الباحث القرآني

﴿إذْ تَبَرَّأ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ورَأوُا العَذابَ وتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ﴾ ﴿وقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأ مِنهم كَما تَبَرَّءُوا مِنّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أعْمالَهم حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وما هم بِخارِجِينَ مِنَ النّارِ﴾ إذْ ظَرْفٌ وقَعَ بَدَلَ اشْتِمالٍ مِن ظَرْفِ إذْ يَرَوْنَ العَذابَ أيْ لَوْ تَراهم في هَذَيْنِ الحالَيْنِ حالَ رُؤْيَتِهِمُ العَذابَ وهي حالَةٌ فَظِيعَةٌ، وتَشْتَمِلُ عَلى حالِ اتِّخاذٍ لَهم وتَبْرِيءِ بَعْضِهِمْ مِن بَعْضٍ وهي حالَةٌ شَنِيعَةٌ وهُما حاصِلانِ في زَمَنٍ واحِدٍ. وجِيءَ بِالفِعْلِ بَعْدَ ”إذْ“ هُنا ماضِيًا مَعَ أنَّهُ مُسْتَقْبَلٌ في المَعْنى لِأنَّهُ إنَّما يَحْصُلُ في الآخِرَةِ تَنْبِيهًا عَلى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، فَإنْ دَرَجْتَ عَلى أنَّ ”إذْ“ لا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِها ظَرْفًا لِلْماضِي عَلى رَأْيِ جُمْهُورِ النُّحاةِ فَهي واقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّحْقِيقِ مِثْلَ الفِعْلِ الماضِي الَّذِي مَعَها فَتَكُونُ تَرْشِيحًا لِلتَّبَعِيَّةِ، وإنْ دَرَجْتَ عَلى أنَّها تَرِدُ ظَرْفًا لِلْمُسْتَقْبَلِ وهو الأصَحُّ ونَسَبَهُ في التَّسْهِيلِ إلى بَعْضِ النُّحاةِ، ولَهُ شَواهِدُ كَثِيرَةٌ في القُرْآنِ قالَ تَعالى ﴿ولَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهم بِإذْنِهِ﴾ [آل عمران: ١٥٢] عَلى أنْ يَكُونَ إذْ تَحُسُّونَهم هو المَوْعُودَ بِهِ، وقالَ ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [غافر: ٧٠] ﴿إذِ الأغْلالُ في أعْناقِهِمْ﴾ [غافر: ٧١]، فَيَكُونُ المَجازُ في فِعْلِ تَبَرَّأ خاصَّةً. (p-٩٧)والتَّبَرُّؤُ تَكَلُّفُ البَراءَةِ وهي التَّباعُدُ مِنَ الأمْرِ الَّذِي مِن شَأْنِ قُرْبِهِ أنْ يَكُونَ مُضِرًّا ولِذَلِكَ يُقالُ: تَبارّا إذا أبْعَدَ كُلٌّ الآخَرَ مِن تَبِعَةٍ مُحَقَّقَةٍ أوْ مُتَوَقَّعَةٍ. والَّذِينَ اتُّبِعُوا بِالبِناءِ إلى المَجْهُولِ هُمُ الَّذِينَ ضَلَّلُوا المُشْرِكِينَ ونَصَّبُوا لَهُمُ الأنْصابَ مِثْلُ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ، فَقَدْ أشْعَرَ قَوْلُهُ اتُّبِعُوا أنَّهم كانُوا يَدْعُونَ إلى مُتابَعَتِهِمْ، وأيَّدَ ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ ﴿فَنَتَبَرَّأ مِنهم كَما تَبَرَّءُوا مِنّا﴾ أيْ نُجازِيهِمْ عَلى إخْلافِهِمْ. ومَعْنى بَراءَتِهِمْ مِنهم تَنَصُّلُهم مِن مَواعِيدِ نَفْعِهِمْ في الآخِرَةِ الَّذِي وعَدُوهم في الدُّنْيا والشَّفاعَةِ فِيهِمْ، وصَرَفُهم عَنِ الِالتِحاقِ بِهِمْ حِينَ هُرِعُوا إلَيْهِمْ. وجُمْلَةُ ورَأوُا العَذابَ حالِيَّةٌ أيْ تَبَرَّءُوا في حالِ رُؤْيَتِهِمُ العَذابَ، ومَعْنى رُؤْيَتِهِمْ إيّاهُ أنَّهم رَأوْا أسْبابَهُ وعَلِمُوا أنَّهُ أُعِدَّ لِمَن أضَلَّ النّاسَ فَجَعَلُوا يَتَباعَدُونَ مِن أتْباعِهِمْ لِئَلّا يَحِقَّ عَلَيْهِمْ عَذابُ المُضَلِّلِينَ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ رُؤْيَةُ العَذابِ مَجازًا في إحْساسِ التَّعْذِيبِ كالمَجازِ في قَوْلِهِ تَعالى يَمَسُّهُمُ العَذابُ، فَمَوْقِعُ الحالِ هَنا حَسَنٌ جِدًّا وهي مُغْنِيَةٌ عَنِ الِاسْتِئْنافِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ المُقامُ لِأنَّ السّامِعَ يَتَساءَلُ عَنْ مُوجِبِ هَذا التَّبَرُّؤِ فَإنَّهُ غَرِيبٌ فَيُقالُ: رَأوُا العَذابَ، فَلَمّا أُرِيدَ تَصْوِيرُ الحالِ وتَهْوِيلُ الِاسْتِفْظاعِ عُدِلَ عَنِ الِاسْتِئْنافِ إلى الحالِ قَضاءً لِحَقِّ التَّهْوِيلِ واكْتِفاءً بِالحالِ عَنِ الِاسْتِئْنافِ لِأنَّ مَوْقِعَهُما مُتَقارِبٌ، ولا تَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلى جُمْلَةِ تَبَرَّأ لِأنَّ مَعْناها حِينَئِذٍ يَصِيرُ إعادَةً لِمَعْنى جُمْلَةِ ولَوْ تَرى الَّذِينَ ظَلَمُوا إذْ يَرَوْنَ العَذابَ ( فَتَصِيرُ مُجَرَّدَ تَأْكِيدٍ لَها ويَفُوتُ ما ذَكَرْناهُ مِنَ الخُصُوصِيّاتِ. وضَمِيرُ رَأوُا ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ عائِدٌ إلى فَرِيقَيِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا والَّذِينَ اتُّبِعُوا. وجُمْلَةُ ﴿وتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ﴾ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ تَبَرَّأ أيْ وإذْ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ، والضَّمِيرُ المَجْرُورُ عائِدٌ إلى كِلا الفَرِيقَيْنِ. والتَّقَطُّعُ الِانْقِطاعُ الشَّدِيدُ لِأنَّ أصْلَهُ مُطاوِعُ قَطَّعَهُ بِالتَّشْدِيدِ مُضاعِفُ قَطَعَ بِالتَّخْفِيفِ. والأسْبابُ جَمْعُ سَبَبٍ وهو الحَبْلُ الَّذِي يُمَدُّ لِيُرْتَقى عَلَيْهِ في النَّخْلَةِ أوِ السَّطْحِ، وقَوْلُهُ ﴿وتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ﴾ تَمْثِيلِيَّةٌ شَبَّهَتْ هَيْئَتَهم عِنْدَ خَيْبَةِ أمَلِهِمْ حِينَ لَمْ يَجِدُوا النَّعِيمَ الَّذِي تَعِبُوا لِأجْلِهِ مُدَّةَ حَياتِهِمْ وقَدْ جاءَ إبّانَهُ في ظَنِّهِمْ فَوَجَدُوا عِوَضَهُ العَذابَ، بِحالِ المُرْتَقِي إلى النَّخْلَةِ لِيَجْتَنِيَ الثَّمَرَ الَّذِي كَدَّ لِأجْلِهِ طُولَ السَّنَةِ فَتَقَطَّعَ بِهِ السَّبَبُ عِنْدَ ارْتِقائِهِ فَسَقَطَ هالِكًا، فَكَذَلِكَ هَؤُلاءِ قَدْ عَلِمَ كُلُّهم حِينَئِذٍ أنْ لا نَجاةَ لَهم فَحالُهم كَحالِ السّاقِطِ مِن عُلْوٍ لا تُرْجى لَهُ (p-٩٨)سَلامَةٌ، وهي تَمْثِيلِيَّةٌ بَدِيعَةٌ لِأنَّها الهَيْئَةُ المُشَبَّهَةُ تَشْتَمِلُ عَلى سَبْعَةِ أشْياءَ كُلُّ واحِدٍ مِنها يَصْلُحُ لِأنْ يَكُونَ مُشَبَّهًا بِواحِدٍ مِنَ الأشْياءِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْها الهَيْئَةُ المُشَبَّهُ بِها وهي: تَشْبِيهُ المُشْرِكِ في عِبادَتِهِ الأصْنامَ واتِّباعِ دِينِها بِالمُرْتَقِي بِجامِعِ السَّعْيِ، وتَشْبِيهُ العِبادَةِ وقَبُولِ الآلِهَةِ مِنهُ بِالحَبْلِ المُوَصِّلِ، وتَشْبِيهُ النَّعِيمِ والثَّوابِ بِالثَّمَرَةِ في أعْلى النَّخْلَةِ لِأنَّها لا يَصِلُ لَها المَرْءُ إلّا بَعْدَ طُولٍ وهو مُدَّةُ العُمُرِ، وتَشْبِيهُ العُمُرِ بِالنَّخْلَةِ في الطُّولِ، وتَشْبِيهُ الحِرْمانِ مِنَ الوُصُولِ لِلنَّعِيمِ بِتَقْطِيعِ الحَبْلِ، وتَشْبِيهُ الخَيْبَةِ بِالبُعْدِ عَنِ الثَّمَرَةِ، وتَشْبِيهُ الوُقُوعِ في العَذابِ بِالسُّقُوطِ المُهْلِكِ. وقَلَّما تَأْتِي في التَّمْثِيلِيَّةِ صُلُوحِيَّةِ أجْزاءِ التَّشْبِيهِ المُرَكَّبِ فِيها لِأنْ تَكُونَ تَشْبِيهاتٍ مُسْتَقِلَّةٍ، والوارِدُ في ذَلِكَ يَكُونُ في أشْياءَ قَلِيلَةٍ كَقَوْلِ بِشارٍ الَّذِي يُعَدُّ مِثالًا في الحُسْنِ: ؎كَأنَّ مُثارَ النَّقْعِ فَوْقَ رُءُوسِنا وأسْيافَنا لَيْلٌ تَهاوى كَواكِبُهُ فَلَيْسَ في البَيْتِ أكْثَرُ مِن تَشْبِيهاتٍ ثَلاثَةٍ. فالباءُ في بِهِمْ لِلْمُلابَسَةِ أيْ تَقَطَّعَتِ الأسْبابُ مُلْتَبِسَةٌ بِهِمْ أيْ فَسَقَطُوا، وهَذا المَعْنى هو مَحَلُّ التَّشْبِيهِ لِأنَّ الحَبْلَ لَوْ تَقَطَّعَ غَيْرَ مُلابِسٍ لِلْمُرْتَقِي عَلَيْهِ لَما كانَ في ذَلِكَ ضُرٌّ إذْ يُمْسِكُ بِالنَّخْلَةِ ويَتَطَلَّبُ سَبَبًا آخَرَ يَنْزِلُ فِيهِ، ولِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ وتَقَطَّعَتْ أسْبابُهم أوْ نَحْوَهُ، فَمَن قالَ: إنَّ الباءَ بِمَعْنى عَنْ أوْ لِلسَّبَبِيَّةِ أوِ التَّعْدِيَةِ فَقَدْ بَعُدَ عَنِ البَلاغَةِ، وبِهَذِهِ الباءِ تَقُومُ مَعْنى التَّمْثِيلِيَّةِ بِالصّاعِدِ إلى النَّخْلَةِ بِحَبْلٍ، وهَذا المَعْنى فائِتٌ في قَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ: ؎تَقَطَّعَ أسْبابُ اللُّبانَةِ والهَوى ∗∗∗ عَشِيَّةَ جاوَزْنا حَماةَ وشَيْزَرا وقَوْلُهُ ﴿وقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ أظْهَرُ في مَقامِ الإضْمارِ لِأنَّ ضَمِيرَيِ الغَيْبَةِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ عائِدانِ إلى مَجْمُوعِ الفَرِيقَيْنِ، عَلى أنَّ في صِلَةِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا تَنْبِيهًا عَلى إغاظَةِ المَتْبُوعِينَ وإثارَةِ حَسْرَتِهِمْ وذَلِكَ عَذابٌ نَفْسانِيٌّ يُضاعِفُ العَذابَ الجُثْمانِيَّ، وقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أعْمالَهم حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ﴾ . و”لَوْ“ في قَوْلِهِ ﴿لَوْ أنَّ لَنا كَرَّةً﴾ مُسْتَعْمَلَةٌ في التَّمَنِّي وهو اسْتِعْمالٌ كَثِيرٌ لِحَرْفِ ”لَوْ“ وأصْلُها الشَّرْطِيَّةُ حُذِفَ شَرْطُها وجَوابُها واسْتُعِيرَتْ لِلتَّمَنِّي بِعَلاقَةِ اللُّزُومِ لِأنَّ الشَّيْءَ العَسِيرَ المَنالِ يَكْثُرُ تَمَنِّيهِ، وسَدَّ المَصْدَرُ مَسَدَّ الشَّرْطِ والجَوابِ، وتَقْدِيرُ الكَلامِ: لَوْ ثَبَتَتْ لَنا كَرَّةٌ لَتَبَرَّأْنا مِنهم، وانْتَصَبَ ما كانَ جَوابًا عَلى أنَّهُ جَوابُ التَّمَنِّي وشاعَ هَذا الِاسْتِعْمالُ حَتّى صارَ مِن مَعانِي ”لَوْ“ وهو اسْتِعْمالٌ شائِعٌ وأصْلُهُ مَجازٌ مُرْسَلٌ مُرَكَّبٌ، وهو في الآيَةِ مُرَشَّحٌ بِنَصْبِ الجَوابِ. (p-٩٩)والكَرَّةُ: الرَّجْعَةُ إلى مَحَلٍّ كانَ فِيهِ الرّاجِعُ وهي مَرَّةٌ مِنَ الكَرِّ ولِذَلِكَ تُطْلَقُ في القُرْآنِ عَلى الرُّجُوعِ إلى الدُّنْيا لِأنَّهُ رُجُوعٌ لِمَكانٍ سابِقٍ، وحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الكَرَّةِ هُنا لِظُهُورِهِ. والكافُ في كَما تَبَرَّءُوا لِلتَّشْبِيهِ اسْتُعْمِلَتْ في المُجازاةِ لِأنَّ شَأْنَ الجَزاءِ أنْ يُماثِلَ الفِعْلَ المَجازى قالَ تَعالى ﴿وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها﴾ [الشورى: ٤٠]، وهَذِهِ الكافُ قَرِيبَةٌ مِن كافِ التَّعْلِيلِ أوْ هي أصْلُها، وأحْسَنُ ما يَظْهَرُ فِيهِ مَعْنى المُجازاةِ في غَيْرِ القُرْآنِ قَوْلُ أبِي كَبِيرٍ الهُذَلِيِّ: ؎أهُزُّ بِهِ في نَدْوَةِ الحَيَّ عِطْفَهُ ∗∗∗ كَما هَزَّ عِطْفِي بِالهِجانِ الأوارِكِ ويُمْكِنُ الفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الكافِ وبَيْنَ كافِ التَّعْلِيلِ أنَّ المَذْكُورَ بَعْدَها إنْ كانَ مِن نَوْعِ المُشَبَّهِ كَما في الآيَةِ وبَيْتِ أبِي كَبِيرٍ جُعِلَتْ لِلْمُجازاةِ، وإنْ كانَ مِن غَيْرِ نَوْعِهِ وما بَعْدَ الكافِ باعِثٌ عَلى المُشَبَّهِ كانَتْ لِلتَّعْلِيلِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿واذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٨] . والمَعْنى أنَّهم تَمَنَّوْا أنْ يَعُودُوا إلى الدُّنْيا بَعْدَما عَلِمُوا الحَقِيقَةَ وانْكَشَفَ لَهم سُوءُ صَنِيعِهِمْ فَيَدْعُوهُمُ الرُّؤَساءُ إلى دِينِهِمْ فَلا يُجِيبُونَهم لِيُشْفُوا غَيْظَهم مِن رُؤَسائِهِمُ الَّذِينَ خَذَلُوهم ولِتَحْصُلَ لِلرُّؤَساءِ خَيْبَةٌ وانْكِسارٌ كَما خَيَّبُوهم في الآخِرَةِ. فَإنْ قُلْتَ: هم إذا رَجَعُوا رَجَعُوا جَمِيعًا عالِمِينَ بِالحَقِّ فَلا يَدْعُوهُمُ الرُّؤَساءُ إلى عِبادَةِ الأوْثانِ حَتّى يَمْتَنِعُوا مِن إجابَتِهِمْ، قُلْتُ بابُ التَّمَنِّي واسْعٌ، فالأتْباعُ تَمَنَّوْا أنْ يَعُودُوا إلى الدُّنْيا عالِمِينَ بِالحَقِّ ويَعُودَ المَتْبُوعُونَ في ضَلالِهِمُ السّابِقِ وقَدْ يُقالُ اتَّهَمَ الأتْباعُ مَتْبُوعِيهِمْ بِأنَّهم أضَلُّوهم عَلى بَصِيرَةٍ لِعِلْمِهِمْ غالِبًا والأتْباعُ مَغْرُورُونَ لِجَهْلِهِمْ فَهم إذا رَجَعُوا جَمِيعًا إلى الدُّنْيا رَجَعَ المَتْبُوعُونَ عَلى ما كانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّضْلِيلِ عَلى عِلْمٍ بِناءً عَلى أنَّ ما رَأوْهُ يَوْمَ القِيامَةِ لَمْ يَرُعْهم لِأنَّهم كانُوا مِن قَبْلُ مُوقِنِينَ بِالمَصِيرِ إلَيْهِ ورَجَعَ الأتْباعُ عالِمِينَ بِمَكْرِ المَتْبُوعِينَ فَلا يُطِيعُونَهم. وجُمْلَةُ ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أعْمالَهم حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ﴾ تَذْيِيلٌ وفَذْلَكَةٌ لِقِصَّةِ تَبَرِّي المَتْبُوعِينَ مِن أتْباعِهِمْ. والإشارَةُ في قَوْلِهِ ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ﴾ لِلْإراءَةِ المَأْخُوذَةِ مِن يُرِيهِمْ عَلى أُسْلُوبِ ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا﴾ [البقرة: ١٤٣] . (p-١٠٠)والمَعْنى أنَّ اللَّهَ يُرِيهِمْ عَواقِبَ أعْمالِهِمْ إراءً مِثْلَ هَذا الإراءِ إذْ لا يَكُونُ إراءٌ لِأعْمالِهِمْ أوْقَعَ مِنهُ فَهو تَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ بِاخْتِلافِ الِاعْتِبارِ كَأنَّهُ يُرامُ أنْ يُرِيَهم أعْمالَهم في كَيْفِيَّةٍ شَنِيعَةٍ فَلَمْ يُوجَدْ أشْنَعُ مِن هَذِهِ الحالَةِ، وهَذا مِثْلُ الإخْبارِ عَنِ المُبْتَدَأِ بِلَفْظِهِ في نَحْوِ شِعْرِي شِعْرِي، أوْ بِمُرادِفِهِ نَحْوُ والسَّفاهَةُ كاسْمِها، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا﴾ [البقرة: ١٤٣] . والإراءَةُ هُنا بَصَرِيَّةٌ ولِذَلِكَ فَقَوْلُهُ (﴿حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ﴾) حالٌ مِن أعْمالِهِمْ ومَعْنى ﴿يُرِيهِمُ اللَّهُ أعْمالَهُمْ﴾ يُرِيهِمْ ما هو عَواقِبُ أعْمالِهِمْ لِأنَّ الأعْمالَ لا تُدْرَكُ بِالبَصَرِ لِأنَّها انْقَضَتْ فَلا يُحِسُّونَ بِها. والحَسْرَةُ حُزْنٌ في نَدامَةٍ وتَلَهُّفٍ وفِعْلُهُ كَفَرِحَ، واشْتِقاقُها مِنَ الحَسْرِ وهو الكَشْفُ لِأنَّ الكَشْفَ عَنِ الواقِعِ هو سَبَبُ النَّدامَةِ عَلى ما فاتَ مِن عَدَمِ الحَيْطَةِ لَهُ. وقَوْلُهُ ﴿وما هم بِخارِجِينَ مِنَ النّارِ﴾ حالٌ أوِ اعْتِراضٌ في آخِرِ الكَلامِ لِقَصْدِ التَّذْيِيلِ لِمَضْمُونِ ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أعْمالَهم حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ﴾ لِأنَّهم إذا كانُوا لا يَخْرُجُونَ مِنَ النّارِ تَعَيَّنَ أنَّ تَمَنِّيَهُمُ الرُّجُوعَ إلى الدُّنْيا وحُدُوثَ الخَيْبَةِ لَهم مَن صُنْعِ رُؤَسائِهِمْ لا فائِدَةَ فِيهِ إلّا إدْخالُ ألَمِ الحَسَراتِ عَلَيْهِمْ، وإلّا فَهم باقُونَ في النّارِ عَلى كُلِّ حالٍ. وعُدِلَ عَنِ الجُمْلَةِ الفِعْلِيَّةِ بِأنْ يُقالَ: (( وما يَخْرُجُونَ) ) . إلى الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ هَذا الحُكْمَ ثابِتٌ أنَّهُ مِن صِفاتِهِمْ، ولَيْسَ لِتَقْدِيمِ المُسْنَدِ إلَيْهِ هُنا نُكْتَةٌ، إلّا أنَّهُ الأصْلُ في التَّعْبِيرِ بِالجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ في مِثْلِ هَذا إذْ لا تَتَأتّى بِسِوى هَذا التَّقْدِيمِ، فَلَيْسَ في التَّقْدِيمِ دَلالَةٌ عَلى اخْتِصاصٍ لِما عَلِمْتَ ولِأنَّ التَّقْدِيمَ عَلى المُسْنَدِ المُشْتَقِّ لا يُفِيدُ الِاخْتِصاصَ عِنْدَ جُمْهُورِ أئِمَّةِ المَعانِي، بَلِ الِاخْتِصاصُ مَفْرُوضٌ في تَقْدِيمِهِ عَلى المُسْنَدِ الفِعْلِيِّ خاصَّةً، ولِأجْلِ ذَلِكَ صَرَّحَ صاحِبُ الكَشّافِ تَبَعًا لِلشَّيْخِ عَبْدِ القاهِرِ بِأنَّ مَوْقِعَ الضَّمِيرِ هُنا كَمَوْقِعِهِ في قَوْلِ المُعَذَّلِ البَكْرِيِّ: ؎هم يَفْرِشُونَ اللِّبْدَ كُلَّ طِمِرَّةٍ ∗∗∗ وأجْرَدَ سَبّاقٍ يَبُذُّ المَغالِيا فِي دَلالَتِهِ عَلى قُوَّةِ أمْرِهِمْ فِيما أُسْنِدَ إلَيْهِمْ لا عَلى الِاخْتِصاصِ اهـ. وادَّعى صاحِبُ المِفْتاحِ أنَّ تَقْدِيمَ المُسْنَدِ إلَيْهِ عَلى المُسْنَدِ المُشْتَقِّ قَدْ يُفِيدُ الِاخْتِصاصَ (p-١٠١)كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وما أنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ﴾ [هود: ٩١] ﴿وما أنا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [هود: ٢٩] ﴿وما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ [الأنعام: ١٠٧] فالوَجْهُ أنَّ تَقْدِيمَ المُسْنَدِ إلَيْهِ عَلى المُسْنَدِ المُشْتَقِّ لا يُفِيدُ بِذاتِهِ التَّخْصِيصَ وقَدْ يُسْتَفادُ مِن بَعْضِ مَواقِعِهِ مَعْنى التَّخْصِيصِ بِالقَرائِنِ، ولَيْسَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وما هم بِخارِجِينَ مِنَ النّارِ﴾ ما يُفِيدُ التَّخْصِيصَ ولا ما يَدْعُو إلَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب