الباحث القرآني

﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِن سَعَتِهِ ومَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ تَذْيِيلٌ لِما سَبَقَ مِن أحْكامِ الإنْفاقِ عَلى المُعْتَدّاتِ والمُرْضِعاتِ بِما يَعُمُّ ذَلِكَ. ويَعُمُّ كُلَّ إنْفاقٍ يُطالَبُ بِهِ المُسْلِمُ مِن مَفْرُوضٍ ومَندُوبٍ، أيْ الإنْفاقُ عَلى قَدْرِ السَّعَةِ. والسَّعَةُ: هي الجِدَّةُ مِنَ المالِ أوِ الرِّزْقِ. والإنْفاقُ: كِفايَةُ مَئُونَةِ الحَياةِ مِن طَعامٍ ولِباسٍ وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يُحْتاجُ إلَيْهِ. و(مِن) هُنا ابْتِدائِيَّةٌ لِأنَّ الإنْفاقَ يَصْدُرُ عَنِ السَّعَةِ في الِاعْتِبارِ، ولَيْسَتْ مِن هَذِهِ كَ (مِن) الَّتِي في قَوْلِهِ تَعالى (﴿ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٣]) لِأنَّ النَّفَقَةَ هُنا لَيْسَتْ بَعْضًا مِنَ السَّعَةِ، وهي هُناكَ بَعْضُ الرِّزْقِ فَلِذَلِكَ تَكُونُ (مِن) مِن قَوْلِهِ (﴿فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللَّهُ﴾) تَبْعِيضِيَّةٌ. (p-٣٣١)ومَعْنى (﴿قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾) جُعِلَ رِزْقُهُ مَقْدُورًا، أيْ مَحْدُودًا بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ وذَلِكَ كِنايَةٌ عَنِ التَّضْيِيقِ. وضِدُّهُ ﴿يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ [غافر: ٤٠]، يُقالُ: قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، إذا قَتَّرَهُ، قالَ تَعالى (﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ ويَقْدِرُ﴾ [الرعد: ٢٦]) وتَقَدَّمَ في سُورَةِ الرَّعْدِ أيْ مِن كانَ في ضِيقٍ مِنَ المالِ فَلْيُنْفِقْ بِما يَسْمَحُ بِهِ رِزْقُهُ بِالنَّظَرِ إلى الوَفاءِ بِالإنْفاقِ ومَراتِبِهِ في التَّقْدِيمِ. وهَذا مُجْمَلٌ هُنا تَفْصِيلُهُ في أدِلَّةٍ أُخْرى مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ والِاسْتِنْباطِ «، قالَ النَّبِيءُ ﷺ لِهِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ زَوْجِ أبِي سُفْيانَ: خُذِي مِن مالِهِ ما يَكْفِيكِ ووَلَدَكِ بِالمَعْرُوفِ» . والمَعْرُوفُ: هو ما تَعارَفَهُ النّاسُ في مُعْتادِ تَصَرُّفاتِهِمْ ما لَمْ تُبْطِلْهُ الشَّرِيعَةُ. والرِّزْقُ: اسْمٌ لِما يَنْتَفِعُ بِهِ الإنْسانُ في حاجاتِهِ مِن طَعامٍ ولِباسٍ ومَتاعٍ ومَنزِلٍ. سَواءٌ كانَ أعْيانًا أوْ أثْمانًا. ويُطْلَقُ الرِّزْقُ كَثِيرًا عَلى الطَّعامِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى (﴿وجَدَ عِنْدَها رِزْقًا﴾ [آل عمران: ٣٧]) . ولَمْ يَخْتَلِفِ العُلَماءُ في أنَّ النَّفَقاتِ لا تَتَحَدَّدُ بِمَقادِيرَ مُعَيَّنَةٍ لِاخْتِلافِ أحْوالِ النّاسِ والأزْمانِ والبِلادِ. وإنَّما اخْتَلَفُوا في التَّوَسُّعِ في الإنْفاقِ في مالِ المُؤْسِرِ هَلْ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالتَّوْسِعَةِ عَلى مَن يُنْفِقُ هو عَلَيْهِ ولا أحْسَبُ الخِلافَ في ذَلِكَ إلّا اخْتِلافًا في أحْوالِ النّاسِ وعَوائِدِهِمْ ولا بُدَّ مِنِ اعْتِبارِ حالِ المُنْفَقِ عَلَيْهِ ومُعْتادِهِ، كالزَّوْجَةِ العالِيَةِ القَدْرِ. وكُلُّ ذَلِكَ داخِلٌ تَحْتَ «قَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ لِهِنْدٍ: (ما يَكْفِيكِ ووَلَدَكِ بِالمَعْرُوفِ» ) . وجُمْلَةُ (﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا ما آتاها﴾) تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ (﴿ومَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللَّهُ﴾) . لِأنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الجُمْلَةِ قَدْ تَقَرَّرَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ في قَوْلِهِ تَعالى (﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها﴾ [البقرة: ٢٨٦]) في سُورَةِ البَقَرَةِ، وهي قَبْلَ سُورَةِ الطَّلاقِ. والمَقْصُودُ مِنهُ إقْناعُ المُنْفَقِ عَلَيْهِ بِأنْ لا يَطْلُبَ مِنَ المُنْفِقِ أكْثَرَ مِن مَقْدِرَتِهِ. ولِهَذا قالَ عُلَماؤُنا: لا يُطْلَقُ عَلى المُعْسِرِ إذا كانَ يَقْدِرُ عَلى إشْباعِ المُنْفَقِ عَلَيْها وإكْسائِها بِالمَعْرُوفِ ولَوْ بِشَظَفٍ، أيْ دُونَ ضُرٍّ. و(﴿مِمّا آتاهُ اللَّهُ﴾) يَشْمَلُ المَقْدِرَةَ عَلى الِاكْتِسابِ فَإذا كانَ مَن يَجِبُ عَلَيْهِ (p-٣٣٢)الإنْفاقُ قادِرًا عَلى الِاكْتِسابِ لِيُنْفِقْ مَن يَجِبُ عَلَيْهِ إنْفاقُهُ أوْ لِيُكَمِّلْ لَهُ ما ضاقَ عَنْهُ مالُهُ، يُجْبَرُ عَلى الِاكْتِسابِ. وأمّا مَن لا قُدْرَةَ لَهُ عَلى الِاكْتِسابِ ولَيْسَ لَهُ ما يُنْفِقُ مِنهُ فَنَفَقَتُهُ أوْ نَفَقَةُ مَن يَجِبُ عَلَيْهِ إنْفاقُهُ عَلى مَراتِبِها تَكُونُ عَلى بَيْتِ مالِ المُسْلِمِينَ. وقَدْ قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: وأنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ ورَبَّ الغُنَيْمَةِ إنْ تَهْلِكْ ماشِيَتُهُما يَأْتِينَ بِبَيِّنَةٍ يَقُولُ يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أفَتارِكُهم أيُّنا، رَواهُ مالِكٌ في المُوَطَّأِ. وفِي عَجْزِ الزَّوْجِ عَنْ إنْفاقِ زَوْجِهِ إذا طَلَبَتِ الفِراقَ لِعَدَمِ النَّفَقَةِ خِلافٌ. فَمِنَ الفُقَهاءِ مَن رَأى ذَلِكَ مُوجِبًا لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُما بَعْدَ أجَلِ رَجاءٍ يَسُرُّ الزَّوْجُ وقُدِّرَ بِشَهْرَيْنِ، وهو قَوْلُ مالِكٍ. ومِنهم مَن لَمْ يَرَ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِذَلِكَ وهو قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ، أيْ وتُنْفِقُ مِن بَيْتِ مالِ المُسْلِمِينَ. والَّذِي يَقْتَضِيهُ النَّظَرُ أنَّهُ إنْ كانَ بَيْتُ المالِ قائِمًا فَإنَّ مِن واجِبِهِ نَفَقَةَ الزَّوْجَيْنِ المُعْسِرَيْنِ وإنْ لَمْ يَتَوَصَّلْ إلى الإنْفاقِ مِن بَيْتِ المالِ كانَ حَقًّا أنْ يُفَرِّقَ القاضِي بَيْنَهُما ولا يَتْرُكَ المَرْأةَ وزَوْجَها في احْتِياجٍ. ومَحَلٌّ بَسْطِ ذَلِكَ في مَسائِلِ الفِقْهِ. وجُمْلَةُ (﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾) تَكْمِلَةٌ لِلتَّذْيِيلِ فَإنَّ قَوْلَهُ (﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا ما آتاها﴾) يُناسِبُ مَضْمُونَ جُمْلَةِ (﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِن سَعَتِهِ﴾) . وقَوْلَهُ (﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ﴾) إلَخْ تُناسِبُ مَضْمُونَ (﴿ومَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾) إلَخْ. وهَذا الكَلامُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ في بَعْثِ التَّرَجِّي وطَرْحِ اليَأْسِ عَنِ المُعْسِرِ مِن ذَوِي العِيالِ. ومَعْناهُ: عَسى أنْ يَجْعَلَ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرِكم يُسْرًا لَكم فَإنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا. وهَذا الخَبَرُ لا يَقْتَضِي إلّا أنَّ مِن تَصَرُّفاتِ اللَّهِ أنْ يَجْعَلَ بَعْدَ عُسْرِ قَوْمٍ يُسْرًا لَهم، فَمَن كانَ في عُسْرٍ رَجا أنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَشْمَلُهُ فَضْلُ اللَّهِ، فَيُبَدِّلُ عُسْرَهُ بِاليُسْرِ. ولَيْسَ في هَذا الخَبَرِ وعْدٌ لِكُلِّ مُعْسِرٍ بِأنْ يَصِيرَ عُسْرُهُ يُسْرًا. وقَدْ يَكُونُ في المُشاهَدَةِ ما يُخالِفُ ذَلِكَ فَلا فائِدَةَ في التَّكَلُّفِ بِأنَّ هَذا وعْدٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ المُوَحِّدِينَ يَوْمَئِذٍ بِأنَّ اللَّهَ سَيُبَدِّلُ عُسْرَهم بِاليُسْرِ، أوْ وعْدٌ لِلْمُنْفِقِينَ الَّذِينَ يَمْتَثِلُونَ لِأمْرِ اللَّهِ ولا يَشِحُّونَ بِشَيْءٍ مِمّا يَسَعُهُ مالُهم. وانْظُرْ قَوْلَهُ تَعالى ( ﴿فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: ٥] . (p-٣٣٣)ومِن بَلاغَةِ القُرْآنِ الإتْيانُ بِ (عُسْرٍ ويُسْرٍ) نَكِرَتَيْنِ غَيْرَ مُعَرَّفَيْنِ بِاللّامِ لِئَلّا يُتَوَهَّمَ مِنَ التَّعْرِيفِ مَعْنى الِاسْتِغْراقِ كَما في قَوْلِهِ (﴿فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: ٥]) .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب