الباحث القرآني

وهي مَكِّيَّةٌ بِلا خِلافٍ، وهي أوَّلُ ما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: أوَّلُ ما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ الضُّرَيْسِ وابْنُ الأنْبارِيِّ والطَّبَرانِيُّ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وأبُو نُعَيْمٍ في الحِلْيَةِ عَنْ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ قالَ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ أوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ عَلى مُحَمَّدٍ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ وصَحَّحَهُ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: إنَّ أوَّلَ ما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ ويَدُلُّ عَلى أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أوَّلُ ما نَزَلَ الحَدِيثُ الطَّوِيلُ الثّابِتُ في البُخارِيِّ، ومُسْلِمٍ وغَيْرِهِما مِن حَدِيثِ عائِشَةَ، وفِيهِ فَجاءَهُ الحَقُّ وهو في غارِ حِراءَ، فَقالَ لَهُ اقْرَأْ. . . الحَدِيثَ، وفي البابِ أحادِيثُ وآثارٌ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ. وقَدْ ذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أوَّلُ ما نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَرَأ الجُمْهُورُ اقْرَأْ بِسُكُونِ الهَمْزَةِ أمْرًا مِنَ القِراءَةِ. وقَرَأ عاصِمٌ في رِوايَةٍ عَنْهُ بِفَتْحِ الرّاءِ، وكَأنَّهُ قَلَبَ الهَمْزَةَ ألِفًا ثُمَّ حَذَفَها لِلْأمْرِ، والأمْرُ بِالقِراءَةِ يَقْتَضِي مَقْرُوءًا، فالتَّقْدِيرُ: اقْرَأْ ما يُوحى إلَيْكَ، أوْ ما نَزَلَ عَلَيْكَ، أوْ ما أُمِرْتَ بِقِراءَتِهِ، وقَوْلُهُ: بِاسْمِ رَبِّكَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ هو حالٌ: أيِ اقْرَأْ مُلْتَبِسًا باسِمِ رَبِّكَ أوْ مُبْتَدِئًا باسِمِ رَبِّكَ أوْ مُفْتَتِحًا، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الباءُ زائِدَةً، والتَّقْدِيرُ: اقْرَأِ اسْمَ رَبِّكَ كَقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ: وقالَ أيْضًا: الِاسْمُ صِلَةٌ أيْ: اذْكُرْ رَبَّكَ. وقِيلَ الباءُ بِمَعْنى عَلى: أيِ اقْرَأْ عَلى اسْمِ رَبِّكَ، يُقالُ افْعَلْ (p-١٦٣٩)كَذا بِسْمِ اللَّهِ، وعَلى اسْمِ اللَّهِ. قالَهُ الأخْفَشُ. وقِيلَ الباءُ لِلِاسْتِعانَةِ: أيْ مُسْتَعِينًا باسِمِ رَبِّكَ، ووَصَفَ الرَّبَّ بِقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ لِتَذْكِيرِ النِّعْمَةِ لِأنَّ الخَلْقَ هو أعْظَمُ النِّعَمِ، وعَلَيْهِ يَتَرَتَّبُ سائِرُ النِّعَمِ. قالَ الكَلْبِيُّ: يَعْنِي الخَلائِقَ. ﴿خَلَقَ الإنْسانَ مِن عَلَقٍ﴾ يَعْنِي بَنِي آدَمَ، والعَلَقَةُ الدَّمُ الجامِدُ، وإذا جَرى فَهو المَسْفُوحُ. وقالَ: مِن عَلَقٍ بِجَمْعِ " عَلَقٍ " لِأنَّ المُرادَ بِالإنْسانِ الجِنْسُ، والمَعْنى: خَلَقَ جِنْسَ الإنْسانِ مِن جِنْسِ العَلَقِ، وإذا كانَ المُرادُ بِقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ كُلَّ المَخْلُوقاتِ، فَيَكُونُ تَخْصِيصُ الإنْسانِ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُ لِما فِيهِ مِن بَدِيعِ الخَلْقِ وعَجِيبِ الصُّنْعِ، وإذا كانَ المُرادُ بِـ " الَّذِي خَلَقَ " الَّذِي خَلَقَ الإنْسانَ فَيَكُونُ الثّانِي تَفْسِيرًا لِلْأوَّلِ. والنُّكْتَةُ ما في الإبْهامِ، ثُمَّ التَّفْسِيرُ مِنِ التِفاتِ الذِّهْنِ وتَطَلُّعِهِ إلى مَعْرِفَةِ ما أُبْهِمَ أوَّلًا ثُمَّ فُسِّرَ ثانِيًا. ﴿اقْرَأْ ورَبُّكَ الأكْرَمُ﴾ أيِ افْعَلْ ما أُمِرْتَ بِهِ مِنَ القِراءَةِ، وجُمْلَةُ " ورَبُّكَ الأكْرَمُ " مُسْتَأْنَفَةٌ لِإزاحَةِ ما اعْتَذَرَ بِهِ ﷺ مِن قَوْلِهِ: ما أنا بِقارِئٍ يُرِيدُ أنَّ القِراءَةَ شَأْنُ مَن يَكْتُبُ ويَقْرَأُ وهو أُمِّيٌّ، فَقِيلَ لَهُ اقْرَأْ ورَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي أمَرَكَ بِالقِراءَةِ هو الأكْرَمُ. قالَ الكَلْبِيُّ: يَعْنِي الحَلِيمَ عَنْ جَهْلِ العِبادِ فَلَمْ يُعَجِّلْ بِعُقُوبَتِهِمْ، وقِيلَ إنَّهُ أمَرَهُ بِالقِراءَةِ أوَّلًا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ أمَرَهُ بِالقِراءَةِ ثانِيًا لِلتَّبْلِيغِ، فَلا يَكُونُ مِن بابِ التَّأْكِيدِ، والأوَّلُ أوْلى. ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ﴾ أيْ عَلَّمَ الإنْسانَ الخَطَّ بِالقَلَمِ، فَكانَ بِواسِطَةِ ذَلِكَ يَقْدِرُ عَلى أنْ يَعْلَمَ كُلَّ مَكْتُوبٍ. قالَ الزَّجّاجُ: عَلَّمَ الإنْسانَ الكِتابَةَ بِالقَلَمِ. قالَ قَتادَةُ: القَلَمُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ عَظِيمَةٌ، لَوْلا ذَلِكَ لَمْ يَقُمْ دِينٌ ولَمْ يَصْلُحْ عَيْشٌ، فَدَلَّ عَلى كَمالِ كَرَمِهِ بِأنَّهُ عَلَّمَ عِبادَهُ ما لَمْ يَعْلَمُوا ونَقَلَهم مِن ظُلْمَةِ الجَهْلِ إلى نُورِ العِلْمِ، ونَبَّهَ عَلى فَضْلِ عِلْمِ الكِتابَةِ لِما فِيهِ مِنَ المَنافِعِ العَظِيمَةِ الَّتِي لا يُحِيطُ بِها إلّا هو، وما دُوِّنَتِ العُلُومُ ولا قُيِّدَتِ الحِكَمُ ولا ضُبِطَتْ أخْبارُ الأوَّلِينَ ومَقالاتُهم ولا كُتُبُ اللَّهِ المُنَزَّلَةُ إلّا بِالكِتابَةِ، ولَوْلا هي ما اسْتَقامَتْ أُمُورُ الدِّينِ ولا أُمُورُ الدُّنْيا، وسُمِّيَ قَلَمًا لِأنَّهُ يُقَلَّمُ: أيْ يُقْطَعُ. ﴿عَلَّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ﴾ هَذِهِ الجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمالٍ مِنَ الَّتِي قَبْلَها: أيْ عَلَّمَهُ بِالقَلَمِ مِنَ الأُمُورِ الكُلِّيَّةِ والجُزْئِيَّةِ ما لَمْ يَعْلَمْ بِهِ مِنها، قِيلَ المُرادُ بِالإنْسانِ هَنا آدَمُ كَما في قَوْلِهِ: ﴿وعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها﴾ [البقرة: ٣١] وقِيلَ: الإنْسانُ هُنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ . والأوْلى حَمْلُ الإنْسانِ عَلى العُمُومِ، والمَعْنى: أنَّ مَن عَلَّمَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ مِن هَذا الجِنْسِ بِواسِطَةِ القَلَمِ فَقَدْ عَلَّمَهُ ما لَمْ يَعْلَمْ. وقَوْلُهُ: كَلّا رَدْعٌ وزَجْرٌ لِمَن كَفَرَ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ طُغْيانِهِ، وإنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ، ومَعْنى ﴿إنَّ الإنْسانَ لَيَطْغى﴾ أنَّهُ يُجاوِزُ الحَدَّ ويَسْتَكْبِرُ عَلى رَبِّهِ. وقِيلَ المُرادُ بِالإنْسانِ هُنا أبُو جَهْلٍ، وهو المُرادُ بِهَذا وما بَعْدَهُ إلى آخِرِ السُّورَةِ، وأنَّهُ تَأخَّرَ نُزُولُ هَذا وما بَعْدَهُ عَنِ الخَمْسِ الآياتِ المَذْكُورَةِ في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. وقِيلَ " كَلّا " هُنا بِمَعْنى حَقًّا، قالَهُ الجُرْجانِيُّ، وعَلَّلَ ذَلِكَ بِأنَّهُ لَيْسَ قَبْلَهُ ولا بَعْدَهُ شَيْءٌ يَكُونُ كَلّا رَدًّا لَهُ. وقَوْلُهُ: ﴿أنْ رَآهُ اسْتَغْنى﴾ عِلَّةٌ لِيَطْغى: أيْ لِيَطْغى أنْ رَأى نَفْسَهُ مُسْتَغْنِيًا، أوْ لِأنْ رَأى نَفْسَهُ مُسْتَغْنِيًا، والرُّؤْيَةُ هُنا بِمَعْنى العِلْمِ، ولَوْ كانَتِ البَصَرِيَّةَ لامْتَنَعَ الجَمْعُ بَيْنَ الضَّمِيرَيْنِ في فِعْلِها لِشَيْءٍ واحِدٍ لِأنَّ ذَلِكَ مِن خَواصِّ بابِ عَلِمَ، ونَحْوِهِ. قالَ الفَرّاءُ: لَمْ يَقُلْ رَأى نَفْسَهُ كَما قِيلَ قَتَلَ نَفْسَهُ لِأنَّ رَأى مِنَ الأفْعالِ الَّتِي تُرِيدُ اسْمًا وخَبَرًا نَحْوَ الظَّنِّ والحُسْبانِ فَلا يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلى مَفْعُولٍ واحِدٍ، والعَرَبُ تَطْرَحُ النَّفْسَ مِن هَذا الجِنْسِ تَقُولُ: رَأيْتُنِي وحَسِبْتُنِي، ومَتى تَراكَ خارِجًا، ومَتى تَظُنُّكَ خارِجًا، قِيلَ والمُرادُ هُنا أنَّهُ اسْتَغْنى بِالعَشِيرَةِ والأنْصارِ والأمْوالِ. قَرَأ الجُمْهُورُ أنْ رَآهُ بِمَدِّ الهَمْزَةِ. وقَرَأ قُنْبُلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِقَصْرِها. قالَ مُقاتِلٌ: كانَ أبُو جَهْلٍ إذا أصابَ مالًا زادَ في ثِيابِهِ ومَرْكَبِهِ وطَعامِهِ وشَرابِهِ فَذَلِكَ طُغْيانُهُ، وكَذا قالَ الكَلْبِيُّ: ثُمَّ هَدَّدَ سُبْحانَهُ وخَوَّفَ. فَقالَ: ﴿إنَّ إلى رَبِّكَ الرُّجْعى﴾ أيِ المَرْجِعَ، والرُّجْعى والمَرْجِعُ والرُّجُوعُ مَصادِرُ، يُقالُ: رَجَعَ إلَيْهِ مَرْجِعًا ورُجُوعًا ورُجْعى، وتَقَدَّمَ الجارُّ والمَجْرُورُ لِلْقَصْرِ: أيِ الرُّجْعى إلَيْهِ سُبْحانَهُ لا إلى غَيْرِهِ. ﴿أرَأيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْدًا إذا صَلّى﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: الَّذِي يَنْهى أبُو جَهْلٍ، والمُرادُ بِالعَبْدِ مُحَمَّدٌ ﷺ، وفِيهِ تَقْبِيحٌ لِصُنْعِهِ وتَشْنِيعٌ لِفِعْلِهِ حَتّى كَأنَّهُ بِحَيْثُ يَراهُ كُلُّ مَن تَتَأتّى مِنهُ الرُّؤْيَةُ. ﴿أرَأيْتَ إنْ كانَ عَلى الهُدى﴾ يَعْنِي العَبْدَ المَنهِيَّ إذا صَلّى، وهو مُحَمَّدٌ ﷺ . ﴿أوْ أمَرَ بِالتَّقْوى﴾ أيْ بِالإخْلاصِ والتَّوْحِيدِ والعَمَلِ الصّالِحِ الَّذِي تُتَّقى بِهِ النّارُ. ﴿أرَأيْتَ إنْ كَذَّبَ وتَوَلّى﴾ يَعْنِي أبا جَهْلٍ، كَذَّبَ بِما جاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وتَوَلّى عَنِ الإيمانِ، وقَوْلُهُ: أرَأيْتَ في الثَّلاثَةِ المَواضِعِ بِمَعْنى أخْبِرْنِي لِأنَّ الرُّؤْيَةَ لَمّا كانَتْ سَبَبًا لِلْإخْبارِ عَنِ المَرْئِيِّ أجْرى الِاسْتِفْهامَ عَنْها مَجْرى الِاسْتِفْهامِ عَنْ مُتَعَلِّقِها، والخِطابُ لِكُلِّ مَن يَصْلُحُ لَهُ. وقَدْ ذُكِرَ هُنا أرَأيْتَ ثَلاثَ مَرّاتٍ، وصَرَّحَ بَعْدَ الثّالِثَةِ مِنها بِجُمْلَةٍ اسْتِفْهامِيَّةٍ فَتَكُونُ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي لَها، ومَفْعُولُها الأوَّلُ مَحْذُوفٌ، وهو ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى الَّذِي يَنْهى الواقِعِ مَفْعُولًا أوَّلَ " لِأرَأيْتَ " الأُولى، ومَفْعُولُ " أرَأيْتَ " الأُولى الثّانِي مَحْذُوفٌ، وهو جُمْلَةٌ اسْتِفْهامِيَّةٌ كالجُمْلَةِ الواقِعَةِ بَعْدَ " أرَأيْتَ " الثّانِيَةِ، وأمّا " أرَأيْتَ " الثّانِيَةُ فَلَمْ يُذْكَرْ لَها مَفْعُولٌ لا أوَّلَ ولا ثانِيَ، حُذِفَ الأوَّلُ لِدَلالَةِ مَفْعُولِ " أرَأيْتَ " الثّالِثَةِ عَلَيْهِ فَقَدْ حُذِفَ الثّانِي مِنَ الأوَّلِ، والأوَّلُ مِنَ الثّالِثَةِ، والِاثْنانِ مِنَ الثّانِيَةِ، ولَيْسَ طَلَبُ كُلِّ مَن رَأيْتُ لِلْجُمْلَةِ الِاسْتِفْهامِيَّةِ عَلى سَبِيلِ التَّنازُعِ لِأنَّهُ يَسْتَدْعِي إضْمارًا، والجُمَلُ لا تُضْمَرُ، إنَّما تُضْمَرُ المُفْرَداتُ، وإنَّما ذُكِرَ مِن بابِ الحَذْفِ لِلدَّلالَةِ، وأمّا جَوابُ الشَّرْطِ المَذْكُورِ مَعَ أرَأيْتَ في المَوْضِعَيْنِ الآخَرَيْنِ فَهو مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: إنْ كانَ عَلى الهُدى أوْ أمَرَ بِالتَّقْوى. ﴿ألَمْ يَعْلَمْ بِأنَّ اللَّهَ يَرى﴾ وإنَّما حُذِفَ لِدَلالَةِ ذِكْرِهِ في جَوابِ الشَّرْطِ الثّانِي، ومَعْنى ﴿ألَمْ يَعْلَمْ بِأنَّ اللَّهَ يَرى﴾ أيْ يَطَّلِعُ عَلى أحْوالِهِ، فَيُجازِيهِ بِها، فَكَيْفَ اجْتَرَأ عَلى ما اجْتَرَأ عَلَيْهِ ؟ والِاسْتِفْهامُ لِلتَّقْرِيعِ والتَّوْبِيخِ، وقِيلَ أرَأيْتَ الأُولى مَفْعُولُها الأوَّلُ المَوْصُولُ، ومَفْعُولُها الثّانِي الشَّرْطِيَّةُ الأُولى بِجَوابِها المَحْذُوفِ المَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالمَذْكُورِ، و" أرَأيْتَ " في المَوْضِعَيْنِ تَكْرِيرٌ لِلتَّأْكِيدِ، وقِيلَ كُلُّ واحِدَةٍ مِن أرَأيْتَ بَدَلٌ مِنَ (p-١٦٤٠)الأُولى، و﴿ألَمْ يَعْلَمْ بِأنَّ اللَّهَ يَرى﴾ الخَبَرَ. كَلّا رَدْعٌ لِلنّاهِي، واللّامُ في قَوْلِهِ: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ﴾ هي المُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ: أيْ واللَّهِ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ عَمّا هو عَلَيْهِ ولَمْ يَنْزَجِرْ لَنَسْفَعًا بِالنّاصِيَةِ السَّفْعُ الجَذْبُ الشَّدِيدُ، والمَعْنى: لَنَأْخُذَنَّ بِناصِيَتِهِ ولَنَجُرَّنَّهُ إلى النّارِ وهَذا كَقَوْلِهِ: ﴿فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي والأقْدامِ﴾ [الرحمن: ٤١] ويُقالُ سَفَعْتُ الشَّيْءَ: إذا قَبَضْتَهُ وجَذَبْتَهُ، ويُقالُ سَفَعَ بِناصِيَةِ فَرَسِهِ. قالَ الرّاغِبُ: السَّفْعُ الأخْذُ بِسَفْعَةِ الفَرَسِ، أيْ: بِسَوادِ ناصِيَتِهِ، وبِاعْتِبارِ السَّوادِ قِيلَ: بِهِ سَفْعَةُ غَضَبٍ، اعْتِبارًا بِما يَعْلُو مِنَ اللَّوْنِ الدُّخّانِيِّ وجْهَ مَنِ اشْتَدَّ بِهِ الغَضَبُ، وقِيلَ لِلصَّقْرِ أسْفَعُ لِما فِيهِ مِن لَمَعِ السَّوادِ، وامْرَأةٌ سَفْعاءُ اللَّوْنِ. انْتَهى، وقِيلَ هو مَأْخُوذٌ مِن سَفْعِ النّارِ والشَّمْسِ: إذا غَيَّرَتْ وجْهَهُ إلى سَوادٍ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎أثافِيَّ سُفْعًا في مُعَرَّسِ مِرْجَلٍ وقَوْلُهُ: " ناصِيَةٌ " بَدَلٌ مِنَ النّاصِيَةِ، وإنَّما أبْدَلَ النَّكِرَةَ مِنَ المَعْرِفَةِ لِوَصْفِها بِقَوْلِهِ: كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ وهَذا عَلى مَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ فَإنَّهم لا يُجِيزُونَ إبْدالَ النَّكِرَةِ مِنَ المَعْرِفَةِ إلّا بِشَرْطِ وصْفِها. وأمّا عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ، فَيَجُوزُ إبْدالُ النَّكِرَةِ مِنَ المَعْرِفَةِ بِلا شَرْطٍ، وأنْشَدُوا: فَلا وأبِيكَ خَيْرٌ مِنكَ إنِّي لَيُؤْذِينِي التَّحَمْحُمُ والصَّهِيلُ قَرَأ الجُمْهُورُ بِجَرِّ ﴿ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ﴾ والوَجْهُ ما ذَكَرْنا. وقَرَأ الكِسائِيُّ في رِوايَةٍ عَنْهُ بِرَفْعِها عَلى إضْمارِ مُبْتَدَأٍ أيْ هي ناصِيَةٌ، وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِنَصْبِها عَلى الذَّمِّ. قالَ مُقاتِلٌ: أخْبَرَ عَنْهُ بِأنَّهُ فاجِرٌ خاطِئٌ، فَقالَ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ، تَأْوِيلُها: صاحِبُها كاذِبٌ خاطِئٌ. فَلْيَدْعُ نادِيَهُ أيْ أهْلَ نادِيهِ، والنّادِي: المَجْلِسُ الَّذِي يَجْلِسُ فِيهِ القَوْمُ ويَجْتَمِعُونَ فِيهِ مِنَ الأهْلِ والعَشِيرَةِ، والمَعْنى: لِيَدْعُ عَشِيرَتَهُ وأهْلَهُ لِيُعِينُوهُ ويَنْصُرُوهُ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎واسْتَبَّ بَعْدَكَ يا كُلَيْبُ المَجْلِسُ أيْ أهْلُهُ. قِيلَ إنَّ أبا جَهْلٍ قالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أتُهَدِّدُنِي وأنا أكْثَرُ الوادِي نادِيًا ؟ فَنَزَلَتْ ﴿فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ﴾ أيِ المَلائِكَةَ الغِلاظَ الشِّدادَ، كَذا قالَ الزَّجّاجُ: قالَ الكِسائِيُّ، والأخْفَشُ، وعِيسى بْنُ عُمَرَ: واحِدُهم زابِنٌ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: زِبْنِيَةٌ، وقِيلَ زَبانِيٌّ، وقِيلَ هو اسْمٌ لِلْجَمْعِ لا واحِدَ لَهُ مِن لَفْظِهِ كَعَبادِيدَ وأبابِيلَ. وقالَ قَتادَةُ: هُمُ الشُّرَطُ في كَلامِ العَرَبِ، وأصْلُ الزَّبْنِ الدَّفْعُ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ومُسْتَعْجِبٌ مِمّا يَرى مِن أنّاتِنا ولَوْ زَبَنَتْهُ الحَرْبُ لَمْ يَتَرَمْرَمِ والعَرَبُ تُطْلِقُ هَذا الِاسْمَ عَلى مَنِ اشْتَدَّ بَطْشُهُ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: مَطاعِيمُ في القُصْوى مُطاعِينَ في الوَغى زَبانِيَةٌ غُلَّبٌ عِظامٌ حُلُومُها قَرَأ الجُمْهُورُ سَنَدْعُ بِالنُّونِ، ولَمْ تُرْسَمِ الواوُ كَما في قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يَدْعُ الدّاعِ﴾ [القمر: ٦] وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ " سَيُدْعى " عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ ورَفْعِ الزَّبانِيَةِ عَلى النِّيابَةِ. ثُمَّ كَرَّرَ الرَّدْعَ والزَّجْرَ فَقالَ: ﴿كَلّا لا تُطِعْهُ﴾ أيْ لا تُطِعْهُ فِيما دَعاكَ إلَيْهِ مِن تَرْكِ الصَّلاةِ " واسْجُدْ " أيْ صَلِّ لِلَّهِ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِهِ، ولا مُبالٍ بِنَهْيِهِ " واقْتَرِبْ " أيْ تَقَرَّبْ إلَيْهِ سُبْحانَهُ بِالطّاعَةِ والعِبادَةِ. وقِيلَ المَعْنى: إذا سَجَدْتَ اقْتَرِبْ مِنَ اللَّهِ بِالدُّعاءِ. وقالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ: واسْجُدْ أنْتَ يا مُحَمَّدُ، واقْتَرِبْ أنْتَ يا أبا جَهْلٍ مِنَ النّارِ، والأُولى أوْلى. والسُّجُودُ هَذا، الظّاهِرُ أنَّ المُرادَ بِهِ الصَّلاةُ، وقِيلَ سُجُودُ التِّلاوَةِ، ويَدُلُّ عَلى هَذا ما ثَبَتَ عَنْهُ ﷺ مِنَ السُّجُودِ عِنْدَ تِلاوَةِ هَذِهِ الآيَةِ، كَما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ جَرِيرٍ، وأبُو نُعَيْمٍ في الدَّلائِلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدّادٍ قالَ: «أتى جِبْرِيلُ مُحَمَّدًا ﷺ فَقالَ: يا مُحَمَّدُ اقْرَأْ. فَقالَ: ما أقْرَأُ ؟ فَضَمَّهُ ثُمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ اقْرَأْ، قالَ: وما أقْرَأُ ؟ قالَ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ حَتّى بَلَغَ ما لَمْ يَعْلَمْ» وفي الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما مِن حَدِيثِ عائِشَةَ «فَجاءَهُ المَلَكُ، فَقالَ: اقْرَأْ، فَقالَ: قُلْتُ ما أنا بِقارِئٍ، قالَ: فَأخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: ما أنا بِقارِئٍ، فَغَطَّنِي الثّانِيَةَ حَتّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: ما أنا بِقارِئٍ فَأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثّالِثَةَ حَتّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ فَقالَ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ ﴿خَلَقَ الإنْسانَ مِن عَلَقٍ﴾ ﴿اقْرَأْ ورَبُّكَ الأكْرَمُ﴾ ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ﴾» الآيَةَ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والبُخارِيُّ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وأبُو نُعَيْمٍ، والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ «قالَ أبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رَأيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي عِنْدَ الكَعْبَةِ لَأطَأنَّ عُنُقَهُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ ﷺ فَقالَ: لَوْ فَعَلَ لَأخَذَتْهُ المَلائِكَةُ عِيانًا» وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وأحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، والطَّبَرانِيُّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وأبُو نُعَيْمٍ، والبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قالَ: «كانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي، فَجاءَ أبُو جَهْلٍ فَقالَ: ألَمْ أنْهَكَ عَنْ هَذا ؟ إنَّكَ لَتَعْلَمُ أنَّ ما بِها رَجُلٌ أكْثَرُ نادِيًا مِنِّي، فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿فَلْيَدْعُ نادِيَهُ﴾ ﴿سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ﴾ فَجاءَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي، فَقِيلَ: ما يَمْنَعُكَ ؟ فَقالَ: قَدِ اسْوَدَّ ما بَيْنِي وبَيْنَهُ» . قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: واللَّهِ لَوْ تَحَرَّكَ لَأخَذَتْهُ المَلائِكَةُ والنّاسُ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ. وأخْرَجَ أحْمَدُ، ومُسْلِمٌ، والنَّسائِيُّ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وأبُو نُعَيْمٍ، والبَيْهَقِيُّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: «قالَ أبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وجْهَهُ بَيْنَ أظْهُرِكم ؟ قالُوا نَعَمْ، قالَ: واللّاتِ والعُزّى لَئِنْ رَأيْتُهُ يُصَلِّي كَذَلِكَ لَأطَأنَّ عَلى رَقَبَتِهِ ولَأُعَفِّرَنَّ وجْهَهُ في التُّرابِ فَأتى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وهو يُصَلِّي لِيَطَأنَّ عَلى رَقَبَتِهِ، قالَ: فَما فَجَئَهم مِنهُ إلّا وهو يَنْكِصُ عَلى عَقِبَيْهِ ويَتَّقِي بِيَدِهِ، فَقِيلَ لَهُ ما لَكَ ؟ فَقالَ: إنَّ بَيْنِي وبَيْنَهُ خَنْدَقًا مِن نارٍ وهَوْلًا وأجْنِحَةً، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَوْ دَنا مِنِّي لاخْتَطَفَتْهُ المَلائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا» قالَ: وأنْزَلَ اللَّهُ ﴿كَلّا إنَّ الإنْسانَ لَيَطْغى﴾ ﴿أنْ رَآهُ اسْتَغْنى﴾ إلى آخِرِ السُّورَةِ: يَعْنِي أبا جَهْلٍ فَلْيَدْعُ نادِيَهُ يَعْنِي قَوْمَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ يَعْنِي المَلائِكَةَ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿أرَأيْتَ الَّذِي يَنْهى﴾ ﴿عَبْدًا إذا صَلّى﴾ (p-١٦٤١)قالَ: أبُو جَهْلِ بْنُ هِشامٍ حِينَ رَمى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِالسَّلى عَلى ظَهْرِهِ وهو ساجِدٌ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ في قَوْلِهِ: لَنَسْفَعًا قالَ: لَنَأْخُذَنْ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أيْضًا فَلْيَدْعُ نادِيَهُ قالَ: ناصِرَهُ. وقَدْ قَدَّمْنا أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يَسْجُدُ في ﴿إذا السَّماءُ انْشَقَّتْ﴾ وفي ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب