الباحث القرآني

(p-٢٨)﴿وقَضَيْنا إلى بَنِي إسْرائِيلَ في الكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ في الأرْضِ مَرَّتَيْنِ ولَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإذا جاءَ وعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكم عِبادًا لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وكانَ وعْدًا مَفْعُولًا﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿وآتَيْنا مُوسى الكِتابَ﴾ [الإسراء: ٢]، أيْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ هُدًى، وبَيَّنّا لِبَنِي إسْرائِيلَ في الكِتابِ ما يَحِلُّ بِهِمْ مِن جَرّاءِ مُخالَفَةِ هَدْيِ التَّوْراةِ؛ إعْلامًا لِهَذِهِ الأُمَّةِ بِأنَّ اللَّهَ لَمْ يَدَّخِرْ أُولَئِكَ إرْشادًا ونُصْحًا، فالمُناسَبَةُ ظاهِرَةٌ. والقَضاءُ بِمَعْنى الحُكْمِ وهو التَّقْدِيرُ، ومَعْنى كَوْنِهِ في الكِتابِ: أنَّ القَضاءَ ذُكِرَ في الكِتابِ، وتَعْدِيَةُ قَضَيْنا بِحَرْفِ (إلى) لِتَضْمِينِ قَضَيْنا مَعْنى (أبْلَغْنا)، أيْ قَضَيْنا وأنْهَيْنا، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وقَضَيْنا إلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ﴾ [الحجر: ٦٦] في سُورَةِ الحِجْرِ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِـ (الكِتابِ) كِتابَ التَّوْراةِ، والتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ؛ لِأنَّهُ ذَكَرَ الكِتابَ آنِفًا، ويُوجَدُ في مَواضِعَ، مِنها ما هو قَرِيبٌ مِمّا في هَذِهِ الآيَةِ لَكِنْ بِإجْمالٍ (انْظُرِ الإصْحاحَ ٢٦ والإصْحاحَ ٢٨ والإصْحاحَ ٣٠)، فَيَكُونُ العُدُولُ عَنِ الإضْمارِ إلى إظْهارِ لَفْظِ (الكِتابِ) لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمامِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (الكِتابُ) بَعْضَ كُتُبِهِمُ الدِّينِيَّةِ، فَتَعْرِيفُ (الكِتابِ) تَعْرِيفُ الجِنْسِ، ولَيْسَ تَعْرِيفَ العَهْدِ الذِّكْرِيِّ، إذْ لَيْسَ هو الكِتابُ المَذْكُورُ آنِفًا في قَوْلِهِ ﴿وآتَيْنا مُوسى الكِتابَ﴾ [الإسراء: ٢]؛ لِأنَّهُ لَمّا أظْهَرَ اسْمَ الكِتابِ أشْعَرَ بِأنَّهُ كِتابٌ آخَرُ مِن كُتُبِهِمْ، وهو الأسْفارُ المُسَمّاةُ بِكُتُبِ الأنْبِياءِ: أشْعِياءَ، وأرْمِيا، وحِزْقِيالَ، ودانْيالَ، وهي في الدَّرَجَةِ الثّانِيَةِ مِنَ التَّوْراةِ، وكَذَلِكَ كِتابُ النَّبِيِّ مَلاخِي، والإفْسادُ مَرَّتَيْنِ ذُكِرَ في كِتابِ أشْعِياءَ، وكِتابِ أرْمِياءَ. (p-٢٩)فَفِي كِتابِ أشْعِياءَ نِذاراتٌ في الإصْحاحِ الخامِسِ والعاشِرِ، وأُولى المَرَّتَيْنِ مَذْكُورَةٌ في كِتابِ أرْمِياءَ في الإصْحاحِ الثّانِي والإصْحاحِ الحادِي والعِشْرِينَ وغَيْرِهِما، ولَيْسَ المُرادُ بِلَفْظِ الكِتابِ كِتابًا واحِدًا فَإنَّ المُفْرَدَ المُعَرَّفَ بِلامِ الجِنْسِ يُرادُ بِهِ المُتَعَدِّدُ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: الكِتابُ أكْثَرُ مِنَ الكُتُبِ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالكِتابِ التَّوْراةُ وكُتُبُ الأنْبِياءِ، ولِذَلِكَ أيْضًا وقَعَ بِالإظْهارِ دُونَ الإضْمارِ. وجُمْلَةُ ﴿لَتُفْسِدُنَّ في الأرْضِ مَرَّتَيْنِ ولَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ ﴿وقَضَيْنا إلى بَنِي إسْرائِيلَ في الكِتابِ﴾، وأيًّا ما كانَ فَضَمائِرُ الخِطابِ في هَذِهِ الجُمْلَةِ مانِعَةٌ مِن أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالكِتابِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وقَضَيْنا إلى بَنِي إسْرائِيلَ في الكِتابِ﴾ اللَّوْحَ المَحْفُوظَ أوْ كِتابَ اللَّهِ، أيْ عِلْمَهُ. وهَذِهِ الآيَةُ تُشِيرُ إلى حَوادِثَ عَظِيمَةٍ بَيْنَ بَنِي إسْرائِيلَ وأعْدائِهِمْ مِن أُمَّتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ: حَوادِثُ بَيْنَهم وبَيْنَ البابِلِيِّينَ، وحَوادِثُ بَيْنَهم وبَيْنَ الرُّومانِيِّينَ، فانْقَسَمَتْ بِهَذا الِاعْتِبارِ إلى نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ مِنهُما تَنْدَرِجُ فِيهِ حَوادِثُهم مَعَ البابِلِيِّينَ، والنَّوْعُ الآخَرُ حَوادِثُهم مَعَ الرُّومانِيِّينَ، فَعَبَّرَ عَنِ النَّوْعَيْنِ بِمَرَّتَيْنِ؛ لِأنَّ كُلَّ مَرَّةٍ مِنهُما تَحْتَوِي عَلى عِدَّةِ مَلاحِمَ. فالمَرَّةُ الأُولى: هي مَجْمُوعُ حَوادِثَ مُتَسَلْسِلَةٍ تُسَمّى في التّارِيخِ بِالأسْرِ البابِلِيِّ، وهي غَزَواتُ (بُخْتُنَصَّرَ) مَلِكِ بابِلَ وآشُورَ بِلادَ أُورْشَلِيمَ، والغَزْوُ الأوَّلُ كانَ سَنَةَ ٦٠٦ قَبْلَ المَسِيحِ، أسَرَ جَماعاتٍ كَثِيرَةً مِنَ اليَهُودِ، ويُسَمّى الأسْرَ الأوَّلَ، ثُمَّ غَزاهم أيْضًا غَزْوًا يُسَمّى الأسْرَ الثّانِيَ، وهو أعْظَمُ مِنَ الأوَّلِ، كانَ سَنَةَ ٥٩٨ قَبْلَ المَسِيحِ، وأسَرَ مَلِكَ يَهُوذا، وجَمْعًا غَفِيرًا مِنَ الإسْرائِيلِيِّينَ، وأخَذَ الذَّهَبَ الَّذِي في هَيْكَلِ سُلَيْمانَ، وما فِيهِ مِنَ الآنِيَةِ النَّفِيسَةِ. والأسْرُ الثّالِثُ المُبِيرُ سَنَةَ ٥٨٨ قَبْلَ المَسِيحِ غَزاهم بُخْتُنَصَّرَ وسَبى كُلَّ شَعْبِ يَهُوذا، وأحْرَقَ هَيْكَلَ سُلَيْمانَ، وبَقِيَتْ أُورْشَلِيمُ خَرابًا يَبابًا، ثُمَّ أعادُوا تَعْمِيرَها كَما سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ﴾ [الإسراء: ٦] . (p-٣٠)وأمّا المَرَّةُ الثّانِيَةُ فَهي سِلْسِلَةُ غَزَواتِ الرُّومانِيِّينَ بِلادَ أُورْشَلِيمَ، وسَيَأْتِي بَيانُها عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَإذا جاءَ وعْدُ الآخِرَةِ﴾ [الإسراء: ٧] الآيَةَ. وإسْنادُ الإفْسادِ إلى ضَمِيرِ بَنِي إسْرائِيلَ مُفِيدٌ أنَّهُ إفْسادٌ مِن جُمْهُورِهِمْ، بِحَيْثُ تُعَدُّ الأُمَّةُ كُلُّها مُفْسِدَةً، وإنْ كانَتْ لا تَخْلُو مِن صالِحِينَ. والعُلُوُّ في قَوْلِهِ ﴿ولَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ مَجازٌ في الطُّغْيانِ والعِصْيانِ كَقَوْلِهِ ﴿إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا في الأرْضِ﴾ [القصص: ٤] وقَوْلِهِ ﴿إنَّهُ كانَ عالِيًا مِنَ المُسْرِفِينَ﴾ [الدخان: ٣١] وقَوْلِهِ ﴿ألّا تَعْلُوا عَلَيَّ وأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [النمل: ٣١] تَشْبِيهًا لِلتَّكَبُّرِ والطُّغْيانِ بِالعُلُوِّ عَلى الشَّيْءِ؛ لِامْتِلاكِهِ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ. وأصْلُ (لَتَعْلُنَّ) لَتَعْلُوُونَنَّ، وأصْلُ (لَتُفْسِدُنَّ) لَتُفْسِدُونَنَّ. والوَعْدُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنى المَفْعُولِ، أيْ مَوْعُودُ أُولى المَرَّتَيْنِ، أيِ الزَّمانُ المُقَدَّرُ لِحُصُولِ المَرَّةِ الأُولى مِنَ الإفْسادِ والعُلُوِّ، كَقَوْلِهِ ﴿فَإذا جاءَ وعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكًّا﴾ [الكهف: ٩٨] . ومِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿وكانَ وعْدًا مَفْعُولًا﴾ أيْ مَعْمُولًا ومُنَفَّذًا. وإضافَةُ وعْدٍ إلى أُولاهُما بَيانِيَّةٌ، أيِ المَوْعُودُ الَّذِي هو أُولى المَرَّتَيْنِ مِنَ الإفْسادِ والعُلُوِّ. والبَعْثُ مُسْتَعْمَلٌ في تَكْوِينِ السَّيْرِ إلى أرْضِ إسْرائِيلَ وتَهْيِئَةِ أسْبابِهِ حَتّى كَأنَّ ذَلِكَ أمْرٌ بِالمَسِيرِ إلَيْهِمْ كَما مَرَّ في قَوْلِهِ ﴿لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ مَن يَسُومُهم سُوءَ العَذابِ﴾ [الأعراف: ١٦٧] في سُورَةِ الأعْرافِ، وهو بَعْثُ تَكْوِينٍ، وتَسْخِيرٍ، لا بَعْثٌ بِوَحْيٍ وأمْرٍ. وتَعْدِيَةُ بَعَثْنا بِحَرْفِ الِاسْتِعْلاءِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنى التَّسْلِيطِ كَقَوْلِهِ ﴿لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القِيامَةِ مَن يَسُومُهم سُوءَ العَذابِ﴾ [الأعراف: ١٦٧] . والعِبادُ: المَمْلُوكُونَ، وهَؤُلاءِ عِبادُ مَخْلُوقِيَّةٍ، وأكْثَرُ ما يُقالُ: عِبادُ اللَّهِ، ويُقالُ: عَبِيدٌ، بِدُونِ إضافَةٍ، نَحْوُ ﴿وما رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦]، فَإذا قُصِدَ (p-٣١)المَمْلُوكُونَ بِالرِّقِّ قِيلَ: عَبِيدٌ، لا غَيْرُ. والمَقْصُودُ بِعِبادِ اللَّهِ هُنا الأشُورِيُّونَ أهْلُ بابِلَ، وهم جُنُودُ بُخْتُنَصَّرَ. والبَأْسُ: الشَّوْكَةُ والشِّدَّةُ في الحَرْبِ، ووَصَفَهُ بِاليَدِ؛ لِقُوَّتِهِ في نَوْعِهِ كَما في آيَةِ سُورَةِ سُلَيْمانَ ﴿قالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ [النمل: ٣٣] . وجُمْلَةُ فَجاسُوا عَطْفٌ عَلى بَعَثْنا فَهو مِنَ المُقْضى في الكِتابِ، والجَوْسُ: التَّخَلُّلُ في البِلادِ وطَرْقُها ذِهابًا وإيابًا؛ لِتَتَبُّعِ ما فِيها، وأُرِيدَ بِهِ هُنا تَتَبُّعُ المُقاتَلَةِ فَهو جَوْسُ مَضَرَّةٍ وإساءَةٍ بِقَرِينَةِ السِّياقِ. و(خِلالَ) اسْمٌ جاءَ عَلى وزْنِ الجُمُوعِ، ولا مُفْرَدَ لَهُ، وهو وسَطُ الشَّيْءِ الَّذِي يُتَخَلَّلُ مِنهُ، قالَ تَعالى ﴿فَتَرى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِن خِلالِهِ﴾ [النور: ٤٣] . والتَّعْرِيفُ في الدِّيارِ تَعْرِيفُ العَهْدِ، أيْ دِيارِكم، وذَلِكَ أصْلُ جَعْلِ (اَلْ) عِوَضًا عَنِ المُضافِ إلَيْهِ، وهي دِيارُ بَلَدِ أُورْشَلِيمَ فَقَدْ دَخَلَها جَيْشُ بُخْتُنَصَّرَ، وقَتَلَ الرِّجالَ، وسَبى وهَدَمَ الدِّيارَ، وأحْرَقَ المَدِينَةَ، وهَيْكَلَ سُلَيْمانَ بِالنّارِ، ولَفْظُ الدِّيارِ يَشْمَلُ هَيْكَلَ سُلَيْمانَ؛ لِأنَّهُ بَيْتُ عِبادَتِهِمْ، وأُسِرَ كُلُّ بَنِي إسْرائِيلَ، وبِذَلِكَ خَلَتْ بِلادُ اليَهُودِ مِنهم، ويَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ في الآيَةِ الآتِيَةِ ﴿ولِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الإسراء: ٧] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب