الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأهم بِالحَقِّ إنَّهم فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وزِدْناهم هُدًى﴾ ﴿ورَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِن دُونِهِ إلَهًا لَقَدْ قُلْنا إذًا شَطَطًا﴾ ﴿هَؤُلاءِ قَوْمُنا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ مِن قَبْلُ جُمْلَةً مَن واقِعَتِهِمْ، ثُمَّ قالَ: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأهم بِالحَقِّ﴾ أيْ عَلى وجْهِ الصِّدْقِ: ﴿إنَّهم فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ﴾ كانُوا جَماعَةً مِنَ الشُّبّانِ آمَنُوا بِاللَّهِ، ثُمَّ قالَ تَعالى في صِفاتِهِمْ: ﴿ورَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ أيْ ألْهَمْناها الصَّبْرَ وثَبَّتْناها: ﴿إذْ قامُوا﴾ وفي هَذا القِيامِ أقْوالٌ: الأوَّلُ: قالَ مُجاهِدٌ: كانُوا عُظَماءَ مَدِينَتِهِمْ فَخَرَجُوا فاجْتَمَعُوا وراءَ المَدِينَةِ مِن غَيْرِ مِيعادٍ، فَقالَ رَجُلٌ مِنهم أكْبَرُ القَوْمِ: إنِّي لَأجِدُ في نَفْسِي شَيْئًا ما أظُنُّ أنَّ أحَدًا يَجِدُهُ، قالُوا ما تَجِدُ ؟ قالَ: أجِدُ في نَفْسِي أنَّ رَبِّي رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ. القَوْلُ الثّانِي: أنَّهم قامُوا بَيْنَ يَدَيْ مَلِكِهِمْ دِقْيانُوسَ الجَبّارِ، وقالُوا: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ كانَ يَدْعُو النّاسَ إلى عِبادَةِ الطَّواغِيتِ، فَثَبَّتَ اللَّهُ هَؤُلاءِ الفِتْيَةَ، وعَصَمَهم حَتّى عَصَوْا ذَلِكَ الجَبّارَ، وأقَرُّوا بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ، وصَرَّحُوا بِالبَراءَةِ عَنِ الشُّرَكاءِ والأنْدادِ. والقَوْلُ الثّالِثُ: -وهُوَ قَوْلُ عَطاءٍ ومُقاتِلٍ - أنَّهم قالُوا ذَلِكَ عِنْدَ قِيامِهِمْ مِنَ النَّوْمِ، وهَذا بِعِيدٌ؛ لِأنَّ اللَّهَ اسْتَأْنَفَ قِصَّتَهم بِقَوْلِهِ: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ وقَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ قُلْنا إذًا شَطَطًا﴾ مَعْنى الشَّطَطِ في اللُّغَةِ مُجاوَزَةُ الحَدِّ، قالَ الفَرّاءُ: يُقالُ قَدْ أشَطَّ في السَّوْمِ إذْ جاوَزَ الحَدَّ، ولَمْ يُسْمَعْ إلّا أشَطَّ يُشِطُّ إشْطاطًا وشَطَطًا، وحَكى الزَّجّاجُ وغَيْرُهُ شَطَّ الرَّجُلُ وأشَطَّ إذا جاوَزَ الحَدَّ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿ولا تُشْطِطْ﴾ (ص: ٢٢) وأصْلُ هَذا مِن قَوْلِهِمْ: شَطَّتِ الدّارُ إذا بَعُدَتْ، فالشَّطَطُ البُعْدُ عَنِ الحَقِّ، وهو هَهُنا مَنصُوبٌ عَلى المَصْدَرِ، والمَعْنى لَقَدْ قُلْنا إذًا قَوْلًا شَطَطًا، أمّا قَوْلُهُ: ﴿هَؤُلاءِ قَوْمُنا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً﴾ هَذا مِن قَوْلِ أصْحابِ الكَهْفِ، ويَعْنُونَ الَّذِينَ كانُوا في زَمانِ دِقْيانُوسَ عَبَدُوا الأصْنامَ (لَوْلا يَأْتُونَ -هَلّا يَأْتُونَ- عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) بِحُجَّةٍ بَيِّنَةٍ، (p-٨٤)ومَعْنى عَلَيْهِمْ أيْ عَلى عِبادَةِ الآلِهَةِ، ومَعْنى الكَلامِ: أنَّ عَدَمَ البَيِّنَةِ بِعَدَمِ الدَّلائِلِ عَلى ذَلِكَ لا يَدُلُّ عَلى عَدَمِ المَدْلُولِ، ومِنَ النّاسِ مَن يَحْتَجُّ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلى عَدَمِ المَدْلُولِ ويَسْتَدِلُّ عَلى صِحَّةِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ بِهَذِهِ الآيَةِ، فَقالَ: إنَّهُ تَعالى اسْتَدَلَّ عَلى عَدَمِ الشُّرَكاءِ والأضْدادِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَيْها فَثَبَتَ أنَّ الِاسْتِدْلالَ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلى عَدَمِ المَدْلُولِ طَرِيقَةٌ قَوِيَّةٌ، ثُمَّ قالَ: ﴿فَمَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ يَعْنِي أنَّ الحُكْمَ بِثُبُوتِ الشَّيْءِ مَعَ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ ظُلْمٌ وافْتِراءٌ عَلى اللَّهِ وكَذِبٌ عَلَيْهِ، وهَذا مِن أعْظَمِ الدَّلائِلِ عَلى فَسادِ القَوْلِ بِالتَّقْلِيدِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب