قال الله تعالى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ [البقرة ١٦٦]
إذ ظرف عامله محذوف، التقدير: اذكر إذ تبرأ، وهل المراد بالذكر هنا التذكر؟ أو الإخبار بالشيء؟ أو الأمران؟ هل المعنى اذكر للناس هذا الأمر؟ أو تذكر أيها الإنسان هذا الأمر؟ الظاهر إنه هذا وهذا، إن الله تعالى يُذكِّرنا ويأمرنا أن نذكر لغيرنا.
﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ تبرأ تخلى، تبرأ التخلي والبعد، ﴿الَّذِينَ اتُّبِعُوا﴾ وهم الرؤساء، والسادة يتبرؤون من الذين اتبعوا، وهم الأتباع والضعفاء وما أشبههم، من ذلك مثلًا رؤساء الكفر يدعون الناس إلى الكفر مثل فرعون دعا إلى الكفر فهو مُتَّبَع وقومه متبِعون، وكذلك غيره من رؤساء الكفر والضلال هؤلاء أيضًا مُتَّبَعون ومن تبعهم فهو متبِع هؤلاء يتبرأ بعضهم من بعض، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى مناقشة بعضهم لبعض ومحاجة بعضهم بعضا في عدة آيات.
﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ وهل يشمل هذا من اتبع أئمة الهدى؟
* الطلبة: لا.
* الشيخ: يشمل، من اتبع أئمة الهدى؟ ما يشملهم، ما يشملهم لا شك، فالمتبعون للرسول لا تتبرأ منهم الرسل، والمتبعون لأئمة الهدى ما تتبرأ منهم، الدليل قوله تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف ٦٧] فالأخلة والأحبة في يوم القيامة يتبرأ بعضهم من بعض إلا المتقين.
﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَ﴾ ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ﴾ [البقرة ١٦٦] نحن أمامنا الآن فعل ماض في تبرأ وفعل ماض في رأوا مع أن هذا الأمر مستقبل، لكن لتحقق وقوعه عُبِّر عنه بالماضي، وهذا كثير في القرآن، ومنه قوله تعالى: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ [النحل ١] أي: أنه سيأتي بدليل قوله: ﴿فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾.
﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَ﴾ رأوه بأعينهم كما قال تعالى: ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا﴾ [الكهف ٥٣] والعذاب هو العقوبة التي يعاقب الله بها من يستحقها.
﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [البقرة ١٦٦] -أعوذ بالله- ﴿تَقَطَّعَتْ بِهِمُ﴾ الباء هنا إما أن تكون بمعنى عن أو تقطعت بهم صلة بمعنى أنهم يعني هم كأنهم متشبثون بها الآن، ثم تتقطع بهم كما ينقطع الحبل بمن تمسك به للنجاة من الغرق.
وقوله: ﴿الْأَسْبَابُ﴾ جمع سبب، فما هي هذه الأسباب؟ المراد بها كل سبب يعلقون به الانتفاع من هؤلاء المتبوعين نعم؟ مثل قولهم: ﴿اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ﴾ [العنكبوت ١٢] وقول فرعون: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [غافر ٢٩] هذه الأسباب التي سلكها المتبعون ظنًّا منهم أنها تنقذهم من العذاب إذا كان يوم القيامة تَقَطَّع بهم ولا يجدون سبيلًا إلى الوصول إلى غاياتهم.
وفسرها ابن عباس -رضي الله عنهما- بالمودة[[أخرجه الحاكم في المستدرك (٣١١٣) من طريق عطاء عن ابن عباس. ]] ﴿تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [البقرة ١٦٦] أي المودة، وهذا له نظر وجه قوي من النظر؛ لأن الآية في سياق قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾ فهم يرجون من هذا الحب أن يصلوا إلى مرادهم ولكنه لا ينفعهم، ﴿وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ وهكذا كل من تمسك بسبب لم يجعله الله سببا للنجاة فإنه يخونه أحوج ما يكون إليه، فالمتمسكون بدعاء الأولياء، ودعاء الأنبياء، ودعاء الرسل، ومن باب أولى دعاء الأشجار، والأحجار وما أشبه ذلك تخونهم هذه أحوج ما يكونون إليه، فدعاؤهم للرسول مثلًا بأن ينقذهم من النار ما ينفعهم، وكذلك دعاؤهم لمن دون الرسل لا ينفعهم.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا﴾ [البقرة ١٦٧] يقولون ﴿الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ الأتباع ﴿لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً﴾ لو هنا ليست شرطية، ولكنها للتمني يعني: ليت لنا كرة فنتبرأَ، والدليل أنها للتمني: أن الفعل نُصِبَ بعدها ﴿فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ﴾، وهو منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية.
وقد مر علينا أن لو تأتي باللغة العربية على كم من وجه؟ على ثلاثة أوجه: أن تكون شرطية، وأن تكون للتمني، وأن تكون مصدرية، فقوله تعالى: ﴿وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ [الممتحنة ٢] هذه مصدرية، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا﴾ [البقرة ٢٥٣] هذه شرطية، وقوله هنا: ﴿لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ﴾ [البقرة ١٦٧] هذه للتمني، مثلها أيضًا ﴿لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء ١٠٢] وفي آية: ﴿لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الزمر ٥٨].
قوله: ﴿لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً﴾ الكرة الرجوع إلى الشيء، والمراد هنا الرجوع إلى أيش؟ إلى الدنيا ﴿فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا﴾ فنتبرأ منهم هناك في الدنيا لو رجعنا، كما تبرءوا منا هنا في الآخرة، فنجازَيهم بما جازَوْنا به، لكن كما يقول العوام: (التمني راس مال المفاليس)، ينفعهم هذا التمني ولَّا لا؟ لا؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ [البقرة ١٦٧] -أعوذ بالله- ﴿كَذَلِكَ﴾ إعراب ﴿كَذَلِكَ﴾ من يقوم به منكم؟
* طالب: الكاف للتشبيه، حرف جر، وذا اسم إشارة مبني على السكون في محل جر، واللام (...) والكاف (...).
* الشيخ: طيب والجار والمجرور وأيش محله من الإعراب؟
* الطالب: مفعول به.
* الشيخ: توافقون على؟
* طالب: لا.
* الشيخ: ما توافقوه؟ وأيش عندك، وأيش تخالفه فيه؟
* الطالب: (...) إعرابه؟
* الشيخ: إيه، نبغي إعرابه.
* الطالب: الكاف متعلقة (...).
* الشيخ: المتبوعين نعم ﴿يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ﴾، وهذه كثيرًا ما تقع في القرآن مثل: ﴿وَكَذَلِكَ يفعلون﴾ ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة ١٤٣]، كثيرة جدًّا في القرآن، وهم يقولون: الكاف هنا اسم بمعنى مثل وهي مفعول مطلق عاملها الفعل وبعدها.
وقوله: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾ [البقرة ١٦٧] هذه أيضًا نريد منكم أن تعربوها؟ ﴿يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾؟
* طالب: ﴿يُرِيهِمُ﴾ فعل مضارع.
* الشيخ: جميل.
* طالب: لا، (يري) فعل مضارع ينصب مفعولين، والهاء في ﴿يُرِيهِمُ﴾ مفعول أول (...).
* الشيخ: نعم.
* الطالب: ولفظ الجلالة فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة.
* الشيخ: نعم.
* الطالب: و﴿أَعْمَالَهُمْ﴾ مفعول ثان، والهاء مضاف إليه.
* الشيخ: نعم.
* الطالب: و﴿حَسَرَاتٍ﴾ مفعول ثالث،
* الشيخ: أنت قلت ينصب مفعولين.
* الطالب: لا، ينصب ثلاثة.
* الشيخ: ينصب ثلاثة؟
* الطالب: إي.
* الشيخ: وأيش اللي خلاه ينصب ثلاث مفاعيل؟
* الطالب: لأنه من أرى.
* الشيخ: من أرى يري؟ يعني إذن زيادة الهمزة هي التي جعلته ينصب ثلاثة مفاعيل، طيب هل لهذا شاهد من كلام ابن مالك؟
* طالب: (...).
* الشيخ: إي، أعطيناه؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: يجعلهم يرون أعمالهم حسرات عليهم، ﴿يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ﴾
﴿حَسَرَاتٍ﴾ جمع حسرة وهي الندم مع الانكماش، والحزن -والعياذ بالله- هؤلاء يُرَوْن أعمالهم يوم القيامة على هذا الوجه يتحسرون، شوف الآن، هؤلاء الأتباع ماذا يكون شعورهم في ذلك الوقت؟ شعورهم بالندم والخيبة والخسران لا يُتَصَوَّر، فالأعمال التي عملوها لهؤلاء المتبوعين صارت خسارة عليهم وندمًا، ضاعت بها دنياهم وآخرتهم -والعياذ بالله- وهذا أعظم ما يكون من الحسرة، أعظم ما يكون من الحسرة هو مثل هذا، أن يفوت الإنسان دنياه وآخرته من أجل اتِّباع هؤلاء السادة والأشراف الوجهاء، وسيأتي إن شاء الله في ذكر الفوائد ما يتفرع على هذا الأمر العظيم.
قال: ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ ﴿مَا﴾ هذه نافية لكنها تعمل عمل ليس، و﴿هُمْ﴾ اسمها و﴿بِخَارِجِينَ﴾ خبرها مؤكدا بالباء.
﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ إذن فهم أيش؟ خالدون فيها، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن الخلود في النار مؤبد، في كم موضع من القرآن؟ في ثلاثة مواضع: في سورة النساء، وفي سورة الأحزاب، وفي سورة الجن، التأبيد ذكره الله في هذه المواضع الثلاثة، وبه نعرف ضعف قول من قال من السلف والخلف بأن النار تفنى وتزول، هي ومن فيها، ووجه الضعف أن نقول: إن تأبيد خلود الخالد وأيش يستلزم؟ تأبيد المحل الذي يخلد فيه، وإلا لما صح أن يكون مؤبدًّا، لو كانت النار تفنى ما صار هناك تأبيد للخالد فيها؛ لأنه ينقطع، فالصواب الذي عليه جمهور أهل السنة والجماعة: أن النار والجنة لا تفنيان، أما الجنة فبالاتفاق، وأما النار ففيها خلاف عن بعض السلف والخلف، والصواب أنها لا تفنى.
* طالب: شيخ يريدون علينا التأبيد في القاتل وجميعًا ونحن لا نقول بهذا؟
* الشيخ: ما فيه أبد، القاتل ما فيه التأبيد، لا ما فيه التأبيد.
ثم قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة ١٦٨]
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ هذه الآية جاءت في سورة البقرة، وسورة البقرة مدنية، وقد سبق أنه جاء أيضًا مثلها: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة ٢١] وقد ذكر كثير من المؤلفين في أصول التفسير أن الغالب في السور المدنية أن يكون الخطاب فيها بـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة ١٠٤]؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لما هاجر إلى المدينة صارت المدينة بلاد إسلام، وهي أول بلد إسلامي في هذه الرسالة، فصار التوجيه إليها بالخطاب بـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لكن هذه القاعدة ليست قاعدة، بل إنها ضابط هش؛ لأن كثيرا من الآيات، من السور المدنية فيها ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾، سورة النساء مدنية ولَّا مكية؟ مدنية، وفيها عدة آيات فيها ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾، هنا يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ تقدم أن الناس أصلها: الأُناس، حذفت الهمزة منها تخفيفًا، والمراد بالناس بنو آدم.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾ ﴿كُلُوا﴾ هذه فعل أمر، وقوله: ﴿مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾ يَحْتَمل أن تكون (من) لبيان الجنس، ويحتمل أن تكون للتبعيض، لكن كونها لبيان الجنس أولى ويرجحه قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة ٢٩] كل ما في الأرض، ما هو البعض، فعلى هذا يكون الراجح من الاحتمالين أن تكون ﴿مِنْ﴾ لبيان الجنس أي: كلوا من هذا ما شئتم.
وقوله: ﴿كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾ يشمل كل ما في الأرض من أشجار، وزروع، وبقول، وغيرها، كل ما في الأرض، ومن حيوان أيضًا، ومن حيوان؛ لأنه في الأرض.
وقوله: ﴿حَلَالًا طَيِّبًا﴾ هل ﴿حَلَالًا﴾ هنا منصوبة على أنها حال من (ما) أو مفعول لـ﴿كُلُوا﴾؟
* الطلبة: حال.
* الشيخ: الظاهر أنها حال، يعني: كلوه حال كونه حلالًا، أي محللًا، فهي بمعنى اسم المفعول محللًا.
وقوله: ﴿طَيِّبًا﴾ هذا أيضًا حال أخرى، يعني حال كونه طيبًا، والطيب يشمل الطيب في ذاته والطيب في كسبه، الطيب في ذاته ما ليس بمحرم؛ لأن كل محرم فهو خبيث والدليل: ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف ١٥٧]، ودليل آخر: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ [الأنعام ١٤٥]
وعلى هذا فنقول: إن الطيب يشمل الطيب في عينه والطيب في كسبه، طيب الطيب في عينه قلنا: ما ليس بخبيث، والطيب في كسبه ما اكتُسِبَ على وجه مشروع، فعلى هذا ما اكتُسِب بالربا طيب ولَّا غير طيب؟ ليس بطيب، حلوان الكاهن؟
* طلبة: ليس بطيب.
* الشيخ: ليس بطيب، خبيث، مهر البغي يعني أجرة الزانية؟
* طالب: ليس بطيب.
* الشيخ: ليس بطيب خبيث، ثمن الكلب؟ طيب، ثمن الدخان؟
* طلبة: خبيث.
* الشيخ: خبيث؟ نعم، إذن الطيب نقول: ما طاب أيش؟ في عينه وفي كسبه.
﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ ﴿لَا تَتَّبِعُوا﴾ ﴿لَا﴾ ناهية، والاتباع معناه: أن يأخذ الإنسان بما عمله غيره كمتَّبِع الأثر الذي يتْبَع أثر البعير وأثر الدابة وما أشبهها.
وقوله: ﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ جمع خطوة، والخُطوة بالضم غير الخَطوة بالفتح، الخَطوة المرة من الخُطى، والخُطوة هي فعل الإنسان يعني كونه ينقُل قدمه من مكان إلى آخر ليمشي.
وقوله: ﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ أي: أعماله التي يعملها ويخطو إليها، وهو شامل للشرك فما دونه، وقد علمنا أن الشيطان -كما عَلَّمنا الله عز وجل- يأمر بأي شيء؟ يأمر بالفحشاء ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة ١٦٩]، فكل شيء حرمه الله فهو من خطوات الشيطان، سواء كان عن استكبار، أو تكذيب، أو استهزاء أو غير ذلك، كل شيء حرمه الله فهو من خطوات الشيطان؛ لأنه يأمر به وينادي به ويدعو إليه فهو من خطواته، ومنه الأكل بالشمال؛ لأن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله، فمن أكل بشماله أو شرب بشماله فقد اتبع خطوات الشيطان، ولهذا القول الراجح في هذه المسألة أن ذلك محرم، وأنه ما يجوز الإنسان أن يأكل بشماله أو يشرب بشماله، لكن إذا قال قائل: إذا كنت تأكل وأردت أن تشرب، وأيش تسوي؟ تشرب باليسرى؟
* الطلبة: لا.
* الشيخ: يقولون: اشرب باليسرى؛ لئلا تلوث الكأس، فنقول هذا ليس بصحيح؛ لأن الكأس لا يتلوث ولو شربت باليمنى من الممكن أن تمسكه بأسفله بين إبهامك والسبابة وتشرب، إن قُدِّر أن يتلوث فهو يتلوث شيئًا يسيرًا في عقبه، وليس في أعلاه الذي يشرب منه الناس حتى نقول إنك قذرته عليهم، لكن من أجل أن الناس صاروا يتهاونون بهذه المسألة أو أنهم يعتقدون ما ذهب إليه كثير من أهل العلم من أن الشرب بالشمال مكروه صار الأمر عندهم هينًا، وإلا من علم أنه محرم فالمحرم كما هو معروف للجميع ما يُحلِّه إلا الضرورة.
* طالب: شيخ طيب حط الكأس كذا جائز ولَّا؟
* الشيخ: نعم إذا جعله هكذا هو بين الجواز والتحريم، كما أنه بين اليمنى واليسرى ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق ٣] فكما أنك الآن ما تمحضت اليمنى ولا اليسرى فأنت ما وقعت في النهي ولا وافقت الأمر، ما وافقت الأمر ولا وقعت في النهي، ما نقول: إنك فعلت محرمًا؛ لأنه ما تمحضت اليسرى، ولكنه لا شك أن الأكمل أن يكون باليمنى خالصًا.
* طالب: لو شرب بكلتا اليدين؟
* الشيخ: نفس الشيء إلا لصار ثقيل، ما يقدر باليمنى فهذا لا بأس هذه حاجة.
* طالب: والأكل.
* الشيخ: الأكل، ما أظنه علة.
* طالب: أكل بالثنتين؟
* الشيخ: أكل بالثنتين؟ إيه، يكون هذا شبهه.
* طالب: عظم أو شيء.
* الشيخ: عظم ولا بطيخة.
* الطلبة: خبز.
* الشيخ: لا، خبز يمسكه باليسرى ويقطع باليمنى ما فيه شيء، وكذلك العظم حتى العظم مو لازم (...)، على كل حال مع الحاجة لا بأس؛ لأنا قلنا: إن هذا ما تمحض باليسار فلا وقع في النهي.
* طالب: (...).
* الشيخ: إيه، وده يقرمش ها العصب اللي..
* الطالب: شيخ، اللي يشكل يا شيخ المصاصة، إذا كان فيه مصاصة (...) ومسكها باليسرى مسك الكوب باليسرى؟
* الشيخ: (...)؟
* الطالب: لا، يعني ولو يعني إذا وقع الشيء لا (...).
* الشيخ: نقول هذا شرب باليسار.
* طالب: ما شرب باليسار.
* الشيخ: كيف؟
* طالب: شرب بالمصاصه؟
* الشيخ: لكن حتى أصله، أصله حتى لو أن الكأس معه ما شرب من نفس اليد هو شارب بوسيلة الكأس، الكأس وسيلة، يعني هذا بدل أن يشرب من حافة الكأس شرب من هذه الماسورة.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: إي نعم، يمسك هذا الكأس باليمين أو هذا اللي تمص ومص.
* طالب: (...) بدون قصد؟
* الشيخ: ويش بدون قصد.
* الطالب: (...).
* الشيخ: إذا كان الإنسان ساهيًا تلك الساعة وغافلًا فهو من جنس اللي فعل محرمًا غافلًا ما عليه ذنب، لكنه يجب الإنسان ينتبه إلى هذه الأشياء.
* الطالب: يعني، يحرم شيخ؟
* الشيخ: نعم، يحرم.
* طالب: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾.
طيب ﴿خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ الشيطان هل هو من (شطن) فالنون أصلية، أو من (شاط) فالنون زائدة؟ نقول: هو من (شطن)؛ لأنه مصروف في القرآن ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾ [التكوير ٢٥] ولو كان من (شاط) لكانت النون زائدة والألف زائدة فيكون ممنوعًا من الصرف، إلا أنه قد يقال: لا يمنع من الصرف؛ لأن مؤنثه (شيطانة)، والذي يمنع من الصرف إذا كان مؤنثه فعلى، مثل سكران وسكرى (...).
إذا بَعُدَ عن رحمة الله، لبعده عن رحمة الله سبحانه وتعالى.
وقال: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ العدو هو ضد الصديق، وقد حده الفقهاء رحمهم الله بقولهم: من سرَّه مساءة شخص أو غمه فرحُه فهو عدو، فالعدو من يحزن لفرحك ويُسَرُّ لحزنك، هذا هو العدو.
قال: ﴿مُبِينٌ﴾ بمعنى بَيِّن العداوة، ظاهر العداوة، وقد كان عدوًّا لأبينا آدم عليه الصلاة والسلام فما زالت عداوته إلى قيام الساعة، إلى أن يأتي الله بأمره، قال الله تعالى عنه: ﴿لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ [النساء ١١٨، ١١٩]
قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾ نسأل الله السلامة والعافية.
* الطالب: مثال (لو) الشرطية (...) مثال الشرطية؟
* الشيخ: إي نعم مثل: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا﴾ [البقرة ٢٥٣] ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [هود ١١٨].
(...) وضم الميم، والموجود الآن؟
* طالب: هذا الموجود.
* الشيخ: هذا الموجود، فيه قراءة بكسرهما ﴿بِهِمِ الْأَسْبَابُ﴾ ، في قراءة ثالثة: بضمهما ﴿بِهُمُ الْأَسْبَابُ﴾ .
* طالب: موجودة يا شيخ ﴿بِهُمُ الْأَسْبَابُ﴾ .
* الشيخ: لا ما هي موجودة القراءات الآن ثلاث: ضمهما، والثانية؟ وكسرهما، والثالثة: كسر الهاء وضم الميم.
* طالب: قراءة حفص؟
* الشيخ: كذلك، والله ما أعرف من اللي قالها من القراءة السبعية، ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ﴾ فيها أيضًا ثلاث قراءات مثلها: كسر الهاء والميم ﴿يُرِيهِمِ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ﴾ ، وضمهما ﴿يُرِيهُمُ اللَّهُ﴾ ، وكسر الهاء وضم الميم ﴿يُرِيهِمُ اللَّهُ﴾.
مناقشة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا﴾ في بيان الامتنان، لا في بيان التكليف، وكون الإنسان يجب عليه أن يأكل ما يسد رمقه يفهم من دليل آخر، وإلا يجب على الإنسان أن يأكل ما يسد رمقه.
* الطالب: كيف سيقت للبيان؟
* الشيخ: لبيان الامتنان، امتنان الله سبحانه وتعالى علينا حيث أباح لنا كل ما في الأرض.
* الطالب: هل هذه قاعدة؟
* الشيخ: إي نعم، ما سيق لبيان الامتنان فليس به التكليف.
* الطالب: أليس للوجوب؟
* الشيخ: لا لا، ليس للوجوب.
* الطالب: (...).
* الشيخ: لا لا، يعني أن تريد أن يكون كلوا منصبًا على طيبًا؟ لا، طيبًا ستأتي إن شاء الله في الفوائد اللي بعدها اللي وجه للمؤمنين.
* طالب: ما أخرج عن وجوب الامتنان؟
* الشيخ: نعم، طيب قوله: ﴿مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾ (من) هنا؟ هي للتبعيض ولَّا لبيان الجنس؟
* طالب: لبيان الجنس.
* الشيخ: وأيش الدليل؟ الدليل؟
* طالب: قوله تعالى: ﴿مِمَّا فِي الْأَرْضِ﴾ لأن الأرض بيان للجنس.
* الشيخ: إيه لكن من هل المراد كلوا بعض ما في الأرض؟
* الطالب: لا، لبينان الجنس ما هي للتبعيض.
* الشيخ: وأيش الدليل؟
* الطالب: قوله تعالى (...).
* الشيخ: أنا أريد دليل على هذا القول.
* الطالب: (...).
* الشيخ: لهما جميعًا؟
* الطالب: نعم (...).
* الشيخ: بينهما فرق.
* الطالب: دليل على الجنس قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة ٢٩]
* الشيخ: إيه زين هذا دليل على أنها للجنس ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ فما هذه عامة، طيب.
قوله: ﴿حَلَالًا طَيِّبًا﴾ ما الفرق بين حلالًا وطيبا؟
* طالب: طيِّبًا توكيد للحلال.
* الشيخ: كيف توكيد للحلال؟ وأيش وجه أنها توكيد الحلال؟
* الطالب: لأن الحلال (...) طيبًا.
* الشيخ: الدليل؟
* الطالب: الدليل قول الرسول ﷺ أحل للمؤمنين كما أحل للأنبياء كما قال الله سبحانه وتعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا﴾ [البقرة ١٧٢].
* الشيخ: «إن الله أمر»[[أخرجه مسلم ( ١٠١٥ / ٦٥) .]]، لا، نبغى غيرها، نبغى الدليل على أن كل حلال فهو طيب؟ من يعرف؟
* طالب: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ﴾
* الشيخ: قول الله تعالى في وصف النبي ﷺ: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ﴾ [الأعراف ١٥٧].
قوله: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ ما هي الخطوات؟
* الطالب: خطواته سبله وطرقه.
* الشيخ: ومنها؟
* الطالب: ومنها الأمر بالفحشاء والمنكر.
* الشيخ: طيب، كلمة الشيطان النون فيها أصلية ولَّا زائدة؟
* طالب: أصلها شطن؟
* الشيخ: إيه، فإني أسأل هل النون أصلية أو زائدة؟
* الطالب: أصلية؛ لأنها شطن.
* الشيخ: من شطن بمعنى؟
* الطالب: الشطط وهو البعد؟
* الشيخ: من البعد، طيب؛ لأنه بعيد عن رحمة الله سبحانه وتعالى.
هل لك أن تأتي لنا بشاهد يدل على أن النون أصلية من القرآن؟
* الطالب: قوله تعالى: ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾ [التكوير ٢٥] مصروف دل على أنها أصلية، لو كانت غير أصلية كان يمنع من الصرف.
* الشيخ: يمنع من الصرف إذا قصد به العلمية.
قوله: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ ما محل الجملة مما قبلها في المعنى؟
* طالب: قلنا قول ثان: إنه يكون من (شطا)؛ الشيطان.
* الشيخ: من (شاط).
* الطالب: من (شاط) يعني مستور.
* الشيخ: تكون النون زائدة ويكون منصرف أيضًا؛ لأن شيطان مؤنثه شيطانة.
أقول: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ ما محل الجملة مما قبلها في المعنى؟
* طالب: مؤكدة لما قبلها.
* الشيخ: مؤكدة.
* طالب: بيان حال الشيطان، تقريبًا.
* الشيخ: بيان حال الشيطان؟ يعني مؤكدة الحقيقة، كأنها مؤكدة.
* طالب: تعليلية.
* الشيخ: تعليلية.
الشيخ: قول مبين.
* الطالب: يعني بيِّن.
* الشيخ: أي بيِّن، مِن؟ الفعل منها أيش؟
* الطالب: الفعل منها من (أبان).
* الشيخ: من أبان، وأبان بمعنى؟
* الطالب: أظهر.
* الشيخ: بمعنى أظهر، إذن مبين مظهِر؟
* طالب: من (بان).
* الشيخ: من (بان يَبين) فهو بيِّن، لكن هذه مبين.
* الطالب: بين ومبين.
* الشيخ: لا.
* طالب: مِن (أبان) بس اللازمة ليس المتعدية.
* الشيخ: صح، من (أبان) اللازمة؛ لأننا قلنا لكم: إن (أبان) تأتي لازمة ومتعدية، فيقال: أبان الشيء؛ أي أظهره، ويقال: أبان الصبح؛ بمعنى ظهر وبان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اللهم يسِّر.
قوله تعالى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ﴾ إلى آخره.
* يستفاد من هذه الآية: أن المتبوعين بالباطل لا ينفعون أتباعهم لقوله: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا﴾ ولو كانوا ينفعونهم ما تبرؤوا منهم.
* ومن فوائدها أيضًا: أن الأمر لا يقتصر على عدم النفع بل يقتصر على البراءة منهم، والتباعد عنهم ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا﴾ وهذا يكون أشد حسرة على الأتباع مما لو كان موقفهم سلبيًّا.
* ومن فوائد الآية: ثبوت العقاب، ويتفرع عليه ثبوت البعث لقوله: ﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَ﴾.
* ومنها: أن الله سبحانه وتعالى يجمع بين الأتباع والمتبوعين توبيخًا وتنديمًا لهم؛ لأن لا شك أن هذا أعظم الحسرة إذا صار متبوعه الذي كان يعظمه في الدنيا يتبرأ منه أشد، فيجمع الله بينهم ويتبرأ بعضهم من بعض.
* ومن فوائد الآية: أن جميع الأسباب الباطلة تتقطع يوم القيامة وتزول، كل الأسباب الباطلة التي لا تُرضي الله ورسوله لا تنفع صاحبها يوم القيامة.
ذكرنا أن هذه الآية يراد بها المتبوعون بأيش؟
* الطلبة: بالباطل.
* الشيخ: بالباطل، بخلاف المتبوعين بالحق، فالرسل لا يتبرؤون من أتباعهم، واستدللنا لذلك بقوله تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف ٦٧].
* ومن فوائد الآية اللي بعدها: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا﴾ [البقرة ١٦٧].
* من فوائد هذه الآية: أن هؤلاء الأتباع يتمنون أن يرجعوا إلى الدنيا ليتبرؤوا منهم كما تبرأ هؤلاء منهم في الآخرة، وهو ممكن ولَّا غير ممكن؟
* طالب: غير ممكن.
* الشيخ: غير ممكن، وما يزيدهم هذا إلا حسرة، ولهذا قال الله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾.
* ومن فوائدها أيضًا: تحسُّر هؤلاء وأمثالهم الذين فاتهم في هذه الدنيا العمل الصالح، فإنهم يتحسرون في الآخرة تحسرًا لا نظير له، ولا يدور في خيالهم اليوم، ولا في خيال غيرهم؛ لأنه ندم لا يمكن الاستعتاب منه، في الدنيا قد تحسر على ما فاتك لكن تسعى في جبر هذا الشيء، لكن هناك ما فيها.
* ومنها: إثبات نكال الله بهم لقوله: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ﴾.
* ومنها: خلودهم في النار لقوله: ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾.
* ومنها: إثبات النار، وأنها حق لقوله: ﴿مِنَ النَّارِ﴾ وهو كذلك، وهي موجودة الآن ولَّا لا؟
* طالب: موجودة.
* الشيخ: نعم، هي موجودة الآن.
ثم قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة ١٦٨].
* طالب: يا شيخ، ذكر في بعض النصوص أن النار في الأرض؟
* الشيخ: إي نعم.
* الطالب: شو الجمع بين إثبات هذا وأنها موجودة؟
* الشيخ: نقول: الله أعلم، الأرض ما أحطنا بها، يمكن تكون بمكان غير معلوم لنا؛ يعني في جهة سفلى لكنها ما هي في الأرض نفسها، الله أعلم.
* ومن فوائد هذه الآية: إظهار منة الله على عباده حيث أباح لهم جميع ما في الأرض، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا﴾.
* ومن فوائد الآية أيضًا: أن الأصل فيما في الأرض الحِل والطيب حتى يتبين أنه حرام، وهل يؤخذ من هذه الآية أن الكفار مخاطبون بالفروع، بفروع الشريعة أو لا يؤخذ؟
* الطلبة: يؤخذ.
* الشيخ: يؤخذ؟
* الطلبة: يؤخذ.
* الشيخ: ما وجه ذلك؟
* الطلبة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾.
* الشيخ: من قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾، وهم داخلون في هذا الخطاب، فيكونون مخاطبين بفروع الشريعة، وهذا هو الصحيح، الصحيح أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، ولكن ليس معنى خطابهم بذلك أنهم يلزمون بها حال الكفر، لا؛ لأننا ندعوهم أولًا إلى أي شيء؟ إلى الإسلام ثم نلزمهم بأحكامه، وليس معنى كونهم مخاطبين بها أنهم يؤمرون بقضائها؛ الدليل على الأول:
قوله تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ﴾ [التوبة ٥٤] فكيف نلزمهم بأمر لا ينفعهم؟ هذا عبث وظلم!
وأما الثاني: أن معنى كونهم مخاطبين أننا لا نلزمهم بالقضاء: الدليل عليه قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال ٣٨].
ولهذا ما أمر النبي عليه الصلاة والسلام أحدًا ممن أسلم أن يؤدي زكاته الماضية، أو أن يصوم شهر رمضان، أو أن يقضي الصلوات، إذن ما الفائدة؟
قال أهل العلم: الفائدة من قولنا: إنهم مخاطبون بها: زيادة عقوبتهم في الآخرة، وهذا يدل عليه قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾ [المدثر ٣٩ - ٤٧].
إذن هذه الآية ربما يستدل بها على أن الكفار مخاطبون بالفروع كما أنهم مخاطبون بالأصول بالإجماع.
* طالب: كل الآية يا شيخ؟
* الشيخ: إي، كل (...) كل الآية، الآية فيها أمر ونهي.
* الطالب: تعقيب.
* طالب: بالنسبة للمسلم اللي يتهاون بالزكاة يؤمر بقضائها ولَّا لا؟
* الشيخ: فيه خلاف بين أهل العلم؛ منهم من قال يؤمر؛ لأنه ما لها وقت، ابتداء الوقت محدد وانتهاؤه غير محدد، وهذا هو الصحيح.
* الطالب: يعني يؤمر.
* الشيخ: أنه يؤمر بخلاف المحدد وقته ابتداءً وانتهاءً فلا يؤمر به، على القول الراجح.
* طالب: بس فيه تعقيب على ذكر (...) في الآيات (...) يقول: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ﴾ هنا لما ذكر عموم الناس ذكر أيضًا.
* الشيخ: ما وصلنا لهذا.
* ومن فوائد الآية: تحريم اتباع خطوات الشيطان لقوله: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ كذا؟
* الطالب: إي نعم.
* الشيخ: وهل من ذلك تحريم الأكل بالشمال والشرب بالشمال؟
* الطلبة: نعم.
* الشيخ: نعم، لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «لَا يَأْكُلُ أَحَدُكُمْ بِشِمَالِهِ وَلَا يَشْرَبُ بِشِمَالِهِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ»[[أخرجه مسلم (٢٠٢٠ / ١٠٥)، والترمذي برقم (١٧٩٩) من حديث عبد الله بن عمر، واللفظ للترمذي. ]].
* ومن ذلك أيضًا: معصية الله عز وجل، فإن معصية الله والاستكبار عن أمره من خطوات الشيطان. أو لا؟
ومنها من اتباع خطوات الشيطان: القياس الفاسد.
* طالب: (...).
* الشيخ: وأيش وجهه؟
* الطالب: أول من قاس إبليس.
* الشيخ: يقولون: أول من قاس قياسًا فاسدًا إبليس؛ لأن الله لما أمره أن يسجد لآدم عارض هذا الأمر بقياس فاسد، قال: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف ١٢]؛ يعني فكان الأولى أنه هو اللي يسجد لي، فهذا قياس في مقابلة النص، فاسد الاعتبار.
ومن اتباع خطوات الشيطان أيضًا: الحسد؛ فإن الحسد من خطوات الشيطان؛ لأن الشيطان إنما قال ذلك حسدًا لآدم، فالحسد من اتباع خطوات الشيطان، وهو أيضًا من دأب اليهود، ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ [البقرة ١٠٩]، وكل خلق ذميم أو عمل سوء فإنه من خطوات الشيطان.
* ومن فوائد الآية: تأكيد عداوة الشيطان لبني آدم، من أين نأخذها؟ ﴿إِنَّهُ﴾ الجملة مؤكدة بـ (إن) ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾.
* ومن فوائدها: ظهور بلاغة القرآن، وذلك بقرن الحكم بعلته، فإن قرن الحكم لعلته له فوائد منها: الطمأنينة، والحث، والترغيب أو الترهيب. المهم لها فوائد ذكرناها فيما سبق، ذكرنا فيما سبق ثلاث فوائد، ولعلكم تستحضرونها، قرن الحكم بعلته له ثلاث فوائد، من يبينها؟
* طالب: التأكيد.
* الشيخ: التأكيد؟
* طالب: نعم، أو شدة يعني (...).
* الشيخ: لا، لعل وهمك راح لشيء آخر.
* طالب: أولًا: اطمئنان المخاطب.
ثانيًا: كمال الشريعة الإسلامية.
* الشيخ: وهو كمال الشريعة الإسلامية.
* الطالب: نعم، ثالثًا: القياس على هذه العموم، عموم الحكم.
* الشيخ: عموم الحكم بعموم العلة ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ [الأنعام ١٤٥]. كلمة ﴿فَإِنَّهُ رِجْسٌ﴾ تعليل، يستفاد منها الفوائد الثلاثة:
أولًا: طمأنينة المخاطب إلى تحريم هذا الشيء، وأنه حُرم لنجاسته وخبثه.
وثانيًا: ظهور سمو الشريعة، وحكمها وأسرارها، وأنها ما تثبت حكمًا إلا لعلة.
وثالثًا: عموم الحكم بعموم العلة؛ يعني القياس، فكل ما كان نجسًا وإن لم يكن من هؤلاء الثلاثة فهو محرم.
* ومن فوائد الآية: الحذر أو التحذير الشديد من خطوات الشيطان؛ لقوله: ﴿إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ وما أظن أحدًا يؤمن بعداوة أحد ويتبعه أبدًا، أو لا؟ كل عاقل يؤمن بالعداوة من أي نفس لا يمكن أن يتبع ذلك، ففيه التحذير من اتباع خطوات الشيطان، فإذا قيل: ما هي خطوات الشيطان؟
نقول: كل المعاصي خطوات الشيطان، كل المعاصي فإنها خطوات الشيطان.
{"ayahs_start":166,"ayahs":["إِذۡ تَبَرَّأَ ٱلَّذِینَ ٱتُّبِعُوا۟ مِنَ ٱلَّذِینَ ٱتَّبَعُوا۟ وَرَأَوُا۟ ٱلۡعَذَابَ وَتَقَطَّعَتۡ بِهِمُ ٱلۡأَسۡبَابُ","وَقَالَ ٱلَّذِینَ ٱتَّبَعُوا۟ لَوۡ أَنَّ لَنَا كَرَّةࣰ فَنَتَبَرَّأَ مِنۡهُمۡ كَمَا تَبَرَّءُوا۟ مِنَّاۗ كَذَ ٰلِكَ یُرِیهِمُ ٱللَّهُ أَعۡمَـٰلَهُمۡ حَسَرَ ٰتٍ عَلَیۡهِمۡۖ وَمَا هُم بِخَـٰرِجِینَ مِنَ ٱلنَّارِ","یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُوا۟ مِمَّا فِی ٱلۡأَرۡضِ حَلَـٰلࣰا طَیِّبࣰا وَلَا تَتَّبِعُوا۟ خُطُوَ ٰتِ ٱلشَّیۡطَـٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوࣱّ مُّبِینٌ"],"ayah":"وَقَالَ ٱلَّذِینَ ٱتَّبَعُوا۟ لَوۡ أَنَّ لَنَا كَرَّةࣰ فَنَتَبَرَّأَ مِنۡهُمۡ كَمَا تَبَرَّءُوا۟ مِنَّاۗ كَذَ ٰلِكَ یُرِیهِمُ ٱللَّهُ أَعۡمَـٰلَهُمۡ حَسَرَ ٰتٍ عَلَیۡهِمۡۖ وَمَا هُم بِخَـٰرِجِینَ مِنَ ٱلنَّارِ"}