الباحث القرآني

(p-١٢)﴿والَّذِينَ هم لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ﴾ أصْلُ الزَّكاةِ أنَّها اسْمُ مَصْدَرِ (زَكّى) المُشَدَّدِ، إذا طَهَّرَ النَّفْسَ مِنَ المَذَمّاتِ. ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلى إنْفاقِ المالِ لِوَجْهِ اللَّهِ مَجازًا؛ لِأنَّ القَصْدَ مِن ذَلِكَ المالِ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ، أوْ لِأنَّ ذَلِكَ يُزِيدُ في مالِ المُعْطِي. فَأطْلَقَ اسْمَ المُسَبِّبِ عَلى السَّبَبِ. وأصْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهم وتُزَكِّيهِمْ بِها﴾ [التوبة: ١٠٣] . وأُطْلِقَتْ عَلى نَفْسِ المالِ المُنْفَقِ مِن إطْلاقِ اسْمِ المَصْدَرِ عَلى المَفْعُولِ؛ لِأنَّهُ حاصِلٌ بِهِ وهو المُتَعَيِّنُ هُنا بِقَرِينَةِ تَعْلِيقِهِ بِـ (فاعِلُونَ) المُقْتَضِي أنَّ الزَّكاةَ مَفْعُولٌ. وأمّا المَصْدَرُ المُتَعَيِّنُ فَلا يَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ لِفِعْلٍ مِن مادَّةِ (ف. ع. ل)؛ لِأنَّ صَوْغَ الفِعْلِ مِن مادَّةِ ذَلِكَ المَصْدَرِ يُغْنِي عَنِ الإتْيانِ بِفِعْلٍ مُبْهَمٍ ونَصْبِ مَصْدَرِهِ عَلى المَفْعُولِيَّةِ بِهِ. فَلَوْ قالَ أحَدٌ: فَعَلْتُ مَشْيًا، إذا أرادَ أنْ يَقُولَ: مَشَيْتُ، كانَ خارِجًا عَنْ تَرْكِيبِ العَرَبِيَّةِ ولَوْ كانَ مُفِيدًا. ولَوْ قالَ أحَدٌ: فَعَلْتُ مِمّا تُرِيدُهُ، لَصَحَّ التَّرْكِيبُ، قالَ تَعالى: ﴿مَن فَعَلَ هَذا بِآلِهَتِنا﴾ [الأنبياء: ٥٩]، أيْ: هَذا المُشاهَدُ مِنَ الكَسْرِ والحَطْمِ، أيْ: هَذا الحاصِلُ بِالمَصْدَرِ. ولَيْسَ المُرادُ المَصْدَرَ؛ لِأنَّهُ لا يُشارُ إلَيْهِ ولا سِيَّما بَعْدَ غَيْبَةِ فاعِلِهِ. والمُرادُ بِالفِعْلِ هُنا: الفِعْلُ المُناسِبُ لِهَذا المَفْعُولِ وهو الإيتاءُ، فَهو كَقَوْلِهِ: ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ فَلا حاجَةَ إلى تَقْدِيرِ أداءِ الزَّكاةِ. وإنَّما أُوثِرَ هُنا الِاسْمُ الأعَمُّ وهو فاعِلُونَ؛ لِأنَّ مادَّةَ (ف. ع. ل) مُشْتَهِرَةٌ في إسْداءِ المَعْرُوفِ. واشْتُقَّ مِنها الفَعالُ بِفَتْحِ الفاءِ، قالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشِيرٍ الخارِجِيُّ: ؎إنْ تُنْفِقِ المالَ أوْ تُكَلَّفْ مَساعِيَهُ يَشْقُقْ عَلَيْكَ وتَفْعَلْ دُونَ ما فُعِلا وعَلى هَذا الِاعْتِبارِ جاءَ ما نُسِبَ إلى أُمَيَّةَ بْنِ أبِي الصَّلْتِ: ؎المُطْعِمُونَ الطَّعامَ في السَّنَةِ الأزِ ∗∗∗ مَةِ والفاعِلُـونَ لـِلـزَّكَواتِ أنْشَدَهُ في الكَشّافِ. وفي نَفْسِي مِن صِحَّةِ نِسْبَتِهِ تَرَدُّدٌ لِأنِّي أحْسَبُ اسْتِعْمالَ الزَّكاةِ في مَعْنى المالِ المَبْذُولِ لِوَجْهِ اللَّهِ إلّا مِن مُصْطَلَحاتِ القُرْآنِ (p-١٣)فَلَعَلَّ البَيْتَ مِمّا نُحِلَ مِنَ الشِّعْرِ عَلى ألْسِنَةِ الشُّعَراءِ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ في كِتابِ الشِّعْرِ والشُّعَراءِ: وعُلَماؤُنا لا يَرَوْنَ شِعْرَ أُمَيَّةَ حُجَّةً عَلى الكِتابِ. واللّامُ عَلى هَذا الوَجْهِ لامُ التَّقْوِيَةِ لِضَعْفِ العامِلِ بِالفَرْعِيَّةِ وبِالتَّأْخِيرِ عَنْ مَعْمُولِهِ. وقالَ أبُو مُسْلِمٍ والرّاغِبُ: اللّامُ لِلتَّعْلِيلِ وجَعَلا الزَّكاةَ تَزْكِيَةَ النَّفْسِ. ومَعْنى (فاعِلُونَ) فاعِلُونَ الأفْعالَ الصّالِحاتِ فَحُذِفَ مَعْمُولُ (فاعِلُونَ) بِدَلالَةِ عِلَّتِهِ عَلَيْهِ. وفِي الكَشّافِ أنَّ الزَّكاةَ هُنا مَصْدَرٌ وهو فِعْلُ المُزَكِّي، أيْ: إعْطاءُ الزَّكاةِ وهو الَّذِي يَحْسُنُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِـ (فاعِلُونَ)؛ لِأنَّهُ ما مِن مَصْدَرٍ إلّا ويُعَبِّرُ عَنْ مَعْناهُ بِمادَّةِ فَعَلَ، فَيُقالُ لِلضّارِبِ: فاعِلُ الضَّرْبِ، ولِلْقاتِلِ: فاعِلُ القَتْلِ. وإنَّما حاوَلَ بِذَلِكَ إقامَةَ تَفْسِيرِ الآيَةِ فَغَلَبَ جانِبُ الصِّناعَةِ اللَّفْظِيَّةِ عَلى جانِبِ المَعْنى وجَوَّزَ الوَجْهَ الآخَرَ عَلى شَرْطِ تَقْدِيرِ مُضافٍ، وكِلا الِاعْتِبارَيْنِ غَيْرُ مُلْتَزَمٍ. وعَقَّبَ ذِكْرَ الصَّلاةِ بِذِكْرِ الزَّكاةِ لِكَثْرَةِ التَّآخِي بَيْنَهُما في آياتِ القُرْآنِ، وإنَّما فَصَلَ بَيْنَهُما هُنا بِالإعْراضِ عَنِ اللَّغْوِ لِلْمُناسَبَةِ الَّتِي سَمِعْتَ آنِفًا. وهَذا مِن آدابِ المُعامَلَةِ مَعَ طَبَقَةِ أهْلِ الخَصاصَةِ وهي تَرْجِعُ إلى آدابِ التَّصَرُّفِ في المالِ. والقَوْلُ في إعادَةِ المَوْصُولِ وتَقْدِيمِ المَعْمُولِ كَما تَقَدَّمَ آنِفًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب