الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأهم بِالحَقِّ إنَّهم فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وزِدْناهم هُدًى﴾ ﴿وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَماواتِ والأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِن دُونِهِ إلَهًا لَقَدْ قُلْنا إذًا شَطَطًا﴾ ﴿هَؤُلاءِ قَوْمُنا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللهِ كَذِبًا﴾ ﴿وَإذِ اعْتَزَلْتُمُوهم وما يَعْبُدُونَ إلا اللهَ فَأْوُوا إلى الكَهْفِ يَنْشُرْ لَكم رَبُّكم مِن رَحْمَتِهِ ويُهَيِّئْ لَكم مِن أمْرِكم مِرْفَقًا﴾ لَمّا اقْتَضى قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِنَعْلَمَ أيُّ الحِزْبَيْنِ أحْصى لِما لَبِثُوا أمَدًا﴾ [الكهف: ١٢] اخْتِلافًا وقَعَ في أمْرِ الفِتْيَةِ عَقَّبَ بِالخَبَرِ عن أنَّهُ عَزَّ وجَلَّ يَعْلَمُ مَن أمْرِهِمْ بِالحَقِّ الَّذِي وقَعَ. وفي مَجْمُوعِ هَذِهِ الآياتِ جَوابُ قُرَيْشٍ عن سُؤالِهِمُ الَّذِي أمَرَتْهم بِهِ بَنُو إسْرائِيلَ و"القَصُّ": الإخْبارُ بِأمْرٍ (p-٥٧٥)يُسْرَدُ، لا بِكَلامٍ يُرْوى شَيْئًا شَيْئًا، لِأنَّ تِلْكَ المُخاطَبَةَ لَيْسَتْ بِقِصَصٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَزِدْناهم هُدًى﴾ أيْ: يَسَّرْناهم لِلْعَمَلِ الصالِحِ، والِانْقِطاعِ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ومُباعَدَةِ الناسِ، والزُهْدِ في الدُنْيا، وهَذِهِ زِياداتٌ عَلى الإيمانِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ عِبارَةٌ عن شِدَّةِ عَزْمٍ وقُوَّةِ صَبْرٍ أعْطاها اللهُ لَهُمْ، ولَمّا كانَ الفَزَعُ وخَوْرُ النَفْسِ يُشْبِهُ بِالتَناسُبِ الِانْحِلالَ، حَسُنَ في شِدَّةِ النَفْسِ وقُوَّةِ التَصْمِيمِ أنْ يُشْبِهَ الرَبْطَ، ومِنهُ يُقالُ: "فُلانٌ رابِطُ الجَأْشِ" إذا كانَ لا تَفْتَرِقُ نَفْسُهُ عِنْدَ الجَزَعِ والحَرْبِ وغَيْرِها، ومِنهُ الرَبْطُ عَلى قَلْبِ أُمِّ مُوسى. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذْ قامُوا فَقالُوا﴾ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما أنْ يَكُونَ هَذا وصْفُ مَقامِهِمْ بَيْنَ يَدَيِ المَلِكِ الكافِرِ؛ فَإنَّهُ مَقامٌ يَحْتاجُ إلى الرَبْطِ عَلى القَلْبِ، حَيْثُ طُلِبُوا عَلَيْهِ، وخالَفُوا دِينَهُ، ورَفَضُوا في ذاتِ اللهِ هَيْبَتَهُ. والمَعْنى الثانِي أنْ يُعَبِّرَ بِالقِيامِ عَنِ انْبِعاثِهِمْ بِالعَزْمِ إلى الهُرُوبِ إلى اللهِ تَعالى ومُنابَذَةِ الناسِ، كَما تَقُولُ: "قامَ فَلانٌ إلى أمْرِ كَذا" إذا عَزَمَ عَلَيْهِ بِغايَةِ الجِدِّ، وبِهَذِهِ الألْفاظِ الَّتِي هِيَ: ﴿قامُوا فَقالُوا﴾ تَعَلَّقَتِ الصُوفِيَّةُ في القِيامِ والقَوْلِ، وقَرَأ الأعْمَشُ: "إذْ قامُوا قِيامًا فَقالُوا". وقَوْلُهُمْ: ﴿لَقَدْ قُلْنا إذًا شَطَطًا﴾، أيْ: لَوْ دَعَوْنا مِن دُونِ رَبِّنا إلَهًا، و"الشَطَطُ": الجَوْرُ وتَعِدِي الحَدِّ والغُلُوُّ بِحَسْبِ أمْرٍ أمْرٍ، ومِنهُ: "اشْتَطَّ الرَجُلُ في السَوْمِ" إذا طَلَبَ في سِلْعَتِهِ فَوْقَ قِيمَتِها، ومِنهُ: شُطُوطُ النَوى والبُعْدُ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ ألّا يا لِقَوْمِي قَدِ اشْتَطَّ عَوازِلِي ∗∗∗ ويَزْعُمْنَ أنْ أودى بِحَقِّيَ باطِلِي (p-٥٧٦)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿هَؤُلاءِ قَوْمُنا﴾ مَقالَةٌ يُصْلِحُ أنْ تَكُونَ مِمّا قالُوا في مَقامِهِمْ بَيْنَ يَدَيِ المَلِكِ، ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ مِن قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ عِنْدِ قِيامِهِمْ لِلْأمْرِ الَّذِي عَزَمُوا عَلَيْهِ. وقَوْلُهُمْ: ﴿لَوْلا يَأْتُونَ﴾ تَحْضِيضٌ بِمَعْنى التَعْجِيزِ؛ لِأنَّهُ تَحْضِيضٌ عَلى ما لا يُمْكِنُ؛ وإذا لَمْ يُمْكِنْهم ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ أنْ يُلْتَفَتْ إلى دَعْواهم. و"السُلْطانُ": الحُجَّةُ، وقالَ قَتادَةُ: المَعْنى: بِعُذْرٍ بَيِّنٍ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذِهِ عِبارَةٌ مُحَلِّقَةٌ. ثُمَّ عَظَّمُوا جُرْمَ الداعِينَ مَعَ اللهِ آلِهَةً وظُلْمَهم بِقَوْلِهِ -عَلى جِهَةِ التَقْرِيرِ-: ﴿فَمَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللهِ كَذِبًا﴾. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ﴾ الآيَةَ. إنْ كانَ "القِيامُ" في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿إذْ قامُوا﴾ عَزْمًا -كَما تَضْمَنُ التَأْوِيلَ الواحِدَ، وكانَ "القَوْلُ" مِنهم فِيما بَيْنَهم -فَهَذِهِ المَقالَةُ يَصِحُّ أنْ تَكُونَ مِن قَوْلِهِمُ الَّذِي قالُوهُ عِنْدَ قِيامِهِمْ؛ وإنْ كانَ "القِيامُ" المَذْكُورُ مَقامَهم بَيْنَ يَدَيِ المَلِكِ فَهَذِهِ المَقالَةُ لا يَتَرَتَّبُ أنْ تَكُونَ مِن "مَقالِهِمْ" بَيْنَ يَدَيِ المَلِكِ، بَلْ يَكُونُ في الكَلامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: وقالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ. وبِهَذا يَتَرَجَّحُ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إذْ قامُوا فَقالُوا﴾ إنَّما المُرادُ بِهِ: إذْ عَزَمُوا ونَفَّذُوا لِأمْرِهِمْ. وقَوْلُهُ تَعالى: "إلّا اللهَ"، إنْ فَرْضَنا الكَفّارَ الَّذِينَ فَرَّ أهْلُ الكَهْفِ مِنهم لا يَعْرِفُونَ اللهَ تَعالى، ولا عِلْمَ لَهم بِهِ، إنَّما يَعْتَقِدُونَ الأُلُوهِيَّةَ في أصْنامِهِمْ فَقَطْ، فَهو اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ لَيْسَ مِنَ الأوَّلِ، وإنْ فَرَضْناهم يَعْرِفُونَ اللهَ تَعالى ويُعَظِّمُونَهُ كَما كانَتْ تَفْعَلُ العَرَبُ، لَكِنَّهم يُشْرِكُونَ أصْنامَهم مَعَهُ في العِبادَةِ، فالِاسْتِثْناءُ مُتَّصِلٌ؛ لِأنَّ الِاعْتِزالَ وقَعَ في كُلِّ ما يَعْبُدُ الكُفّارُ إلّا في جِهَةِ اللهِ تَعالى وفي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "وَما يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ"، قالَ قَتادَةُ: هَذا تَفْسِيرُها، قالَ هارُونُ: وفي بَعْضِ مَصاحِفِهِ: "وَما يَعْبُدُونَ مِن دُونِنا". (p-٥٧٧)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَعَلى ما قالَ قَتادَةُ تَكُونُ "إلّا" بِمَنزِلَةِ "غَيْرِ"، و"ما" مِن قَوْلِهِ: ﴿وَما يَعْبُدُونَ﴾ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفًا عَلى الضَمِيرِ في "اعْتَزَلْتُمُوهُمْ" ومُضَمَّنُ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ بَعْضَهم قالَ لِبَعْضٍ: إذْ فارَقْنا الكَفّارَ وانْفَرَدْنا بِاللهِ تَعالى فَلْنَجْعَلِ الكَهْفَ مَأْوًى، ونَتَّكِلْ عَلى اللهِ تَعالى، فَإنَّهُ يَبْسُطُ لَنا رَحْمَتَهُ، ويَنْشُرُها عَلَيْنا، ويُهَيِّئُ لَنا مِن أمْرِنا مِرْفَقًا، وهَذا كُلُّهُ دُعاءٌ بِحَسْبِ الدُنْيا، وعَلى ثِقَةٍ كانُوا مِنَ اللهِ تَعالى في أمْرِ آخِرَتِهِمْ. وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ: "مَرْفِقًا" بِفَتْحِ المِيمِ وكَسْرِ الفاءِ، وهو مَصْدَرٌ كالرِفْقِ فِيما حَكى أبُو زَيْدٍ، وهي قِراءَةُ أبِي جَعْفَرٍ، والأعْرَجِ، وشَيْبَةَ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وعاصِمٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، والحَسَنُ، وطَلْحَةُ، والأعْمَشُ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ: "مِرْفَقًا" بِكَسْرِ المِيمِ وفَتْحِ الفاءِ، ويُقالانِ جَمِيعًا في الأمْرِ وفي الجارِحَةِ، حَكاهُ الزَجّاجُ، وذَكَرَ مَكِّيٌّ عَنِ الفَرّاءِ أنَّهُ قالَ: لا أعْرِفُ في الأمْرِ وفي اليَدِ وفي كُلِّ شَيْءٍ إلّا كَسْرَ المِيمِ، وأنْكَرَ الكِسائِيُّ أنْ يَكُونَ "المُرْفَقُ" مِنَ الجارِحَةِ إلّا بِفَتْحِ المِيمِ وكَسْرِ الفاءِ، وخالَفَهُ أبُو حاتِمٍ وقالَ: "المَرْفَقُ" بِفَتْحِ المِيمِ المَوْضِعُ كالمَسْجِدِ، وهُما بَعْدُ لُغَتانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب