إذا كان بالله لا بالخلق ولا بنفسه كان لقلبه وروحه وجود آخر وشأن آخر غير شأنه إذا كان بنفسه وبالخلق وبهذا الحال لا يجد عناء الصبر ولا مرارته وتنقلب مشاق التكليف له نعيما وقرة عين كما قال بعض الزهاد عالجت قيام الليل سنة وتنعمت به عشرين سنة ومن كانت قرة عينه في الصلاة لم يجد لها مشقة وكلفة. وأما قوله:"والصبر في الله بلاء" فالبلاء فوق العناء والصبر فيه فوق الصبر له وأخص منه كما تقدم فإن الصبر فيه بمنزلة الجهاد فيه وهو أشق من الجهاد له فكل مجاهد في الله وصابر في الله مجاهد له وصابر له من غير عكس فإن الرجل قد يجاهد ويصبر لله مرة ليقع عليه اسم من فعل ذلك لله ولا يقع عليه اسم من فعل ذلك في الله وإنما يقع على من انغمس في الجهاد والصبر ودخل الجنة. وأما قوله:"والصبر مع الله وفاء" فلأن الصبر معه هو الثبات معه على أحكامه ولا يزيغ القلب عن الإنابة ولا الجوارح عن الطاعة فتعطى المعية حقها من التوفية كما قال تعالى ﴿وَإبْراهِيمَ الَّذِي وفّى﴾ أي وفي ما أمر به بصبره مع الله على أوامره. * [فصل: في بيان أسماء الصبر بالإضافة إلى متعلقه] لما كان الصبر المحمود هو الصبر النفساني الاختياري عن إجابة داعي الهوى المذموم كانت مراتبه وأسماؤه بحسب متعلقه فإنه إن كان صبرا عن شهوة الفرج المحرمة سمي عفة، وضدها الفجور والزنا والعهر، وإن كان عن شهوة البطن وعدم التسرع إلى الطعام أو تناول ما لا يجمل منه سمي شرف نفس وشبع نفس، وسمي ضده شرها ودناءة ووضاعة نفس، وإن كان عن إظهار ما لا يحسن إظهاره من الكلام سمي كتمان سر وضده إذاعة وإفشاء أو تهمة أو فحشاء أو سبا أو كذبا أو قذفا وإن كان عن فضول العيش سمي زهدا وضده حرصا، وإن كان على قدر يكفي من الدنيا سمي قناعة وضدها الحرص أيضا، وإن كان عن إجابة داعي الغضب سمي حلما وضده تسرعا، وإن كان عن إجابة داعي العجلة سمي وقارا وثباتا وضده طيشا وخفة وإن كان عن إجابة داعي الفرار والهرب سمي شجاعة وضده جبنا وخورا، وإن كان عن إجابة داعي الانتقام سمي عفوا وصفحا وضده انتقاما وعقوبة، وإن كان عن إجابة داعي الإمساك والبخل سمي جودا وضده بخلا وإن كان عن إجابة داعي الطعام والشراب في وقت مخصوص سمي صوما، وإن كان عن إجابة داعي العجز والكسل سمي كيسا، وإن كان عن إجابة داعي إلقاء الكيل على الناس وعدم حمل كلهم سمي مروءة، فله عند كل فعل وترك اسم يخصه بحسب متعلقه والاسم الجامع لذلك كله الصبر وهذا يدلك على ارتباط مقامات الدين كلها بالصبر من أولها إلى آخرها، وهكذا يسمى عدلا إذا تعلق بالتسوية بين المتماثلين، وضده الظلم ويسمى سماحة إذا تعلق ببذل الواجب والمستحب بالرضا والاختيار، وعلى هذا جميع منازل الدين. * [فصل: في الأسباب التي تعين على الصبر] لما كان الصبر مأمورا به جعل الله سبحانه له أسبابا تعين عليه وتوصل إليه وكذلك ما أمر الله سبحانه بالأمر إلا أعان عليه ونصب له أسبابا تمده وتعين عليه كما أنه ما قدر داءا إلا وقدر له دواء أو ضمن الشفاء باستعماله فالصبر وإن كان شاقا كريها على النفوس فتحصيله ممكن وهو يتركب من مفردين العلم والعمل فمنهما تركب جميع الادوية التي تداوى بها القلوب والأبدان فلا بد من جزء علمي وجزء عملى فمنها يركب هذا الدواء الذي هو أنفع الادوية فأما الجزء العلمي فهو إدراك ما في المأمور من الخير والنفع واللذة والكمال وإدراك ما في المحظور من الشر والضر والنقص فإذا أدرك هذين العلمين كما ينبغى أضاف إليهما العزيمة الصادقة والهمة العالية والنخوة والمروءة الإنسانية وضم هذا الجزء إلى هذا الجزء فمتى فعل ذلك حصل له الصبر وهانت عليه مشاقه وحلت له مرارته وانقلب ألمه لذة وقد تقدم أن الصبر مصارعة باعث العقل والدين لباعث الهوى والنفس وكل متضارعين أراد أن يتغلب أحدهما على الآخر فالطريق فيه تقوية من أراد أن تكون الغلبة له ويضعف الآخر كالحال مع القوة والمرض سواء فإذا قوى باعث شهوة الوقاع المحرم وغلب بحيث لا يملك معها فرجه أو يملكه ولكن لا يملك طرفه أو يملكه ولكن لا يملك قلبه بل لا يزال يحدثه بما هناك ويعده ويمنيه ويصرفه عن حقائق الذكر والتفكر فيما ينفعه في دنياه وآخرته فإذا عزم على التداوى ومقاومة هذا الداء فليضعفه أولا بأمور: أحدها: أن ينظر إلى مادة قوة الشهوة فيحدها من الاغذية المحركة للشهوة إما بنوعها أو بكميتها وكثرتها ليحسم هذه المادة بتقليلها فإن لم تنحسم فليبادر إلى الصوم فإنه يضعف مجارى الشهوة ويكسر حدتها ولا سيما إذا كان أكله وقت الفطر معتدلا الثاني: أن يجتذب محرك الطلب وهو النظر فليقصر لجام طرفه ما أمكنه فإن داعي الإرادة والشهوة إنما يهيج بالنظر والنظر يحرك القلب بالشهوة وفي المسند عنه: "النظر سهم مسموم من سهام إبليس" وهذا السهم يشرده إبليس نحو القلب ولا يصادف جنة دونه وليست الجنة إلا غض الطرف أو التحيز والانحراف عن جهة الرمى فإنه إنما يرمى هذا السهم عن قوس الصور فإذا لم تقف على طريقها أخطأ السهم وأن نصبت قلبك غرضا فيوشك أن يقتله سهم من تلك السهام المسمومة. الثالث: تسلية النفس بالمباح المعوض عن الحرام فإن كل ما يشتهيه الطبع ففيهما أباحه الله سبحانه غنية عنه وهذا هو الدواء النافع في حق أكثر الناس كما أرشد إليه النبي فالدواء الأول يشبه قطع العلف عن الدابة الجموح وعن الكلب الضارى لإضعاف قوتهما والدواء الثاني يشبه تغييب اللحم عن الكلب والشعير عن البهيمة لئلا تتحرك قوتهما له عند المشاهدة والدواء الثالث يشبه إعطائهما من الغذاء ما يميل إليه طبعهما بحسب الحاجة لتبقى معه القوة فتطيع صاحبهما ولا تغلب بإعطائها الزيادة على ذلك. الرابع: التفكر في المفاسد الدنيوية المتوقعة من قضاء هذا الوطر فانه لو لم يكن جنة ولا نار لكان في المفاسد الدنيوية ما ينهى عن إجابة هذا الداعي ولو تكلفنا عدها لفاقت الحصر ولكن عين الهوى عمياء. الخامس الفكرة في مقابح الصورة التي تدعوه نفسه إليها إن كانت معروفة بالإجابة له ولغيره فيعز نفسه أن يشرب من حوض ترده الكلاب والذئاب كما قيل: ؎سأترك وصلكم شرفا وعزا ∗∗∗ لخسة سائر الشركاء فيه وقال آخر ؎إذ كثر الذباب على طعام ∗∗∗ رفعت يدى ونفسي تشتهيه ؎وتجتنب الأسود ورود ماء ∗∗∗ إذا كان الكلاب يلغن فيه وليذكر مخالطة ريقه لريق كل خبيث ريقه الداء الدوى فإن ريق الفاسق داء كما قيل: ؎تسل يا قلب عن سمح بمهجته ∗∗∗ مبذل كل من يلقاه يقرفه ؎كالماء أي صيد يأتيه ينهله ∗∗∗ والغصن أي نسيم من يعطفه ؎وان حلا ريق فاذكر مرارته ∗∗∗ في فم أبخر يحفيه ويرشفه ومن له أدنى مروءة ونخوة يأنف لنفسه من مواصلة من هذا شأنه فإن لم تجبه نفسه إلى الإعراض ورضى بالمشاركة فلينظر إلى ما وراء هذا اللون والجمال الظاهر من القبائح الباطنة فإن من مكن نفسه من فعل القبائح فنفسه أقبح من نفوس البهائم فإنه لا يرضى لنفسه بذلك حيوان من الحيوانات أصلا إلا ما يحكى عن الخنزير وأنه ليس في البهائم لوطى سواه فقد رضى هذا الممكن من نفسه إنه يكون بمنزلة الخنزير وهذا القبح يغطى كل جمال وملاحة في الوجه والبدن غير أن حبك الشيء عمى ويصم وإن كانت الصورة أنثى فقد خانت الله ورسوله وأهلها وبعلها ونفسها وأورثت ذلك لمن بعدها من ذريتها فلها نصيب من وزرهم وعارهم ولا نسبة لجمال صورتها إلى هذا القبح ألبتة وإذا أردت معرفة ذلك فانظر إلى القبح الذي يعلو وجه أحدهما في كبره وكيف يقلب الله سبحانه تلك المحاسن مقابح حتى تعلو الوحشة والقبح وجهه كما قيل شعرا: ؎لو فكر العاشق في منتهى ∗∗∗ حسن الذي يسبيه لم يسبه وتفصيل هذه الوجوه يطول جدا فيكفي ذكر أصولها. * [فصل: أما تقوية باعث الدين فإنه يكون بأمور] أحدهما: إجلال الله تبارك وتعالى أن يعصى وهو يرى ويسمع ومن قام بقلبه مشهد إجلاله لم يطاوعه قلبه لذلك ألبتة. الثاني: مشهد محبته سبحانه فيترك معصيته محبة له فإن المحب لمن يحب مطيع وأفضل الترك ترك المحبين كما أن أفضل الطاعة طاعة المحبين فبين ترك المحب وطاعته وترك من يخاف العذاب وطاعته بون بعيد. الثالث: مشهد النعمة والإحسان فإن الكريم لا يقابل بالإساءة من أحسن إليه وإنما يفعل هذا لئام الناس فليمنعه مشهد إحسان الله تعالى ونعمته عن معصيته حياء منه أن يكون خير الله وإنعامه نازلا إليه ومخالفاته ومعاصيه وقبائحه صاعدة إلى ربه فملك ينزل بهذا وملك يعرج بذاك فأقبح بها من مقابلة. الرابع: مشهد الغضب والانتقام فإن الرب تعالى إذا تمادى العبد في معصيته غضب وإذا غضب لم يقم لغضبه شيء فضلا عن هذا العبد الضعيف. الخامس: مشهد الفوات وهو ما يفوته بالمعصية من خير الدنيا والآخرة وما يحدث له بها من كل اسم مذموم عقلا وشرعا وعرفا ويزول عنه من الأسماء الممدوحة شرعا وعقلا وعرفا ويكفي في هذا المشهد مشهد فوات الإيمان الذي أدنى مثقال ذرة منه خير من الدنيا وما فيها أضعافا مضاعفة فكيف أن يبيعه بشهوة تذهب لذاتها وتبقى تبعتها تذهب الشهوة وتبقى الشقوة وقد صح عن النبي أنه قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" قال بعض الصحابة ينزع منه الإيمان حتى يبقى على رأسه مثل الظلة فإن تاب رجع إليه. وقال بعض التابعين ينزع عنه الإيمان كما ينزع القميص فإن تاب لبسه ولهذا روي عن النبي في الحديث الذي رواه البخاري: " الزناة في التنور عراة " لأنهم تعروا من لباس الإيمان وعاد تنور الشهوة الذي كان في قلوبهم تنورا ظاهرا يحمى عليه في النار. السادس: مشهد القهر والظفر فإن قهر الشهوة والظفر بالشيطان له حلاوة ومسرة وفرحة عند من ذاق ذلك أعظم من الظفر بعدوه من الآدميين وأحلى موقعا وأتم فرحة وأما عاقبته فأحمد عاقبة وهو كعاقبة شرب الدواء النافع الذي أزال داء الجسد وأعاده إلى صحته واعتداله. السابع: مشهد العوض وهو ما وعد الله سبحانه من تعويض من ترك المحارم لأجله ونهى نفسه عن هواها وليوازنه بين العوض المعوض فأيهما كان أولى بالإيثار اختاره وارتضاه لنفسه. الثامن: مشهد المعية وهو نوعان معية عامة ومعية خاصة فالعامة اطلاع الرب عليه، وكونه بعينه لا تخفى عليه حاله وقد تقدم هذا، والمقصود هنا المعية الخاصة كقوله ﴿إنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرِينَ﴾ وقوله ﴿إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا والَّذِينَ هم مُحْسِنُونَ﴾ وقوله ﴿وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ﴾ فهذه المعية الخاصة خير وأنفع في دنياه وآخرته ممن قضى وطره ونيل شهوته على التمام من أول عمره إلى آخره فكيف يؤثر عليها لذة منغصة منكدة في مدة يسيرة من العمر إنما هي كأحلام نائم أو كظل زائل. التاسع: مشهد المغافصة والمعاجلة وهو أن يخاف أن يغافصه الأجل فيأخذه الله على غرة فيحال بينه وبين ما يشتهى من لذات الآخرة فيا لها من حسرة ما أمرها وما أصعبها لكن ما يعرفها إلا من جربها وفي بعض الكتب القديمة يامن لا يأمن على نفسه طرفة عين ولا يتم له سرور يوم الحذر الحذر. العاشر: مشهد البلاء والعافية فإن البلاء في الحقيقة ليس إلا الذنوب وعواقبها والعافية المطلقة هي الطاعات وعواقبها فأهل البلاء هم أهل المعصية وأن عوفيت أبدانهم وأهل العافية هم أهل الطاعة وإن مرضت أبدانهم. وقال بعض أهل العلم في الأثر المروي إذا رأيتم أهل البلاء فاسألوا الله العافية فإن أهل البلاء المبتلون بمعاصي الله والإعراض والغفلة عنه وهذا وإن كان أعظم البلاء فاللفظ يتناول أنواع المبتلين في أبدانهم وأديانهم والله أعلم. الحادي عشر: أن يعود باعث الدين ودواعيه مصارعة داعي الهوى ومقاومته على التدريج قليلا قليلا حتى يدرك لذة الظفر فتقوى حينئذ همته فإن من ذاق لذة شيء قويت همته في تحصيله والاعتياد لممارسة الأعمال الشاقة تزيد القوى التي تصدر عنها تلك الأعمال ولذلك تجد قوى الحمالين وأرباب الصنائع الشاقة تتزايد بخلاف البزاز والخياط ونحوهما ومن ترك المجاهدة بالكلية ضعف فيه باعث الدين وقوى فيه باعث الشهوة ومتى عود نفسه مخالفة الهوى غلبه متى أراد. الثاني عشر: كف الباطل عن حديث النفس وإذا مرت به الخواطر نفاها ولا يؤويها ويساكنها فإنها تصير أماني وهي رءوس أموال المفاليس، ومتى ساكن الخواطر صارت أماني ثم تقوى فتصير هموما ثم تقوى فتصير أرادات ثم تقوى فتصير عزما يقترن به المراد فدفع الخاطر الأول أسهل وأيسر من دفع أثر المقدور بعد وقوعه وترك معاودته. الثالث عشر: قطع العلائق والأسباب التي تدعوه إلى موافقة الهوى وليس المراد أن لا يكون له هوى بل المراد أن يصرف هواه إلى ما ينفعه ويستعمله في تنفيذ مراد الرب تعالى فإن ذلك يدفع عنه شر استعماله في معاصيه فإن كل شيء من الإنسان يستعمله لله فإن الله يقيه شر استعماله لنفسه وللشيطان وما لا يستعمله لله استعمله لنفسه وهواه ولا بد فالعلم أن لم يكن لله كان للنفس والهوى والعمل أن لم يكن لله كان للرياء والنفاق والمال أن لم ينفق في طاعة الله أنفق في طاعة الشيطان والهوى والجاه أن لم يستعمله لله استعمله صاحبه في هواه وحظوظه والقوة أن لم يستعملها في أمر الله استعملته في معصيته فمن عود نفسه العمل لله لم يكن عليه أشق من العمل لغيره ومن عود نفسه العمل لهواه وحظه لم يكن عليه أشق من الإخلاص والعمل لله وهذا في جميع أبواب الأعمال فليس شيء أشق على المنفق لله من الإنفاق لغيره وكذا بالعكس. الرابع عشر: صرف الفكر إلى عجائب آيات الله التي ندب عباده إلى التفكر فيها وهي آياته المتلوة وآياته المجلوة فإذا استولى ذلك على قلبه دفع عنه محاظرة الشيطان ومحادثته ووسواسه وما أعظم غبن من أمكنه أن لا يزال محاظرا للرحمن وكتابه ورسوله والصحابة فرغب عن ذلك إلى محاظرة الشيطان من الإنس والجن فلا غبن بعد هذا الغبن والله المستعان. الخامس عشر: التفكر في الدنيا وسرعة زوالها وقرب انقضائها فلا يرضى لنفسه أن يتزود منها إلى دار بقائه وخلوده أخس ما فيها وأقله نفعا إلا ساقط الهمة دنيء المروءة ميت القلب فإن حسرته تشتد إذا عاين حقيقة ما تزوده وتبين له عدم نفعه له فكيف إذا كان ترك تزود ما ينفعه إلى زاد يعذب به ويناله بسببه غاية الألم بل إذا تزود ما ينفعه وترك ما هو أنفع منه له كان ذلك حسرة عليه وغبنا. السادس عشر: تعرضه إلى من القلوب بين أصبعيه وأزمة الأمور بيديه وانتهاء كل شيء إليه على الدوام فلعله أن يصادف أوقات النفحات كما في الأثر المعروف: "إن لله في أيام دهره نفحات فتعرضوا لنفحاته واسألوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم" ولعله في كثرة تعرضه أن يصادف ساعة من الساعات التي لا يسأل الله فيها شيئا إلا أعطاه فمن أعطى منشور الدعاء أعطى الإجابة فإنه لو لم يرد إجابته لما ألهمه الدعاء كما قيل: ؎لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه ∗∗∗ من جود كفك ما عودتني الطلبا ولا يستوحش من ظاهر الحال فإن الله سبحانه يعامل عبده معاملة من ليس كمثله شيء في أفعاله كما ليس كمثله شيء في صفاته فإنه ما حرمه إلا ليعطيه ولا أمرضه إلا ليشفيه ولا أفقره إلا ليغنيه ولا أماته إلا ليحييه وما أخرج أبويه من الجنة إلا ليعيدهما إليها على أكمل حال كما قيل:"يا آدم لا تجزع من قولى لك واخرج منها فلك خلقتها وسأعيدك إليها". فالرب تعالى ينعم على عبده بابتلائه ويعطيه بحرمانه ويصحبه بسقمه فلا يستوحش عبده من حالة تسوؤه أصلا إلا إذا كانت تغضبه عليه وتبعده منه. السابع عشر: أن يعلم العبد بأن فيه جاذبين متضادين ومحنته بين الجاذبين جاذب يجذبه إلى الرفيق الأعلى من أهل عليين وجاذب يجذبه إلى أسفل سافلين فكلما انقاد مع الجاذب الأعلى صعد درجة حتى ينتهى إلى حيث يليق به من المحل الأعلى وكلما انقاد إلى الجاذب الاسفل نزل درجة حتى ينتهى إلى موضعه من سجين ومتى أراد أن يعلم هل هو مع الرفيق الأعلى أو الأسفل فلينظر أين روحه في هذا العالم فإنها إذا فارقت البدن تكون في الرفيق الأعلى الذي كانت تجذبه إليه في الدنيا فهو أولى بها فالمرء مع من أحب طبعا وعقلا وجزءا وكل مهتم بشيء فهو منجذب إليه وإلى أهله بالطبع وكل امرئ يصبو إلى ما يناسبه وقد قال تعالى ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِه﴾ فالنفوس العلوية تنجذب بذاتها وهمها وأعمالها إلى أعلى والنفوس السافلة إلى أسفل. الثامن عشر: أن يعلم العبد أن تفريغ المحل شرط لنزول غيث الرحمة وتنقيته من الدغل شرط لكمال الزرع فمتى لم يفرغ المحل لم يصادف غيث الرحمة محلا قابلا ينزل فيه وأن فرغه حتى أصابه غيث الرحمة ولكنه لم ينقه من الدغل لم يكن الزرع زرعا كاملا بل ربما غلب الدغل على الزرع فكان الحكم له وهذا كالذي يصلح أرضه ويهيئها لقبول الزرع ويودع فيها البذور وينتظر نزول الغيث فإذا طهر العبد قلبه وفرغه من إرادة السوء وخواطره وبذر فيه بذر الذكر والفكر والمحبة والإخلاص وعرضه لمهاب رياح الرحمة وانتظر نزول غيث الرحمة في أوإنه كان جديرا بحصول المغل وكما يقوى الرجاء لنزول الغيث في وقته كذلك يقوى الرجاء لإصابة نفحات الرحمن جل جلاله في الأوقات الفاضلة والأحوال الشريفة ولا سيما إذا اجتمعت الهمم وتساعدت القلوب وعظم الجمع كجمع عرفة وجمع الاستسقاء وجمع أهل الجمعة فإن اجتماع الهمم والأنفاس أسباب نصبها الله تعالى مقتضية لحصول الخير ونزول الرحمة كما نصب سائر الأسباب مقتضية إلى مسبباتها بل هذه الأسباب في حصول الرحمة أقوى من الأسباب الحسية في حصول مسبباتها ولكن العبد بجهله يغلب عليه الشاهد على الغائب الحسن وبظلمه يؤثر ما يحكم به هذا ويقتضيه على ما يحكم به الآخر ويقتضيه ولو فرغ العبد المحل وهيأه وأصلحه لرأى العجائب فإن فضل الله لا يرده إلا المانع الذي في العبد فلو زال ذلك المانع لسارع إليه الفضل من كل صوب، فتأمل حال نهر عظيم يسقي كل أرض يمر عليها فحصل بينه وبين بعض الأرض المعطشة المجدية سكر وسد كثيف فصاحبها يشكو الجدب والنهر إلى جانب أرضه. التاسع عشر: أن يعلم العبد أن الله سبحانه خلقه لبقاء لا فناء له، ولعز لا ذل معه وأمن لا خوف فيه وغناء لا فقر معه ولذة لا ألم معها وكمال لا نقص فيه وامتحنه في هذه الدار بالبقاء الذي يسرع إليه الفناء والعز الذي يقارنه الذل ويعقبه الذل والأمن الذي معه الخوف وبعده الخوف وكذلك الغناء واللذة والفرح والسرور والنعيم الذي هنا مشوب بضده لأنه يتعقبه ضده وهو سريع الزوال فغلط أكثر الخلق في هذا المقام إذ طلبوا النعيم والبقاء والعز والملك والجاه في غير محله ففاتهم في محله وأكثرهم لم يظفر بماطليه! من ذلك والذي ظفر به إنما هو متاع قليل والزوال قريب فإنه سريع الزوال عنه والرسل صلوات الله وسلامه عليهم إنما جاءوا بالدعوة إلى النعيم المقيم والملك الكبير فمن أجابهم حصل له ألذ ما في الدنيا وأطيبه فكان عيشه فيها أطيب من عيش الملوك فمن دونهم فإن الزهد في الدنيا ملك حاضر والشيطان يحسد المؤمن عليه أعظم حسد فيحرص كل الحرص على أن لا يصل إليه فإن العبد إذا ملك شهوته وغضبه فانقادا معه لداعي الدين فهو الملك حقا لأن صاحب هذا الملك حر والملك المنقاد لشهوته وغضبه عبد شهوته وغضبه فهو مسخر مملوك في زى مالك يقوده زمام الشهوة والغضب كما يقاد البعير فالمغرور المخدوع يقطع نظره على الملك الظاهر الذي صورته ملك وباطنه رق وعلى الشهوة التي أولها لذة وآخرها حسرة والبصير الموفق يعير نظره من الاوائل إلى الأواخر ومن المبادئ إلى العواقب وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. العشرون: أن لا يغتر العبد باعتقاده أن مجرد العلم بما ذكرنا كاف في حصول المقصود بل لا بد أن يضيف إليه بذل الجهد في استعماله واستفراغ الوسع والطاقة فيه وملاك ذلك الخروج عن العوائد فإنها أعداء الكمال والفلاح فلا أفلح من استمر مع عوائده أبدا ويستعين على الخروج عن العوائد بالهرب عن مظان الفتنة والبعد عنها ما أمكنه وقد قال النبي: "مَن سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأ عَنْهُ" فما استعين على التخلص من الشر بمثل البعد عن أسبابه ومظانه. وهاهنا لطيفة للشيطان لا يتخلص منها إلا حاذق وهي أن يظهر له في مظان الشر بعض شيء من الخير ويدعوه إلى تحصيله فإذا قرب منه ألقاه في الشبكة. والله أعلم. * [فصل: الفرق بين الصبر والقسوة] والفرق بين الصبر والقسوة: أن الصبر خلق كسبي يتخلق به العبد وهو حبس النفس عن الجزع والهلع والتشكي، فيحبس النفس عن التسخط واللسان عن الشكوى والجوارح عما لا ينبغي فعله وهو ثبات القلب على الأحكام القدرية والشرعية. وأما القسوة فيبس في القلب يمنعه من الانفعال وغلظة تمنعه من التأثر بالنوازل فلا يتأثر لغلظته وقساوته لا لصبره واحتماله. ((الجزء التاسع))
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب