الباحث القرآني

﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا﴾ أيْ: تابُوا مِن عِبادَةِ العِجْلِ، والتَّعْبِيرُ عَنْهم بِهَذا العُنْوانِ إيذانٌ بِكَمالِ عِظَمِ ظُلْمِهِمْ بِتَذْكِيرِ وُقُوعِهِ بَعْدَ تِلْكَ التَّوْبَةِ الهائِلَةِ إثْرَ بَيانِ عِظَمِهِ بِالتَّنْوِينِ التَّفْخِيمِيِّ، أيْ: بِسَبَبِ ظُلْمٍ عَظِيمٍ خارِجٍ عَنْ حُدُودِ الأشْياءِ والنَّظائِرِ صادِرٍ عَنْهم ﴿حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ ولِمَن قَبْلَهم لا لِشَيْءٍ غَيْرِهِ كَما زَعَمُوا، فَإنَّهم كانُوا كُلَّما ارْتَكَبُوا مَعْصِيَةً مِنَ المَعاصِي الَّتِي اقْتَرَفُوها يُحَرَّمُ عَلَيْهِمْ نَوْعٌ مِنَ الطَّيِّباتِ الَّتِي كانَتْ مُحَلَّلَةً لَهم ولِمَن تَقَدَّمَهم مِن أسْلافِهِمْ؛ عُقُوبَةً لَهُمْ، ومَعَ ذَلِكَ كانُوا يَفْتَرُونَ عَلى اللَّهِ تَعالى الكَذِبَ، ويَقُولُونَ: لَسْنا بِأوَّلِ مَن حُرِّمَتْ عَلَيْهِ، وإنَّما كانَتْ مُحَرَّمَةً عَلى نُوحٍ وإبْراهِيمَ ومَن بَعْدَهُما - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ - حَتّى انْتَهى الأمْرُ إلَيْنا، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعالى في مَواقِعَ كَثِيرَةٍ، وبَكَّتَهم بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلا لِبَنِي إسْرائِيلَ﴾ الآيَةَ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ فِيها، وذَهَبَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ أنَّ المُحَرَّمَ عَلَيْهِمْ ما سَيَأْتِي - إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى - في (الأنْعامِ) مُفَصَّلًا. (p-14)واسْتُشْكِلَ بِأنَّ التَّحْرِيمَ كانَ في التَّوْراةِ ولَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ كُفْرٌ بِمُحَمَّدٍ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وبِعِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - ولا ما أشارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ أيْ: ناسًا كَثِيرًا، أوْ صَدًّا، أوْ زَمانًا كَثِيرًا، وقِيلَ في جَوابِهِ: إنَّ المُرادَ اسْتِمْرارُ التَّحْرِيمِ، فَتَدَبَّرْ ولا تَغْفُلْ. وهَذا مَعْطُوفٌ عَلى الظُّلْمِ وجَعْلِهِ، وكَذا ما عُطِفَ عَلَيْهِ في الكَشّافِ بَيانًا لَهُ وهو - كَما قالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ - لِدَفْعِ ما يُقالُ: إنَّ العَطْفَ عَلى المَعْمُولِ المُتَقَدِّمِ يُنافِي الحَصْرَ، ومَن جَعَلَ الظُّلْمَ بِمَعْناهُ، وجَعَلَ (بِصَدِّهِمْ) مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ فَلا إشْكالَ عَلَيْهِ، ومِن هَذا يُعْلَمُ تَخْصِيصُ ما ذَكَرَهُ أهْلُ المَعانِي مِن أنَّهُ مُنافٍ لِلْحَصْرِ بِما إذا لَمْ يَكُنِ الثّانِي بَيانًا لِلْأوَّلِ، كَما إذا قُلْتَ: بِذَنْبٍ ضَرَبْتُ زَيْدًا وبِسُوءِ أدَبِهِ، فَإنَّ المُرادَ فِيهِ: لا بِغَيْرِ ذَنَبٍ، وكَذا خَصَّصُوا ذَلِكَ بِما إذا لَمْ يَكُنِ الحَصْرُ مُسْتَفادًا مِن غَيْرِ التَّقْدِيمِ، وأُعِيدَتِ الباءُ هُنا ولَمْ تُعَدْ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأخْذِهِمُ الرِّبا وقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ لِأنَّهُ فُصِلَ بَيْنَ المَعْطُوفِ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِما لَيْسَ مَعْمُولًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وحَيْثُ فُصِلَ بِمَعْمُولِهِ لَمْ تُعَدْ، وجُمْلَةُ (وقَدْ نُهُوا) حالِيَّةٌ. وفِي الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ الرِّبا كانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ كَما هو مُحَرَّمٌ عَلَيْنا، وأنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلى حُرْمَةِ المَنهِيِّ عَنْهُ، وإلّا لَما تَوَعَّدَ سُبْحانَهُ عَلى مُخالَفَتِهِ ﴿وأكْلِهِمْ أمْوالَ النّاسِ بِالباطِلِ﴾ بِالرِّشْوَةِ وسائِرِ الوُجُوهِ المُحَرَّمَةِ ﴿وأعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنهُمْ﴾ أيْ: لِلْمُصِرِّينَ عَلى الكُفْرِ، لا لِمَن تابَ وآمَنَ مِن بَيْنِهِمْ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ وأضْرابِهِ ﴿عَذابًا ألِيمًا﴾ سَيَذُوقُونَهُ في الآخِرَةِ كَما ذاقُوا في الدُّنْيا عُقُوبَةَ التَّحْرِيمِ. وذُكِرَ في البَحْرِ أنَّ التَّحْرِيمَ كانَ عامًّا لِلظّالِمِ وغَيْرِهِ، وأنَّهُ مِن بابِ ﴿واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكم خاصَّةً﴾ دُونَ العَذابِ، ولِذا قالَ سُبْحانَهُ: (لِلْكافِرِينَ) دُونَ (لَهُمْ) وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ الجُبّائِيُّ أيْضًا، فَتَدَبَّرْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب