الباحث القرآني

﴿والَّذِينَ هم لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ﴾ الظّاهِرُ أنَّ المُرادَ بِالزَّكاةِ المَعْنى المَصْدَرِيَّ- أعْنِي التَّزْكِيَةَ- لِأنَّهُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ فِعْلُهُمْ، وأمّا المَعْنى الثّانِي وهو القَدْرُ الَّذِي يُخْرِجُهُ المُزَكِّي فَلا يَكُونُ نَفْسُهُ مَفْعُولًا لَهم فَلا بُدَّ إذا أُرِيدَ مِن تَقْدِيرِ مُضافٍ أيْ لِأداءِ الزَّكاةِ فاعِلُونَ أوْ تَضْمِينٌ ﴿فاعِلُونَ﴾ مَعْنى مُؤَدُّونَ وبِذَلِكَ فَسَّرَهُ التَّبْرِيزِيُّ إلّا أنَّهُ تَعَقَّبَ بِأنَّهُ لا يُقالُ فَعَلْتُ الزَّكاةَ أيْ أدَّيْتُها، وإذا أُرِيدَ المَعْنى الأوَّلَ أدّى وصْفُهم بِفِعْلِ التَّزْكِيَةِ إلى أداءِ العَيْنِ بِطَرِيقِ الكِنايَةِ الَّتِي هي أبْلَغُ، وهَذا أحَدُ الوُجُوهِ لِلْعُدُولِ عَنْ والَّذِينَ يُزَكُّونَ إلى ما في النَّظْمُ الكَرِيمِ. وجَمِيعُ ما مَرَّ آنِفًا في بَيانِ أبْلَغِيَّةٍ ﴿والَّذِينَ هم عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ مِن والَّذِينَ لا يُلْهُونَ جارٌّ هُنا سِوى الوَجْهِ الخامِسِ اتِّفاقًا والرّابِعُ عِنْدَ بَعْضٍ لِأنَّ المُقَدَّمَ مُتَعَلِّقٌ تَعَلُّقَ الجارِّ والمَجْرُورِ بِما بَعْدَهُ كَيْفَ واللّامُ زائِدَةٌ لِتَقْوِيَةِ العَمَلِ مِن وجْهَيْنِ، تَقْدِيمُ المَعْمُولِ، وكَوْنِ العامِلِ اسْمًا. وقالَ بَعْضٌ آخَرُ: يُمْكِنُ جَرَيانُ مِثْلِهِ حَيْثُ قَدَّمَ المَعْمُولَ مَعَ ضَعْفِ عامِلِهِ لا لِلتَّخْصِيصِ بَلْ لِكَوْنِهِ مَصَبَّ الفائِدَةِ، ويَجُوزُ اعْتِبارُ التَّخْصِيصِ الإضافِيِّ أيْضًا بِالنِّسْبَةِ إلى الإنْفاقِ فِيما لا يَلِيقُ، ووَصَفَهم بِذَلِكَ بَعْدَ وصْفِهِمْ بِالخُشُوعِ في الصَّلاةِ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّهم لَمْ يَأْلُوا جُهْدًا بِالعِبادَةِ البَدَنِيَّةِ والمالِيَّةِ، وتَوْسِيطِ حَدِيثِ الإعْراضِ بَيْنَهُما لِكَمالِ مُلابَسَتِهِ بِالخُشُوعِ في الصَّلاةِ وإلّا فَأكْثَرُ ما تَذْكُرُ هاتانِ العِبادَتانِ في القُرْآنِ مَعًا بِلا فاصِلٍ. وعَنْ أبِي مُسْلِمٍ أنَّ الزَّكاةَ هُنا بِمَعْنى العَمَلِ الصّالِحِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿خَيْرًا مِنهُ زَكاةً﴾ [الكَهْفُ: 81] واخْتارَ الرّاغِبُ أنَّ الزَّكاةَ بِمَعْنى الطَّهارَةِ واللّامُ لِلتَّعْلِيلِ، والمَعْنى والَّذِينَ يَفْعَلُونَ ما يَفْعَلُونَ مِنَ العِبادَةِ لِيُزَكِّيَهُمُ اللَّهُ تَعالى أوْ لِيُزَكُّوا أنْفُسَهُمْ، ونَقَلَ نَحْوَهُ الطَّيْبِيُّ عَنْ صاحِبِ الكَشْفِ فَقالَ: قالَ صاحِبُ الكَشْفِ: مَعْنى الآيَةِ الَّذِينَ هم لِأجْلِ الطَّهارَةِ وتَزْكِيَةِ النَّفْسِ عامِلُونَ الخَيْرِ، ويُرْشِدُ إلى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قَدْ أفْلَحَ مَن تَزَكّى﴾ ﴿وذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى﴾ [الأعْلى: 14، 15] ﴿قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها﴾ [الشَّمْسُ: 9] فَإنَّ القُرْآنَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا ولا يَنْبَغِي أنْ يَعْدِلَ عَنْ تَفْسِيرِ بَعْضِهِ بِبَعْضِ ما أمْكَنَ، وقالَ بَعْضُ الأجِلَّةِ: إنَّ اقْتِرانَ ذَلِكَ بِالصَّلاةِ يُنادِي عَلى أنَّ المُرادَ وصْفُهم بِأداءِ الزَّكاةِ الَّذِي هو عِبادَةٌ مالِيَّةٌ، وتَنْظِيرُ ما نَحْنُ فِيهِ بِالآيَتَيْنِ بَعِيدٌ لِأنَّهُما لَيْسَتا مِن هَذا القَبِيلِ في شَيْءٍ، ورُبَّما يُقالُ: الفَصْلُ بَيْنَهُما يَشْعُرُ بِما اخْتارَهُ الرّاغِبُ ومَن حَذا حَذْوَهُ، وأيْضًا كَوْنُ السُّورَةِ مَكِّيَّةً والزَّكاةُ فُرِضَتْ بِالمَدِينَةِ يُؤَيِّدُهُ لِئَلّا يَحْتاجُ إلى التَّأْوِيلِ بِما مَرَّ فَتَدَبَّرْ. وأيًّا ما كانَ فالآيَةُ في أعْلى مَراتِبِ الفَصاحَةِ والبَلاغَةِ، وقَوْلُ بَعْضِ زَنادِقَةِ الأعاجِمُ الَّذِينَ حُرِمُوا ذَوْقَ العَرَبِيَّةِ: ألّا قِيلَ مُؤَدُّونَ بَدَلَ ﴿فاعِلُونَ﴾ مِن مَحْضِ الجَهْلِ والحَماقَةِ الَّتِي أعْيَتْ مَن يُداوِيها فَإنَّهُ لَوْ فُرِضَ أنَّ القُرْآنَ وحاشا لِلَّهِ سُبْحانَهُ كَلامُ النَّبِيِّ ﷺ فَهو عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ الَّذِي مَخَضَتْ لَهُ الفَصاحَةُ زُبْدَها وأعْطَتْهُ البَلاغَةُ مَقُودَها وكانَ ﷺ بَيْنَ مَصاقِعِ نُقّادٍ لَمْ يَأْلُوا جُهْدًا في طَلَبِ طَعْنٍ لِيَسْتَرِيحُوا بِهِ مِن طَعْنِ الصِّعادِ، وقَدْ جاءَ نَظِيرُ ذَلِكَ في كَلامِ أُمِّيَّةَ بْنِ أبِي الصَّلْتِ قالَ: ؎المُطَعَّمُونَ الطَّعامَ في السَّنَةِ الأزِمَّةُ والفاعِلُونَ لِلزِّكْواتِ ولَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أحَدٌ مِن فُصَحاءِ العَرَبِ ولا أعابُوهُ، واخْتارَ الزَّمَخْشَرِيُّ في هَذا حَمْلَ الزَّكاةِ عَلى العَيْنِ وتَقْدِيرِ المُضافِ دُونَ الآيَةِ، وعَلَّلَ بِجَمْعِها وهو إنَّما يَكُونُ لِلْعَيْنِ دُونَ المَصْدَرِ، وتَعَقَّبَ بِأنَّهُ قَدْ جاءَ كَثِيرٌ مِنَ المَصادِرِ مَجْمُوعَةً كالظُّنُونِ والعُلُومِ والحُلُومِ والأشْغالِ وغَيْرِ ذَلِكَ، وهي إذا اخْتَلَفَ فالأكْثَرُونَ عَلى جَوازِ جَمْعِها وقَدِ اخْتَلَفَتْ هاهُنا بِحَسَبِ مُتَعَلِّقاتِها فَإنَّ إخْراجَ النَّقْدِ غَيْرُ إخْراجِ الحَيَوانِ وإخْراجَ الحَيَوانِ غَيْرُ إخْراجِ النَّباتِ فَلْيُحْفَظْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب