الباحث القرآني
* [فصل]
قالَ شَيْخُنا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مِمّا قَدْ يُظَنُّ أنَّهُ مِن جِنْسِ الحِيَلِ الَّتِي بَيَّنّا تَحْرِيمَها ولَيْسَ مِن جِنْسِها قِصَّةُ يُوسُفَ حِين كادَ اللَّهُ لَهُ في أخْذِ أخِيهِ كَما قَصَّ ذَلِكَ تَعالى في كِتابِهِ، فَإنَّ فِيهِ ضُرُوبًا مِن الحِيَلِ الحَسَنَةِ:
أحَدُها: قَوْلُهُ لِفِتْيانِهِ: ﴿اجْعَلُوا بِضاعَتَهم في رِحالِهِمْ لَعَلَّهم يَعْرِفُونَها إذا انْقَلَبُوا إلى أهْلِهِمْ لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ [يوسف: ٦٢] فَإنَّهُ تَسَبَّبَ بِذَلِكَ إلى رُجُوعِهِمْ، وقَدْ ذَكَرُوا في ذَلِكَ مَعانِيَ:
مِنها أنَّهُ تَخَوَّفَ أنْ لا يَكُونَ عِنْدَهم ورِقٌ يَرْجِعُونَ بِها، ومِنها أنَّهُ خَشِيَ أنْ يَضُرَّ أخْذُ الثَّمَنِ بِهِمْ، ومِنها أنَّهُ رَأى لَوْ ما أخَذَ الثَّمَنَ مِنهُمْ، ومِنها أنَّهُ أراهم كَرَمَهُ في رَدِّ البِضاعَةِ لِيَكُونَ أدْعى لَهم إلى العَوْدِ.
وَمِنها أنَّهُ عَلِمَ أنَّ أمانَتَهم تَحُوجُهم إلى العَوْدِ لِيَرُدُّوها إلَيْهِ؛ فَهَذا المُحْتالُ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ، والمَقْصُودُ رُجُوعُهم ومَجِيءُ أخِيهِ، وذَلِكَ أمْرٌ فِيهِ مَنفَعَةٌ لَهم ولِأبِيهِمْ ولَهُ، وهو مَقْصُودٌ صالِحٌ، وإنَّما لَمْ يُعَرِّفُهم نَفْسَهُ لِأسْبابٍ أُخَرَ فِيها أيْضًا مَنفَعَةٌ لَهم ولَهُ ولِأبِيهِمْ وتَمامٌ لِما أرادَهُ اللَّهُ بِهِمْ مِن الخَيْرِ في البَلاءِ.
والمقصود: رجوعهم ومجيء أخيه، وذلك أمر فيه منفعة لهم ولأبيهم وله، وهو مقصود صالح، وإنما لم يعرفهم نفسه لأسباب أخر، فيها منفعة لهم ولأبيهم وله، وتمام لما أراده الله تعالى بهم من الخير في هذا البلاء.
وأيضًا، فلو عرفهم نفسه في أول مرة لم يقع الاجتماع بهم وبأبيه ذلك الموقع العظيم، ولم يحل ذلك المحل، وهذه عادة الله سبحانه في الغايات العظيمة الحميدة: إذا أراد أن يوصل عبده إليها هيأ لها أسبابًا من المحن والبلايًا والمشاق، فيكون وصوله إلى تلك الغايات بعدها كوصول أهل الجنة إليها بعد الموت، وأهوال البرزخ، والبعث والنشور والموقف، والحساب، والصراط، ومقاساة تلك، الأهوال والشدائد، وكما أدخل رسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى مكة ذلك المدخل العظيم، بعد أن أخرجه الكفار ذلك المحرج ونصره ذلك النصر العزيز، بعد أن قاسى مع أعداء الله ما قاساه.
الضَّرْبُ الثّانِي: أنَّهُ في المَرَّةِ الثّانِيَةِ لِما جَهَّزَهم بِجِهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ في رَحْلِ أخِيهِ، وهَذا القَدْرُ تَضَمَّنَ إيهامَ أنَّ أخاهُ سارِقٌ، وقَدْ ذَكَرُوا أنَّ هَذا كانَ بِمُواطَأةٍ مِن أخِيهِ ورِضًا مِنهُ بِذَلِكَ، والحَقُّ لَهُ في ذَلِكَ، وقَدْ دَلَّ عَلى ذَلِكَ قَوْله تَعالى: ﴿وَلَمّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إلَيْهِ أخاهُ قالَ إنِّي أنا أخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [يوسف: ٦٩] وفِيهِ قَوْلانِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ عَرَّفَهُ أنَّهُ يُوسُفُ ووَطَّنَهُ عَلى عَدَمِ الِابْتِئاسِ بِالحِيلَةِ الَّتِي فَعَلَها في أخْذِهِ مِنهم.
والثّانِي: أنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ لَهُ بِأنَّهُ يُوسُفُ، وإنَّما أرادَ إنِّي مَكانَ أخِيكَ المَفْقُودَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما يُعامِلُكَ بِهِ إخْوَتُكَ مِن الجَفاءِ.
وَمَن قالَ هَذا قالَ: إنّهُ وضَعَ السِّقايَةَ في رَحْلِ أخِيهِ والأخُ لا يَشْعُرُ، ولَكِنْ هَذا خِلافُ المَفْهُومِ مِن القُرْآنِ وخِلافُ ما عَلَيْهِ الأكْثَرُونَ، وفِيهِ تَرْوِيعٌ لِمَن لَمْ يَسْتَوْجِبْ التَّرْوِيعَ.
وَأمّا عَلى القَوْلِ الأوَّلِ فَقَدْ قالَ كَعْبٌ وغَيْرُهُ: لَمّا قالَ لَهُ إنِّي أنا أخُوكَ، قالَ: فَأنا لا أُفارِقُكَ قالَ يُوسُفُ: فَقَدْ عَلِمْتَ اغْتِمامَ والِدِي بِي، فَإذا حَبَسْتُكَ ازْدادَ غَمُّهُ، ولا يُمْكِنُنِي هَذا إلّا بَعْدَ أنْ أُشْهِرُكَ بِأمْرٍ فَظِيعٍ وأنْسُبَكَ إلى ما لا يُحْتَمَلُ، قالَ: لا أُبالِي. فافْعَلْ ما بَدا لَكَ فَإنِّي لا أُفارِقُكَ، قالَ: فَإنِّي أدُسُّ صُواعِي.
هَذا في رَحْلِكَ، ثُمَّ أُنادِي عَلَيْكَ بِالسَّرِقَةِ لِيَتَهَيَّأ لِي رَدُّكَ، قالَ: فافْعَلْ؛ وعَلى هَذا فَهَذا التَّصَرُّفُ إنّما كانَ بِإذْنِ الأخِ ورِضاهُ.
وَمِثْلُ هَذا النَّوْعِ ما ذَكَرَ أهْلُ السِّيَرِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حاتِمٍ أنَّهُ لَمّا هَمَّ قَوْمُهُ بِالرِّدَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَفَّهم عَنْ ذَلِكَ، وأمَرَهم بِالتَّرَبُّصِ، وكانَ يَأْمُرُ ابْنَهُ إذا رَعى إبِلَ الصَّدَقَةِ أنْ يَبْعُدَ، فَإذا جاءَ خاصَمَهُ بَيْنَ يَدَيْ قَوْمِهِ وهَمَّ بِضَرْبِهِ، فَيَقُومُونَ فَيَشْفَعُونَ إلَيْهِ فِيهِ؛ ويَأْمُرَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ أنْ يَزْدادَ بُعْدًا، فَلَمّا كانَ ذاتَ لَيْلَةٍ أمَرَهُ أنْ يَبْعُدَ بِها جِدًّا، وجَعَلَ يَنْتَظِرُهُ بَعْدَما دَخَلَ اللَّيْلُ وهو يَلُومُ قَوْمَهُ عَلى شَفاعَتِهِمْ ومَنعِهِمْ إيّاهُ مِن ضَرْبِهِ، وهم يَعْتَذِرُونَ عَنْ ابْنِهِ، ولا يُنْكِرُونَ إبْطاءَهُ، حَتّى إذا انْهارَ اللَّيْلُ رَكِبَ في طَلَبِهِ فَلَحِقَهُ، واسْتاقَ الإبِلَ حَتّى قَدِمَ بِها عَلى أبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما -؛ فَكانَتْ صَدَقاتُ طَيِّئٍ مِمّا اسْتَعانَ بِها أبُو بَكْرٍ في قِتالِ أهْلِ الرِّدَّةِ.
وَكَذَلِكَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ أنَّ عَدِيًّا قالَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أما تَعْرِفُنِي يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟ قالَ: بَلى، أعْرِفُكَ، أسْلَمْتَ إذْ كَفَرُوا، ووَفَيْتَ إذْ غَدَرُوا، وأقْبَلْتَ إذْ أدْبَرُوا، وعَرَفْتَ إذْ أنْكَرُوا.
وَمِثْلُ هَذا ما أذِنَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ لِلْوَفْدِ الَّذِينَ أرادُوا قَتْلَ كَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ أنْ يَقُولُوا، وأذِنَ لِلْحَجّاجِ بْنِ عِلاطٍ عامَ خَيْبَرَ أنْ يَقُولَ، وهَذا كُلُّهُ مِن الِاحْتِيالِ المُباحِ؛ لِكَوْنِ صاحِبِ الحَقِّ قَدْ أذِنَ فِيهِ ورَضِيَ بِهِ، والأمْرُ المُحْتالُ عَلَيْهِ طاعَةٌ لِلَّهِ وأمْرٌ مُباحٌ.
الضَّرْبُ الثّالِثُ: أنَّهُ أذَّنَ مُؤَذِّنٌ: ﴿أيَّتُها العِيرُ إنَّكم لَسارِقُونَ﴾ [يوسف: ٧٠] ﴿قالُوا وأقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ﴾ [يوسف: ٧١] ﴿قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ المَلِكِ ولِمَن جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وأنا بِهِ زَعِيمٌ﴾ [يوسف: ٧٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿فَما جَزاؤُهُ إنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ﴾ [يوسف: ٧٤] ﴿قالُوا جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ فَهو جَزاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ - فَبَدَأ بِأوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِن وِعاءِ أخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ في دِينِ المَلِكِ إلا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ [يوسف: ٧٥-٧٦] وقَدْ ذَكَرُوا في تَسْمِيَتِهِمْ سارِقِينَ وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ مِن بابِ المَعارِيضِ وأنَّ يُوسُفَ نَوى بِذَلِكَ أنَّهم سَرَقُوهُ مِن أبِيهِ حَيْثُ غَيَّبُوهُ عَنْهُ بِالحِيلَةِ الَّتِي احْتالُوا عَلَيْهِ، وخانُوهُ فِيهِ، والخائِنُ يُسَمّى سارِقًا، وهو مِن الكَلامِ المَرْمُوزِ، ولِهَذا يُسَمّى خَوَنَةُ الدَّواوِينِ لُصُوصًا. الثّانِي: أنَّ المُنادِيَ هو الَّذِي قالَ ذَلِكَ مِن غَيْرِ أمْرِ يُوسُفَ.
قالَ القاضِي أبُو يَعْلى وغَيْرُهُ: أمَرَ يُوسُفُ بَعْضَ أصْحابِهِ أنْ يَجْعَلَ الصُّواعَ في رَحْلِ أخِيهِ، ثُمَّ قالَ بَعْضُ المُوَكَّلِينَ وقَدْ فَقَدُوهُ ولَمْ يَدْرِ مَن أخَذَهُ: ﴿أيَّتُها العِيرُ إنَّكم لَسارِقُونَ﴾ [يوسف: ٧٠] عَلى ظَنٍّ مِنهم أنَّهم كَذَلِكَ، مِن غَيْرِ أمْرِ يُوسُفَ لَهم بِذَلِكَ، أوْ لَعَلَّ يُوسُفَ قَدْ قالَ لِلْمُنادِي: هَؤُلاءِ سَرَقُوا، وعَنى أنَّهم سَرَقُوهُ مِن أبِيهِ، والمُنادِي فَهِمَ سَرِقَةَ الصُّواعِ فَصَدَقَ يُوسُفَ في قَوْلِهِ، وصَدَقَ المُنادِي، وتَأمَّلْ حَذْفَ المَفْعُولِ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّكم لَسارِقُونَ﴾ [يوسف: ٧٠] لِيَصِحَّ أنْ يُضَمِّنَ سَرِقَتَهم لِيُوسُفَ فَيَتِمُّ التَّعْرِيضُ، ويَكُونُ الكَلامُ صِدْقًا، وذَكَرَ المَفْعُولَ في قَوْلِهِ: ﴿نَفْقِدُ صُواعَ المَلِكِ﴾ [يوسف: ٧٢] وهو صادِقٌ في ذَلِكَ، فَصَدَقَ في الجُمْلَتَيْنِ مَعًا تَعْرِيضًا وتَصْرِيحًا، وتَأمَّلْ قَوْلَ يُوسُفَ: ﴿مَعاذَ اللَّهِ أنْ نَأْخُذَ إلا مَن وجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ﴾ [يوسف: ٧٩] ولَمْ يَقُلْ إلّا مَن سَرَقَ، وهو أخْصَرُ لَفْظًا، تَحَرِّيًا لِلصِّدْقِ، فَإنَّ الأخَ لَمْ يَكُنْ سارِقًا بِوَجْهٍ، وكانَ المَتاعُ عِنْدَهُ حَقًّا؛ فالكَلامُ مِن أحْسَنِ المَعارِيضِ وأصْدَقِها.
وَمِثْلُ هَذا قَوْلُ المَلَكَيْنِ لِداوُدَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: ﴿خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ﴾ [ص: ٢٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿وَعَزَّنِي في الخِطابِ﴾ [ص: ٢٣] أيْ غَلَبَنِي في الخِطابِ، ولَكِنَّ تَخْرِيجَ هَذا الكَلامَ عَلى المَعارِيض لا يَكادُ يَتَأتّى، وإنَّما وجْهُهُ أنَّهُ كَلامٌ خَرَجَ عَلى ضَرْبِ المِثالِ: أيْ إذا كانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ الحُكْمُ بَيْنَنا.
وَنَظِيرُ هَذا قَوْلُ المَلِكِ لِلثَّلاثَةِ الَّذِينَ أرادَ اللَّهُ أنْ يَبْتَلِيَهُمْ: " مِسْكِينٌ وغَرِيبٌ وعابِرُ سَبِيلٍ، وقَدْ تَقَطَّعَتْ بِي الحِبالُ، ولا بَلاغَ لِي اليَوْمَ إلّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، فَأسْألُكَ بِاَلَّذِي أعْطاكَ هَذا المالَ بَعِيرًا أتَبَلَّغُ بِهِ في سَفَرِي هَذا " وهَذا لَيْسَ بِتَعْرِيضٍ، وإنَّما هو تَصْرِيحٌ عَلى وجْهِ ضَرْبِ المِثالِ وإيهامٌ أنِّي أنا صاحِبُ هَذِهِ القَضِيَّةِ كَما أوْهَمَ المَلَكانِ داوُد أنَّهُما صاحِبا القِصَّةِ لِيَتِمَّ الِامْتِحانُ.
وَلِهَذا قالَ نَصْرُ بْنُ حاجِبٍ: سُئِلَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الرَّجُلِ يَعْتَذِرُ إلى أخِيهِ مِن الشَّيْءِ الَّذِي قَدْ فَعَلَهُ، ويُحَرِّفُ القَوْلَ فِيهِ لِيُرْضِيَهُ، لَمْ يَأْثَمْ في ذَلِكَ؟ فَقالَ: ألَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ: «لَيْسَ بِكاذِبٍ مَن أصْلَحَ بَيْنَ النّاسِ يَكْذِبُ فِيهِ» فَإذا أصْلَحَ بَيْنَهُ وبَيْنَ أخِيهِ المُسْلِمِ خَيْرٌ مِن أنْ يُصْلِحَ بَيْنَ النّاسِ بَعْضِهِمْ مِن بَعْضٍ، وذَلِكَ إذا أرادَ بِهِ مَرْضاةَ اللَّهِ، وكَرِهَ أذى المُؤْمِنِ، ويَنْدَمُ عَلى ما كانَ مِنهُ، ويَدْفَعُ شَرَّهُ عَنْ نَفْسِهِ، ولا يُرِيدُ بِالكَذِبِ اتِّخاذَ المَنزِلَةِ عِنْدَهم ولا طَمَعًا في شَيْءٍ يُصِيبُ مِنهُمْ؛ فَإنَّهُ لَمْ يُرَخَّصْ في ذَلِكَ، ورَخَّصَ لَهُ إذا كَرِهَ مَوْجِدَتَهم وخافَ عَداوَتَهم. قالَ حُذَيْفَةُ: إنِّي أشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ مَخافَةَ أنْ أُقْدِمَ عَلى ما هو أعْظَمُ مِنهُ.
قالَ سُفْيانُ وقالَ المَلَكانِ: ﴿خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ﴾ [ص: ٢٢] أرادَ مَعْنى شَيْءٍ
وَلَمْ يَكُونا خَصْمَيْنِ فَلَمْ يَصِيرا بِذَلِكَ كاذِبَيْنِ، وقالَ إبْراهِيمُ: ﴿إنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصافات: ٨٩] وقالَ: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهم هَذا﴾ [الأنبياء: ٦٣]، وقالَ يُوسُفُ: ﴿إنَّكم لَسارِقُونَ﴾ [يوسف: ٧٠] فَبَيَّنَ سُفْيانُ أنَّ هَذا مِن المَعارِيضِ المُباحَةِ.
* (فصل)
ومنها: أنه لما جهزهم في المرة الثانية بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه. وهذا القدر يتضمن اتهام أخيه بأنه سارق.
وقد قيل: إنه كان بمواطأة من أخيه ورضا منه بذلك، والحق كان له، وقد أذن فيه، وطابت نفسه به، ودل على ذلك قوله تعالى: ﴿ولَمّا دَخلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إلَيْهِ أخاهُ، قالَ إنِّي أنا أخُوكَ فَلا تَبتَئِسْ بَما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [يوسف: ٦٩].
فهذا يدل على أنه عَرّف أخاه نفسه.
وقد قيل: إنه لم يصرح له بأنه يوسف، وأنه إنما أراد بقوله: ﴿إنِّي أنا أخُوكَ﴾ [يوسف: ٦٩].
أي أنا مكان أخيك المفقود.
ومن قال هذا قال: إنه وضع السقاية في رحل أخيه، والأخ لا يشعر بذلك، والقرآن يدل على خلاف هذا، والعدل يرده. وأكثر أهل التفسير على خلافه.
ومن لطيف الكيد في ذلك: أنه لما أراد أخذ أخيه توصل إلى أخذه بما يقر إخوته أنه حق وعدل، ولو أخذه بحكم قدرته وسلطانه لنسب إلى الظلم والجور، ولم يكن له طريق في دين الملك يأخذه بها. فتوصل إلى أخذه بطريق يعترف إخوته أنها ليست ظلما، فوضع الصواع فى رحل أخيه بمواطأة منه له على ذلك. ولهذا قال: ﴿فلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُون﴾ [يوسف: ٦٩].
ومن لطيف الكيد: أنه لم يفتش رحالهم وهم عنده، بل أمهلهم حتى جهزهم بجهازهم، وخرجوا من البلد، ثم أرسل في آثارهم لذلك.
قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا على بن الحسين حدثنا محمد بن عيسى حدثنا سلمة عن ابن إسحاق قال:
"أمهلهم حتى إذا انطلقوا فأمعنوا من القرية أمر فأدركوا ثم جلسوا، ثم ناداهم مناد: أيتها العير إنكم لسارقون، فوقفوا، وانتهى إليهم رسوله، فقال لهم فيما يذكرون: ألم نكرم ضيافتكم، ونوفكم كيلكم ونحسن منزلتكم، ونفعل بكم ما لم نفعله بغيركم، وأدخلنا كم علينا في بيوتنا ومنازلنا؟ قالوا: بلى، وما ذاك؟ ﴿قال إنكم لسارقون﴾.
وذكر عن السدي "فلما ارتحلوا أذن مؤذن أيتها العير".
والسياق يقتضي ذلك، إذ لو كان هذا وهم بحضرته لم يحتج إلى الأذان، وإنما يكون الأذان نداء لبعيد، يطلب وقوفه وحبسه.
فكان في هذا من لطيف الكيد: أنه أبعد من التهمة للطالب بالمواطأة والموافقة، وأنه لا يشعر بما فقد له، فكأنه لما خرج القوم وارتحلوا، وفصلوا عن المدينة احتاج الملك إلى صواعه لبعض حاجته إليه، فالتمسه، فلم يجده، فسأل عنه الحاضرين، فلم يجدوه، فأرسلوا في أثر القوم. فهذا أحسن وأبعد من التفطن للحيلة من التفتيش في الحال قبل انفصالهم عنه. بل كلما ازدادوا بعدا عنه كان أبلغ في هذه المعنى.
ومن لطيف الكيد: أنه أذن فيهم بصوت عال رفيع، يسمعه جميعهم، ولم يقل لواحد واحد منهم، إعلامًا بزن ذهاب الصواع أمر قد اشتهر، ولم يبق فيه خفاء، وأنتم قد اشتهرتم بأخذه، ولم يتهم به سواكم.
ومن لطيف الكيد: أن المؤذن قال إنكم لسارقون ولم يعين المسروق، حتى سألهم عنه القوم، فقالوا لهم: ماذا تفتقدون؟ قالوا: نفقد صواع الملك فاستقر عند القوم أن الصواع هو المتهم به، وأنهم لم يفقدوا غيره. فإذا ظهر لم يكونوا ظالمين باتهامهم بغيره. وظهر صدقهم وعدلهم في اتهامهم به وحده، وهذا من لطيف الكيد.
ومن لطيف الكيد: قول المؤذن وأصحابه لإخوة يوسف عليه السلام - ﴿قالُوا فَما جَزاؤُهُ إنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ﴾ - أي ما عقوبة من ظهر عليه أنه سرقه منكم، ووجد معه؟ أي ما عقوبته عندكم وفي دينكم؟ ﴿قالُوا جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ فَهو جَزاؤُهُ﴾ [يوسف: ٧٥].
فأخذوهم بما حكموا به على نفوسهم، لا بحكم الملك وقومه.
ومن لطيف الكيد: أن الطالب لما هم بتفتيش رواحلهم بدأ بأوعيتهم يفتشها قبل وعاء من هو معه، تطمينا لهم، وبعدا عن تهمة المواطأة.
فإنه لو بدأ بوعاء من هو فيه لقالوا: وما يدريه أنه في هذا الوعاء دون غيره من أوعيتنا؟ وما هذا إلا بمواطأة وموافقة. فأزال هذه التهمة بأن بدأ بأوعيتهم أولا، فلما لم يجده فيها هم بالرجوع قبل تفتيش وعاء من فيه الصواع، وقال: ما أراكم سارقين وما أظن هذا أيضًا أخذ شيئًا. فقالوا: لا والله، لا ندعكم حتى تفتشوا متاعه، فإنه أطيب لقلوبكم، وأظهر لبراءتنا، فلما ألحوا عليهم بذلك فتشوا متاعه، فاستخرجوا منه الصواع. وهذا من أحسن الكيد. فلهذا قال تعالى: ﴿كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ في دِينِ الملِكِ إلا أنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ وفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٧٦].
فالعلم بالكيد الواجب أو المستحب الذي يتوصل به إلى طاعة الله تعالى ورسوله، ونصر المحق وكسر المبطل مما يرفع الله به درجة العبد.
وقد ذكروا في تسميتهم سارقين وجهين:
أحدهما: أنه من باب المعاريض، وأن يوسف عليه السلام نوى بذلك أنهم سرقوه من أبيه، حيث غيبوه عنه بالحيلة التي احتالوا بها عليه، وخانوه فيه. والخائن يسمى سارقًا، وهو من الاستعمال المشهور.
الثاني: أن المنادى هو الذي قال ذلك، من غير أمر يوسف عليه السلام.
قال القاضى أبو يعلى وغيره: أمر يوسف بعض أصحابه أن يجعل الصاع في رحل أخيه. ثم قال بعض الموكلين به لما فقده، ولم يدر من أخذه - أيتها العير إنكم لسارقون - على ظن منهم أنهم كذلك ولم يأمرهم يوسف عليه السلام بذلك، ولعل يوسف عليه السلام قال للمنادى: هؤلاء قد سرقوا، وعنى سرقته من أبيه، والمنادى فهم سرقة الصواع، وصدق في قوله: إنكم لسارقون - ولم يقل: صواع الملك ثم لما جاء إلى ذكر المفقود قال - نفقد الملك - وهو صادق في ذلك، فحذف المفعول في قوله - لسارقون - وذكره في قوله - نفقد صواع الملك - وكذلك قال يوسف عليه السلام لما عرضوا عليه أن يأخذ أحدهم مكان أخيهم - معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده - ولم يقل: أن نأخذ إلا من سرق، فإن المتاع كان موجودًا عنده، ولم يكن سارقًا. وهذا من أحسن المعاريض.
وقد قال نصر بن حاجب: سئل سفيان بن عيينة عن الرجل يعتذر إلى أخيه من الشيء الذي قد فعله، ويحرف القول فيه ليرضيه، أيأثم في ذلك؟ فقال: ألم تسمع قوله عليه الصلاة والسلام:
"لَيْسَ بِكاذِبٍ مَن أصْلَحَ بَيْنَ النّاسِ فَكَذَبَ فِيهِ".
فإذا أصلح بينه وبين أخيه المسلم كان خيرًا من أن يصلح بين الناس بعضهم في بعض، ذلك أنه أراد به مرضاة الله، وكراهية أذى المؤمن، ويندم على ما كان منه، ويدفع شره عن نفسه، ولا يريد بالكذب اتخاذ المنزلة عندهم، ولا طمعًا في شيء يصيبه منهم، فإنه لم يرخص في ذلك ورخص له إذا كره موجدتهم وخاف عداوتهم.
قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه "إني أشتري ديني بعضه ببعض، مخافة أن أقدم على ما هو أعظم منه".
قال سفيان: وقال الملكان: ﴿خَصْمانِ بَغى بَعْضنا عَلى بَعْضِ﴾ [ص: ٢٢].
أراد معنى شيء ولم يكونا خصمين، فلم يصيرا بذلك كاذبين.
وقال إبراهيم عليه السلام: ﴿إنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصافات: ٨٩] وقالَ ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهم هذا﴾ [الأنبياء: ٦٣].
وقال يوسف عليه السلام ﴿إنكم لسارقون﴾ [يوسف: ٧٠] أراد يعني أخاهم.
فبين سفيان رحمه الله تعالى أن هذا كله من المعاريض المباحة، مع تسميته كذبًا. وإن لم يكن في الحقيقة كذبًا.
وقد احتج بعض الفقهاء بقصة يوسف على أنه يجوز للإنسان التوصل إلى أخذ حقه من الغير بما يمكنه الوصول إليه بغير رضا من عليه الحق.
قال شيخنا: وهذه الحجة ضعيفة، فإن يوسف عليه السلام لم يكن يملك حبس أخيه عنده بغير رضاه، ولم يكن هذا الأخ ممن ظلم يوسف. حتى يقال قد اقتص منه، وإنما سائر الإخوة هم الذين كانوا قد فعلوا ذلك، نعم كان تخلفه عنهم مما يؤذيهم لتأذى أبيهم، وللميثاق الذي أخذه عليهم، وقد استثنى في الميثاق بقوله:
﴿إلا أنْ يُحاطَ بِكُمْ﴾ [يوسف: ٦٦].
وقد أحيط بهم ويوسف عليه السلام لم يكن قصده باحتباس أخيه الانتقام من إخوته، فإنه كان أكرم من هذا وإن كان في ضمن ما فعل من تأذى أبيه أعظم من أذى إخوته، فإنما ذلك أمر أمره الله تعالى به، ليبلغ الكتاب أجله، ويتم البلاء الذي استحق به يوسف ويعقوب عليهما السلام كمال الجزاء، وعلو المنزلة، وتبلغ حكمة الله تعالى - التي قدّرها وقضاها - نهايتها، ولو فرض أن يوسف عليه السلام قصد الاقتصاص منهم بما فعل، فليس هذا، بموضع خلاف بين العلماء. فإن الرجل له أن يعاقب بمثل ما عوقب به، وإنما موضع الخلاف: هل له أن يخونه، كما خانه؟ أو يسرقه، كما سرقه؟ ولم تكن قصة يوسف عليه السلام من هذا النوع.
نعم لو كان يوسف عليه السلام أخذ أخاه بغير أمره لكان لهذا المحتج شبهة، مع أنه لا شبهة له أيضا على هذا التقدير، فإن مثل هذا لا يجوز في شرعنا بالاتفاق، ولو كان يوسف قد أخذ أخاه واعتقله بغير رضاه، كان في هذا ابتلاء من الله تعالى لذلك المعتقل، كأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه، فيكون المبيح له على هذا التقدير وحيا خاصا، كالوحى إلى إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه، وتكون حكمته في حق الأخ امتحانه وابتلاءه، لينال درجة الصبر على حكم الله، والرضا بقضائه، ويكون حاله في هذا كحال أبيه يعقوب عليه السلام في احتباس يوسف عليه السلام عنه.
وقد دل على هذا نسبة الله سبحانه ذلك الكيد إلى نفسه بقوله:
﴿كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ في دِينِ المَلِكِ إلا أنْ يَشاءَ الله﴾ [يوسف: ٧٦].
وهو سبحانه ينسب إلى نفسه أحسن هذه المعاني، وما هو منها حكمة وحق وصواب، وجزاء للمسيء، وذلك غاية العدل والحق، كقوله تعالى: ﴿إنّهم يَكِيدُونَ كَيْدًا وأكِيدُ كيدا﴾ [الطارق: ١٥-١٦] وقوله ﴿وَمَكَرُوا ومَكَرَ الله﴾ [آل عمران:٥٤] وقوله ﴿اللهُ يسْتَهْزِئُ بِهم﴾ [البقرة: ١٥] وقوله ﴿إنَّ المُنافِقِينَ يَخادِعُونَ اللهَ وهو خادِعُهُمْ﴾ [النساء: ١٤٢] وقوله ﴿وَأُمْلِى لهم إنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [القلم: ٤٥].
فهذا منه سبحانه في أعلى مراتب الحسن، وإن كان من العبد قبيحًا سيئًا، لأنه ظالم فيه، وموقعه بمن لا يستحقه، والرب تعالى عادل فيه، موقعه بأهله ومن يستحقه، سواء قيل: إنه مجاز للمشاكلة الصورية، أو للمقابلة، أو سماه كذلك مشاكلة لاسم ما فعلوه، أو قيل: إنه حقيقة، وإن مسمى هذه الأفعال ينقسم إلى مذموم ومحمود، واللفظ حقيقة في هذا وهذا، كما قد بسطنا هذا المعنى واستوفينا عليه الكلام في كتاب الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة.
* (فصل)
وإذا عرف ذلك، فيوسف صلوات الله عليه وسلامه أكْيَد، من وجوه عديدة.
أحدها: أن إخوته كادوه، حيث احتالوا في التفريق بينه وبين أبيه، كما قال له يعقوب عليه السلام: ﴿لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾ [يوسف: ٥].
وثانيها: أنهم كادوه حيث باعوه بيع العبيد، وقالوا: إنه غلام لنا أبق.
وثالثها: كيد امرأة العزيز له، بتغليق الأبواب، ودعائه إلى نفسها.
ورابعها: كيدها له بقولها: ﴿ما جَزاءُ مَن أرادَ بأهْلِكَ سُوءا إلا أنْ يُسْجَنَ أوْ عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [يوسف:٢٥].
فكادته بالمراودة أولا، وكادته بالكذب عليه ثانيا، ولهذا قال لها الشاهد لما تبين له براءة يوسف عليه السلام: ﴿إنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ [يوسف: ٢٨].
وخامسها، كيدها له حيث جمعت له النسوة، وأخرجته عليهن، تستعين بهن عليه، وتستعذر إليهن من شغفها به.
وسادسها: كيد النسوة له، حتى استجار بالله تعالى من كيدهن فقال: ﴿وَإلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ إلَيْهِنَّ أصب وأكُنْ مِنَ الجاهِلِين فاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إنّهُ هو السَّمِيعُ العَلِيم﴾ [يوسف: ٣٣-٣٤].
ولهذا لما جاء الرسول بالخروج من السجن قال له: ﴿ارْجعْ إلى ربك فاسْألْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٥٠].
فإن قيل: فما كان مكر النسوة اللاتي مكرن به، وسمعت به امرأة العزيز، فإن الله سبحانه لم يقصه في كتابه؟
قيل: بلى، قد أشار إليه بقوله: ﴿وَقالَ نِسْوَةٌ في المَدينَةِ امْرَأةُ العَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبا إنّا لَنَراها في ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾ [يوسف: ٣٠].
وهذا الكلام متضمن لوجوه من المكر:
أحدها: قولهن: ﴿امْرَأةُ العَزِيزِ تُراوِد فَتاها﴾ [يوسف: ٣٠].
ولم يسموها باسمها، بل ذكروها بالوصف الذي ينادى عليها بقبيح فعلها، بكونها ذات بَعْل. فصدور الفاحشة منها أقبح من صدورها ممن لا زوج لها.
الثاني، أن زوجها عزيز مصر ورئيسها وكبيرها، وذلك أقبح لوقوع الفاحشة منها.
الثالث: أن الذي تراوده مملوك لا حُر، وذلك أبلغ في القبح.
الرابع: أنه فتاها الذي هو في بيتها وتحت كنفها، فحكمه حكم أهل البيت، بخلاف من طلب ذلك من الأجنبي البعيد.
الخامس: أنها هي المراودة الطالبة.
السادس: أنها قد بلغ بها عشقها له كل مبلغ، حتى وصل حبها له إلى شغاف قلبها.
السابع: أن في ضمن هذا أنه أعف منها وأبر، وأوفى، حيث كانت هي المراودة الطالبة، وهو الممتنع، عفافًا وكرمًا وحياء، وهذا غاية الذم لها.
الثامن: أنهن أتين بفعل المراودة بصيغة المستقبل الدالة على الاستمرار والوقوع، حالا واستقبالا: وأن هذا شأنها، ولم يقلن: راودت فتاها. وفرق بين قولك: فلان أضاف ضيفا، وفلان يقرى الضيف، ويطعم الطعام، ويحمل الكل. فإن هذا يدل على أن هذا شأنه وعادته.
التاسع قولهن: ﴿إنّا لَنَراها في ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾ [يوسف: ٣٠].
أي إنا لنستقبح منها ذلك غاية الاستقباح فنسبن الاستقباح إليها. ومن شأنهن مساعدة بعضهن بعضا على الهوى، ولا يكدن يرين ذلك قبيحا، كما يساعد الرجال بعضهم بعضا على ذلك، فحيث استقبحن منها ذلك كان هذا دليلا على أنه من أقبح الأمور، وأنه مما لا ينبغي أن تساعد عليه، ولا يحسن معاونتها عليه.
العاشر: أنهن جمعن لها في هذا الكلام واللوم بين العشق المفرط، والطلب المفرط. فلم تقتصد في حبها، ولا في طلبها. أما العشق فقولهن: ﴿قَدْ شَغَفَها حُبًا﴾ [يوسف: ٣٠].
أي وصل حبه إلى شغاف قلبها. وأما الطلب المفرط فقولهن: ﴿تُراوِدُ فَتاها﴾ [يوسف: ٣٠].
والمراودة: الطلب مرة بعد مرة، فنسبوها إلى شدة العشق، وشدة الحرص على الفاحشة. فلما سمعت بهذا المكر منهن هيأت لهن مكرا أبلغ منه، فهيأت لهن متكأ، ثم أرسلت إليهن، فجمعتهن وخبأت يوسف عليه السلام عنهن. وقيل: إنها جملته وألبسته أحسن ما تقدر عليه، وأخرجته عليهن فجأة، فلم يَرعْهُنَّ إلا وأحسن خلق الله وأجملهم قد طلع عليهن بغتة، فراعهن ذلك المنظر البهى، وفي أيديهن مُدًى يقطعن بها ما يأكلنه فدهشن حتى قطعن أيديهن، وهن لا يشعرن. وقد قيل: إنهن أبن أيديهن، والظاهر خلاف ذلك، وإنما تقطيعهن أيديهن: جُرحُها وشقها بالمُدى لدَهَشهنَّ بما رأين، فقابلت مكرهن القولى بهذا المكر الفعلى، وكانت هذه في النساء غاية في المكر.
والمقصود: أن الله سبحانه كاد ليوسف عليه السلام، بأن جمع بينه وبين أخيه، وأخرجه من أيدى إخوته بغير اختيارهم، كما أخرجوا يوسف من يد أبيه بغير اختياره. وكاد له بأن أوقفهم بين يديه موقف الذليل الخاضع المستجدى، فقالوا: ﴿يا أيَّها العَزِيزُ مَسَّنا وأهْلَنا الضُّرُّ وجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأوْفِ لَنا الكَيْلَ وتَصَدَّقْ عَلَيْنا إنَّ اللهَ يَجْزِى المَتَصَدِّقيِنَ﴾ [يوسف: ٨٨].
فهذا الذل والخضوع في مقابلة ذله وخضوعه لهم يوم إلقائه في الجب وبيعه بيع العبيد.
وكاد له بأن هيأ له الأسباب التي سجدوا له هم وأبوه وخالته، في مقابلة كيدهم له، حذرا من وقوع ذلك، فإن الذي حملهم على إلقائه في الجب خشيتهم أن يرتفع عليهم حتى يسجدوا له كلهم، فكادوه خشية ذلك. فكاد الله تعالى له حتى وقع ذلك. كما رآه في منامه.
وهذا كما كاد فرعون بني إسرائيل: ﴿يُذَبِّحُ أبْناءَهم ويَسْتَحْيى نِساءَهُمْ﴾ [القصص: ٤].
خشية أن يخرج فيهم من يكون زوال ملكه على يديه، فكاده الله سبحانه، بأن أخرج له هذا المولود، ورباه في بيته، وفي حجره، حتى وقع به منه ما كان يحذره، كما قيل:
؎وَإذا خَشيتَ مِنَ الأُمُورِ مُقَدَّرا ∗∗∗ وفَرَرْتَ منْهُ، فَنَحْوَهُ تَتَوَجَّهُ
* (فصل)
وكيد الله سبحانه لا يخرج عن نوعين.
أحدهما: أن يفعل سبحانه فعلا خارجًا عن قدرة العبد الذي كاد له، فيكون الكيد قدرا محضا، ليس من باب الشرع، كما كاد الذين كفروا، بأن انتقم منهم بأنواع العقوبات وكذلك كانت قصة يوسف عليه السلام، فإن يوسف أكثر ما قدر عليه أن ألقى الصواع في رحل أخيه، وأرسل مؤذنا يؤذن: ﴿أيَّتُها العِيرُ إنّكم لَسارِقُونَ﴾ [يوسف: ٧٠] فلما أنكروا قال: ﴿فَما جَزاؤُهُ إنْ كُنْتَمْ كاذِبينَ قالُوا جَزاؤُهُ مَن وجِدَ في رَحْلِهِ فَهو جَزاؤُهُ﴾ [يوسف: ٧٤].
أي جزاؤه استعباد المسروق ماله للسارق، إما مطلقا، وإما إلى مدة. وهذه كانت شريعة آل يعقوب عليه السلام
حتى قيل: إن مثل هذا كان مشروعا في أول الإسلام: أن المدين إذا أعسر بالدين استرقه صاحب الحق، وعليه حمل حديث بيع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سُرَّق.
وقيل: بل كان بيعه إياه: إيجاره لمن يستعمله، وقضى دينه بأجرته، وعلى هذا فليس بمنسوخ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى: أن المفلس إذا بقيت عليه ديون وله صنعة أجبر على إجارته نفسه، أو أجره الحاكم ووفى دينه من أجرته.
وكان إلهام الله تعالى لإخوة يوسف عليه السلام قولهم: ﴿مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ فَهو جَزاؤُهُ﴾ [يوسف: ٧٥].
كيدا من الله تعالى ليوسف عليه السلام، أجراه على ألسن إخوته، وذلك خارج عن قدرته. وكان يمكنهم أن يتخلصوا من ذلك، بأن يقولوا: لا جزاء عليه، حتى يثبت أنه هو الذي سرق، فإن مجرد وجوده في رحله لا يوجب أن يكون سارقًا.
وقد كان يوسف عليه السلام عادلا لا يأخذهم بغير حجة، وكان يمكنهم التخلص أيضا بأن يقولوا: جزاؤه أن يفعل به ما تفعلونه بالسراق في دينكم، وقد كان من دين ملك مصر - فيما ذكر -: أن السارق يضرب ويغرم قيمة المسروق مرتين، فلو قالوا له ذلك، لم يمكنه أن يلزمهم بما لا يلزم به غيرهم، فلذلك قال سبحانه: ﴿كَذلكَ كِدْنا لِيُوسُفْ ما كانَ لِيَأْخُذُ أخاهُ في دِينِ المَلِكِ إلا أنْ يَشاءَ اللهُ﴾ [يوسف: ٧٦].
أي ما كان ليمكنه أخذه في دين ملك مصر، لأنه لم يكن في دينه طريق إلى أخذه.
وقوله ﴿إلا أنْ يَشاءَ اللهُ﴾ [يوسف: ٧٦].
استثناء منقطع، أي لكن إن شاء الله أخذه بطريق آخر، ويجوز أن يكون متصلا، والمعنى: إلا أن يهيئ الله سببا آخر يؤخذ به في دين الملك غير السرقة.
وفى هذه القصة تنبيه على الأخذ باللوث الظاهر في الحدود، وإن لم تقم بينة، ولم يحصل إقرار، فإن وجود المسروق مع السارق أصدق من البينة، فهو بينة لا تلحقها التهمة، وقد اعتبرت شريعتنا ذلك في مواضع.
منها: اللوث في القسامة، والصحيح: أنها يقُاد بها، كما دل عليه النص الصحيح الصريح.
ومنها: حد الصحابة رضي الله عنهم في الخمر بالرائحة والقيء.
ومنها: حد عمر رضي الله عنه في الزنا بالحبل، وجعله قسيم الاعتراف والشهادة فوجود المسروق مع السارق إن لم يكن أظهر من هذا كله فليس دونه.
فلما فتشوا متاعه فوجدوا فيه الصواع كان ذلك قائما مقام البينة والاعتراف، فلهذا لم يمكنهم أن يتظلموا من أخذه ولو كان هذا ظلما لقالوا: كيف يأخذه بغير بينة ولا إقرار؟
وقد أشبعنا الكلام في ذلك في كتاب "الإعلام باتساع طرق الأحكام".
والمقصود: أنه ليس في قصة يوسف عليه السلام شبهة، فضلا عن الحجة، لأرباب الحيل.
فإنا إنما تكلمنا في الحيل التي يفعلها العبد، وحكمها في الإباحة، والتحريم، لا فيما يكيد الله سبحانه وتعالى لعبده، بل في قصة يوسف عليه السلام تنبيه على أن من كاد غيره كيدًا محرمًا فإن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يكيده، وأنه لا بد أن يكيد للمظلوم إذا صبر على كيد كائده، وتلطف به، فالمؤمن المتوكل على الله إذا كاده الخلق فإن الله تعالى يكيد له، وينتصر له، بغير حول منه ولا قوة.
فهذا أحد النوعين من كيده سبحانه لعبده.
النوع الثاني: أن يلهمه أمرا مباحا، أو مستحبا، أو واجبا، يوصله به إلى المقصود الحسن، فيكون على هذا إلهامه ليوسف عليه السلام أن يفعل ما فعل هو من كيده سبحانه أيضا، فيكون قد كاد له نوعي الكيد، ولهذا قال سبحانه: ﴿نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ﴾ [يوسف: ٧٦].
وفى ذلك تنبيه على أن العلم الدقيق بلطيف الحيل الموصلة إلى المقصود الشرعى الذي يحبه الله تعالى ورسوله، من نصر دينه وكسر أعدائه، ونصر المحق وقمع المبطل: صفة مدح يرفع الله تعالى بها درجة العبد، كما أن العلم الذي يخصم به المبطل، ويدحض حجته صفة مدح يرفع بها درجة عبده، كما قال سبحانه في قصة إبراهيم عليه السلام، ومناظرته قومه، وكسر حجتهم:
﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إبراهيم عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ﴾ [الأنعام: ٨٣].
وعلى هذا فيكون من الكيد ما هو مشروع، ولكن ليس هو الكيد الذي تستحل به المحرمات، وتسقط به الواجبات، فإن هذا كيد لله تعالى ودينه، فالله سبحانه ودينه هو المكيد في هذا القسم، فمحال أن يشرع الله سبحانه هذا النوع من الكيد.
وأيضا، فإن هذا الكيد لا يتم إلا بفعل يقصد به غير مقصوده الشرعى، ومحال أن يشرع الله تعالى لعبد أن يقصد بفعله ما لم يشرع الله ذلك الفعل له.
وأيضا، فإن الأمر المشروع هو عام لا يختص به شخص دون شخص، فالشيء إذا كان مباحًا لشخص كان مباح لكل من كان حاله مثل حاله، فمن احتال بحيلة فقهية محرمة أو مباحة لم يكن له اختصاص بتلك الحيلة عمن لا يفهمها ولا يعلمها، وإنما خاصية الفقيه، إذا حدثت به حادثة: أن يتفطن لاندراجها تحت الحكم العام الذي يعلمه هو وغيره والله سبحانه إنما كاد ليوسف عليه السلام كيدا خاصًا به، جزاء له على صبره، وإحسانه، وذكره في معرض المنة عليه، وهذه الأفعال التي فعلها يوسف عليه السلام والأفعال التي فعلها الله سبحانه له إذا تأملها اللبيب رآها لا تخرج عن نوعين:
أحدهما: إلهام الله سبحانه له فعلا كان مباحا له أن يفعله.
الثاني: فعل من الله تعالى به خارج عن مقدور العبد.
وكلا النوعين مباين للحيل المحرمة التي يحتال بها على إسقاط الواجبات وإباحة المحرمات.
* (فصل)
لعلك تقول: قد أطلت الكلام في هذا الفصل جدا، وقد كان يكفي الإشارة إليه.
فيقال: بل الأمر أعظم مما ذكرنا، وهو بالإطالة أجدر. فإن بلاء الإسلام ومحنته عظمت من هاتين الطائفتين: أهل المكر والمخادعة، والاحتيال في العمليات، وأهل التحريف والسفسطة والقرمطة في العلميات. وكل فساد في الدين - بل والدنيا - فمنشؤه من هاتين الطائفتين.
فبالتأويل الباطل قتل عثمان رضي الله عنه، وعاثت الأمة في دمائها، وكفر بعضها بعضا وتفرقت على بضع وسبعين فرقة، فجرى على الإسلام من تأويل هؤلاء، وخداع هؤلاء ومكرهم ما جرى، واستولت الطائفتان، وقويت شوكتهما، وعاقبوا من لم يوافقهم وأنكر عليهم، ويأبي الله إلا أن يقيم لدينه من يذب عنه، ويبين أعلامه وحقائقه، لكيلا تبطل حجج الله وبيناته على عباده.
* [فَصْلٌ: اسْتِنْباطٌ مِن قِصَّةِ يُوسُفَ وتَعْقِيبٌ عَلَيْهِ].
وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ الفُقَهاءِ بِقِصَّةِ يُوسُفَ عَلى أنَّهُ جائِزٌ لِلْإنْسانِ التَّوَصُّلُ إلى أخْذِ حَقِّهِ مِن الغَيْرِ بِما يُمْكِنُهُ الوُصُولُ إلَيْهِ بِغَيْرِ رِضا مَن عَلَيْهِ الحَقُّ.
قالَ شَيْخُنا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وهَذِهِ الحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ؛ فَإنَّ يُوسُفَ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ حَبْسَ أخِيهِ عِنْدَهُ بِغَيْرِ رِضاهُ، ولَمْ يَكُنْ هَذا الأخُ مِمَّنْ ظَلَمَ يُوسُفَ حَتّى يُقالُ إنّهُ قَدْ اقْتَصَّ مِنهُ، وإنَّما سائِرُ الإخْوَةِ هم الَّذِينَ كانُوا قَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ، نَعَمْ تَخَلُّفُهُ عِنْدَهُ كانَ يُؤْذِيهِمْ مِن أجْلِ تَأذِّي أبِيهِمْ والمِيثاقِ الَّذِي أخَذَهُ عَلَيْهِمْ، وقَدْ اسْتَثْنى في المِيثاقِ بِقَوْلِهِ: ﴿إلا أنْ يُحاطَ بِكُمْ﴾ [يوسف: ٦٦] وقَدْ أُحِيطَ بِهِمْ، ولَمْ يَكُنْ قَصْدُ يُوسُفَ بِاحْتِباسِ أخِيهِ الِانْتِقامَ مِن إخْوَتِهِ؛ فَإنَّهُ كانَ أكْرَمَ مِن هَذا، وكانَ في ذَلِكَ مِن الإيذاءِ لِأبِيهِ.
أعْظَمُ مِمّا فِيهِ مِن إيذاءِ إخْوَتِهِ، وإنَّما هو أمْرٌ أمَرَهُ اللَّهُ بِهِ لِيَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ ويَتِمَّ البَلاءُ الَّذِي اسْتَحَقَّ بِهِ يَعْقُوبُ ويُوسُفُ كَمالَ الجَزاءِ، وتَبْلُغُ حِكْمَةُ اللَّهِ الَّتِي قَضاها لَهم نِهايَتُها.
وَلَوْ كانَ يُوسُفُ قَصَدَ القِصاصَ مِنهم بِذَلِكَ فَلَيْسَ هَذا مَوْضِعُ الخِلافِ بَيْنَ العُلَماءِ؛ فَإنَّ الرَّجُلَ لَهُ أنْ يُعاقِبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ، وإنَّما مَوْضِعُ الخِلافِ: هَلْ يَجُوزُ لَهُ أنْ يَسْرِقَ أوْ يَخُونَ مَن سَرَقَهُ أوْ خانَهُ مِثْلَ ما سَرَقَ مِنهُ أوْ خانَهُ إيّاهُ؟ وقِصَّةُ يُوسُفَ لَمْ تَكُنْ مِن هَذا الضَّرْبِ. نَعَمْ، لَوْ كانَ يُوسُفُ أخَذَ أخاهُ بِغَيْرِ أمْرِهِ لَكانَ لِهَذا المُحْتَجِّ شُبْهَةٌ، مَعَ أنَّهُ لا دَلالَةَ في ذَلِكَ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ أيْضًا؛ فَإنَّ مِثْلَ هَذا لا يَجُوزُ في شَرْعِنا بِالِاتِّفاقِ، وهو أنْ يُحْبَسَ رَجُلٌ بَرِيءٌ، ويُعْتَقَلَ لِلِانْتِقامِ مِن غَيْرِهِ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ لَهُ جُرْمٌ، ولَوْ قُدِّرَ أنَّ ذَلِكَ وقَعَ مِن يُوسُفَ فَلا بُدَّ أنْ يَكُونَ بِوَحْيٍ مِن اللَّهِ ابْتِلاءً مِنهُ لِذَلِكَ المُعْتَقَلِ، كَما ابْتَلى إبْراهِيمَ بِذَبْحِ ابْنِهِ، فَيَكُونُ المُبِيحُ لَهُ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ وحْيًا خاصًّا كالوَحْيِ الَّذِي جاءَ إبْراهِيمُ بِذَبْحِ ابْنِهِ، وتَكُونُ حِكْمَتُهُ في حَقِّ المُبْتَلى امْتِحانُهُ وابْتِلاؤُهُ لِيَنالَ دَرَجَةَ الصَّبْرِ عَلى حُكْمِ اللَّهِ والرِّضا بِقَضائِهِ، وتَكُونُ حالُهُ في هَذا كَحالِ أبِيهِ يَعْقُوبَ في احْتِباسِ يُوسُفَ عَنْهُ، وهَذا مَعْلُومٌ مِن فِقْهِ القِصَّةِ وسِياقِها ومِن حالِ يُوسُفَ.
وَلِهَذا قالَ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ في دِينِ المَلِكِ إلا أنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ وفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٧٦] فَنَسَبَ اللَّهُ تَعالى هَذا الكَيْدَ إلى نَفْسِهِ كَما نَسَبَهُ إلى نَفْسِهِ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّهم يَكِيدُونَ كَيْدًا﴾ [الطارق: ١٥] ﴿وَأكِيدُ كَيْدًا﴾ [الطارق: ١٦]، وفي قَوْلِهِ: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا ومَكَرْنا مَكْرًا﴾ [النمل: ٥٠]، وفي قَوْلِهِ: ﴿وَيَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ الماكِرِينَ﴾ [الأنفال: ٣٠].
وَقَدْ قِيلَ: إنّ تَسْمِيَةَ ذَلِكَ مَكْرًا وكَيْدًا واسْتِهْزاءً وخِداعًا مِن بابِ الِاسْتِعارَةِ ومَجازِ المُقابَلَةِ نَحْوُ: ﴿وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها﴾ [الشورى: ٤٠]، ونَحْوُ قَوْلِهِ: ﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكم فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤] وقِيلَ وهو أصْوَبُ: بَلْ تَسْمِيَتُهُ بِذَلِكَ حَقِيقَةً عَلى بابِهِ؛ فَإنَّ المَكْرَ إيصالُ الشَّيْءِ إلى الغَيْرِ بِطَرِيقٍ خَفِيٍّ، وكَذَلِكَ الكَيْدُ والمُخادَعَةُ، ولَكِنَّهُ نَوْعانِ: قَبِيحٌ وهو إيصالُ ذَلِكَ لِمَن لا يَسْتَحِقُّهُ، وحَسَنٌ وهو إيصالُهُ إلى مُسْتَحِقِّهِ عُقُوبَةً لَهُ؛ فالأوَّلُ مَذْمُومٌ والثّانِي مَمْدُوحٌ، والرَّبُّ تَعالى إنّما يَفْعَلُ مِن ذَلِكَ ما يُحْمَدُ عَلَيْهِ عَدْلًا مِنهُ وحِكْمَةً، وهو تَعالى يَأْخُذُ الظّالِمَ والفاجِرَ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ لا كَما يَفْعَلُ الظَّلَمَةُ بِعِبادِهِ.
وَأمّا السَّيِّئَةُ فَهي فَيْعَلَةٌ مِمّا يَسُوءُ، ولا رَيْبَ أنَّ العُقُوبَةَ تَسُوءُ صاحِبَها؛ فَهي سَيِّئَةٌ لَهُ حَسَنَةٌ مِن الحَكَمِ العَدْلِ، وإذا عَرَفْتُ ذَلِكَ فَيُوسُفُ الصِّدِّيقُ كانَ قَدْ كِيدَ غَيْرَ مَرَّةٍ: أوَّلُها أنَّ إخْوَتَهُ كادُوا بِهِ كَيْدًا حَيْثُ احْتالُوا بِهِ في التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وبَيْنَ أبِيهِ، ثُمَّ إنّ امْرَأةَ العَزِيزِ كادَتْهُ بِما أظْهَرَتْ أنَّهُ راوَدَها عَنْ نَفْسِها ثُمَّ أُودِعَ السِّجْنَ، ثُمَّ إنّ النِّسْوَةَ كادُوهُ حَتّى اسْتَعاذَ.
بِاللَّهِ مِن كَيْدِهِنَّ فَصَرَفَهُ عَنْهُ، وقالَ لَهُ يَعْقُوبُ: ﴿لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾ [يوسف: ٥] وقالَ الشّاهِدُ لِامْرَأةِ العَزِيزِ: ﴿إنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ [يوسف: ٢٨]. وقالَ: ﴿ارْجِعْ إلى رَبِّكَ فاسْألْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٥٠] فَكادَ اللَّهُ لَهُ أحْسَنَ كَيْدٍ وألْطَفَهُ وأعْدَلَهُ، بِأنْ جَمَعَ بَيْنَهُ وبَيْنَ أخِيهِ، وأخْرَجَهُ مِن أيْدِي إخْوَتِهِ بِغَيْرِ اخْتِيارِهِمْ كَما أخْرَجُوا يُوسُفَ مِن يَدِ أبِيهِ بِغَيْرِ اخْتِيارِهِ، وكادَ لَهُ عِوَضَ كَيْدِ المَرْأةِ بِأنْ أخْرَجَهُ مِن ضِيقِ السِّجْنِ إلى فَضاءِ المُلْكِ، ومَكَّنَهُ في الأرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنها حَيْثُ يَشاءُ، وكانَ لَهُ في تَصْدِيقِ النِّسْوَةِ اللّاتِي كَذَّبْنَهُ وراوَدْنَهُ حَتّى شَهِدْنَ بِبَراءَتِهِ وعِفَّتِهِ، وكادَ لَهُ في تَكْذِيبِ امْرَأةَ العَزِيزِ لِنَفْسِها واعْتِرافِها بِأنَّها هي الَّتِي راوَدَتْهُ وأنَّهُ مِن الصّادِقِينَ؛ فَهَذِهِ عاقِبَةُ مَن صَبَرَ عَلى كَيْدِ الكائِدِ لَهُ بَغْيًا وعُدْوانًا.
* [فَصْلٌ: مَكْرُ اللَّهِ تَعالى عَلى ضَرْبَيْنِ]
وَكَيْدُ اللَّهِ تَعالى لا يَخْرُجُ عَنْ نَوْعَيْنِ؛ أحَدُهُما وهو الأغْلَبُ: أنْ يَفْعَلَ تَعالى فِعْلًا خارِجًا عَنْ قُدْرَةِ العَبْدِ الَّذِي كادَ لَهُ؛ فَيَكُونُ الكَيْدُ قَدْرًا زائِدًا مَحْضًا لَيْسَ هو مِن بابٍ لا يَسُوغُ، كَما كادَ أعْداءَ الرُّسُلِ بِانْتِقامِهِ مِنهم بِأنْواعِ العُقُوباتِ، وكَذَلِكَ كانَتْ قِصَّةُ يُوسُفَ؛ فَإنَّ أكْثَرَ ما أمْكَنَهُ أنْ يَفْعَلَ أنْ ألْقى الصُّواعَ، في رَحْلِ أخِيهِ، وأنْ أذَّنَ مُؤَذِّنٌ بِسَرِقَتِهِمْ، فَلَمّا أنْكَرُوا قالَ: ﴿فَما جَزاؤُهُ إنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ﴾ [يوسف: ٧٤] أيْ جَزاءُ السّارِقِ أوْ جَزاءُ السَّرَقِ: ﴿قالُوا جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ فَهو جَزاؤُهُ﴾ [يوسف: ٧٥] أيْ جَزاؤُهُ نَفْسَ السّارِقِ، يَسْتَعْبِدُهُ المَسْرُوقُ مِنهُ إمّا مُطْلَقًا وإمّا إلى مُدَّةٍ، وهَذِهِ كانَتْ شَرِيعَةُ آلِ يَعْقُوبَ.
[إعْرابُ جُمْلَةٍ في قِصَّةِ يُوسُفَ]
ثُمَّ في إعْرابِ هَذا الكَلامِ وجْهانِ؛ أحَدُهُما: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ﴾ [يوسف: ٧٥] جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ قائِمَةٌ مِن مُبْتَدَأٍ وخَبَرٍ، وقَوْلُهُ: ﴿فَهُوَ جَزاؤُهُ﴾ [يوسف: ٧٥] جُمْلَةٌ ثانِيَةٌ كَذَلِكَ مُؤَكِّدَةٌ لِلْأُولى مُقَرِّرَةٌ لَها، والفَرْقُ بَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ أنَّ الأُولى إخْبارٌ عَنْ اسْتِحْقاقِ المَسْرُوقِ لِرَقَبَةِ السّارِقِ، والثّانِيَةَ إخْبارٌ أنَّ هَذا جَزاؤُهُ في شَرْعِنا وحُكْمِنا؛ فالأُولى إخْبارٌ عَنْ المَحْكُومِ عَلَيْهِ، والثّانِيَةُ إخْبارٌ عَنْ الحُكْمِ، وإنْ كانا مُتَلازِمَيْنِ، وإنْ أفادَتْ الثّانِيَةُ مَعْنى الحَصْرِ فَإنَّهُ لا جَزاءَ لَهُ غَيْرُهُ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ ﴿جَزاؤُهُ﴾ [يوسف: ٧٤] الأوَّلَ مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ الجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ، والمَعْنى جَزاءُ السّارِقِ أنَّ مَن وُجِدَ المَسْرُوقُ في رَحْلِهِ كانَ هو الجَزاءُ، كَما تَقُولُ: جَزاءُ السَّرِقَةِ مَن سَرَقَ قُطِعَتْ يَدُهُ
وَجَزاءُ الأعْمالِ مَن عَمِلَ حَسَنَةً فَبِعَشْرٍ أوْ سَيِّئَةً فَبِواحِدَةٍ، ونَظائِرُهُ.
قالَ شَيْخُنا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وإنَّما احْتَمَلَ الوَجْهَيْنِ ` لِأنَّ الجَزاءَ قَدْ يُرادُ بِهِ نَفْسُ الحُكْمِ بِاسْتِحْقاقِ العُقُوبَةِ، وقَدْ يُرادُ بِهِ نَفْسُ فِعْلِ العُقُوبَةِ، وقَدْ يُرادُ بِهِ نَفْسُ الألَمِ الواصِلِ إلى المُعاقَبِ؛ والمَقْصُودُ أنَّ إلْهامَ اللَّهِ لَهم هَذا الكَلامَ كَيْدٌ كادَهُ لِيُوسُفَ خارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهِ؛ إذْ قَدْ كانَ يُمْكِنُهم أنْ يَقُولُوا: لا جَزاءَ عَلَيْهِ حَتّى يَثْبُتَ أنَّهُ هو الَّذِي سَرَقَ؛ فَإنَّ مُجَرَّدَ وُجُودِهِ في رَحْلِهِ لا يُوجِبُ ثُبُوتَ السَّرِقَةِ، وقَدْ كانَ يُوسُفُ عادِلًا لا يَأْخُذُهم بِغَيْرِ حُجَّةٍ، وقَدْ كانَ يُمْكِنُهم أنْ يَقُولُوا: يُفْعَلُ بِهِ ما يُفْعَلُ بِالسُّرّاقِ في دِينِكُمْ، وقَدْ كانَ في دِينِ مَلِكِ مِصْرَ - كَما قالَهُ أهْلُ التَّفْسِيرِ - أنْ يُضْرَبَ السّارِقُ ويُغَرَّمَ قِيمَةَ المَسْرُوقِ مَرَّتَيْنِ، ولَوْ قالُوا ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْهُ أنْ يُلْزِمَهم بِما لا يُلْزِمُ بِهِ غَيْرَهُمْ، ولِهَذا قالَ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ في دِينِ المَلِكِ إلا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ [يوسف: ٧٦] أيْ ما كانَ يُمْكِنُهُ أخْذُهُ في دِينِ مَلِكِ مِصْرَ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ في دِينِهِ طَرِيقٌ لَهُ إلى أخْذِهِ، وعَلى هَذا فَقَوْلُهُ: ﴿إلا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ [يوسف: ٧٦] اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ، أيْ لَكِنْ إنْ شاءَ اللَّهُ أخَذَهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ، أوْ يَكُونَ مُتَّصِلًا عَلى بابِهِ، أيْ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ ذَلِكَ فَيُهَيِّئُ لَهُ سَبَبًا يُؤْخَذُ بِهِ في دِينِ المَلِكِ مِن الأسْبابِ الَّتِي كانَ الرَّجُلُ يُعْتَقَلُ بِها، فَإذا كانَ المُرادُ مِن الكَيْدِ فِعْلًا مِن اللَّهِ - بِأنْ يُيَسِّرَ لِعَبْدِهِ المُؤْمِنِ المَظْلُومِ المُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ أُمُورًا يَحْصُلُ بِها مَقْصُودُهُ مِن الِانْتِقامِ مِن الظّالِمِ - كانَ هَذا خارِجًا عَنْ الحِيَلِ الفِقْهِيَّةِ؛ فَإنَّ كَلامَنا في الحِيَلِ الَّتِي يَفْعَلُها العَبْدُ، لا فِيما يَفْعَلُهُ اللَّهُ تَعالى، بِما في قِصَّةِ يُوسُفَ.
تَنْبِيهٌ عَلى بُطْلانِ الحِيَلِ وأنَّ مَن كادَ كَيْدًا مُحَرَّمًا؛ فَإنَّ اللَّهَ يَكِيدُهُ ويُعامِلُهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ وبِمِثْلِ عَمَلِهِ، وهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ في أرْبابِ الحِيَلِ المُحَرَّمَةِ أنَّهُ لا يُبارِكُ لَهم فِيما نالُوهُ بِهَذِهِ الحِيَلِ، ويُهَيِّئُ لَهم كَيْدًا عَلى يَدِ مَن يَشاءُ مِن خَلْقِهِ يُجْزَوْنَ بِهِ مِن جِنْسِ كَيْدِهِمْ وحِيَلِهِمْ.
[ما تَدُلُّ عَلَيْهِ قِصَّةُ يُوسُفَ]
وَفِيها تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ المُؤْمِنَ المُتَوَكِّلَ عَلى اللَّهِ إذا كادَهُ الخَلْقُ فَإنَّ اللَّهَ يَكِيدُ لَهُ ويَنْتَصِرُ لَهُ بِغَيْرِ حَوْلٍ مِنهُ ولا قُوَّةٍ.
وَفِيها دَلِيلٌ عَلى أنَّ وُجُودَ المَسْرُوقِ بِيَدِ السّارِقِ كافٍ في إقامَةِ الحَدِّ عَلَيْهِ، بَلْ هو بِمَنزِلَةِ إقْرارِهِ، وهو أقْوى مِن البَيِّنَةِ، وغايَةُ البَيِّنَةِ أنْ يُسْتَفادَ مِنها ظَنٌّ، وأمّا وُجُودُ المَسْرُوقِ بِيَدِ السّارِقِ فَيُسْتَفادُ مِنهُ اليَقِينُ وبِهَذا جاءَتْ السُّنَّةُ في وُجُوبِ الحَدِّ بِالحَبَلِ والرّائِحَةِ في الخَمْرِ كَما اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحابَةُ، والِاحْتِجاجُ بِقِصَّةِ يُوسُفَ عَلى هَذا أحْسَنُ وأوْضَحُ مِن الِاحْتِجاجِ بِها عَلى الحِيَلِ.
وَفِيها تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ العِلْمَ الخَفِيَّ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلى المَقاصِدِ الحَسَنَةِ مِمّا يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ دَرَجاتِ العَبْدِ؛ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ﴾ [يوسف: ٧٦] قالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ وغَيْرُهُ: بِالعِلْمِ، وقَدْ أخْبَرَ تَعالى عَنْ رَفْعِهِ دَرَجاتِ أهْلِ العِلْمِ في ثَلاثَةِ مَواضِعَ مِن كِتابِهِ، أحَدُها: قَوْلُهُ: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ﴾ [الأنعام: ٨٣] فَأخْبَرَ أنَّهُ يَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن يَشاءُ بِعِلْمِ الحُجَّةِ. وقالَ في قِصَّةِ يُوسُفَ: ﴿كَذَلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ في دِينِ المَلِكِ إلا أنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ﴾ [يوسف: ٧٦] فَأخْبَرَ أنَّهُ يَرْفَعُ دَرَجاتِ مَن يَشاءُ بِالعِلْمِ الخَفِيِّ الَّذِي يَتَوَصَّلُ بِهِ صاحِبُهُ إلى المَقاصِدِ المَحْمُودَةِ، وقالَ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا قِيلَ لَكم تَفَسَّحُوا في المَجالِسِ فافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكم وإذا قِيلَ انْشُزُوا فانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكم والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجاتٍ﴾ [المجادلة: ١١] فَأخْبَرَ أنَّهُ يَرْفَعُ دَرَجاتِ أهْلِ العِلْمِ والإيمانِ.
* فَصْلٌ [النَّوْعُ الثّانِي مِن كَيْدِ اللَّهِ تَعالى لِعَبْدِهِ]
النَّوْعُ الثّانِي مِن كَيْدِهِ لِعَبْدِهِ المُؤْمِنِ: هو أنْ يُلْهِمَهُ تَعالى أمْرًا مُباحًا أوْ مُسْتَحَبًّا أوْ واجِبًا يُوَصِّلُهُ بِهِ إلى المَقْصُودِ الحَسَنِ؛ فَيَكُونُ عَلى هَذا إلْهامُهُ لِيُوسُفَ أنْ يَفْعَلَ ما فَعَلَ هو مِن كَيْدِهِ تَعالى أيْضًا، وقَدْ دَلَّ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ﴾ [يوسف: ٧٦] فَإنَّ فِيها تَنْبِيهًا عَلى أنَّ العِلْمَ الدَّقِيقَ المُوَصِّلَ إلى المَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ صِفَةُ مَدْحٍ، كَما أنَّ العِلْمَ الَّذِي يَخْصِمُ بِهِ المُبْطِلَ صِفَةُ مَدْحٍ؛ وعَلى هَذا فَيَكُونُ مِن الكَيْدِ ما هو مَشْرُوعٌ، لَكِنْ لا يَجُوزُ أنْ يُرادَ بِهِ الكَيْدُ الَّذِي تُسْتَحَلُّ بِهِ المُحَرَّماتُ أوْ تُسْقَطُ بِهِ الواجِباتُ؛ فَإنَّ هَذا كَيْدٌ لِلَّهِ، واللَّهُ هو الَّذِي يَكِيدُ الكائِدَ، ومُحالٌ أنْ يَشْرَعَ اللَّهُ تَعالى أنْ يُكادَ دِينُهُ، وأيْضًا فَإنَّ هَذا الكَيْدَ لا يَتِمُّ إلّا بِفِعْلِ يُقْصَدُ بِهِ غَيْرَ مَقْصُودِهِ الشَّرْعِيِّ، ومُحالٌ أنْ يَشْرَعَ اللَّهُ لِعَبْدِهِ أنْ يَقْصِدَ بِفِعْلِهِ ما لَمْ يَشْرَعْ اللَّهُ ذَلِكَ الفِعْلَ لَهُ.
فَهَذا هو الجَوابُ عَنْ احْتِجاجِ المُتَحَيِّلِينَ بِقِصَّةِ يُوسُفَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -، وقَدْ تَبَيَّنَ أنَّها مِن أعْظَمِ الحُجَجِ عَلَيْهِمْ، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
{"ayah":"وَقَالَ لِفِتۡیَـٰنِهِ ٱجۡعَلُوا۟ بِضَـٰعَتَهُمۡ فِی رِحَالِهِمۡ لَعَلَّهُمۡ یَعۡرِفُونَهَاۤ إِذَا ٱنقَلَبُوۤا۟ إِلَىٰۤ أَهۡلِهِمۡ لَعَلَّهُمۡ یَرۡجِعُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق