الباحث القرآني

﴿هَؤُلاءِ قَوْمُنا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ لِما اقْتَضَتْهُ جُمْلَةُ ﴿لَقَدْ قُلْنا إذًا شَطَطًا﴾ [الكهف: ١٤] إذْ يَثُورُ في نَفْسِ السّامِعِ أنْ يَتَساءَلَ عَمَّنْ يَقُولُ هَذا الشَّطَطَ، إنْ كانَ في السّامِعِينَ مَن لا يَعْلَمُ ذَلِكَ أوْ بِتَنْزِيلِ غَيْرِ السّائِلِ مَنزِلَةَ السّائِلِ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ مِن بَقِيَّةِ كَلامِ الفِتْيَةِ كَما اقْتَضاهُ ضَمِيرُ قَوْلِهِ دُونِهِ العائِدُ إلى رَبَّنا. والإشارَةُ إلى قَوْمِهِمْ بِـ ”هَؤُلاءِ“ لِقَصْدِ تَمْيِيزِهِمْ بِما سَيُخْبِرُ بِهِ عَنْهم، وفي هَذِهِ الإشارَةِ تَعْرِيضٌ بِالتَّعَجُّبِ مِن حالِهِمْ وتَفْضِيحُ صُنْعِهِمْ، وهو مِن لَوازِمِ قَصْدِ التَّمْيِيزِ. وجُمْلَةُ اتَّخِذُوا خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الإشارَةِ، وهو خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ في الإنْكارِ عَلَيْهِمْ دُونَ الإخْبارِ، إذِ اتِّخاذُهم آلِهَةً مِن دُونِ اللَّهِ مَعْلُومٌ بَيْنَ المُتَخاطِبِينَ، فَلَيْسَ الإخْبارُ بِهِ بِمُفِيدٍ فائِدَةَ الخَبَرِ. ومَعْنى ”مِن دُونِهِ“ مِن غَيْرِهِ، و(مِن) ابْتِدائِيَّةٌ، أيْ آلِهَةً ناشِئَةً مِن غَيْرِ اللَّهِ، وكانَ قَوْمُهم يَوْمَئِذٍ يَعْبُدُونَ الأصْنامَ عَلى عَقِيدَةِ الرُّومِ، ولا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. وجُمْلَةُ ﴿لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ﴾ مُؤَكِّدَةٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها بِاعْتِبارِ أنَّها مُسْتَعْمَلَةٌ في الإنْكارِ؛ لِأنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الجُمْلَةِ يُقَوِّي الإنْكارَ عَلَيْهِمْ. (p-٢٧٥)و(لَوْلا) حَرْفُ تَحْضِيضٍ، حَقِيقَتُهُ: الحَثُّ عَلى تَحْصِيلِ مَدْخُولِها، ولَمّا كانَ الإتْيانُ بِسُلْطانٍ عَلى ثُبُوتِ الإلَهِيَّةِ لِلْأصْنامِ الَّتِي اتَّخَذُوها آلِهَةً مُتَعَذِّرًا بِقَرِينَةِ أنَّهم أنْكَرُوهُ عَلَيْهِمُ انْصَرَفَ التَّحْضِيضُ إلى التَّبْكِيتِ والتَّغْلِيطِ، أيِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِن دُونِ اللَّهِ لا بُرْهانَ عَلى إلَهِيَّتِهِمْ. ومَعْنى ”عَلَيْهِمْ“ عَلى آلِهَتِهِمْ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ ﴿اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً﴾ . والسُّلْطانُ: الحُجَّةُ والبُرْهانُ. والبَيِّنُ: الواضِحُ الدَّلالَةِ، ومَعْنى الكَلامِ: إذْ لَمْ يَأْتُوا بِسُلْطانٍ عَلى ذَلِكَ فَقَدْ أقامُوا اعْتِقادَهم عَلى الكَذِبِ والخَطَأِ، ولِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ جُمْلَةَ ﴿فَمَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ . و(مَن) اسْتِفْهامِيَّةٌ، وهو إنْكارٌ، أيْ لا أظْلَمَ مِمَّنِ افْتَرى، والمَعْنى: أنَّهُ أظْلَمُ مِن غَيْرِهِ، ولَيْسَ المُرادُ المُساواةَ بَيْنَهُ وبَيْنَ غَيْرِهِ، كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أنْ يُذْكَرَ فِيها اسْمُهُ﴾ [البقرة: ١١٤] . والمَعْنى: أنَّ هَؤُلاءِ افْتَرَوْا عَلى اللَّهِ كَذِبًا، وذَلِكَ أنَّهم أشْرَكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ في الإلَهِيَّةِ فَقَدْ كَذَبُوا عَلَيْهِ في ذَلِكَ إذْ أثْبَتُوا لَهُ صِفَةً مُخالِفَةً لِلْواقِعِ. وافْتِراءُ الكَذِبِ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ﴾ [المائدة: ١٠٣] في سُورَةِ العُقُودِ. ثُمَّ إنْ كانَ الكَلامُ مِن مَبْدَئِهِ خِطابًا لِقَوْمِهِمْ أعْلَنُوا بِهِ إيمانَهم بَيْنَهم كَما تَقَدَّمَ؛ كانَتِ الإشارَةُ في قَوْلِهِمْ﴿هَؤُلاءِ قَوْمُنا﴾ عَلى ظاهِرِها، وكانَ ارْتِقاءً في التَّعْرِيضِ لَهم بِالمَوْعِظَةِ، وإنْ كانَ الكَلامُ مِن مَبْدَئِهِ دائِرًا بَيْنَهم في خاصَّتِهِمْ؛ كانَتِ الإشارَةُ إلى حاضِرٍ في الذِّهْنِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿فَإنْ يَكْفُرْ بِها هَؤُلاءِ﴾ [الأنعام: ٨٩] أيْ مُشْرِكُو مَكَّةَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب