الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجادِلْهم بِالَّتِي هي أحْسَنُ إنَّ رَبِّكَ هو أعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عن سَبِيلِهِ وهو أعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ﴾ ﴿وَإنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ولَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهو خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ﴾ ﴿واصْبِرْ وما صَبْرُكَ إلا بِاللهِ ولا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ولا تَكُ في ضَيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ﴾ ﴿إنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا والَّذِينَ هم مُحْسِنُونَ﴾ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ في وقْتِ الأمْرِ بِمُهادَنَتِهِ لِلْمُشْرِكِينَ، أمْرَهُ اللهُ تَعالى أنْ يَدْعُوَ إلى اللهِ وشَرْعِهِ بِتَلَطُّفٍ، وهو أنْ يَسْمَعَ المَدْعُوُّ حُكْمَهُ، وهو الكَلامُ الصَوابُ القَرِيبُ الواقِعُ في النَفْسِ أجْمَلُ مَوْقِعٍ، و"المَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ": التَخْوِيفُ والتَوْجِيهُ والتَلَطُّفُ بِالإنْسانِ، بِأنْ يُجِلَّهُ ويُنَشِّطَهُ ويَجْعَلَهُ بِصُورَةِ مَن يَقْبَلُ الفَضائِلَ، فَهَذِهِ حالَةُ مَن يُدْعى، وحالَةُ مَن يُجادِلُ دُونَ مُخاشَنَةٍ فَتَظْهَرُ عَلَيْهِ دُونَ قِتالٍ، والكَلامُ يُعْطِي أنَّ جِدَّكَ وهَمَّكَ وتَعَبَكَ لا يُغْنِي؛ لَأنَّ اللهَ قَدْ عَلِمَ مَن يُؤْمِنُ مِنهم ويَهْتَدِي، وعِلْمَ مَن يَضِلُّ، فَجُمْلَةُ المَعْنى: اسْلُكْ هَذِهِ السَبِيلَ ولا تَلْجَأْ لِلْمُخاشَنَةِ فَإنَّها غَيْرُ مُجْدِيَةٍ، لَأنَّ عِلْمَ اللهِ قَدْ سَبَقَ بِالمُهْتَدِي مِنهم والضالِّ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: هَذِهِ الآيَةُ مَنسُوخَةٌ بِآيَةِ القِتالِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: هي مَحْكَمَةٌ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويَظْهَرُ لِي أنَّ الِاقْتِصارَ عَلى هَذِهِ الحالِ، وألّا يَتَعَدّى مَعَ الكَفَرَةِ مَتى احْتِيجَ إلى المُخاشَنَةِ وهو مَنسُوخٌ لا مَحالَةَ. وأمّا مَن أمْكَنَتْ مَعَهُ هَذِهِ الأحْوالُ مِنَ الكَفّارِ، ويُرْجى إيمانُهُ بِها دُونَ قِتالٍ، فَهي فِيهِ مَحْكَمَةٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وأيْضًا فَهي مُحَكَّمَةٌ في جِهَةِ العُصاةِ، فَهَكَذا يَنْبَغِي أنْ يُوعَظَ المُسْلِمُونَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا﴾ الآيَةُ، أطْبَقَ أهْلُ التَفْسِيرِ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ في شَأْنِ التَمْثِيلِ بِحَمْزَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ في يَوْمِ أُحُدٍ، ووَقَعَ ذَلِكَ في صَحِيحِ البُخارِيِّ، وفي كِتابِ السِيَرِ، وذَهَبَ النُحاسُ إلى أنَّها مَكِّيَّةٌ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: (p-٤٣٠)والمَعْنى مُتَّصِلٌ بِما قَبْلَها مِنَ المَكِّيِّ اتِّصالًا حَسَنًا، لَأنَّها تَتَدَرَّجُ الرُتَبُ مِنَ الَّذِي يُدْعى ويُوعَظُ، إلى الَّذِي يُجادِلُ، إلى الَّذِي يُجازى عَلى فِعْلِهِ، ولَكِنْ ما رَوى الجُمْهُورُ أثْبَتَ، وأيْضًا فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ﴾ تَعَلَّقَ بِمَعْنى الآيَةِ عَلى ما رَوى الجَمْعُ «أنَّ كُفّارَ قُرَيْشٍ لَمّا مَثَّلُوا بِحَمْزَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ وقَعَ ذَلِكَ مِن نَفْسِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقالَ: "لَئِنْ أظْفَرَنِي اللهُ بِهِمْ لِأُمَثِّلُنَّ بِثَلاثِينَ -وَفِي كِتابِ النُحاسِ وغَيْرِهِ: بِسَبْعِينَ- مِنهُمْ"، فَقالَ الناسُ: إنْ ظَفَرْنا لَنَفْعَلَنَّ ولَنَفْعَلَنَّ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ.» ثُمَّ عَزَمَ عَلى رَسُولِ اللهِ ﷺ في الصَبْرِ في الآيَةِ بَعْدَها وسَمّى الإذاياتِ في هَذِهِ الآيَةِ عُقُوبَةً، والعُقُوبَةُ حَقِيقَةً إنَّما هي الثانِيَةُ، وإنَّما فَعَلَ ذَلِكَ لِيَسْتَوِي اللَفْظانِ وتَتَناسَبُ دِيباجَةُ القَوْلِ، وهَذا بِعَكْسِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَمَكَرُوا ومَكَرَ اللهُ﴾ [آل عمران: ٥٤]، وقَوْلُهُ: ﴿اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥]، فَإنَّ الثانِي هو المَجازِيُّ، والأوَّلُ هو الحَقِيقَةُ. وقَرَأ ابْنُ سِيرِينَ: "وَإنْ عَقَّبْتُمْ فَعَقِّبُوا". وحَكى الطَبَرِيُّ عن فِرْقَةٍ أنَّها قالَتْ: إنَّما نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِيمَن أُصِيبَ بِظُلامَةٍ ألّا يَنالَ مِن ظالِمِيهِ إذا تَمَكَّنَ إلّا مِثْلَ ظُلامَتِهِ، لا يَتَعَدّاهُ إلى غَيْرِهِ، واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ فِيمَن ظَلَمَهُ رَجُلٌ في أخْذِ مالٍ، ثُمَّ ائْتَمَنَ الظالِمُ المَظْلُومَ عَلى مالٍ، هَلْ تَجُوزُ لَهُ خِيانَتُهُ في القَدْرِ الَّذِي ظَلَمَهُ؟ -فَقالَتْ فِرْقَةٌ: "لَهُ ذَلِكَ"، مِنهُمُ ابْنُ سِيرِينَ، وإبْراهِيمُ النَخْعِيُّ، وسُفْيانُ، ومُجاهِدٌ، واحْتَجَّتْ بِهَذِهِ الآيَةِ وعُمُومِ لَفْظِها، وقالَ مالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ- وفِرْقَةٌ مَعَهُ: "لا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ"، واحْتَجُّوا بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: « "أدِّ الأمانَةَ إلى مَنِ ائْتَمَنَكَ (p-٤٣١)وَلا تَخُنْ مَن خانَكَ".» ووَقَعَ في مُسْنَدِ ابْنِ إسْحاقَ أنَّ هَذا الحَدِيثَ إنَّما ورَدَ في رَجُلٍ زِنا بِامْرَأةِ آخَرَ، ثُمَّ تَمَكَّنَ الآخَرُ مِن زَوْجَةِ الثانِي بِأنْ تَرَكَها عِنْدَهُ وسافَرَ، فاسْتَشارَ الرَجُلُ رَسُولَ اللهِ ﷺ في الأمْرِ، فَقالَ لَهُ هَذا: قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويَتَقَوّى في أمْرِ المالِ قَوْلُ مالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ؛ لَأنَّ الخِيانَةَ لاحِقَةٌ في ذَلِكَ، وهي رَذِيلَةٌ لا انْفِكاكَ عنها، ولا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أنْ يَتَأسّى بِغَيْرِهِ في الرَذائِلِ، وإنَّما يَنْبَغِي أنْ يَتَجَنَّبَها لِنَفْسِهِ، وأمّا الرَجُلُ يَظْلِمُ في المالِ، ثُمَّ يَتَمَكَّنُ مِنَ الِانْتِصافِ دُونَ أنْ يُؤْتَمَنَ فَيُشْبِهُ أنَّ ذَلِكَ لَهُ جائِزٌ، يَرى أنَّ اللهَ حَكَمَ لَهُ كَما لَوْ تَمَكَّنَ لَهُ بِالحُكْمِ مِنَ الحاكِمِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واصْبِرْ وما صَبْرُكَ إلا بِاللهِ﴾، هَذِهِ عَزِيمَةٌ عَلى رَسُولِ اللهِ ﷺ في الصَبْرِ عَلى المُجازاةِ في التَمْثِيلِ بِالقَتْلى، قالَ ابْنُ زَيْدٍ: هَذِهِ الآيَةُ مَنسُوخَةٌ بِالقِتالِ، وجُمْهُورُ الناسِ عَلى أنَّها مَحْكَمَةٌ، ويُرْوى أنَّهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ قالَ لِأصْحابِهِ: « "أمّا أنا فَأصْبِرُ كَما أُمِرْتُ، فَماذا تَصْنَعُونَ؟"، قالُوا: نَصْبِرُ يا رَسُولَ اللهِ كَما نُدِبْنا،» وقَوْلُهُ: ﴿وَما صَبْرُكَ إلا بِاللهِ﴾ أيْ: بِمَعُونَةِ اللهِ وتَأْيِيدِهِ لَكَ عَلى ذَلِكَ، والضَمِيرُ في قَوْلِهِ: "عَلَيْهِمْ"، قِيلَ: يَعُودُ عَلى الكُفّارِ، أيْ: لا تَتَأسَّفُ عَلى أنَّ لَمْ يُسَلِّمُوا، وقالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ يَعُودُ عَلى القَتْلى: حَمْزَةَ وأصْحابِهُ رِضْوانُ اللهِ عَلَيْهِمُ الَّذِينَ حَزِنَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ، والأوَّلُ أُصَوِّبُ؛ إذْ يَكُونُ عَوْدُ الضَمائِرِ عَلى جِهَةٍ واحِدَةٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "فِي ضَيْقٍ" بِفَتْحِ الضادِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ "فِي ضِيقٍ" بِكَسْرِها، (p-٤٣٢)وَرُوِيَتْ عن نافِعٍ وهو غَلَطٌ مِمَّنْ رَواهُ، قالَ بَعْضُ اللُغَوِيِّينَ: الكَسْرُ والفَتْحُ في الضادِ لُغَتانِ في المَصْدَرِ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: الضِيقُ مَصْدَرٌ، والضَيْقُ مُخَفَّفٌ مَن ضَيِّقٍ، كَمَيْتٍ ومَيِّتٍ، وهَيْنٍ وهَيِّنٍ، قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: والصَوابُ أنْ يَكُونَ الضَيْقُ لُغَةً في المَصْدَرِ؛ لَأنَّهُ إنْ كانَ مُخَفَّفًا مِن ضَيِّقٍ لَزِمَ أنْ تُقامَ الصِفَةُ مَقامَ المَوْصُوفِ، ولَيْسَ هَذا مَوْضِعُ ذَلِكَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: إنَّما تَقُومُ الصِفَةُ مَقامَ المَوْصُوفِ إذا تَخَصَّصَ المَوْصُوفُ مِن نَفْسِ الصِفَةِ، كَما تَقُولُ: "رَأيْتُ ضاحِكًا"، فَإنَّما تَخَصِّصُ الإنْسانُ، ولَوْ قُلْتَ: "رَأيْتُ بارِدًا" لَمْ يَحْسُنْ، وبِبارِدٍ مَثَّلَ سِيبَوَيْهِ رَحِمَهُ اللهُ، و"ضَيِّقٍ" لا تُخَصِّصُ المَوْصُوفَ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ زَيْدٍ: إنَّ ما في هَذِهِ الآيَةِ مِنَ الأمْرِ بِالصَبْرِ مَنسُوخٌ. وقَوْلُهُ: ﴿مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ أيْ: بِالنَصْرِ والمَعُونَةِ والتَأْيِيدِ، و"اتَّقَوْا" يُرِيدُ: المَعاصِي، و"مُحْسِنُونَ" مَعْناهُ: يَزِيدُونَ فِيما نُدِبَ إلَيْهِ مِن فِعْلِ الخَيْرِ. نَجُزَ تَفْسِيرُ سُورَةِ النَحْلِ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ والصَلاةُ والسَلامُ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وعَلى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب