الباحث القرآني
﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهم وبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ ﴿وأخْذِهِمُ الرِّبا وقَدْ نُهُوا عَنْهُ وأكْلِهِمُ أمْوالَ النّاسِ بِالباطِلِ وأعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنهم عَذابًا ألِيمًا﴾ ﴿لَكِنِ الرّاسِخُونَ في العِلْمِ مِنهم والمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ وما أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ والمُقِيمِينَ الصَّلاةَ والمُؤْتُونَ الزَّكاةَ والمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمُ أجْرًا عَظِيمًا﴾ .
(p-٢٦)إنْ كانَ مُتَعَلَّقَ قَوْلِهِ (﴿فَبِما نَقْضِهِمْ﴾ [النساء: ١٥٥]) مَحْذُوفًا عَلى أحَدِ الوَجْهَيْنِ المُتَقَدِّمَيْنِ كانَ قَوْلُهُ فَبِظُلْمٍ مُفَرَّعًا عَلى مَجْمُوعِ جَرائِمِهِمُ السّالِفَةِ. فَيَكُونُ المُرادُ بِظُلْمِهِمْ ظُلْمًا آخَرَ غَيْرَ ما عُدِّدَ مِن قَبْلُ، وإنْ كانَ قَوْلُهُ (﴿فَبِما نَقْضِهِمْ﴾ [النساء: ١٥٥]) مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ (﴿حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ﴾) فَقَوْلُهُ (فَبِظُلْمٍ) الخَ بَدَلٌ مُطابِقٌ مِن جُمْلَةِ (﴿فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ﴾ [النساء: ١٥٥]) بِإعادَةِ العامِلِ في البَدَلِ مِنهُ لِطُولِ الفَصْلِ. وفائِدَةُ الإتْيانِ بِهِ أنْ يَظْهَرَ تَعَلُّقُهُ بِقَوْلِهِ (﴿حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ﴾) إذْ بَعُدَ ما بَيْنَهُ وبَيْنَ مُتَعَلِّقِهِ، وهو قَوْلُهُ (﴿فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ﴾ [النساء: ١٥٥]) لِيَقْوى ارْتِباطُ الكَلامِ. وأُتِيَ في جُمْلَةِ البَدَلِ بِلَفْظٍ جامِعٍ لِلْمُبْدَلِ مِنهُ وما عُطِفَ عَلَيْهِ: لِأنَّ نَقْضَ المِيثاقِ، والكُفْرَ، وقَتْلَ الأنْبِياءِ، وقَوْلَهم قُلُوبُنا غُلْفٌ، وقَوْلَهم عَلى مَرْيَمَ بُهْتانًا، وقَوْلَهم قَتَلْنا عِيسى: كُلُّ ذَلِكَ ظُلْمٌ. فَكانَتِ الجُمْلَةُ الأخِيرَةُ بِمَنزِلَةِ الفَذْلَكَةِ لِما تَقَدَّمَ، كَأنَّهُ قِيلَ: فَبِذَلِكَ كُلِّهِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ، لَكِنْ عَدَلَ إلى لَفْظِ الظُّلْمِ لِأنَّهُ أحْسَنُ تَفَنُّنًا، وأكْثَرُ فائِدَةً مِنَ الإتْيانِ بِاسْمِ الإشارَةِ. وقَدْ مَرَّ بَيانُ ذَلِكَ قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى (﴿فَبِما نَقْضِهِمْ﴾ [النساء: ١٥٥]) .
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ظُلْمًا آخَرَ أجْمَلَهُ القُرْآنُ.
وتَنْكِيرُ (ظُلْمٍ) لِلتَّعْظِيمِ، والعُدُولِ عَنْ أنْ يَقُولَ فَبِظُلْمِهِمْ، حَتّى تَأْتِيَ الضَّمائِرُ مُتَتابِعَةً مِن قَوْلِهِ (﴿فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهم وكُفْرِهِمْ﴾ [النساء: ١٥٥]) إلى آخِرِهِ، إلى الِاسْمِ الظّاهِرِ وهو (الَّذِينَ هادُوا) لِأجْلِ بُعْدِ الضَّمِيرِ في الجُمْلَةِ المُبْدَلِ مِنها: وهي (﴿فَبِما نَقْضِهِمْ﴾ [النساء: ١٥٥]) . ولِأنَّ في المَوْصُولِ وصْلَتِهِ ما يَقْتَضِي التَّنَزُّهَ عَنِ الظُّلْمِ لَوْ كانُوا كَما وصَفُوا أنْفُسَهم، فَقالُوا (﴿إنّا هُدْنا إلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٥٦])؛ فَصُدُورُ الظُّلْمِ عَنِ الَّذِينَ هادُوا مَحَلُّ اسْتِغْرابٍ.
والآيَةُ اقْتَضَتْ: أنَّ تَحْرِيمَ ما حُرِّمَ عَلَيْهِمْ إنَّما كانَ عِقابًا لَهم، وأنَّ تِلْكَ المُحَرَّماتِ لَيْسَ فِيها مِنَ المَفاسِدِ ما يَقْتَضِي تَحْرِيمَ تَناوُلِها، وإلّا لَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ مِن أوَّلِ مَجِيءِ الشَّرِيعَةِ. وقَدْ قِيلَ: إنَّ المُرادَ بِهَذِهِ الطَّيِّباتِ هو ما ذُكِرَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وعَلى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ومِنَ البَقَرِ والغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما﴾ [الأنعام: ١٤٦] إلى قَوْلِهِ ﴿ذَلِكَ جَزَيْناهم بِبَغْيِهِمْ﴾ [الأنعام: ١٤٦] في سُورَةِ الأنْعامِ، فَهَذا هو الجَزاءُ عَلى ظُلْمِهِمْ.
(p-٢٧)نَقَلَ الفَخْرُ في آيَةِ سُورَةِ الأنْعامِ عَنْ عَبْدِ الجَبّارِ أنَّهُ قالَ نَفْسُ التَّحْرِيمِ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عُقُوبَةً عَلى جُرْمٍ صَدَرَ مِنهم لِأنَّ التَّكْلِيفَ تَعْرِيضٌ لِلثَّوابِ، والتَّعْرِيضَ لِلثَّوابِ إحْسانٌ، فَلَمْ يَجُزْ أنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ جَزاءً عَلى الجُرْمِ. قالَ الفَخْرُ: والجَوابُ أنَّ المَنعَ مِنَ الِانْتِفاعِ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ لِقَصْدِ اسْتِحْقاقِ الثَّوابِ ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ لِلْجُرْمِ.
وهَذا الجَوابُ مُصادَرَةٌ عَلى أنَّ مِمّا يُقَوِّي الإشْكالَ أنَّ العُقُوبَةَ حَقُّها أنْ تُخَصَّ بِالمُجْرِمِينَ ثُمَّ تُنْسَخَ. فالَّذِي يَظْهَرُ لِي في الجَوابِ: إمّا أنْ يَكُونَ سَبَبُ تَحْرِيمِ تِلْكَ الطَّيِّباتِ أنَّ ما سَرى في طِباعِهِمْ بِسَبَبِ بَغْيِهِمْ وظُلْمِهِمْ مِنَ القَساوَةِ صارَ ذَلِكَ طَبْعًا في أمْزِجَتِهِمْ فاقْتَضى أنْ يُلَطِّفَ اللَّهُ طِباعَهم بِتَحْرِيمِ مَأْكُولاتٍ مِن طَبْعِها تَغْلِيظُ الطِّباعِ، ولِذَلِكَ لَمّا جاءَهم عِيسى أحَلَّ اللَّهُ لَهم بَعْضَ ما حَرَّمَ عَلَيْهِمْ مِن ذَلِكَ لِزَوالِ مُوجِبِ التَّحْرِيمِ، وإمّا أنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ ما حَرَّمَ عَلَيْهِمْ عِقابًا لِلَّذِينِ ظَلَمُوا وبَغَوْا ثُمَّ بَقِيَ ذَلِكَ عَلى مَن جاءَ بِعْدَهم لِيَكُونَ لَهم ذِكْرى ويَكُونَ لِلْأوَّلِينَ سُوءُ ذِكْرٍ مِن بابِ قَوْلِهِ ﴿واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكم خاصَّةً﴾ [الأنفال: ٢٥]، وقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ «ما مِن نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إلّا كانَ عَلى ابْنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِن دَمِها» . ذَلِكَ لِأنَّهُ أوَّلُ مَن سَنَّ القَتْلَ. وإمّا لِأنَّ هَذا التَّحْرِيمَ عُقُوبَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ راجِعَةٌ إلى الحِرْمانِ مِنَ الطَّيِّباتِ فَلا نَظَرَ إلى ما يَعْرِضُ لِهَذا التَّحْرِيمِ تارَةً مِنَ الثَّوابِ عَلى نِيَّةِ الِامْتِثالِ لِلنَّهْيِ، لِنُدْرَةِ حُصُولِ هَذِهِ النِّيَّةِ في التَّرْكِ.
وصَدُّهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: إنْ كانَ مَصْدَرَ (صَدَّ) القاصِرُ الَّذِي مُضارِعُهُ يَصِدُّ بِكَسْرِ الصّادِ فالمَعْنى بِإعْراضِهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ؛ وإنْ كانَ مَصْدَرَ المُتَعَدِّي الَّذِي قِياسُ مُضارِعِهِ بِضَمِّ الصّادِ، فَلَعَلَّهم كانُوا يَصُدُّونَ النّاسَ عَنِ التَّقْوى، ويَقُولُونَ: سَيُغْفَرُ لَنا، مِن زَمَنِ مُوسى قَبْلَ أنْ يُحَرَّمَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ الطَّيِّباتِ. أمّا بَعْدَ مُوسى فَقَدْ صَدُّوا النّاسَ كَثِيرًا، وعانَدُوا الأنْبِياءَ، وحاوَلُوهم عَلى كَتْمِ المَواعِظِ، وكَذَّبُوا عِيسى، وعارَضُوا دَعْوَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ وسَوَّلُوا لِكَثِيرٍ مِنَ النّاسِ، جَهْرًا أوْ نِفاقًا، البَقاءَ عَلى الجاهِلِيَّةِ، كَما تَقَدَّمَ في (p-٢٨)قَوْلِهِ ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ والطّاغُوتِ﴾ [النساء: ٥١] الآياتِ. ولِذَلِكَ وُصِفَ بِـ (كَثِيرًا) حالًا مِنهُ.
وأخْذُهُمُ الرِّبا الَّذِي نُهُوا عَنْهُ: هو أنْ يَأْخُذُوهُ مَن قَوْمِهِمْ خاصَّةً ويَسُوغُ لَهم أخْذُهُ مِن غَيْرِ الإسْرائِيلِيِّينَ كَما في الإصْحاحِ مِن سِفْرِ التَّثْنِيَةِ ”لا تُقْرِضْ أخاكَ بِرِبًا رِبا فِضَّةٍ أوْ رِبا طَعامٍ أوْ رِبا شَيْءٍ ما مِمّا يُقْرَضُ بِرِبًا. لِلْأجْنَبِيِّ تُقْرِضُ بِرِبًا“ .
والرِّبا مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ بِنَصِّ التَّوْراةِ في سِفْرِ الخُرُوجِ في الإصْحاحِ إنْ أقْرَضْتَ فِضَّةً لِشَعْبِي الفَقِيرِ الَّذِي عِنْدَكَ فَلا تَكُنْ لَهُ كالمُرابِي لا تَضَعُوا عَلَيْهِ رِبًا.
وأكْلُهم أمْوالَ النّاسِ بِالباطِلِ أعَمُّ مِنَ الرِّبا فَيَشْمَلُ الرَّشْوَةَ المُحَرَّمَةَ عِنْدَهم، وأخْذَهُمُ الفِداءَ عَلى الأسْرى مِن قَوْمِهِمْ، وغَيْرَ ذَلِكَ.
والِاسْتِدْراكُ بِقَوْلِهِ ﴿لَكِنِ الرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾ الخَ ناشِئٌ عَلى ما يُوهِمُهُ الكَلامُ السّابِقُ ابْتِداءً مِن قَوْلِهِ ﴿يَسْألُكَ أهْلُ الكِتابِ﴾ [النساء: ١٥٣] مِن تَوَغُّلِهِمْ في الضَّلالَةِ حَتّى لا يُرْجى لِأحَدٍ مِنهم خَيْرٌ وصَلاحٌ، فاسْتُدْرِكَ بِأنَّ الرّاسِخِينَ في العِلْمِ مِنهم لَيْسُوا كَما تُوُهِّمَ، فَهم يُؤْمِنُونَ بِالقُرْآنِ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ ومُخَيْرِيقٍ.
والرّاسِخُ حَقِيقَتُهُ الثّابِتُ القَدَمِ في المَشْيِ، لا يَتَزَلْزَلُ؛ واسْتُعِيرَ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الوَصْفِ مِثْلُ العِلْمِ بِحَيْثُ لا تَغُرُّهُ الشَّبَهُ. وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ والرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾ [آل عمران: ٧] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.
والرّاسِخُ في العِلْمِ بَعِيدٌ عَنِ التَّكَلُّفِ وعَنِ التَّعَنُّتِ، فَلَيْسَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الحَقِّ حاجِبٌ، فَهم يَعْرِفُونَ دَلائِلَ صِدْقِ الأنْبِياءِ ولا يَسْألُونَهم خَوارِقَ العاداتِ.
وعَطْفُ (المُؤْمِنُونَ) عَلى (الرّاسِخُونَ) ثَناءٌ عَلَيْهِمْ بِأنَّهم لَمْ يَسْألُوا نَبِيَّهم أنْ يُرِيَهُمُ الآياتِ الخَوارِقَ لِلْعادَةِ. فَلِذَلِكَ قالَ (يُؤْمِنُونَ)، أيْ (جَمِيعُهم) (﴿بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ﴾)، أيِ القُرْآنِ، وكَفاهم بِهِ آيَةً، (﴿وما أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾) عَلى الرُّسُلِ، ولا يُعادُونَ رُسُلَ اللَّهِ تَعَصُّبًا وحَمِيَّةً.
(p-٢٩)والمُرادُ بِالمُؤْمِنِينَ في قَوْلِهِ (والمُؤْمِنُونَ) الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ لِلْإيمانِ مِن أهْلِ الكِتابِ، ولَمْ يَكُونُوا مِنَ الرّاسِخِينَ في العِلْمِ مِنهم، مِثْلَ اليَهُودِيِّ الَّذِي كانَ يَخْدِمُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وآمَنَ بِهِ.
وعَطْفُ المُقِيمِينَ بِالنَّصْبِ ثَبَتَ في المُصْحَفِ الإمامِ، وقَرَأهُ المُسْلِمُونَ في الأقْطارِ دُونَ تَنْكِيرٍ؛ فَعَلِمْنا أنَّهُ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ في عَطْفِ الأسْماءِ الدّالَّةِ عَلى صِفاتٍ مَحامِدَ، عَلى أمْثالِها، فَيَجُوزُ في بَعْضِ المُعْطُوفاتِ النَّصْبُ عَلى التَّخْصِيصِ بِالمَدْحِ، والرَّفْعُ عَلى الِاسْتِئْنافِ لِلِاهْتِمامِ، كَما فَعَلُوا ذَلِكَ في النُّعُوتِ المُتَتابِعَةِ، سَواءٌ كانَتْ بِدُونِ عَطْفٍ أمْ بِعَطْفٍ، كَقَوْلِهِ تَعالى ( ﴿ولَكِنَّ البِرَّ مَن آمَنَ﴾ [البقرة: ١٧٧] إلى قَوْلِهِ والصّابِرِينَ. قالَ سِيبَوَيْهِ في كِتابِهِ ”بابُ ما يَنْتَصِبُ في التَّعْظِيمِ والمَدْحِ“: وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ صِفَةً فَجَرى عَلى الأوَّلِ، وإنْ شِئْتَ قَطَعْتَهُ فابْتَدَأْتَهُ. وذَكَرَ مِن قَبِيلِ ما نَحْنُ بِصَدَدِهِ هَذِهِ الآيَةَ فَقالَ فَلَوْ كانَ كُلُّهُ رَفْعًا كانَ جَيِّدًا، ومِثْلُهُ ﴿والمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذا عاهَدُوا والصّابِرِينَ في البَأْساءِ والضَّرّاءِ﴾ [البقرة: ١٧٧]، ونَظِيرُهُ قَوْلُ الخِرْنَقِ:
؎لا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الَّذِينَ هُمُو سُمُّ العُداةِ وآفَةُ الجُـزُرِ
؎النّازِلُونَ بِكُلِّ مُعْـتَـرَكٍ ∗∗∗ والطَّيِّبِينَ مَعَـاقِـدَ الأُزُرِ
فِي رِوايَةِ يُونُسَ عَنِ العَرَبِ: بِرَفْعِ النّازِلُونَ ونَصْبِ الطَّيِّبِينَ، لِتَكُونَ نَظِيرَ هَذِهِ الآيَةِ. والظّاهِرُ أنَّ هَذا مِمّا يَجْرِي عَلى قَصْدِ التَّفَنُّنِ عِنْدَ تَكَرُّرِ المُتَتابِعاتِ، ولِذَلِكَ تَكَرَّرَ وُقُوعُهُ في القُرْآنِ في مَعْطُوفاتٍ مُتَتابِعاتٍ كَما في سُورَةِ البَقَرَةِ وفي هَذِهِ الآيَةِ، وفي قَوْلِهِ و(الصّابُونَ) في سُورَةِ المائِدَةِ.
ورُوِيَ عَنْ عائِشَةَ وأبانٍ بْنِ عُثْمانَ أنَّ نَصْبَ المُقِيمِينَ خَطَأٌ، مِن كاتِبِ المُصْحَفِ وقَدْ عَدَّتْ مِنَ الخَطَأِ هَذِهِ الآيَةَ. وقَوْلِهِ ﴿ولَكِنَّ البِرَّ مَن آمَنَ بِاللَّهِ﴾ [البقرة: ١٧٧] إلى قَوْلِهِ ﴿والصّابِرِينَ في البَأْساءِ﴾ [البقرة: ١٧٧] وقَوْلِهِ ﴿إنْ هَذانِ لَساحِرانِ﴾ [طه: ٦٣] . وقَوْلِهِ و(الصّابُونَ) في سُورَةِ المائِدَةِ. وقَرَأتْها عائِشَةُ، وعَبْدُ اللَّهُ بْنُ مَسْعُودٍ، وأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، والحَسَنُ، ومالِكُ بْنُ دِينارٍ، والجَحْدَرِيُّ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وعِيسى بْنُ عُمَرَ، وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: والمُقِيمُونَ بِالرَّفْعِ. ولا تُرَدُّ قِراءَةُ الجُمْهُورِ المُجْمَعِ عَلَيْها بِقِراءَةٍ شاذَّةٍ.
(p-٣٠)ومِنَ النّاسِ مَن زَعَمَ أنَّ نَصْبَ (المُقِيمِينَ) ونَحْوَهُ هو مَظْهَرُ تَأْوِيلِ قَوْلِ عُثْمانَ لِكُتّابِ المَصاحِفِ حِينَ أتَمُّوها وقَرَأها أنَّهُ قالَ لَهم أحْسَنْتُمْ وأجْمَلْتُمْ وأرى لَحْنًا قَلِيلًا سَتُقِيمُهُ العَرَبُ بِألْسِنَتِها. وهَذِهِ أوْهامٌ وأخْبارٌ لَمْ تَصِحَّ عَنِ الَّذِينَ نُسِبَتْ إلَيْهِمْ. ومِنَ البَعِيدِ جِدًّا أنْ يُخْطِئَ كاتِبُ المُصْحَفِ في كَلِمَةٍ بَيْنَ أخَواتِها فَيُفْرِدَها بِالخَطَأِ دُونَ سابِقَتِها أوْ تابِعَتِها، وأبْعَدَ مِنهُ أنْ يَجِيءَ الخَطَأُ في طائِفَةٍ مُتَماثِلَةٍ مِنَ الكَلِماتِ وهي الَّتِي إعْرابُها بِالحُرُوفِ النّائِبَةِ عَنْ حَرَكاتِ الإعْرابِ مِنَ المُثَنّى والجَمْعِ عَلى حَدِّهِ. ولا أحْسَبُ ما رَواهُ عَنْ عائِشَةَ وأبانِ بْنِ عُثْمانَ في ذَلِكَ صَحِيحًا. وقَدْ عَلِمْتُ وجْهَ عَرَبِيَّتِهِ في المُتَعاطِفاتِ، وأمّا وجْهُ عَرَبِيَّةِ (﴿إنْ هَذانِ لَساحِرانِ﴾ [طه: ٦٣]) فَيَأْتِي عِنْدَ الكَلامِ عَلى سُورَةِ طه.
والظّاهِرُ أنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِ عُثْمانَ هو ما وقَعَ في رَسْمِ المُصْحَفِ مِن نَحْوِ الألِفاتِ المَحْذُوفَةِ. قالَ صاحِبُ الكَشّافِ وهم كانُوا أبْعَدَ هِمَّةً في الغَيْرَةِ عَلى الإسْلامِ وذَبِّ المَطاعِنِ عَنْهُ مِن أنْ يَتْرُكُوا في كِتابِ اللَّهِ ثُلْمَةً لِيَسُدَّها مَن بَعْدَهم وخَرْقًا يَرْفُوهُ مَن يَلْحَقُ بِهِمْ. وقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿والصّابِرِينَ في البَأْساءِ والضَّرّاءِ﴾ [البقرة: ١٧٧] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
والوَعْدُ بِالأجْرِ العَظِيمِ بِالنِّسْبَةِ لِلرّاسِخِينَ مِن أهْلِ الكِتابِ لِأنَّهم آمَنُوا بِرَسُولِهِمْ وبِمُحَمَّدٍ ﷺ وقَدْ ورَدَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أنَّ لَهم أجْرَيْنِ، وبِالنِّسْبَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ العَرَبِ لِأنَّهم سَبَقُوا غَيْرَهم بِالإيمانِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (سَنُؤْتِيهِمْ) بِنُونِ العَظَمَةِ وقَرَأهُ حَمْزَةُ وخَلَفٌ بِياءِ الغَيْبَةِ والضَّمِيرُ عائِدٌ إلى اسْمِ الجَلالَةِ في قَوْلِهِ (﴿والمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾) .
{"ayahs_start":160,"ayahs":["فَبِظُلۡمࣲ مِّنَ ٱلَّذِینَ هَادُوا۟ حَرَّمۡنَا عَلَیۡهِمۡ طَیِّبَـٰتٍ أُحِلَّتۡ لَهُمۡ وَبِصَدِّهِمۡ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ كَثِیرࣰا","وَأَخۡذِهِمُ ٱلرِّبَوٰا۟ وَقَدۡ نُهُوا۟ عَنۡهُ وَأَكۡلِهِمۡ أَمۡوَ ٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَـٰطِلِۚ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَـٰفِرِینَ مِنۡهُمۡ عَذَابًا أَلِیمࣰا","لَّـٰكِنِ ٱلرَّ ٰسِخُونَ فِی ٱلۡعِلۡمِ مِنۡهُمۡ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ یُؤۡمِنُونَ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَۚ وَٱلۡمُقِیمِینَ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَٱلۡمُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ سَنُؤۡتِیهِمۡ أَجۡرًا عَظِیمًا"],"ayah":"فَبِظُلۡمࣲ مِّنَ ٱلَّذِینَ هَادُوا۟ حَرَّمۡنَا عَلَیۡهِمۡ طَیِّبَـٰتٍ أُحِلَّتۡ لَهُمۡ وَبِصَدِّهِمۡ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ كَثِیرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق