الباحث القرآني
﴿وكَأيِّنْ مِن نَبِيءٍ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وهَنُوا لِما أصابَهم في سَبِيلِ اللَّهِ وما ضَعُفُوا وما اسْتَكانُوا واللَّهُ يُحِبُّ الصّابِرِينَ﴾ ﴿وما كانَ قَوْلَهم إلّا أنْ قالُوا رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وإسْرافَنا في أمْرِنا وثَبِّتْ أقْدامَنا وانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ﴾ ﴿فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وحُسْنَ ثَوابِ الآخِرَةِ واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ .
(p-١١٦)عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ ﴿ومَن يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ﴾ [آل عمران: ١٤٤] الآيَةَ وما بَيْنَهُما اعْتِراضٌ، وهو عَطْفُ العِبْرَةِ عَلى المَوْعِظَةِ فَإنَّ قَوْلَهُ ﴿ومَن يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ﴾ [آل عمران: ١٤٤] مَوْعِظَةٌ لِمَن يَهُمُّ بِالِانْقِلابِ، وقَوْلَهُ ﴿وكَأيِّنٍ مِن نَبِيءٍ قُتِلَ﴾ عِبْرَةٌ بِما سَلَفَ مِن صَبْرِ أتْباعِ الرُّسُلِ والأنْبِياءِ عِنْدَ إصابَةِ أنْبِيائِهِمْ أوْ قَتْلِهِمْ في حَرْبٍ أوْ غَيْرِهِ، لِمُماثَلَةِ الحالَيْنِ. فالكَلامُ تَعْرِيضٌ بِتَشْبِيهِ حالِ أصْحابِ أُحُدٍ بِحالِ أصْحابِ الأنْبِياءِ السّالِفِينَ لِأنَّ مَحَلَّ المَثَلِ لَيْسَ هو خُصُوصُ الِانْهِزامِ في الحَرْبِ بَلْ ذَلِكَ هو المُمَثَّلُ. وأمّا التَّشْبِيهُ فَهو بِصَبْرِ الأتْباعِ عِنْدَ حُلُولِ المَصائِبِ أوْ مَوْتِ المَتْبُوعِ.
(وكَأيِّنْ) كَلِمَةٌ بِمَعْنى التَّكْثِيرِ، قِيلَ: هي بَسِيطَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّكْثِيرِ، وقِيلَ: هي مُرَكَّبَةٌ مِن كافِ التَّشْبِيهِ وأيِّ الِاسْتِفْهامِيَّةِ وهو قَوْلُ الخَلِيلِ وسِيبَوَيْهِ، ولَيْسَتْ (أيُّ) هَذِهِ اسْتِفْهامًا حَقِيقِيًّا، ولَكِنَّ المُرادَ مِنها تَذْكِيرُ المُسْتَفْهِمِ بِالتَّكْثِيرِ، فاسْتِفْهامُها مَجازِيٌّ، ونُونُها في الأصْلِ تَنْوِينٌ، فَلَمّا رُكِّبَتْ وصارَتْ كَلِمَةً واحِدَةً جُعِلَ تَنْوِينُها نُونًا وبُنِيَتْ. والأظْهَرُ أنَّها بَسِيطَةٌ وفِيها لُغاتٌ أرْبَعُ، أشْهَرُها في النَّثْرِ كَأيِّنْ بِوَزْنِ كَعَيِّنْ ( هَكَذا جَرَتْ عادَةُ اللُّغَوِيِّينَ والنُّحاةِ إذا وزَنُوا الكَلِماتِ المَهْمُوزَةَ أنْ يُعَوِّضُوا عَنْ حَرْفِ الهَمْزَةِ بِحَرْفِ العَيْنِ لِئَلّا تَلْتَبِسَ الهَمْزَةُ بِالألْفِ أوِ الياءِ الَّتِي تُكْتَبُ في صُورَةِ إحْداهُما، وأشْهَرُها في الشِّعْرِ كائِنٌ بِنُونٍ اسْمُ فاعِلِ كانَ، ولَيْسَتْ باسِمِ فاعِلٍ خِلافًا لِلْمُبَرِّدِ، بَلْ هي مُخَفَّفُ كَأيِّنْ.
ولَهم في كَيْفِيَّةِ تَخْفِيفِها تَوْجِيهاتٌ أصْلُها قَوْلُ الخَلِيلِ لَمّا كَثُرَ اسْتِعْمالُها تَصَرَّفَ فِيها العَرَبُ بِالقَلْبِ والحَذْفِ في بَعْضِ الأحْوالِ. قُلْتُ: وتَفْصِيلُهُ يَطُولُ. وأنا أرى أنَّهم لَمّا رامُوا التَّخْفِيفَ جَعَلُوا الهَمْزَةَ ألِفًا، ثُمَّ التَقى ساكِنانِ عَلى غَيْرِ حَدِّهِ، فَحَذَفُوا الياءَ السّاكِنَةَ فَبَقِيَتِ الياءُ المَكْسُورَةُ فَشابَهَتِ اسْمَ فاعِلِ (كانَ) فَجَعَلُوها هَمْزَةً كالياءِ الَّتِي تَقَعُ بَعْدَ ألْفٍ زائِدَةٍ، وأكْثَرُ ما وقَعَ في كَلامِ العَرَبِ هو كَأيِّنْ لِأنَّها أخَفُّ في النَّظْمِ وأسْعَدُ بِأكْثَرِ المَوازِينِ في أوائِلِ الأبْياتِ وأوْسَطِها بِخِلافِ كائِنٍ، قالَ الزَّجّاجُ: اللُّغَتانِ الجَيِّدَتانِ كَأيِّنٍ وكائِنٍ. وحَكى الشَّيْخُ ابْنُ عَرَفَةَ في تَفْسِيرِهِ عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ الحُبابِ قالَ: أخْبَرَنا شَيْخُنا (p-١١٧)أحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ الكِنانِيُّ قالَ: قُلْتُ لِشَيْخِنا ابْنِ عُصْفُورٍ: لِمَ أكْثَرْتَ في شَرْحِكَ لِلْإيضاحِ مِنَ الشَّواهِدِ عَلى كائِنٍ ؟ فَقالَ: لِأنِّي دَخَلْتُ عَلى السُّلْطانِ الأمِيرِ المُسْتَنْصِرِ، يَعْنِي مُحَمَّدَ المُسْتَنْصِرَ ابْنَ أبِي زَكَرِيّاءَ الحَفْصِيَّ، والظّاهِرُ أنَّهُ حِينَئِذٍ ولِيُّ العَهْدِ، فَوَجَدْتُ ابْنَ هِشامٍ، يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيى بْنِ هِشامٍ الخَضْراوِيَّ نَزِيلَ تُونُسَ ودَفِينَها المُتَوَفّى سَنَةَ ٦٤٦ فَأخْبَرَنِي أنَّهُ سَألَهُ عَمّا يَحْفَظُ مِنَ الشَّواهِدِ عَلى قِراءَةِ كَأيِّنْ فَلَمْ يَسْتَحْضِرْ غَيْرَ بَيْتِ الإيضاحِ:
؎وكائِنٍ بِالأباطِحِ مِن صَدِيقٍ يَرانِي لَوْ أُصِبْتُ هو المُصابا
قالَ ابْنُ عُصْفُورٍ: فَلَمّا سَألَنِي أنا قُلْتُ: أحْفَظُ فِيها خَمْسِينَ بَيْتًا فَلَمّا أنْشَدْتُهُ نَحْوَ عَشْرَةٍ قالَ: حَسْبُكَ، وأعْطانِي خَمْسِينَ دِينارًا، فَخَرَجْتُ فَوَجَدْتُ ابْنَ هِشامٍ جالِسًا بِالبابِ فَأعْطَيْتُهُ نِصْفَها.
وقَرَأ الجُمْهُورُ (وكَأيِّنْ) بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الكافِ وياءٍ تَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ بَعْدَ الهَمْزَةِ، عَلى وزْنِ كَلِمَةِ (كَصَيِّبٍ) وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ (كائِنٍ) بِألْفٍ بَعْدَ الكافِ وهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَ الألِفِ بِوَزْنِ كاهِنٍ.
والتَّكْثِيرُ المُسْتَفادُ مِنَ (كَأيِّنٍ) واقِعٌ عَلى تَمْيِيزِها وهو لَفْظُ نَبِيءٍ فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ تَكْثِيرًا بِمَعْنى مُطْلَقِ العَدَدِ، فَلا يَتَجاوَزُ جَمْعَ القِلَّةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ تَكْثِيرًا في مَعْنى جَمْعِ الكَثْرَةِ، فَمِنهم مَن عَلِمْناهُ ومِنهم مَن لَمْ نَعْلَمْهُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿ومِنهم مَن لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ [غافر: ٧٨]، ويَحْضُرُنِي أسْماءُ سِتَّةٍ مِمَّنْ قُتِلَ مِنَ الأنْبِياءِ: أرْمِياءُ قَتَلَهُ بَنُو إسْرائِيلَ، وحَزْقِيالُ قَتَلُوهُ أيْضًا لِأنَّهُ وبَّخَهم عَلى سُوءِ أعْمالِهِمْ، وأشْعِياءُ قَتَلَهُ مِنَسّا بْنُ حَزْقِيلَ مَلِكُ إسْرائِيلَ لِأنَّهُ وبَّخَهُ ووَعَظَهُ عَلى سُوءِ فِعْلِهِ فَنَشَرَهُ بِمِنشارٍ، وزَكَرِيّاءُ، ويَحْيى، قَتَلَهُما بَنُو إسْرائِيلَ لِإيمانِهِما بِالمَسِيحِ، وقَتَلَ أهْلُ الرَّسِّ مِنَ العَرَبِ نَبِيئَهم حَنْظَلَةَ بْنَ صَفْوانَ في مُدَّةِ عَدْنانَ، والحَوارِيُّونَ اعْتَقَدُوا أنَّ المَسِيحَ قُتِلَ ولَمْ يَهِنُوا في إقامَةِ دِينِهِ بَعْدَهُ، ولَيْسَ مُرادًا هُنا وإنَّما العِبْرَةُ بِثَباتِ أتْباعِهِ عَلى دِينِهِ مَعَ مُفارَقَتِهِ لَهم إذِ العِبْرَةُ في خُلُوِّ الرَّسُولِ وبَقاءِ أتْباعِهِ، سَواءٌ كانَ بِقَتْلٍ أوْ غَيْرِهِ. ولَيْسَ في هَؤُلاءِ رَسُولٌ إلّا حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوانٍ، ولَيْسَ فِيهِمْ أيْضًا مَن قُتِلَ في جِهادٍ، قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ما سَمِعْنا بِنَبِيءٍ قُتِلَ في القِتالِ. (p-١١٨)وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، ويَعْقُوبُ، وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ: (قُتِلَ) بِصِيغَةِ المَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ، وقَرَأهُ ابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ وعاصِمٌ، والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ، وأبُو جَعْفَرٍ: (قاتَلَ) بِصِيغَةِ المُفاعَلَةِ فَعَلى قِراءَةِ (قُتِلَ) - بِالبِناءِ لِلْمَجْهُولِ - فَمَرْفُوعُ الفِعْلِ هو ضَمِيرُ نَبِيءٍ، وعَلى كِلْتا القِراءَتَيْنِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَرْفُوعُ الفِعْلَيْنِ ضَمِيرَ نَبِيءٍ فَيَكُونُ قَوْلُهُ (﴿مَعَهُ رِبِّيُّونَ﴾) جُمْلَةً حالِيَّةً مِن نَبِيءٍ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَرْفُوعُ الفِعْلَيْنِ لِفْظُ (رِبِّيُّونَ) فَيَكُونُ قَوْلُهُ مَعَهُ حالًا مِن رِبِّيُّونَ مُقَدَّمًا.
وجاءَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى هَذا النَّظْمِ البَدِيعِ الصّالِحِ لِحَمْلِ الكَلامِ عَلى تَثْبِيتِ المُسْلِمِينَ في حالِ الهَزِيمَةِ وفي حالِ الإرْجافِ بِقَتْلِ النَّبِيءِ ﷺ وعَلى الوَجْهَيْنِ في مَوْقِعِ جُمْلَةِ ﴿مَعَهُ رِبِّيُّونَ﴾ يَخْتَلِفُ حُسْنُ الوَقْفِ عَلى كَلِمَةِ (قُتِلَ) أوْ عَلى كَلِمَةِ (كَثِيرٌ) .
والرِّبِّيُّونَ جَمْعُ رِبِّيٍّ وهو المُتَّبِعُ لِشَرِيعَةِ الرَّبِّ مِثْلُ الرَّبّانِيِّ، والمُرادُ بِهِمْ هُنا أتْباعُ الرُّسُلِ وتَلامِذَةُ الأنْبِياءِ. ويَجُوزُ في رائِهِ الفَتْحُ، عَلى القِياسِ، والكَسْرُ، عَلى أنَّهُ مِن تَغْيِيراتِ النَّسَبِ وهو الَّذِي قُرِئَ بِهِ في المُتَواتِرِ.
ومَحَلُّ العِبْرَةِ هو ثَباتُ الرَّبّانِيِّينَ عَلى الدِّينِ مَعَ مَوْتِ أنْبِيائِهِمْ ودُعاتِهِمْ.
وقَوْلُهُ (كَثِيرٌ) صِفَةُ (رِبِّيُّونَ) وجِيءَ بِهِ عَلى صِيغَةِ الإفْرادِ، مَعَ أنَّ المَوْصُوفَ جَمْعٌ، لِأنَّ لَفْظَ كَثِيرٌ وقَلِيلٌ يُعامَلُ مَوْصُوفُها مُعامَلَةَ لِفَظِ شَيْءٍ أوْ عَدَدٍ، قالَ تَعالى: ﴿وبَثَّ مِنهُما رِجالًا كَثِيرًا ونِساءً﴾ [النساء: ١] وقالَ ﴿ودَّ كَثِيرٌ مِن أهْلِ الكِتابِ﴾ [البقرة: ١٠٩] وقالَ ﴿واذْكُرُوا إذْ أنْتُمْ قَلِيلٌ﴾ [الأنفال: ٢٦] وقالَ ﴿إذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ في مَنامِكَ قَلِيلًا ولَوْ أراكَهم كَثِيرًا﴾ [الأنفال: ٤٣] .
وقَوْلُهُ فَما وهَنُوا أيِ الرِّبِّيُّونَ إذْ مِنَ المَعْلُومِ أنَّ الأنْبِياءَ لا يَهِنُونَ فالقُدْوَةُ المَقْصُودَةُ هُنا، هي الِاقْتِداءُ بِأتْباعِ الأنْبِياءِ، أيْ لا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ أتْباعُ مَن مَضى مِنَ الأنْبِياءِ، أجْدَرَ بِالعَزْمِ مِن أتْباعِ مُحَمَّدٍ ﷺ .
وجَمَعَ بَيْنَ الوَهَنِ والضَّعْفِ، وهُما مُتَقارِبانِ تَقارُبًا قَرِيبًا مِنَ التَّرادُفِ؛ فالوَهَنُ قِلَّةُ القُدْرَةِ عَلى العَمَلِ، وعَلى النُّهُوضِ في الأمْرِ، وفِعْلُهُ كَوَعَدَ ووَرِثَ (p-١١٩)وكَرُمَ. والضَّعْفُ بِضَمِّ الضّادِ وفَتْحِها ضِدُّ القُوَّةِ في البَدَنِ، وهُما هُنا مَجازانِ، فالأوَّلُ أقْرَبُ إلى خَوَرِ العَزِيمَةِ، ودَبِيبِ اليَأْسِ في النُّفُوسِ والفِكْرِ، والثّانِي أقْرَبُ إلى الِاسْتِسْلامِ والفَشَلِ في المُقاوَمَةِ. وأمّا الِاسْتِكانَةُ فَهي الخُضُوعُ والمَذَلَّةُ لِلْعَدُوِّ. ومِنَ اللَّطائِفِ تَرْتِيبُها في الذِّكْرِ عَلى حَسَبِ تَرْتِيبِها في الحُصُولِ: فَإنَّهُ إذا خارَتِ العَزِيمَةُ فَشَلَتِ الأعْضاءُ، وجاءَ الِاسْتِسْلامُ، فَتَبِعَهُ المَذَلَّةُ والخُضُوعُ لِلْعَدُوِّ.
واعْلَمُوا أنَّهُ إذا كانَ هَذا شَأْنَ أتْباعِ الأنْبِياءِ، وكانَتِ النُّبُوَّةُ هَدْيًا وتَعْلِيمًا، فَلا بِدْعَ أنْ يَكُونَ هَذا شَأْنَ أهْلِ العِلْمِ، وأتْباعِ الحَقِّ، أنْ لا يُوهِنَهم، ولا يُضْعِفَهم، ولا يُخْضِعَهم، مُقاوَمَةُ مُقاوِمٍ، ولا أذى حاسِدٍ، أوْ جاهِلٍ، وفي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ في البُخارِيِّ: «أنَّ خَبّابًا قالَ لِلنَّبِيءِ ﷺ لَقَدْ لَقِينا مِنَ المُشْرِكِينَ شِدَّةً ألا تَدْعُو اللَّهَ فَقَعَدَ وهو مُحْمَرٌّ وجْهُهُ فَقالَ لَقَدْ كانَ مَن قَبْلَكم لَيُمَشَّطُ بِمِشاطِ الحَدِيدِ ما دُونَ عِظامِهِ مِن لَحْمٍ أوْ عَصَبٍ، ما يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، ويُوضَعُ المِنشارُ عَلى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ ما يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ» الحَدِيثَ.
وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وما كانَ قَوْلَهم إلّا أنْ قالُوا رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا﴾ الآيَةُ عَطْفٌ عَلى (فَما وهَنُوا) لِأنَّهُ لَمّا وصَفَهم بِرَباطَةِ الجَأْشِ، وثَباتِ القَلْبِ، وصَفَهم بَعْدَ ذَلِكَ بِما يَدُلُّ عَلى الثَّباتِ مِن أقْوالِ اللِّسانِ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهِ عِنْدَ الِاضْطِرابِ والجَزَعِ، أيْ أنَّ ما أصابَهم لَمْ يُخالِجْهم بِسَبَبِهِ تَرَدُّدٌ في صِدْقِ وعْدِ اللَّهِ، ولا بَدَرَ مِنهم تَذَمُّرٌ، بَلْ عَلِمُوا أنَّ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُها سُبْحانَهُ، أوْ لَعَلَّهُ كانَ جَزاءً عَلى تَقْصِيرٍ مِنهم في القِيامِ بِواجِبِ نَصْرِ دِينِهِ، أوْ في الوَفاءِ بِأمانَةِ التَّكْلِيفِ، فَلِذَلِكَ ابْتَهَلُوا إلَيْهِ عِنْدَ نُزُولِ المُصِيبَةِ بِقَوْلِهِمْ ﴿رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وإسْرافَنا في أمْرِنا﴾ خَشْيَةَ أنْ يَكُونَ ما أصابَهم جَزاءً عَلى ما فَرَّطَ مِنهم، ثُمَّ سَألُوهُ النَّصْرَ وأسْبابَهُ ثانِيًا فَقالُوا ﴿وثَبِّتْ أقْدامَنا وانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٥٠] فَلَمْ يَصُدُّهم ما لَحِقَهم مِنَ الهَزِيمَةِ عَنْ رَجاءِ النَّصْرِ، وفي المُوَطَّأِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ «يُسْتَجابُ لِأحَدِكم ما لَمْ يَعْجَلْ يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي» فَقَصَرَ قَوْلَهَمْ في تِلْكَ الحالَةِ الَّتِي يَنْدُرُ (p-١٢٠)فِيها صُدُورُ مِثْلِ هَذا القَوْلِ، عَلى قَوْلِهِمْ ﴿رَبَّنا اغْفِرْ لَنا﴾ إلى آخِرِهِ، فَصِيغَةُ القَصْرِ في قَوْلِهِ ﴿وما كانَ قَوْلَهم إلّا أنْ قالُوا﴾ قَصْرٌ إضافِيٌّ لِرَدِّ اعْتِقادِ مَن قَدْ يَتَوَهَّمُ أنَّهم قالُوا أقْوالًا تُنْبِئُ عَنِ الجَزَعِ، أوِ الهَلَعِ، أوِ الشَّكِّ في النَّصْرِ، أوِ الِاسْتِسْلامِ لِلْكُفّارِ. وفي هَذا القَصْرِ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ جَزِعُوا مِن ضُعَفاءِ المُسْلِمِينَ أوِ المُنافِقِينَ فَقالَ قائِلُهم: لَوْ كَلَّمْنا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَأْخُذُ لَنا أمانًا مِن أبِي سُفْيانَ.
وقُدِّمَ خَبَرُ كانَ عَلى اسْمِها في قَوْلِهِ ﴿وما كانَ قَوْلَهم إلّا أنْ قالُوا﴾ لِأنَّهُ خَبَرٌ عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْصُورٍ، لِأنَّ المَقْصُودَ حَصْرُ أقْوالِهِمْ حِينَئِذٍ في مَقالَةِ ﴿رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا﴾ فالقَصْرُ حَقِيقِيٌّ لِأنَّهُ لِقَوْلِهِمُ الصّادِرِ مِنهم، حِينَ حُصُولِ ما أصابَهم في سَبِيلِ اللَّهِ، فَذَلِكَ القَيْدُ مُلاحَظٌ مِنَ المَقامِ، نَظِيرَ القَصْرِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّما كانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إذا دُعُوا إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهم أنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وأطَعْنا﴾ [النور: ٥١] فَهو قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ مُقَيَّدٌ بِزَمانٍ خاصٍّ، تَقْيِيدًا مَنطُوقًا بِهِ، وهَذا أحْسَنُ مِن تَوْجِيهِ تَقْدِيمِ الخَبَرِ في الآيَةِ بِأنَّ المَصْدَرَ المُنْسَبِكَ المُئَوَّلَ أعْرَفُ مِنَ المَصْدَرِ الصَّرِيحِ لِدَلالَةِ المُئَوَّلِ عَلى النِّسْبَةِ وزَمانِ الحَدَثِ، بِخِلافِ إضافَةِ المَصْدَرِ الصَّرِيحِ، وذَلِكَ جائِزٌ في بابِ (كانَ) في غَيْرِ صِيَغِ القَصْرِ، وأمّا في الحَصْرِ فَمُتَعَيِّنٌ تَقْدِيمُ المَحْصُورِ.
والمُرادُ مِنَ الذُّنُوبِ جَمِيعِها، وعَطَفَ عَلَيْهِ بَعْضَ الذُّنُوبِ وهو المُعَبَّرُ عَنْهُ هُنا بِالإسْرافِ في الأمْرِ، والإسْرافُ هو الإفْراطُ وتَجاوُزُ الحَدِّ، فَلَعَلَّهُ أُرِيدَ بِهِ الكَبائِرُ مِنَ الذُّنُوبِ كَما نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وجَماعَةٍ، وعَلَيْهِ فالمُرادُ بِقَوْلِهِ: (أمْرِنا)، أيْ دِينِنا وتَكْلِيفِنا، فَيَكُونُ عَطْفَ خاصٍّ لِلِاهْتِمامِ بِطَلَبِ غُفْرانِهِ، وتَمَحُّضُ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ لِبَقِيَّةِ الذُّنُوبِ وهي الصَّغائِرُ. ويَجُوزُ عِنْدِي أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالإسْرافِ في الأمْرِ التَّقْصِيرُ في شَأْنِهِمْ ونِظامِهِمْ فِيما يَرْجِعُ إلى أُهْبَةِ القِتالِ، والِاسْتِعْدادِ لَهُ، أوِ الحَذَرِ مِنَ العَدُوِّ، وهَذا الظّاهِرُ مِن كَلِمَةِ أمْرٍ، بِأنْ يَكُونُوا شَكُّوا أنْ يَكُونَ ما أصابَهم مِن هَزِيمَتِهِمْ في الحَرْبِ مَعَ عَدُوِّهِمْ ناشِئًا عَنْ سَبَبَيْنِ: باطِنٍ وظاهِرٍ، فالباطِنُ هو غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِن جِهَةِ الذُّنُوبِ، والظّاهِرُ هو تَقْصِيرُهم في الِاسْتِعْدادِ والحَذَرِ، وهَذا أوْلى مِنَ الوَجْهِ الأوَّلِ.
(p-١٢١)وقَوْلُهُ: ﴿فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وحُسْنَ ثَوابِ الآخِرَةِ﴾ إعْلامٌ بِتَعْجِيلِ إجابَةِ دَعْوَتِهِمْ لِحُصُولِ خَيْرَيِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، فَثَوابُ الدُّنْيا هو الفَتْحُ والغَنِيمَةُ، وثَوابُ الآخِرَةِ هو ما كُتِبَ لَهم مِن حُسْنِ عاقِبَةِ الآخِرَةِ، ولِذَلِكَ وصَفَهُ بِقَوْلِهِ ﴿وحُسْنَ ثَوابِ الآخِرَةِ﴾ لِأنَّهُ خَيْرٌ وأبْقى، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى الثَّوابِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ البَقَرَةِ ﴿لَمَثُوبَةٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ﴾ [البقرة: ١٠٣] .
وجُمْلَةُ ﴿واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ تَذْيِيلٌ أيْ يُحِبُّ كُلَّ مُحْسِنٍ، ومَوْقِعُ التَّذْيِيلِ يَدُلُّ عَلى أنَّ المُتَحَدَّثَ عَنْهم هم مِنَ الَّذِينَ أحْسَنُوا، فاللّامُ لِلْجِنْسِ المُفِيدِ مَعْنى الِاسْتِغْراقِ، وهَذِهِ مِن أكْبَرِ الأدِلَّةِ عَلى أنَّ (ال) الجِنْسِيَّةَ إذا دَخَلَتْ عَلى جَمْعٍ أبْطَلَتْ مِنهُ مَعْنى الجَمْعِيَّةِ، وأنَّ الِاسْتِغْراقَ المُفادَ مِن (ال) إذا كانَ مَدْخُولُها مُفْرَدًا وجُمْلَةً سَواءٌ.
{"ayahs_start":146,"ayahs":["وَكَأَیِّن مِّن نَّبِیࣲّ قَـٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّیُّونَ كَثِیرࣱ فَمَا وَهَنُوا۟ لِمَاۤ أَصَابَهُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا۟ وَمَا ٱسۡتَكَانُوا۟ۗ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِینَ","وَمَا كَانَ قَوۡلَهُمۡ إِلَّاۤ أَن قَالُوا۟ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسۡرَافَنَا فِیۤ أَمۡرِنَا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ","فَـَٔاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ ثَوَابَ ٱلدُّنۡیَا وَحُسۡنَ ثَوَابِ ٱلۡـَٔاخِرَةِۗ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِینَ"],"ayah":"فَـَٔاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ ثَوَابَ ٱلدُّنۡیَا وَحُسۡنَ ثَوَابِ ٱلۡـَٔاخِرَةِۗ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق