الباحث القرآني
(...) ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ (الفاء) عاطفة على ما سبق، و(الباء) هنا للسببية، والظلم في الأصل: النقص، ومنه قوله تعالى: ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ [الكهف ٣٣]، وأما في الشرع فهو التعدي سواء كان بنقصِ واجبٍ أو بفعلِ محرَّمٍ.
وقوله: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ يعني بهم قوم موسى حين قالوا: ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ [الأعراف ١٥٦] أي: رجعنا، مع رجوعهم والتزامهم بالرجوع إلى الله ظلموا أنفسهم.
﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ هذا الفعل هو العامل في قوله: ﴿فَبِظُلْمٍ﴾، يعني: الجار والمجرور في قوله: ﴿بِظُلْمٍ﴾ متعلِّق بقوله: ﴿حَرَّمْنَا﴾، والتحريم في اللغة: المنع، ومنه: حريم البئر، وهو ما حولها يمنع من إحياء ما حوله، ومنه سُمِّي النساء حريمًا لاحتجابهن والمنع من التعدِّي عليهن.
﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ ﴿طَيِّبَاتٍ﴾ أي: أطعمةً طيباتٍ، فهي صفة لموصوف محذوف، والطيِّب ضد الخبيث، والخبيث له إطلاقات متعددة؛ تارةً يُراد به الشيء النجس، وتارةً يُراد به الرديء، وتارةً يُراد به المحرَّم مطلقًا.
وقوله: ﴿طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ أي: كانت بالأول حلالًا، وهي باقية على طِيبها، لكن حُرِّمت عليهم بسبب ظلمهم.
﴿أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ من الْمُحِلُّ؟ الْمُحِلُّ هو الله عز وجل؛ لأنه هو الذي بيده الأمر.
﴿وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ (الواو) حرف عطف، و(صَدّ) مصدر يحتمل أن يكون من الفعل المتعدي ويحتمل أن يكون من الفعل اللازم؛ وذلك لأن (صَدَّ) تكون فعلًا لازمًا وتكون متعديًّا؛ فيُقال: صَدَّ الرجلُ عن كذا؛ بمعنى: أعْرَضَ، وصَدَّ غيرَه عن كذا؛ بمعنى: صَرَفه عنه، وهنا يجوز فيه الأمران؛ فهُم قد صدُّوا بأنفسهم عن سبيل الله كثيرًا، وصدُّوا غيرَهم أيضًا لما عندهم من الكتاب الذي يشبِّهون به ويموِّهون به على الناس ويقولون: إن محمدًا ﷺ ليس هو المبعوث المنتظر، وما أشبه ذلك.
وقوله: ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ المراد بـ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ شَرْعُه الذي شَرَعَه الله لعباده، وسُمِّي (سبيل الله) لأنه طريق موصل إلى الله عز وجل، ولأن الله تعالى هو الذي وضعه للعباد لم يَشْرعه أحدٌ سواه، فأُضيفَ إلى الله تعالى باعتبارين؛ الاعتبار الأول: أنه موصل إليه؛ كما تقول مثلًا: هذا طريق المدينة، هذا طريق مكة، والثاني: أن الله هو الذي وضعه للعباد وشَرَعه لهم، مع أنه يُضاف أحيانًا لسالكيه كقوله تعالى: ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء ١١٥]، فهُنا أضاف السبيل إلى المؤمنين باعتبار أنهم سالكوه، وعلى هذا فإذا أُضيفَ السبيلُ إلى الله كان باعتبارين، وإذا أُضيفَ إلى العباد صار باعتبار واحد.
﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ ﴿كَثِيرًا﴾ يختلف إعرابها باختلاف كلمة (صَدّ)؛ إن كانت لازمة فهي صفةٌ لمصدر محذوف؛ أي: صدودًا كثيرًا، وإن كانت متعدِّية فهي مفعول لـ(صدّ)، وإن شئت فقُل: صفة لمفعول (صدّ) المحذوف؛ أي: خلقًا كثيرًا، وهم في الواقع جديرون بالوصفين؛ فإنهم صدُّوا بأنفسهم وصدُّوا غيرَهم.
﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ هذا الوصف الثالث: ﴿أَخْذِهِمُ الرِّبَا﴾، ولم يقل: أكْل؛ لأن الأخذ أعمّ؛ قد يأخذ الإنسان الرِّبا ولا يأكله، يستعمله في لباس أو في بناء وما أشبه ذلك، وقد يأخذه للأكل، تارةً يُعبَّر بالأكل كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ [البقرة ٢٧٥]، وتارة يُعبَّر بالأخذ وهو أعمّ، لكن التعبير بالأكل أشدُّ؛ لأن ممارسة الآكل للربا أشدُّ من ممارسة غير الآكل، أشدُّ من ممارسة الآخذ؛ إذ إن الآخذ قد يستعمل الربا وقد يُنفده في أمور أخرى غير الأكل.
وقوله: ﴿الرِّبَا﴾ الربا لغةً: الزيادة، وفي الشرع: الزيادة في أشياء معيَّنة بيَّنها النبي ﷺ، في ستة أشياء، ما هي؟
* طالب: الذهب، والفضة، والشعير، والبُر، والتمر، والملح.
* الشيخ: والملح، هذه ستة أشياء، دليلها قوله؟
* طالب: قوله ﷺ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ»[[أخرجه البخاري (٢١٣٤) من حديث عمر بن الخطاب، ومسلم (١٥٨٧ / ٨١) واللفظ له من حديث عبادة بن الصامت.]].
* الشيخ: هل يُلحَق بهذه الستة غيرها؟
سبق لنا أن العلماء اختلفوا في ذلك:
أما أهل الظاهر فقالوا: لا يلحق بها غيرها؛ لأنهم يمنعون القياس.
وأما القِياسِيُّون فاختلفوا:
فمنهم من قال: لا يلحق بها غيرها، يُقتصر على ما جاء به النص؛ كابن عقيل الحنبلي رحمه الله حيث قال: يُقتصر على ما جاء به النص، مع أنه من أهل القياس والمعاني، لكنه قال: إن العلماء اختلفوا في العِلة واضطربوا، وليس هناك نص بيِّن يجب المصير إليه، فإذا اختلفوا فهُم كاختلاف المأمومين على الإمام في الزيادة أو النقص في الصلاة، والمعروف أنه إذا اختلف المأمومون على الإمام في الزيادة والنقص سقطت أقوالهم، لم يؤخذ لا بقول الزيادة ولا بقول النقص؛ فيقول: لما اختلف العلماء رحمهم الله في عِلَّة الربا في هذه الأشياء الستة بطلت العِلَّة ورجعنا إلى القول بأنه يُقتصر على ما جاء به النص.
والقول الثاني عند أصحاب القياس: أن العلة معقولة، ويمكن أن يلحق بهذه الأشياء الستة ما كان مثلها.
ثم اختلفوا في المماثلة؛ هل هي الطعم، أو الكيل، أو الكيل والادخار؟ ولهذا كانت أقوال العلماء في هذه المسألة أقوالًا مضطربة، لا تكاد تأتي على شيء تطمئن إليه كثيرًا.
على كل حال نحن نقول: الربا الذي حرمه الله ورسوله، سواء كان ذلك عن طريق الأثر أو عن طريق النظر والقياس.
﴿أَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ (الواو) هنا للحال؛ يعني: والحال أنهم قد نُهُوا عنه وبُلِّغوا وقامت عليهم الحجة، لكنَّهم أخذوه، والناهي عنه هو الله ورسله.
الوصف الرابع: ﴿وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ يعني أنهم استولوا على أموال الناس، فالمراد بالأكل هنا: الاستيلاء، سواء استولوا فأكلوا أو لبسوا أو عَمَروا أو فعلوا أيَّ شيء.
وقوله: ﴿بِالْبَاطِلِ﴾ الباطل: كلُّ ما خالف الشرع فهو باطل، سواء أخذوه عن طريق الغش، أو عن طريق الكذب، أو عن طريق الجهل بالمبيعات، أو عن طريق كتم الحق، أو دعوى ما ليس لهم، المهم أن المراد بالباطل: كل ما أُخِذ بغير حق.
بقي عندنا الآن ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ عرفنا أنها متعلِّق بقوله: ﴿حَرَّمْنَا﴾، ما بعدها ﴿وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ يحتمل أن تكون معطوفة على ما سبق ويكون العامل هو ﴿حَرَّمْنَا﴾؛ يعني: وحرَّمنا عليهم طيباتٍ أُحِلت لهم بصدِّهم عن سبيل الله كثيرًا وأخذِهم الربا... إلى آخره، ويحتمل أن العامل محذوف؛ التقدير: وعذَّبناهم بصدِّهم عن سبيل الله كثيرًا وأخذِهم الربا وقد نُهُوا عنه؛ يدل عليه قوله: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾.
يخبر الله في هذه الآية الكريمة أن هؤلاء اليهود الذين ظلموا أنفسهم حرَّم الله عليهم بعض الطيبات لا كل الطيبات؛ بدليل قوله: ﴿طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾، وهي نكرة لا تفيد العموم، بل هي للإطلاق، فما الذي حُرِّم عليهم؟
قال الله تعالى مبيِّنًا ذلك في سورة الأنعام: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ﴾ [الأنعام ١٤٦]، فحرَّم الله عليهم من أجناس الحيوان كلَّ ذي ظفر، والمراد بكل ذي ظفر: كل ما رِجلاه أو قدماه غير مشقوق، يعني الذي لم تُشَق رجله يسمى ذا الظفر، مثل: الإبل والنعام والنحم وما أشبه ذلك؛ يعني: الذي ليس له أصابع ولا شُقَّ قدمه يُسمى ذا الظفر، وعلى هذا فالإبل محرمة على بني إسرائيل.
﴿وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ يعني أنهم كانوا صادِّين عن سبيل الله وصادِّين لغيرهم أيضًا، فهم مستكبرون ومجرمون، مستكبرون عن طاعة الله بصدِّهم بأنفسهم، مجرمون حيث اعتدوا على غيرهم وصدُّوهم عن سبيل الله.
﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا﴾ يعني أخذهم إياه أكلًا واستعمالًا وانتفاعًا.
﴿وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ وهذا أشدُّ في الإثم والتحريم؛ لأنهم قد قامت عليهم الحجة.
وكذلك أيضًا وصفهم بأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل، ومن ذلك الرشوة، فقد كانوا أكَّالين للسحت: الرشوة في الحكم؛ يعني أنهم يرشون الحكام ليحكموا لهم بما لم يُنزل به الله شرعًا.
ثم بيَّن عز وجل أنه أعدَّ للكافرين منهم عذابًا أليمًا، وهُنا تجدون الإظهار في موضع الإضمار؛ حيث لم يقل: وأعتدنا لهم، بل قال: ﴿لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾، وقد سبق أن للإظهار في موضع الإضمار فوائد.
* طالب: منها علِّية البيان، علِّية الحكم، بيَّن السبب أنه بسبب كفرهم أعدَّ الله لهم عذابًا أليمًا.
* الشيخ: يعني الإشارة إلى علة الحكم.
* طالب: الإشارة إلى عموم الحكم لكل من اتصف بهذا الوصف.
* الشيخ: الإشارة إلى عموم الحكم لكل من اتصف بهذا الوصف.
* طالب: التسجيل على مرجع الضمير بما يستحق من وصف.
* الشيخ: التسجيل عليهم بما يقتضيه هذا الوصف؛ أي أنهم بذلك صاروا كفارًا، لكن هنا لا يستقيم هذا المعنى؛ لأنه قال: ﴿لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ﴾ فجعلهم قسمين: قسم كافر، وقسم غير كافر.
أيضًا تنبيه المخاطب؛ لأن الكلام إذا خرج عن الأسلوب فإنه لا بد أن ينتبه الإنسان، ومن ذلك الالتفات من الخطاب إلى الغَيبة أو بالعكس، فهذا يقتضي انتباه المخاطب، وهو أسلوب من أساليب العربية.
وبيَّن الله عز وجل أن هذا العذاب الذي أعدَّه لهم أليمٌ؛ أي: مُؤلِم، و(فَعِيل) تأتي بمعنى (مُفْعِل)، ومنه قول الشاعر:
؎أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِــــــيالسَّمِيــــــــــــــعُ ∗∗∗ يُؤَرِّقُــــــــــــنِي وَأَصْحَــــــــــابِيهُجُــــــــــــوعُ
(أمِنْ ريحانةَ الداعي السميعُ يؤرقني) معنى السَّمِيع هنا: الْمُسْمِع (وأصحابي هجوع).
* في هذه الآية فوائد كثيرة:
* منها: إثبات الأسباب، وأن الله تعالى قد يشرع الشيءَ لسبب؛ لقوله: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾. ومن ذلك أن الله شدَّد على بني إسرائيل الذين أُمِروا بذبح البقرة حين قال لهم نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ [البقرة ٦٧]؛ لو أنهم ذبحوا أيَّ بقرةٍ كانت لأجزأهم وحصل المقصود، لكن شدَّدوا فشدَّد الله عليهم، وإثبات الأسباب انقسم الناس به إلى طرفين ووسط:
منهم من أنكر الأسباب مطلقًا وقال: إثبات الأسباب يقتضي إثبات خالقٍ مع الله.
ومنهم من أثبت الأسباب على أنها فاعلة بطبيعتها.
ومنهم من أثبت الأسباب على أنها فاعلة بما أودع الله فيها من القوة الموجِبة للمسبَّبات، وهذا القول هو القول الوسط الذي دلَّ عليه المنقول والمعقول؛ فأيُّ دعوى لخالقٍ مع الله إذا قال: إن الله خلق هذا الشيءَ ليكون سببًا للشيء الفلاني؟! أيُّ دعوى لخالق مع الله؟! وأيُّ دعوى تصح لإنكار تأثير الأسباب في مسبَّباتها؟! أيُّ دعوى؟! كلٌّ يعرف أن الأسباب مؤثِّرة في مسبَّباتها، ولهذا هدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فأثبتوا الأسباب على أن الذي خلقها وأوجدها هو الله عز وجل، ولذلك قد تتخلَّف المسبَّبات بإذن الله كما تخلَّف إحراق النار لإبراهيم عليه الصلاة والسلام مع أنها نار عظيمة محرقة، حتى قيل: إنهم لم يستطيعوا أن يقربوا منها، بل رموه إليها بالمنجنيق من بُعْد، ومع ذلك صارت عليه بردًا وسلامًا، وهذا يدل على أن السبب ليس يؤثِّر بنفسه بل بإرادة الله عز وجل، وهو أيضًا من حكمة الله عز وجل أن جعل لكل شيء سببًا.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الظلم سبب لحرمان الخير؛ وهذا لقوله: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾، والظلم سبب لحرمان الخير الشرعي والقَدَري؛ ألم تعلموا «أن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج ذات يوم ليخبر أصحابه بأن الليلة ليلة القدر، فتلاحى رجلان من الأنصار أو من غيرهم فرُفِعت، ونُسِّيها عليه الصلاة والسلام»[[أخرجه البخاري (٤٩) من حديث عبادة بن الصامت.]]، هذا حرمانٌ لأمر قَدَري ولَّا شرعي؟ شرعي، وهو أن من قامها إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه، لكن حُرِم الناس هذا الخير بسبب الظلم، وهو التلاحي والتخاصم والتنازع، ولهذا يُغفر في ليلة القدر إلا للمتشاحنين الذين بينهم شَحْناء فإنه لا يُغفر لهم، كما «تُعرَض الأعمال يوم الإثنين والخميس فيُغفر لكل أحد إلا من بينه وبين أخيه شَحْناء فيُقال: أَنظِرا هذينِ حتى يصطلحا»[[أخرجه مسلم (٢٥٦٥ / ٣٦) من حديث أبي هريرة.]].
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الله تعالى قد يحرم بالظلم تحريمًا قدريًّا، الذي حصل في بني إسرائيل تحريم شرعي ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾، ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ [الأنعام ١٤٦]، هذا تحريم شرعي.
لكن قد يُحرَم الإنسانُ تحريمًا قدريًّا مع حِلِّ الشيء له شرعًا؛ فيُصاب مثلًا بمرض يقول له الأطباء: اترك الأكلة الفلانية، بسبب ظُلمه.
الإنسان مثلًا قد يتهوَّر ويُسرف في الإنفاق، والإسراف في الإنفاق أكلًا وشربًا ولبسًا حرام ولَّا حلال؟
* الطلبة: حرام.
* الشيخ: حرام، كيف حرام؟ الدليل؟
* الطلبة: (...).
* الشيخ: ﴿وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنعام ١٤١]. قد يُسرِف الإنسان فيُحرَم من هذا الخير الذي أسرف فيه قَدَرًا لا شرعًا؛ بأن يُصاب بمرض لا يتلاءم معه أن يأكل كل شيء أو أن يلبس كل شيء، وهذا نسمِّيه تحريمًا أيش؟
* طالب: قدريًّا.
* الشيخ: تحريمًا قدريًّا.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الأمر إلى الله تعالى تحليلًا وتحريمًا؛ لقوله: ﴿حَرَّمْنَا﴾ وقوله: ﴿أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ وهو كذلك، التحليل والتحريم ليس إلينا ولا إلى أحد من الناس إلا إلى الله ورسوله، فالتحريم إلى الله وإلى رسوله، والتحليل كذلك، والإيجاب كذلك؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ [النحل ١١٦].
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الطيِّبات نفسها قد تكون ممنوعة شرعًا، وهو كذلك؛ قد تكون الطيِّبات ممنوعة على هذا الإنسان شرعًا حتى بعد كمال الدين؛ يقول شيخ الإسلام: إن الطعام حرامٌ على الإنسان إذا كان يتأذَّى به لو أكل أو خاف التخمة، فإنه يكون حرامًا عليه. يعني مثلًا: إنسان ملأ بطنه من الطعام، لكن الطعام كان شهيًّا ولذيذًا، فجعل يأكل يأكل يأكل حتى وصل إلى الحلقوم، هذا يتأذَّى أو لا؟ لا شكَّ أنه سيتأذَّى، وربما يحصل عليه ضرر إما حاضرًا أو مستقبلًا، يقول شيخ الإسلام: إنه يحرم عليه أن يأكل. وكذلك إذا خاف التخمة وذلك بتغير المعدة ونتنها، وإن لم يكن من أجل الأذيَّة؛ أحيانًا يكون بعض الأطعمة لا يتلاءم مع أطعمة أخرى، فتجد الإنسان يأكل هذا على هذا ويتغير، تتغير معدته ويحصل لها نتن ورائحة كريهة، هذا أيضًا نقول: إنه حرام عليه أن يأكل؛ لأن الله إنما أباح الأكل والشرب من أجل تقويم البدن، فإذا عاد ذلك إلى الضرر صار حرامًا.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: التحذير من الصدِّ عن سبيل الله سواء كان صدًّا بنفسه أو صدًّا لغيره؛ لقوله: ﴿وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا﴾.
* ومن فوائدها: أن الصدَّ لا يتقيَّد بصيغة معيَّنة، بل كل ما فيه صدٌّ عن سبيل الله سواء بالتخذيل أو بالإرجاف أو بالإيعاد أو بالوعد أو بغير ذلك فإنه داخل في الآية في التحذير من ذلك، ربما يكون الصدُّ عن سبيل الله بالتخذيل فيأتي إلى إنسان ويقول له: يا فلان، لا تكلِّف نفسك بالدعوة والموعظة ونُصح الناس؛ إنك تدعو موتى.
؎لَقَدْ أَسْمَعْتَ لَــــــــوْ نَادَيْــــــــــتَحَيًّـــــــــــــــا ∗∗∗ ...........................
مع أن الأول المنصوح عنده هِمَّة ونشاط وعزيمة، فيأتي هذا ويُخذِّله، يكون هذا قد صدَّ عن سبيل الله.
لكن إذا علِم أن هذا الشخص ربما يتكلم بما لا يعلم فهل تخذيله عن الكلام من الصدِّ عن سبيل الله أو من حماية سبيل الله؟
* الطلبة: الثاني.
* الشيخ: الثاني؛ لأنه ربما يأتي إنسان عنده إقدام وعنده شجاعة يحب أن يدعو بكل شيء، لكن لا علم عنده، فهذا لا حرج عليك إذا قلت له: إنه لا ينبغي، ولا تكلِّف نفسك، ولا تُتعِب نفسك. سواء أضفتَ هذا إلى أن الناس لن يقبلوا منه، أو أضفت هذا إلى أنه ليس عنده علم فيقع في حرج، فهذا لا بأس به، بل هذا من حماية سبيل الله وليس من الصدِّ عن سبيل الله.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: ذكر الوصف الذي يكون أشدَّ في الذمِّ وإن كان لا مفهوم له؛ لقوله: ﴿وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا﴾، فهذا غاية الذم، لكن لو أنهم صدُّوا قليلًا لكان لهم نصيب من الإثم، إنما الغاية هي الكثرة.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن المتعاطين بالربا من هذه الأمة يُشبِهون اليهود؛ لقوله: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن أخذ الربا محرَّم سواء كان للأكل أو للشرب أو لللبس أو للاقتناء أو لأي غرض كان؛ لعموم قوله: ﴿أَخْذِهِمُ الرِّبَا﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الْحُجَّة لا تقوم إلا بعد بلوغها، وأن مَن فعل شيئًا لا يدري عن حكمه فهو غير مؤاخَذٍ به.
لقوله: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ [النساء ١٦١].
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن أخذ الربا محرم، سواء كان للأكل أو للشرب أو للبس أو للاقتناء، أو لأي غرض كان؛ لعموم قوله: ﴿أَخْذِهِمُ الرِّبَا﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الحجة لا تقوم إلا بعد بلوغها، وأن من فعل شيئًا لا يدري عن حكمه فهو غير مؤاخذ به؛ لقوله: ﴿وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾، وعلى هذا فلو تعامل الإنسان بمعاملة ربوية وهو لا يدري أنه من الربا، يعني أنه يعرف الربا عمومًا لكن لا يدري أن هذه المعاملة المعينة من الربا، ثم علم بعد ذلك، فهل نقول: إن ما أخذه من الربا حرام؟ لا، نقول: ليس حرامًا؛ لقوله تعالى: ﴿فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [البقرة ٢٧٥]، وهو لم يعلم أنه نهي عنه، لكن إذا كان يعلم أنه منهي عنه وأخذه ثم تاب، فهل نقول: رده على من أخذته منه؟
الجواب: لا؛ لأننا لو قلنا: رده على من أخذته منه لكان له -أي للمردود عليه- الغنم مرتين، لكن نقول: تصدق به، لا تدخله في ملكك، ولا ترده إلى المرابي الذي كان عالمًا بأن الربا حرام لكنه سولت له نفسه فأعطاك الربا.
وإذا كان المرابي مأخوذًا منه الربا وتاب، فهل يلزمه أن يتصدق بمقدار ما أعطى من الربا؟ أجيبوا بشجاعة.
* الطلبة: لا.
* الشيخ: لا؛ لأنه مظلوم، المعطي للربا، مظلوم في الواقع، فإذا تاب إلى الله عز وجل فإننا لا نقول: يلزمك أن تتصدق بمقدار ما دفعت من الربا، الكلام فيمن أخذ الربا.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: تحريم أكل أموال الناس بالباطل؛ لقوله: ﴿وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ وقد ذكرنا أن الباطل هو ما ليس بحق، وبناء على ذلك لو أن الإنسان أكل مال حربي فهل يكون ممن أكل أموال الناس بالباطل؟ لا؛ لأن الحربي مباح الدم والمال، وعلى هذا فلو تلصص جماعة ليس لهم شوكة على بلاد الكفار الحربية، وأخذوا أموالًا، فهي لهم، ولا شيء عليهم في ذلك؛ لأن أموال الكافر الحربي مباحة للمسلمين، وإن أخذ مال ذمي أو معاهد أو مستأمن بغير حق فقد أكل أموال الناس بالباطل؛ لأن هؤلاء الثلاثة معصومون، أموالهم محترمة وأنفسهم محترمة.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: الوعيد الشديد على من اتصف بهذه الصفات: الظلم، وأخذ الربا، وأكل أموال الناس بالباطل، والصد عن سبيل الله؛ لقوله: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾.
* ومن فوائدها: إثبات عدل الله عز وجل، حيث ذكر هذه الصفات وذكر أن الذي أعد له العذاب الأليم هو الكافر من هؤلاء.
ثم قال: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ إلى آخره [النساء: ١٦٢] يأتي تفسيرها إن شاء الله.
{"ayahs_start":160,"ayahs":["فَبِظُلۡمࣲ مِّنَ ٱلَّذِینَ هَادُوا۟ حَرَّمۡنَا عَلَیۡهِمۡ طَیِّبَـٰتٍ أُحِلَّتۡ لَهُمۡ وَبِصَدِّهِمۡ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ كَثِیرࣰا","وَأَخۡذِهِمُ ٱلرِّبَوٰا۟ وَقَدۡ نُهُوا۟ عَنۡهُ وَأَكۡلِهِمۡ أَمۡوَ ٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَـٰطِلِۚ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَـٰفِرِینَ مِنۡهُمۡ عَذَابًا أَلِیمࣰا"],"ayah":"فَبِظُلۡمࣲ مِّنَ ٱلَّذِینَ هَادُوا۟ حَرَّمۡنَا عَلَیۡهِمۡ طَیِّبَـٰتٍ أُحِلَّتۡ لَهُمۡ وَبِصَدِّهِمۡ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ كَثِیرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق